Gefühl » - كل هذا يجد خير تعبير عنه في الألحان التي لا تتناهى إمكانياتها، ولكن لذلك التعبير تعميم الصورة الخالصة التي خلت من كل مادة، فهو يعبر عن الشيء في ذاته، لا عن الظواهر وحدها ... ومن تلك الصلة الوثيقة بين الموسيقى وبين الماهية الحقيقية لكل شيء، يتضح لنا أنه إذا عبرت الموسيقى تعبيرا مناسبا عن أي منظر أو فعل أو حادث أو بيئة، فإن كلا من هؤلاء يتضح لنا معناه الباطن، وبهذا تكون الموسيقى خير شارح له، كذلك يبدو لمن استجاب لتأثير سيمفونية أنه يرى كل أحداث الحياة والعالم في ذاتها، مع أنه لو فكر في الأمر تفكيرا منطقيا لما وجد أي وجه للتشابه بين صوت الأنغام وبين الأشياء التي تحيط به؛ ذلك بأن الموسيقى تختلف عن كل ما عداها من الفنون في أنها ليست صورة مقلدة للظواهر، أو على الأصح لموضوعية الإرادة، بل هي صورة مباشرة للإرادة ذاتها، تعرض المعنى الميتافيزيقي لكل ما يوجد في هذا العالم الطبيعي، وتوضح الشيء في ذاته، الذي يكمن وراء كل ظاهرة؛ وعلى ذلك، فكما يمكن تسمية العالم إرادة متجسدة، يمكننا أن نسميه موسيقى متجسدة.»
وبينما كان في وسع الموسيقى الخالصة، على الرغم من شمول تعبيرها وعموميته، أن تنفذ إلى قلب العالم وقرار الإرادة في رأي شوبنهور، كان ڤاجنر أكثر واقعية في تفكيره؛ فهو لا يحسن الظن إلى هذا الحد بقدرة الخيال الإنساني، ولا يعتقد أن في وسع ذلك الخيال الوصول إلى ماهية الأشياء إن أثارته الموسيقى الخالصة وحدها؛ إذ إن ذلك الخيال في حاجة إلى مزيد من العينية والتحدد ليزداد تأثره قوة وعمقا؛ فنحن بوصفنا موجودات متناهية فانية، لا نحس بمشاعر أو نوازع إرادية إلا إذا تمثلت لنا معها صور محددة؛ ولا يمكن أن تثار فينا أحاسيس منطلقة مجردة عن الصور. كذلك لا بد للموسيقى، من حيث هي فن إنساني متناه بدورها، من أن ترتبط بصور معينة تحددها في أذهاننا؛ وعلى ذلك فالموسيقى الخالصة تظل على الدوام هائمة في بيداء الإبداع المطلق الخالص والخلق المعتم الغامض الذي يخيم عليه الضباب والظلام. أما التأثير الفني الكامل فلا يصدر عن الموسيقى المطلقة، بل عن الدراما الكاملة، التي ترتبط موسيقاها بالشعر كما يرتبط الجانب العقلي التصوري في الإنسان بالجانب الإرادي فيه، ويكونان معا مركبا عضويا واحدا.
ولننتقل إلى بيان مهمة الشعر في الدراما الموسيقية. وهنا لا بد أن نلاحظ أن الشعر الدرامي يجب أن يكون أسطوريا على الدوام؛ إذ إن الإنسانية لم تعبر عن مشاعرها الغريزية تعبيرا صادقا إلا بالأسطورة؛ ولا نعني بذلك أن يعود إنسان العصر الحديث إلى الحالة البدائية التي كان يخلط فيها بين الأسطورة وبين الواقع؛ وإنما كل ما نعنيه هو أن نلجأ إلى الأسطورة لأنها التعبير الصحيح عن المشاعر الإنسانية الصادقة، ونقتبس منها الشكل فحسب، أما المحتوى فمن الممكن تغيره من عصر إلى عصر. وفي وسعنا أن نملأ الإطار الأسطوري الرمزي بمادة تستمد من عصرنا الحالي، ونعالج بها مشاكل تعترضنا في أيامنا هذه. وهذا بالضبط ما فعله ڤاجنر بوجه خاص في دراما «النيبلونجن»، التي اتخذت شكلا أسطوريا وعالجت مشكلات لا تمت إلى عالم الأساطير بأية صلة تنتمي إلى صميم حياتنا الواقعية الحالية.
ومن شأن هذا الطابع الأسطوري للدراما الموسيقية أن يتخذ قالبا فلسفيا بالضرورة؛ إذ إن الأسطورة لا ترمي إلى التعبير عن تجربة فرد بعينه، بل تجعل أفرادها مجرد رموز لحقائق عامة شاملة تسري على الجنس البشري بأكمله، ولا تتحدث إلا عن «الإنسان» بوجه عام. وذلك التعميم والشمول هما أخص صفات التفكير الفلسفي، ومن هنا كانت تلك الدراما فلسفية؛ ولكنها ليست فلسفية بالمعنى المجرد، الذي اعتدناه لدى الفلاسفة الموغلين في المنطق الخالص، والذين لا تدور أفكارهم إلا حول تصورات عقلية تتعامل مع نفسها؛ بل هي ذات طابع «فلسفي عيني» إن جاز هذا التعبير؛ فالفلسفة التي ينطوي عليها شعر الدراما تتغلغل في صميم المشاعر الإنسانية، وتتعمق في باطن النفس البشرية دون أن تحاول العلو عليها أو تجريدها وإحالتها إلى تصورات خالصة غاضت منها دماء الحياة، والأفكار العامة في ذلك الشعر إنسانية خالصة؛ كمشكلة الحب، والموت، والخلاص. وهكذا لم يكن ڤاجنر يسعى من أساطيره إلا إلى البحث عن القانون الخالد الذي يكمن من وراء كل عاطفة إنسانية جزئية.
وإذا كنا قد عرضنا دور الموسيقى ودور الشعر في الدراما الموسيقية على حدة، فعلينا الآن أن نوضح مدى العلاقة بينهما في هذه الدراما، وننظر إليهما من خلال الوحدة الشاملة التي تجمع بينهما؛ فكل من الموسيقى والشعر يكمل الآخر؛ إذ إن لكل منهما ميدانا خاصا لا يكفي وحده لإحداث الأثر الدرامي الكامل في النفس الإنسانية؛ وإنما لا بد من الجمع بين الميدانين؛ فالشعر في تعبيره عن العواطف والمشاعر الباطنة في الإنسان، لا يعبر تعبيرا مباشرا؛ إذ إن وسيلته في نقل المشاعر، وهي الكلمات، تثير معاني عقلية بالضرورة، بحيث إن استجابتنا العاطفية لكلمات الشعر لا يمكن أن تكون صادرة عن الشعور العاطفي
sentiment
وحده، بل لا بد أن يصاحبها قدر من الاستجابة العقلية. وأما الموسيقى، فليست في حاجة إلى واسطة لتؤدي أثرها في النفس؛ وإنما تتغلغل فيها بطريقة مباشرة لا نعلم بالضبط كيف تتم؛ وإنما نستطيع أن نؤكد على الدوام أنها تنفذ إلى العاطفة والشعور مباشرة دون أدنى إهابة بالعقل. ومن جهة أخرى فالمجال العاطفي الذي تقتصر عليه الموسيقى يظل مبهما غامضا مهما بلغت قوة الإيحاء والتصوير في الأنغام، أما الشعر فبفضل كلماته التي تتخذ كل منها معنى معينا، يستطيع تحديد المعنى العام الذي يرمي إليه بسهولة، ووصف نوع العاطفة التي ستثار. وهكذا تكمل الموسيقى الشعر إذ تضفي عليه مزيدا من العاطفية وتنفذ به مباشرة إلى النفس الإنسانية، ويكمل الشعر الموسيقى إذ يحدد المشاعر العامة التي تعبر عنها، ويجعل لها في ذهن الإنسان صورة عينية واضحة.
ولقد كان بين الموسيقى والشعر تأثير متبادل في تجربة ڤاجنر الدرامية الخاصة؛ إذ كان تعمقه في باب التعبير الموسيقي باعثا له على إجادة التعبير الشعري والتفرغ له؛ ذلك لأن المرء - كما لاحظ ڤاجنر - إذا كان بصدد تعلم لغة غريبة، كان «الشكل» هو المشكلة الكبرى التي تواجهه، فلا يعنى عندئذ بمحتوى أفكاره بقدر ما يعنى بطريقة التعبير عنها. وهكذا لا يكون في وسعه التعبير عن كل عواطفه وإحساساته، بل يظل مقيدا بعجزه «الشكلي». أما بالنسبة إلى لغة المرء الأصلية، فلا يعنيه الشكل على الإطلاق، بل إن كل فكرة تأتيه تجد عنها تعبيرا مباشرا دون أي عناء، ويصبح اختيار المحتوى الفكري هو الأمر الذي يعنيه. ولقد بلغ ڤاجنر في تفهم دقائق لغة الموسيقى أقصى ما يمكن أن يبلغه فنان، ولم تكن مشكلة التعبير تعنيه على الإطلاق، بل كان كل همه موجها إلى الأفكار والإحساسات التي يعبر عنها، بعد أن أصبحت الموسيقى لغته الأصلية، وقضت خبرته الواسعة على مشكلة «الشكل» قضاء تاما. ومن هنا نرى إلى أي حد أثرت الموسيقى على اتجاهه الشعري في الدراما؛ فقد تفرغ ڤاجنر للمحتوى الشعري الذي تمتلئ به الدراما، ولم يقف عاجزا إزاء تحدد مقدرته الموسيقية أو ضيق مجالها.
وفي مقابل ذلك نرى للشعر في الدراما أثارا واضحة على موسيقاها؛ ففي حداثة عهد ڤاجنر بالموسيقى لم يكن يبغض «اللحن
melodie » ولكن عندما نضجت موهبته الشعرية تخلى - منذ تأليف «الهولندي» - عن التعصب للحن، وأصبح يرى أن اللحن لا يجب أن يطلب لذاته؛ وإنما من أجل ما يثيره من مشاعر فحسب. فإن اقتضى الموضوع الشعري لحنا فليأت به، أما إذا كانت وحدة الموضوع لا تستدعي لحنا قصيرا منفصلا، فلا بد من التخلي عن اللحن في سبيل الوحدة، وعندئذ يجد في الأنغام العديدة المتناسقة ما يغني عن السطح الظاهري الذي يعبر عنه اللحن، وما يبعث في الدراما عمقا ويكفل الوحدة التامة بين أجزائها.
Page inconnue