تناولنا في الفصل السابق الأسس والمبادئ التي تقوم عليها معرفة الكتب المقدسة، وبينا أنها ليست إلا المعرفة التاريخية والنقدية للكتاب المقدس، ولكن القدماء أهملوا هذه المعرفة بالرغم من ضرورتها. وبالرغم من أنهم دونوها ونقلوها فقد فقدت بعد أن أصابتها عوادي الزمان، وبالتالي ضاع منا كلية جزء كبير من هذه الأسس والمبادئ. ولقد كان بالإمكان تحمل ذلك لو ظل الخلف، فيما بعد، ملتزما حد الاعتدال، ونقل بأمانة إلى المتأخرين القليل الذي وجده دون أن يدخل عليه بدعوى اختلقها هو، فقد كانت خيانته سببا في أن أصبحت المعلومات التاريخية عن الكتاب ناقصة بل وكاذبة، أي إن الأسس التي تقوم عليها معرفة الكتاب ليست غير كافية فقط من حيث الكم، بحيث لا نستطيع أن نقيم عليها شيئا كاملا، بل إنها أيضا معيبة من حيث الكيف. لذلك، فقد استقر عزمي على أن أصححها وأن أخلص اللاهوت من الأحكام المسبقة الشائعة فيه، ولكني أخشى أن تكون محاولتي قد أتت بعد فوات الأوان؛ فقد وصلت الأمور إلى حد لم يعد الناس معه يطيقون أن يصحح أحد آراءهم المتعلقة بالدين، وأصبحوا يدافعون بعناد عن الأحكام المسبقة المتميزة التي يتمسكون بها باسم الدين، ولم يعد للعقل أي مكان إلا عند عدد قليل (نسبيا)، على حين أن الأحكام المسبقة قد انتشرت انتشارا واسعا، ومع ذلك سأحاول وسأستمر في محاولتي إلى النهاية؛ إذ ليس هناك ما يدعو إلى اليأس الكامل.
ولكي أسير في بحثي بطريقة منظمة سأبدأ بالأحكام المسبقة المتعلقة بمن قاموا بتدوين الكتب المقدسة، وسأبدأ أولا بمن قاموا بتدوين الأسفار الخمسة. لقد ظن الجميع تقريبا أنه موسى، بل إن الفريسيين أيدوا هذا الرأي بإصرار شديد، حتى أنهم عدوا من يظن خلاف ذلك من المارقين. ولهذا السبب، فإن ابن عزرا - وهو رجل كان فكره حرا إلى حد ما، ولم يكن علمه يستهان به، وهو أول من تنبه إلى هذا الخطأ فيما أعلم - لم يجرؤ على الإفصاح عن رأيه صراحة، واكتفى بالإشارة إليه بألفاظ مبهمة. أما أنا فلن أخشى توضيحها وإظهار الحق ناصعا. هذه هي أقوال ابن عزرا في شرحه على «التثنية»: «فيما وراء نهر الأردن ... إلخ. لو كنت تعرف سر الاثنتي عشرة ... كتب موسى شريعته أيضا ... وكان الكنعاني على الأرض ... سيوحي به على جبل الله ... ها هو ذا سريره، سرير من حديد، حينئذ تعرف الحقيقة.» بهذه الكلمات القليلة يبين، ويثبت في الوقت ذاته، أن موسى ليس هو مؤلف الأسفار الخمسة بل إن مؤلفها شخص آخر عاش بعده بزمن طويل، وأن موسى كتب سفرا مختلفا. وللبرهنة على ذلك يذكر: (1)
أن موسى لم يكتب مقدمة التثنية؛ لأنه لم يعبر نهر الأردن. (2)
نقش سفر موسى كله بوضوح تام على حافة مذبح واحد (انظر التثنية، 27؛ يشوع، 8: 32)
1
يتكون من اثنتي عشرة حجرة حسب عدد الأحبار، وينتج عن ذلك أن سفر موسى كان في حجمه أقل بكثير من الأسفار الخمسة، وهذا ما قصد إليه المؤلف بقوله «سر الاثنتي عشرة» ما لم يكن قصد اللعنات الاثنتي عشرة في الإصحاح المذكور من قبل في التثنية، والتي ربما ظن أنها لم توضع في سفر الشريعة؛ فبعد أن دون موسى الشريعة أمر اللاويين أن يتلوا هذه اللعنات كي يجبر الشعب بحلف اليمين على تطبيق الشريعة. وربما كان يقصد الإصحاح الأخير في التثنية، الخاص بموت موسى، والذي يتكون من اثنتي عشرة آية. ولا فائدة هنا من التمعن في فحص هذه الافتراضات وكذلك الافتراضات التي كونها الآخرون. (3)
كذلك يذكر أنه قد ورد في التثنية (31: 9): «وقد كتب موسى هذه التوراة.» ويستحيل أن يكون موسى قد قال ذلك، بل لا بد أن يكون قائلها كاتبا آخر يروي أقوال موسى وأعماله. (4)
يذكر هذا النص من التكوين (12: 1) وفيه يقص الراوي رحلة إبراهيم في بلاد الكنعانيين ويضيف «والكنعانيون (والكنعاني) حينئذ في الأرض.» وهذا يدل بوضوح على أن الأمر لم يعد كذلك عندما كان يكتب. فلا بد أن هذه الكلمات قد كتبت بعد موت موسى، وبعد أن طرد الكنعانيون ولم يعودوا يشغلون هذه المناطق. ويشير ابن عزرا إلى هذا المعنى بوضوح في شرحه لهذا النص نفسه فيقول: «وكان الكنعاني حينئذ في هذه الأرض، قد يعني هذا أن كنعان، حفيد نوح، استولى على هذه الأرض التي كان يحتلها من قبل شخص آخر، فإن لم يكن الأمر كذلك، فهناك سر على من يعرفه ألا يبوح به.» أي أنه إذا كان كنعان قد استولى على هذه البقعة من الأرض، ويكون الراوي قد أراد أن يبين أن الوضع لم يكن كذلك من قبل عندما كانت أمة أخرى تقطنها. أما لو كان كنعان أول من فلح هذه البقاع (كما يتضح من الإصحاح 10 من التكوين)
2
لكان قصد الراوي أن الوضع لم يعد كذلك وقتما كان يكتب، وإذن فالراوي لم يكن موسى لأن الكنعانيين في زمان موسى كانوا لا يزالون يملكون هذه الأرض، وهذا هو السر الذي يوحي ابن عزرا بكتمانه. (5)
Page inconnue