56 ⋆
نصا يقول: «فقد ثبت البيت الذي في المدينة التي لا سور لها.» وفي الهامش «ذات السور ... إلخ.»
ومع أن هذه الملاحظات واضحة بنفسها، فإني أرى أن من الأفضل الرد على حجج بعض الفريسيين الذين يميلون إلى البرهنة على أن هذه التعليقات الهامشية قد أضافها إما مؤلفو الكتب المقدسة أنفسهم، أو أنها كتبت بتوجيه منهم، ليعبروا عن أسرار غامضة. وأول هذه الحجج، وهي حجة لا أهتم بها كثيرا، مستقاة من العادة المتبعة في قراءة التوراة. يقولون: لو كانت هذه التعليقات قد وضعت في الهامش بسبب اختلاف القراءات التي لم يستطع الخلف أن يختار بينها فلم جرت العادة على الاحتفاظ دائما بالمعنى الهامشي؟ ولم ذكر في الهامش هذا المعنى الذي أريد الاحتفاظ به؟ لقد كان الواجب، على العكس من ذلك، كتابة النص نفسه كما يراد له أن يقرأ، بدلا من أن يذكر في الهامش المعنى والقراءة المحققان أكثر من غيرهما. والحجة الثانية التي تبدو على شيء من الجدية، مستقاة من طبيعة الأشياء نفسها. يقولون: هناك أخطاء في النسخ تقع في المخطوطات صدفة لا عمدا. ولما كانت الأخطاء عفوية وجب أن تختلف فيما بينها. على أننا نجد في الأسفار الخمسة أن الكلمة العبرية التي تعني عذراء قد كتبت دائما دون حرف الهاء إلا في نص واحد، مما يخالف قواعد اللغة، على حين كتبت في الهامش كتابة صحيحة طبقا للقاعدة العامة، فهل يمكن أن يكون هنا الخطأ قد صدر عن الناسخ؟ أي قدر هذا الذي أجبر قلم الكاتب على التسرع بالطريقة نفسها في كل مرة يقابل فيها هذه الكلمة؟ لقد كان من الممكن بعد ذلك بسهولة إضافة الحرف الناقص دون حرج وتصحيح هذا الخطأ مراعاة للقواعد. وبما أن هذه القراءات لم تحدث صدفة، وبما أنه لم يتم تصحيح هذه الأخطاء الظاهرة، فلا بد من الاعتراف بأن هذه الكلمات كتبها المؤلفون الأول عمدا كما هي موجودة في المخطوطات، ليدلوا بها على شيء، على أننا نستطيع أن نرد بسهولة على ذلك. تعتمد الحجة الأولى على العادة المتبعة بين الفريسيين، ولن أتوقف عندها، فأنا لا أدري إلى أي مدى ذهبت الخرافة، وربما نشأت هذه العادة من أنهم كانوا يعتقدون أن الصياغتين صحيحتان أو مقبولتان، وبالتالي أرادوا أن تكون الأولى مكتوبة والثانية مقروءة حتى لا تضيع هذه ولا تلك. والواقع أنهم كانوا يخشون البت في أمر خطير كهذا، ويخافون من أخذ النص الباطل على أنه الصحيح، ومن هنا فإنهم لم يشاءوا تفضيل أحد النصين على الآخر، وهو ما كان يتعين عليهم القيام به لو أنهم اشترطوا أن تكون الكتابة والقراءة بالطريقة نفسها، لا سيما أن النسخ المستعملة في الشعائر كانت خالية من التعليقات الهامشية، أو ربما أتت هذه العادة من أنهم أرادوا أن تقرأ بعض الكلمات المكتوبة، مع كونها صحيحة من حيث النسخ، عن طريق كتابتها، بطريقة مختلفة أي طبقا للصياغة المكتوبة في الهامش. وهكذا نشأت العادة الشائعة التي تقضي بقراءة التوراة طبقا للتعليقات الهامشية. أما الدوافع التي جعلت النساخ يكتبون في الهامش بعض الكلمات التي يقصد منها صراحة أن تقرأ فإني أبينها كما يلي: ليست كل التعليقات الهامشية قراءات مشكوكا فيها، بل إن منها أيضا ما يصحح أساليب الكلام التي لم تعد تستعمل، أعني الكلمات التي عفا عليها الزمان، وتلك التي لم تعد الأخلاق الحسنة تسمح باستعمالها، فقد اعتاد المؤلفون القدماء - الذين لم يكونوا يعرفون الرذيلة مطلقا - تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، دون اللف والدوران المستعمل في القصور، وبعد ذلك ساد الترف وعمت الرذيلة بدأ الناس ينظرون إلى الأشياء التي عبر عنها القدماء دون بذاءة، على أنها بذيئة، ولم تكن هناك حاجة من أجل ذلك إلى تغيير الكتاب نفسه، ومع ذلك فقد جرت العادة في القراءة العامة، مراعاة لضعف نفوس العامة، على تسمية النكاح والاستمناء بألفاظ غير ملائمة، وهي الألفاظ نفسها الموجودة في الهامش. وأخيرا، فمهما كان السبب الذي من أجله جرت العادة على قراءة الكتب وتفسيرها حسب التعليقات الهامشية، فإنه على الأقل ليس كون التفسير الصحيح هو بالضرورة ذلك الذي يسير وفقا لهذه التعليقات. وبالإضافة إلى أن الأحبار أنفسهم في التلمود يبتعدون في كثير من الأحيان عن النص الماسوريتي،
57
وكان لديهم نصوص أخرى يرونها أفضل، كما سأبين بعد قليل، فإنه يوجد في الهامش بعض التغييرات تبدو أقل اتفاقا مع الاستعمال اللغوي الجاري من النص نفسه، فمثلا يقول نص في سفر صموئيل الثاني (14: 22): «إذا فعل الملك ما قال عبده.» وهو تركيب لغوي سليم تماما ومتفق مع تركيب الآية 15 من الإصحاح نفسه، هذا على حين نجد في الهامش: «عبدك» وهو ما لا يتفق مع الفعل الذي وضع في صيغة ضمير الغائب. وبالمثل يقول نص في الآية الأخيرة من الإصحاح 16 من السفر نفسه: «حسب (أي يستشار) كلام الرب.» وفي الهامش كلمة أحد كفاعل للفعل، وهي إضافة لا مبرر لها؛ إذ إن العرف الشائع في اللغة جرى على استعمال الأفعال اللاشخصية في ضمير الغائب المفرد المبني للمعلوم، كما يعلم علماء اللغة جيدا. وهكذا توجد تعليقات كثيرة لا يمكن على أي نحو تفضيلها على صيغة النص. أما حجة الفريسيين الثانية فيسهل الرد عليها بعد الذي عرضناه، فقد قلنا: إن النساخ قد نبهوا إلى الكلمات التي لم تعد تستعمل بالإضافة إلى القراءات المشكوك فيها، ولا شك أن كثيرا من الكلمات في اللغة العبرية، كما في اللغات الأخرى، لم تعد مستعملة وأصبحت قديمة، وقد وجدت كلمات كهذه في التوراة نبه إليها كلها النساخ المتأخرون حتى تكون القراءة العامة وفقا لعادة عصرهم. فإذا كانت كلمة «نعر» قد دونت في كل مكان، فذلك لأنها كانت من قبل مشتركة بين الجنسين (المذكر والمؤنث) وكان لها معنى الكلمة اللاتينية نفسها، وكذلك كانت عاصمة العبرانيين تسمى قديما «أورشليم لا أورشلايم»، كذلك فإنه فيما يتعلق بالضمير هو، هي، فقد جرت العادة على استبدال حرف الياء بحرف الواو (وهو تغيير شائع في العبرية) للدلالة على المؤنث، على حين لم يعتد الناس في العهود الأقدم، تمييز المؤنث من المذكر في هذا الضمير إلا بحروف العلة. وأخيرا، فقد كانت الصيغ الشاذة للأفعال تتغير بدورها من عصر إلى عصر، وكان القدماء، توخيا منهم للتأنق المميز لعصرهم، يستعملون الحروف الزائدة: هاء، ألف، ميم، نون، تاء، ياء، واو. وأستطيع أن أعطي أمثلة كثيرة كهذه، ولكني لا أود أن أضيع وقت القارئ بموضوعات ثقيلة. فإذا سألني سائل: من أين لي علم ذلك؟ أجبته قائلا بأني كثيرا ما لحظت ذلك عند أقدم المؤلفين، أي في التوراة في حين لم يشأ المحدثون اتباع هذه العادة، وهذا هو السبب الوحيد الذي توجد من أجله في اللغات الأخرى، حتى اللغات الميتة، كلمات لم تعد مستعملة.
ولكن قد يصر أحد على أن يقول: ما دمت أسلم بأن معظم التعليقات الهامشية قراءات مشكوك فيها، فلم لا يوجد أكثر من قراءتين للنص الواحد؟ لم لا توجد أحيانا ثلاث قراءات أو أكثر؟ كذلك قد يعترض علي بأن النص في بعض الأحيان يخالف بوضوح قواعد اللغة في حين تكون القراءة الموجودة في الهامش صحيحة، بحيث لا يمكن أبدا الاعتقاد بأن الناسخين قد توقفوا وترددوا بين القراءتين، وهذا اعتراض يسهل الرد عليه، فردا على الحجة الأولى أقول: إن بعض القراءات قد حذفت واستبقي البعض الآخر، دون أن تخبرنا مخطوطاتنا بكل ذلك، ففي التلمود نجد صيغا أهملها الماسوريون، وقد بلغ الفرق بين النصين في فقرات كثيرة حدا من الوضوح جعل المصحح لتوراة بومبرج،
58
الذي كان مغرقا في الخرافات، يضطر إلى أن يعترف في مقدمته بأنه لا يعرف كيف يوفق بينها، فيقول: «إن الإجابة الوحيدة التي يمكن إعطاؤها هنا هي التي أجبنا بها من قبل وهي أن من عادة التلمود مناقضة الماسوريين.» وإذن فلا أساس للتسليم بعدم وجود أكثر من صياغتين للفقرة الواحدة، ومع ذلك، فإني أسلم مقتنعا - وهذا هو رأيي الخاص - بأنه لم يوجد أبدا أكثر من صياغتين للنص الواحد؛ وذلك لسببين: (1)
لا يسمح مصدر تغييرات النص، كما أوضحنا من قبل، بوجود أكثر من صياغتين، لأنهما ينشآن في الغالب من تشابه بعض الحروف، وإذن فقد كان الشك ينصب دائما على مسألة معرفة أي الحرفين المستعملين دائما يجب أن يكتب: هل هو الباء أم الكاف، الياء أم الواو، الدال أم الراء ... إلخ. وكثيرا ما كان يحدث أن يعطي كل من الحرفين معنى مقبولا. وفضلا عن ذلك، فإن طول المقطع، أي كونه ممتدا أو قصيرا، يعتمد على هذه الحروف التي سميناها حروف الوقف. وأخيرا فليست كل التعليقات قراءات مشكوكا فيها، بل إن الدافع على كثير منها، كما قلنا هو اللياقة وشرح لفظ قديم لم يعد مستعملا. (2)
والسبب الثاني لاعتقادي هذا هو أن النساخ لم يكن لديهم إلا عدد قليل من الأصول، وربما لم يكن لديهم أكثر من أصلين أو ثلاثة. ولا تذكر رسالة الكتبة (الفصل السادس)
Page inconnue