45

وإنما عمر بن أبي ربيعة هو الأجدر «بمجلس الطرب والعزف، والرقص والقصف، والقدود والخدود، والصدور والنهود، والنحور والعقود».

فقد كان هذا النقد - كما هو ظاهر - أقرب إلى نقد «لياقة النديم» منه إلى نقد بلاغة الشاعر، وعند لياقة النديم تنتهي منافسة المنافسين للأديب الظريف والسمير الممتع؛ أبيه إبراهيم!

إلا أن المويلحيين كانا - ولا ريب - وفاق الشروط جميعا، بمقياس الأمير قبل كل شيء، لوظيفة شاعر القصر ولسان حاله، لولا قصورهما عن شرط واحد، كان عند الأمير أهم وألزم من جميع هذه الشروط، وهو شرط الاستقرار والكتمان الذي لا بد منه لكل من يعمل في حواشي الأمراء، فقد كان كلاهما - ولا سيما الأب - من أصحاب المزاج الزئبقي الذي لا يطول قراره، ولم تكن لهما حالة في السياسة ولا في العلاقات الحميمة يطول الاطمئنان إليها، فلم يفلحا حيث أفلح شوقي الصامت الحصيف، وعلي يوسف الناطق الأمين بلسان الحال. •••

وفي «الصاعقة» التي كانت تخدم الحاشية الخديوية كما تقدم، نشرت أعنف قصيدة من قصائد الهجاء للخديو عباس ولجميع الأمراء في أسرة محمد علي من قبله ومن بعده، وتلك هي قصيدة الاستقبال التي اتهم البكري والمنفلوطي بنظمها، وهي فيما نرجحه من نظم البكري كلها، ما عدا بيتا أو بيتين اشترك فيهما المنفلوطي أو أضافهما إليها بموافقة السيد توفيق.

وقد كان موقف العميد «الصوفي» الكبير من بيت محمد علي كموقف المويلحيين بين الإقبال والأعراض، وبين المودة والجفوة، وبين المعونة والمكيدة، ولكن عميد السادة البكريين كان له موقفه الخاص بين رواد القصر، وهو موقف بيت بكري من بيت الأسرة العلوية، فكان على حذر دائم من الخديو عباس؛ لأنه - في ذكائه واطلاعه على ما وراء الستار، ومصاحبته لعباس منذ أيام الدراسة - لا يجهل سياسة البيت العلوي من جميع البيوتات التي اشتركت قديما وحديثا في خلع الولاة وتنصيبهم بمراجعة الباب العالي في الآستانة، وأولها: بيت البكري العريق، وسياسة عباس لم يكن بها خفاء نحو جميع البيوتات ذوات الرئاسة الدينية، فإنه كان يحاول جهده أن يحل فيها أشياعه ومريديه وينحي عنها الأقوياء من أبنائها ذوي «الشخصيات» الملحوظة في الدوائر العليا، وأحذر ما كان يحذره أولئك الذين تتصل العلاقة بينهم وبين كبار الأجانب من السفراء ووكلاء الدول، ولم يكونوا أقرب إلى هذه الأوساط من السيد توفيق البكري؛ لمعرفته باللغات الأجنبية ونشوئه نشأة الأمراء في المعاهد الأوروبية. ومن يدري؟ إن أعيان القاهرة وقناصلها كان لهم الشأن الأول في تنصيب الولاة حتى بعد قيام الأسرة العلوية إلى أيام إسماعيل، فإذا حدثت بين زعازع السياسة التركية والأوروبية حادثة تدعو إلى تغيير الأسرة الحاكمة، فهل من البعيد أن يرشح للحكم الجديد سليل بيت عريق في البلاد، له من سمته وتربيته وعلاقته بالآستانة ووكالات الدول ما يلفت الأنظار إليه عند البحث عن الخلف المطلوب؟

والذي لا نشك فيه أن القصيدة كانت من نظم البكري مع مشاركة قليلة للمنفلوطي في بعض أبياتها؛ لأن المناظرة بالآباء والأجداد والمقابلة بين الدخيل «القولي» والأصيل «البكري» تخطر لسليل بيت الصديق ولا تخطر للمنفلوطي، على انتمائه لآل البيت النبوي بغير تلك الوجاهة الملحوظة في تاريخ الولاية، ولقد كانت آخر كلمة وجهها السيد توفيق إلى الخديو عباس حين وبخه هذا، وقال له على مسمع من الملأ في حفلة المحمل: أنت قليل الأدب: «كلا، لست أنا قليل الأدب، أنا وزير مثلك، وآبائي وأجدادي لهم الفضل على آبائك وأجدادك.»

لا جرم يكون قائل هذه الكلمة هو ناظم تلك الأبيات التي يقول فيها:

يذكرنا مرآك أيام أنزلت

علينا خطوب من جدودك سود

رمتنا بكم «مقدونيا» فأصابنا

Page inconnue