مقدمة
حياة ڤاجنر وأعماله
فترة الطفولة والشباب
المحاولات الأولى
فترة النضوج
مع الملك في باڤاريا
بايرويت ونهاية المطاف
فلسفة ڤاجنر وفنه
بين التفاؤل والتشاؤم
الفن المتكامل
خاتمة
مقدمة
حياة ڤاجنر وأعماله
فترة الطفولة والشباب
المحاولات الأولى
فترة النضوج
مع الملك في باڤاريا
بايرويت ونهاية المطاف
فلسفة ڤاجنر وفنه
بين التفاؤل والتشاؤم
الفن المتكامل
خاتمة
ريتشارد ڤاجنر
ريتشارد ڤاجنر
تأليف
فؤاد زكريا
مقدمة
في 23 مايو من عام 1963م احتفل العالم بذكرى مرور مائة وخمسين سنة على مولد ڤاجنر؛ ذلك الفنان الضخم الذي يلمع اسمه بين الأقطاب القلائل للفن الموسيقي. وكان هذا التاريخ باعثا لي على أن أعود إلى تقليب صفحات هذا المخطوط الذي كتبته من سنوات طويلة، والذي كنت أنتظر لنشره مثل هذه الفرصة الملائمة، فوجدت فيها سجلا ما زلت أعده طريفا لحياة هذا الفنان، وشرحا أومن بفائدته لأعمال ڤاجنر وفلسفته في الفن والحياة. وأستطيع أن أقول إن معظم آراء ڤاجنر في الفن والسياسة لا تروقني؛ غير أن روعة مؤلفاته الموسيقية كفيلة بأن تضمه إلى سجل الفنانين الخالدين، الذين ينبغي أن ندرس حياتهم وأعمالهم مهما كان فيها من عناصر تبدو غريبة على أفهامنا.
وقد حاولت أن أعرض في هذا الكتاب شخصية ڤاجنر بأكبر قدر ممكن من الموضوعية؛ كما حاولت أن أعرض آراءه في الحياة والفن كما كان هو ذاته خليقا بأن يعرضها، ولكني لم أمتنع عن إصدار الأحكام عليه عندما كنت أجد ذلك ضروريا، وإن تعمدت أن يكون ذلك في أضيق الحدود. وهكذا سيجد القارئ في هذا الكتاب تسجيلا لحياة وأعمال وأفكار فنان تقلبت حياته بين البؤس الذي جعله يشرف على الموت جوعا، وبين البذخ الذي جعل ملكا يضع خزائن دولة بأسرها بين يديه، وتفاوتت أفكاره بين الدعوة إلى الثورة الشعبية إلى حد التعرض للموت من أجلها، وبين التعصب القومي المقترن بأبغض النزعات العدوانية والتوسعية في الأمة الألمانية، وتطورت أعماله من تصوير شخصيات أبطال أسطوريين يتحدون جميع السلطات والتقاليد إلى تمجيد المسيحية والخضوع التام لسلطة الدين. وفي كل هذا التقلب والتغير ، كانت أعماله الفنية - من وجهة النظر الموسيقية الخالصة - تقف شامخة لا تتأثر إلا بشخصية مبدعها الجبارة، بحيث لا يكاد المرء يشعر، إذا استمع إلى النغم الرائع الذي تكونه مؤلفاته من البداية إلى النهاية، بما كان يدور من وراء النغم من أحداث هائلة وتقلبات عنيفة في نفس صاحبه أو في المجتمع الذي عاش فيه. وإلى هذا العنصر الثابت ترجع عظمة ڤاجنر. أما نظرياته الفنية أو آراؤه السياسية أو أفكاره الدرامية فلها من الخصوم بقدر ما لها من الأنصار أو يزيد.
وعلى هذا فإني أعرض كتابي هذا على القارئ دون أن أكون واثقا على الإطلاق إن كان تأثيره النهائي في نفس هذا القارئ سيكون إعجابا بشخصية ڤاجنر أم سخطا عليها؛ غير أن هناك أمرا واحدا لا أشك فيه على الإطلاق، هو أن ذلك القارئ إذا تحول إلى «سامع» يحسن تذوق الموسيقى، فسوف ينحني إجلالا أمام فن ڤاجنر الرفيع.
فؤاد زكريا
أبريل 1963م
حياة ڤاجنر وأعماله
فترة الطفولة والشباب
كانت لحظة حاسمة من لحظات التاريخ العالمي، وتاريخ ألمانيا خاصة، تلك التي ولد فيها ريتشارد ڤاجنر؛ ففي عام 1813م كان نابوليون لا يزال يحرز بعض الانتصارات العسكرية هنا وهناك، ولكنه كان يحس بأنها بداية النهاية؛ إذ أصبح يواجه أمامه، لأول مرة، أمما وشعوبا لا حكومات، وكان الشعب الألماني هو أول شعب أيقظته مدافع نابوليون من سباته العميق.
وفي 23 مايو من ذلك العام نفسه ولد فلهلم ريتشارد في «ليبتسج»، وكانت تلك المنطقة ذاتها مسرح قتال عنيف بين نابوليون وبين الجيوش الألمانية في ذلك الحين، ولم يكن ذلك الموعد من قبيل المصادفة في نظر ڤاجنر عندما عاد بذاكرته فيما بعد إلى وقائع حياته؛ فقد اقترن مولده، في نظره، بمولد الأمة الألمانية التي طالما تغنى في أعماله وكتاباته بأمجادها.
ولقد كان أبوه، الذي توفي في نفس عام مولده، موظفا متوسط الحال، ولكن كان له ولع خاص بالأدب والشعر، وشغف بالغ بالمسرح. كذلك كانت لعمه، أدولف ڤاجنر، مكانة لا بأس بها في الأوساط الأدبية والفكرية؛ إذ كان على صلة وثيقة بالشاعر جيته وشيلر. ولكن أقوى الشخصيات تأثيرا في حياة ڤاجنر في هذه السنوات الأولى من حياته كان صديقا لأبيه، اسمه «لودفيج جاير
L. Geyer »؛ فقد تزوج هذا الصديق من أمه بعد عام من وفاة أبيه، ويؤيد كثير من مؤرخي حياة ڤاجنر رواية تقول إن جاير هذا هو الأب الحقيقي لڤاجنر، ولكن هذا موضوع يستحيل البت فيه بصفة قاطعة، وليست له على أية حال دلالة كبرى، سوى أنه إذا صح لكانت سخرية الأقدار فيه مريرة؛ إذ إن جاير من أصل يهودي، وڤاجنر كان معروفا طوال حياته بعدائه للسامية.
ولقد أشرف جاير بنفسه على تعليم ريتشارد الصغير المراحل الأولى لحياته. وكان تأثيره الأكبر فيه راجعا إلى ميوله المسرحية الواضحة؛ ذلك لأن جاير نفسه كان أحد ممثلي المسرح الملكي في درسدن، وقد حرص على أن يحيط ريتشارد بجو مسرحي صرف. وروي عن ڤاجنر أنه اشترك وهو لم يزل طفلا، في أداء قطع تمثيلية وأجاد دوره فيها إلى حد كان يبعث على الإعجاب الشديد. ولقد وصف ڤاجنر ذاته فيما بعد تعلقه بالمسرح في طفولته المبكرة بهذه العبارات: «لم يكن ما يحببني في المسرح ... هو الحاجة إلى اللهو والتسلية التي يسعى إليها الناس عادة؛ وإنما ذلك الجو الجديد الذي كان يثيرني ويخلب لبي بما فيه من أحداث تختلف تماما عن تلك التي تؤثر في في الأحوال العادية، وذلك العالم الخيالي الذي يجذب ويرهب في نفس الوقت ... وهكذا فإن كل ما له صلة بالعرض المسرحي كان له في نفسي تأثير سحري غامض جذاب.»
ولقد أدت البيئة المسرحية التي عاش فيها ڤاجنر في هذه السنين الأولى من عمره إلى تنشيط مخيلته إلى حد غير مألوف. وهكذا فإنه عندما انتقل ليعيش في مسكن عمه أدولف - بعد أن توفي جاير بدوره - كان يضفي من خياله صورة غريبة على كل قطعة من أثاث ذلك المنزل، ويشعر بخوف طاغ إذا انفرد بنفسه في الليل؛ فيبدو له كأن أشباحا قد برزت من اللوحات الفنية المعلقة، وتتجسم قطع الأثاث العتيق في صورة تماثيل متحركة، ويقضي الطفل المسكين ليالي كاملة بها لا يتوقف قلبه طوالها عن النبض بشدة. وهكذا غدا يفسر كل ما يحيط به تفسيرا خياليا مسرحيا عنيفا، ويجسم الصور في أشباح تلعب وتتراقص أمام عينيه الجاحظتين في ذهول، ويبني من كل هذا عالما خياليا كاملا يتداخل في عالم الواقع ولا يعرف بينهما أي حد فاصل، ولعل أهمية هذا العامل تتضح من أن فكرة الأشباح هذه لم تكن مجرد فكرة صبيانية ابتدعها خيال طفل صغير، بل كانت تعبر عن ملكة خاصة لديه، هي ملكة الخلق وإضفاء الحياة على كل ما هو جامد صامت. وليس أدل على ذلك من أن تلك الفكرة قد ظلت تلازمه حتى بعد سن نضوجه، بنفس القوة والحيوية التي كانت تتبدى له بها في طفولته. ولقد اعترف ڤاجنر بذلك حين قال: «كنت منذ طفولتي المبكرة أستشعر في نفسي حوادث مبهمة غامضة خلقت لدي مملكة خيالية فيها غلو ومبالغة. وإني لأذكر أنني حين كنت أظل بمفردي مدة طويلة في حجرتي، كان يخيل إلي أن الحياة قد دبت في الأثاث والأدوات؛ وحينئذ يداهمني خوف كان من القوة بحيث كنت أصيح وأصرخ صرخات نفاذة. ولقد ظللت حتى عهد شبابي أستيقظ في كل ليلة مستغيثا، ولا أهدأ حتى أستمع إلى صوت آدمي يطلب إلي أن ألتزم الصمت.»
وكانت ثمرة كل هذه العوامل جمعاء: البيئة المسرحية، والخيال الحي، والميل الأدبي، والتعليم الذاتي؛ كانت ثمرة هذه العوامل هي تلك المفاجأة التي واجه بها ريتشارد ذات يوم أفراد أسرته؛ إذ تقدم إليها بدراما هي «ليوبالد وأدلايده
Leubald und Adelaide »، وأعلن عزمه على الانقطاع عن الدراسة والتفرغ للشعر. ووقع النبأ على الأسرة وقع الصاعقة، وخاصة تلك الأم التي كانت تود أن تنفذ وصية زوجها الراحل جاير، الذي كانت آخر كلماته: «لقد أردت أن أجعل منه شيئا مذكورا!»
وتلقى ريتشارد العاصفة في سكون: «وبينما كانت الأسرة تصب علي لومها وتتحسر على وقتي الضائع ونفسي التي أفسدها الغرور، كنت أشعر بعزاء مبهم وسط تلك المظاهر المؤلمة ... كنت أعرف ما يجهله الجميع؛ وهو أن قطعتي لن تقدر حق قدرها إلا إذا وضعت لها موسيقى ملائمة؛ فاستقر عزمي حينئذ على أن أؤلف وأعزف بنفسي تلك الموسيقى.»
وهكذا كانت نظرة ڤاجنر إلى الدراما ممتزجة بالألحان منذ البداية ، بحيث لم ير لأية قطعة من مؤلفاته معنى إلا بعد أن يعبر عنها بالموسيقى، ومن الغريب حقا أن تنضج تلك الفكرة الجامعة بين الشعر والموسيقى، والتي لم تتمثل لدى أي موسيقي أو شاعر آخر سواه - في وقت كانت محاولاته الشعرية لا تكاد تقوى فيه على الوقوف على قدميها، وكان تعليمه الموسيقي فيه هزيلا قاصرا إلى أبعد حد. وإنها لثقة عجيبة بالنفس تلك التي أوحت إليه هذه الفكرة الملازمة له طوال حياته، في ذلك العهد المبكر، والتعليم المحدود.
وهكذا يمكن القول إن عبقرية ڤاجنر الموسيقية لم تظهر متأخرة كما قد يبدو لأول وهلة؛ وإنما استيقظت تلك العبقرية فيه كغيره من الموسيقيين، وإن كانت لم تجد ما يعبر عنها في عالم الأصوات، بل في عالم الشعر والمسرح؛ فالمسرح الدرامي يشغل في نمو ڤاجنر الموسيقي تلك المكانة التي كان يشغلها البيانو وقواعد الهارموني عند موتسارت أو بيتهوفن، فلما تجاوز ڤاجنر مرحلة المراهقة واتضح أمامه العالم الجديد، عالم الصوت، أصبح التعبير يشتمل على المرئيات والمسموعات معا.
وإذن فالعنصر الفني الأول في شخصية ڤاجنر هو العنصر التعبيري، وهو الذي تنبع الموسيقى والشعر فيه معا من المجال العاطفي، فيصبحان مجرد وسائل لإخراج عاطفة أو إحساس باطن إلى حيز الوجود. ولم يكن ذلك الإخراج التعبيري بالأمر العسير على ذلك الذي نشأ منذ نعومة أظافره في جو مسرحي خالص. •••
ولكن ما هي تجارب ڤاجنر الأولى في عالم الموسيقى؟ كانت تلك التجارب على قلتها ووردوها في عهد متأخر بالقياس إلى غيره من «الأطفال المعجزين» مثل موتسارت ومندلسون - كانت ذات أثر حاسم في حياته؛ إذ حددت منذ الوهلة الأولى الاتجاه الذي سار فيه طوال حياته الفنية ... كانت عائلة ڤاجنر تربطها صلة شخصية بالموسيقار الألماني «فيبر
Karl Maria von Weber »، ولتلك الصلة أهمية كبرى في تنمية الذوق الموسيقي عند ڤاجنر، وتحديد الاتجاه الذي سار فيه فيما بعد، إذا كان «فيبر» يتردد على العائلة ومعه مغن إيطالي زري الهيئة يدعى ساسارولي
Sassaroli . وهكذا بينما كان فيبر يثير الإعجاب في نفس ڤاجنر بشخصيته الجذابة، كان «ساسارولي» يثير في نفسه الضحك والسخرية على الدوام؛ لذلك اختار ڤاجنر جانب الأوبرا الألمانية منذ البداية، في خلال ذلك النزاع الهائل الذي قام بينها وبين الأوبرا الإيطالية في ذلك الوقت. وكان هذا الاختيار أمرا فاصلا في حياة ڤاجنر.
ومن الظواهر الفريدة في تربية ڤاجنر الموسيقية، أنه لم يتعلق - كغيره من الموسيقيين في صباهم - بآلة موسيقية معينة يتخذها وسيلة للتعبير عن مشاعره؛ وإنما تلقى دروسا قليلة على «البيانو» على يد أستاذ غير كفء، وما إن وصل إلى الحد الذي يستطيع فيه أن يعزف افتتاحية فرايشتز
Freischutz
لفيبر بمفرده، مع ارتكاب كثير من الأخطاء، لم يعد يشعر بالحاجة إلى دراسة البيانو؛ وأدت الدراسة في نظره رسالتها، ما دامت قد أوصلته إلى ما يريد. وهكذا أحس ڤاجنر منذ البداية بأن ما يود التعبير عنه شيء عظيم التعقيد، لا تكفي له أصابع البيانو أو أوتار الكمان، بل لا بد له من فرقة كاملة ومجموعات متناسقة ضخمة.
ومنذ ذلك الحين اتجه ڤاجنر نحو الموسيقى الألمانية بكل روحه. وكان فيبر هو أول مثل أعلى تعلقت به روحه. والواقع أن للدراما عند فيبر خصائص كثيرة تجمع بينها وبين دراما ڤاجنر كما سنرى فيما بعد؛ فوقائعها تدور في جو أسطوري، وشخصياتها جنيات مسحورة، والغموض يكتنفها، والصوفية الوثنية الكامنة في قلب كل ألماني تستيقظ على نداء أبواقها. بل إن تلك الدراما كانت في الواقع إنسانية، تنبض كل شخصية من شخصياتها بمشاعر عامة شاملة. وتلك كلها صفات أساسية في الدراما التالية عند ڤاجنر.
ولكن، كيف السبيل إلى كشف بقاع ذلك العالم الصوفي الغامض بدون دراسة؟ لا شك أن التأليف الموسيقي لا يماثل كتابة الشعر في تلقائيتها، بل هو يقتضي دراسة طويلة شاقة متدرجة. وهكذا بدأ ڤاجنر، رغم مصاعبه المالية، يدرس «الهارموني» سرا، فلما وصل النبأ إلى أسرته، كان نكبة جديدة أضيفت إلى بقية النكبات التي حلت عليهم من ذلك الابن الشاذ.
على أن دروسه في الهارموني لم تكن أسعد حظا من دروسه في اللغات الكلاسيكية؛ إذ كان يعدها حذلقة لا طائل تحتها، وتبدت له القواعد أمرا سقيما ثقيلا على النفس: «كانت الموسيقى في نظري شيئا شيطانيا، فيه غرابة صوفية رفيعة ؛ لذا كان من شأن كل ما يتصل بالقواعد أن يفسد طبيعتها.»
وكان من بين المدونات الموسيقية التي اقتناها في ذلك الحين، قطعة كان لها أكبر الأثر في حياته الموسيقية التالية، رسمت له اتجاها واضح المعالم يحقق كل نظرياته في الموسيقى والدراما؛ تلك هي السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، التي كانت منار الإلهام لڤاجنر، والتي أحس نحوها على الدوام بخشوع وتقديس وعرفان للجميل. ولنستمع إلى ڤاجنر وهو يصف تأثيرها فيه فيقول:
غدت تلك السيمفونية النقطة الصوفية الجاذبة التي تشع منها كل أفكاري الموسيقية. ولقد بدأ اهتمامي بها على شكل حب استطلاع؛ إذ كان الرأي الشائع هو أن بيتهوفن قد ألفها وهو على حافة الجنون؛ ولذا عدت أقصى درجات الغرابة والشذوذ والغموض في الموسيقى. وكان هذا وحده سببا كافيا دفعني إلى دراستها بشغف مستمد من ذلك الإلهام الشيطاني الذي أثارته في، وما إن ألقيت عليها نظرة - بعد حصولي على تقسيمها بعد عناء كبير - حتى فتنني الشعور بالمصادفة للقدرة التي تمثلت لي فيها؛ إذ إن الأنغام الطويلة التي تعزفها الآلات الوترية في بدايتها قد ذكرتني بتلك الأصوات التي لعبت في طفولتي دورا سحريا عجيبا، وبدت لي كأنها الصوت الغامض الذي يمثل حياتي أصدق تمثيل. ولا ريب أن تلك السيمفونية تنطوي على سر الأسرار؛ ولذا اهتممت لتوي بحيازة نسخة منها عانيت ألما عظيما في تدوينها ونسخها.
وربما كان في وقوفه مشدوها أمام هذا الإعجاب الفني الرائع ما ولد في نفسه نوعا من اليأس؛ إذ لم يكن قد توفر له من التعليم الموسيقي ما يمكنه من مجاراته، وإن أحس بأنه لا يفتقر إلى الإلهام وإلى الروح الخالقة لمثل هذه المعجزات؛ لذا انتابته فترة من اليأس البالغ، والقلق على مستقبله؛ غير أن حادثا فريدا قد أعاد إليه الثقة في نفسه، وجلب له الخلاص الروحي؛ إذ مرت ببلدته مغنية مشهورة هي: فلهلمين شرودور-ديفرينت
Wilhelmine Sehröder-Devrient
واستمع إليها ڤاجنر وهي تؤدي «فيدليو» لبيتهوفن، فكانت تلك ليلة فاصلة في حياته، وبلغ تأثره بها حدا جعله يسرع إلى إرسال خطاب إلى الفنانة يعبر لها فيه عن تقديره لصنيعها وعرفانه لجميلها إذ أعادت إليه ثقته في نفسه وفي حاسته الموسيقية، ويؤكد لها أنه لو أصبح له شأن في عالم الفن يوما ما، فإن الفضل الأكبر في ذلك سيكون راجعا لذلك اليوم الذي استمع فيه إليها. ولكم سر ڤاجنر فيما بعد حين قدمت إليه فلهلمين ذلك الخطاب الفريد وهو في أوج شهرته!
وأدرك ڤاجنر عندئذ أن التعليم الموسيقي أمر لا مفر منه، وأن أنغامه الوحشية في حاجة إلى الصقل والتهذيب، وواتاه الحظ في شخص تيودور فينلش
Theodore Weinlich
الذي تتلمذ عليه ڤاجنر حينا من الدهر، واستطاع دون سواه أن يقدر المواهب الكامنة وراء ذلك الجهل المطبق بقواعد الموسيقى، فأمكنه أن يحسن توجيهه، ويجعله يستوعب في فترة بسيطة كل ما هو في حاجة إليه من تلك القواعد دون أن يشعر بأي عناء من جراء تمريناتها المرهقة، وما إن أحس الأستاذ أن تلميذه قد تلقى ما يكفيه من القواعد، وأن في وسع عبقريته أن تسير في طريقها المستقل، حتى قال له: «الآن تستطيع أن تمضي في طريقك وحدك؛ إذ إن في وسعك أن تؤلف تبعا لقواعد الفن حيثما يكون ذلك ضروريا.» ولكم كان في تلك الجملة الأخيرة حكمة بالغة من ذلك الأستاذ الذي حض تلميذه دائما على الاستقلال، وإن لم ينس أن يزوده بالعتاد الضروري الذي يمكنه من البدء في شق طريقه الخاص بعبقريته الخالقة التي لا تعبأ كثيرا بالتقاليد والقواعد.
تلك خلاصة التعليم الموسيقي الذي تلقاه ڤاجنر. فهل نستطيع بعد ذلك أن نقول إنه كان مستقل التعليم؛ أي إنه ممن علموا أنفسهم بأنفسهم
autodidacte ؟ الواقع أن الفترة التي سبقت عهد تعلمه المنظم، لم تشهد أية قطعة معقولة ألفها؛ فقد رأينا أن كل محاولاته الأولى كانت شذوذا وانحرافا لا معنى له. أما بعد قضاء تلك الفترة التعليمية المثمرة؛ فقد بدأت الموسيقى المعقولة تنساب من ريشته. وإذن فهو قد تلقى تعليمه على أساتذة يدين لهم بالكثير، وفي هذا ما ينفي صفة التعليم المستقل عنه؛ غير أنه من جهة أخرى لم يكن ليكتفي بتلك القواعد التي تلقاها، بل صمم على دراسة الأعمال الفنية من مواردها الأصلية؛ ولذا كان يقتني مدونات القطع الموسيقية المشهورة أو ينسخها إن لم يكن في طاقته اقتناؤها، ويعكف على دراستها بحماس محموم.
وهنا تظهر ناحية فذة في عبقريته الموسيقية؛ فكثيرا ما قيل إن ڤاجنر لم يبد عبقرية مبكرة مثل موتسارت مثلا. ولكن الواقع أن عبقرية ڤاجنر لم تكن براعة في العزف تحمل الألوف على التصفيق والتهليل، ولم تكن مهارة في سرعة انتقال اليد على أصابع البيانو أو على أوتار الكمان، بل كانت عبقريته أعمق وأصدق من تلك البراعة العملية الاستعراضية؛ فالمقدرة الموسيقية الأصيلة تتبدى أوضح ما تكون في ذلك الصبي الذي يعكف ليل نهار على مدونات القطع المشهورة يدرسها نغمة نغمة، وتتشرب بها روحه الفنية، وتتغلغل في ذهنه كل دقائقها، ويكشف أعمق أسرارها، ويحيا بها حياة كاملة لها قوامها وكيانها الخاص - كل ذلك دون أن يجيد عزفها! ومعنى ذلك أن ڤاجنر قد توفرت له منذ صباه موهبة هي أعمق المواهب الموسيقية وألزمها للفنان الخالق؛ وهي القدرة على «تصور الألحان والأنغام نغمة نغمة بمجرد قراءتها»، وتذوق نواحي الجمال في اللحن وفي الهارموني على السواء بالعقل وحده، وتكوين فكرة صحيحة شاملة عن القطعة التي تدون أجزاؤها تبعا لتقسيمها على فرقة موسيقية كاملة من مجرد النظر بالعينين إليها. وفي هذا يكون ڤاجنر هو «الصبي المعجز» بحق.
المحاولات الأولى
ظهرت ثمرة التعليم الموسيقي المنظم عند ڤاجنر بسرعة تدعو إلى الدهشة، فلم تمض فترة قصيرة حتى توالت الافتتاحيات البسيطة المقبولة التي لا تنفر منها الآذان، وعزفت إحداها في حفل عام فقوبلت من الجمهور بالاستحسان، وبدأت أمه اليائسة من مستقبله تبتسم ابتسامة أمل. وفي سن التاسعة عشرة ، ألف سيمفونيته الوحيدة، التي أودعها كل ما لصق بذهنه من القواعد المدروسة والتقاليد الموروثة عن كبار الموسيقيين؛ ومن هنا كان نصيب التقليد فيها أكبر من نصيب الابتكار. لكنها مع ذلك كانت قطعة جميلة يسمعها المرء فلا يتصور أنها من تأليف فتى لم يبلغ العشرين، ولم تمض سنوات قلائل على اقتحامه عالم الموسيقى؛ وأذكر منها بوجه خاص، الجزء الثاني البطيء الذي ينساب في هدوء ورشاقة تذكرنا بالجزء الثاني من سيمفونية بيتهوفن السابعة.
وكانت أولى محاولات ڤاجنر في التأليف للأوبرا هي تلحين قصة ألفها هو بعنوان «الجنيات»، ولكن هذه الأوبرا لقيت فشلا ذريعا. واضطر ڤاجنر إلى الاستدانة لسداد ديونه المتراكمة.
والحق أن ظاهرة الاستدانة من الظواهر المألوفة في حياة ڤاجنر؛ فقد لازمته خلال الجزء الأكبر من حياته، ولم يتخل شبحها عنه حتى في فترة ازدهاره الأخيرة. بل لقى روي عنه في عهد صباه، أنه توجه في رحلة طويلة مع واحد من رفاقه، وفي خلال الطريق أعوزتهما النقود، وكان لا بد من الاهتداء إلى وسيلة للحصول على أي مبلغ، فوقف رفيقه مبهوتا يفكر في حيلة تعين على كسب بعض المال. ولكن ڤاجنر لم يطل به التفكير؛ إذ مرت بالطريق في تلك اللحظة عربة خاصة فاخرة، فتقدم منها بلا تردد وطلب من ركابها إحسانا، بينما اختفى صديقه على جانب الطريق. وهكذا امتدت يد ڤاجنر تطلب المال وهو في عهد صباه، ولم تكن تلك هي المرة الوحيدة، فطالما امتدت تلك اليد تطلب المال بأي شكل وتستدين على أي نحو. ويبدو أن احتقار ڤاجنر للمال جعله ينظر إليه نظرة عدم اكتراث به وبمن يمتلكونه؛ فلا يرى لصاحب المال فضلا عليه، ولا يرى في افتقاره إليه نقصا يحط من قدره؛ وعلى ذلك فلا لوم عليه إن سعى إلى الحصول عليه بأية وسيلة. لقد كان لديه شعور «بأن العالم مدين له بما هو في حاجة إليه»، فليأخذ المال إذن من أي امرئ كان، ولا يضيره إن أخذ دون أن يعطي؛ لأنه يقدم إلى العالم ألحانا جميلة، فلا أقل من أن يتكفل العالم بحاجاته؛ هكذا كان تبريره العجيب لمسلكه!
وأعاد ڤاجنر الكرة بتأليف أوبرا ثانية هي «ممنوع الحب
Liebesverbot »؛ غير أن الفشل لاحقه في كل مرة حاول عرضها فيها، واضطر عندئذ إلى الهرب من الميدان؛ لا يأسا من إخفاقه الفني؛ فقد احتفظ بثقته بنفسه على الرغم من هذا الفشل المتلاحق - وإنما جزعا من مركزه المالي. وكان فراره في هذه المرة إلى مكان قصي، هو «كينجزبرج» عاصمة بروسيا، حيث كانت تقطن صديقته الجميلة فلهلمينا بلانر
Wilhelmina Planner ، أو «مينا
Minna » كما كانت تلقب. كانت معرفة ڤاجنر بها ترجع إلى تلك الأيام التي عمل بها قائدا للفرقة الموسيقية في «لوخشتيت»، وكانت «مينا» هي الممثلة والمغنية الأولى في الفرقة. وسرعان ما توطدت دعائم الصداقة بينه وبين الممثلة الجميلة منذ اللحظة الأولى. وتطورت تلك الصداقة إلى ما بدا له في تلك الأيام حبا، فلما أنبأته بأنها قد نجحت في الحصول على عمل في كينجزبرج، أسرع إلى اللحاق بها. وهناك، قبل أن يوقن من حصوله على عمل، استقر عزمه على الزواج منها، وخطا الخطوة الحاسمة دون تفكير أو تدبر. وفي الرابع والعشرين من نوفمبر عام 1836م، تم الزواج الذي عده ڤاجنر أحد أخطائه الكبرى.
والواقع أن خطأ ذلك الزواج لم يكن ينحصر في عدم الاستعداد المادي وحده، بل كان يرجع إلى ما هو أعمق من ذلك؛ فقد كانت «مينا» من أصل ريفي ساذج، وكان ذهنها سطحيا وثقافتها محدودة إلى أبعد حد. كانت امرأة جميلة فحسب، وربما كان في ذلك ما يكفيه في ذلك الحين؛ فقد تزوجها وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وفي فترة لم تكن للعوامل العقلية فيها القدرة على مقاومة جمالها.
وفي خلال فترة الهدوء المؤقت التي أعقبت زواجه، عمل ڤاجنر على إتمام أوبرا جديدة هي «رينزي
Rienzi »، التي أودعها خلاصة تجاربه وخبرته في ذلك الحين. ورغم أن تلك الأوبرا لا تقارن بدرامات ڤاجنر التالية؛ فقد فتح فيها آفاقا موسيقية جديدة لم يسمع بها من قبل. أما من حيث الموضوع؛ فقد كانت الأوبرا صورة للتقاليد الشائعة في عصره؛ إذ كان موضوعها تاريخيا كأغلب الأوبرات الشائعة حينئذ، مستمدا من قصة «رينزي» كما كتبها «بولفر
Bulwer »، وصور فيها ذلك القائد الروماني الكبير ذا القلب النبيل الذي يهفو دائما إلى الحرية، ويصبو إلى إعادة مجد روما القديمة، بينما تخونه الجماعة المنحلة التي تحيط به، فيروح في نهاية الأمر ضحية إخلاصه لوطنه وانخداعه بمن حوله. فليس في ذلك الموضوع اهتمام بذلك العالم الباطن الذي كان محور قطع ڤاجنر فيما بعد، حين أصبح ينقد الأوبرا التاريخية على أساس أنها تضحي بالجانب العاطفي من أجل العرض التاريخي، مع أن حوادث التاريخ لا يعبر عنها بالموسيقى تعبيرا صحيحا؛ وإنما تغدو الموسيقى في هذه الحالة ضوضاء سطحية ليس بينها وبين الكلمات أي ارتباط. فلم يكن من الغريب إذن أن يرفض ڤاجنر فيما بعد تلك الأوبرا ويتبرأ منها بعد نضوج نظرياته الجمالية، ويعدها «خطيئة من خطايا الشباب».
ولكن «رينزي» كانت وقت تأليفها إنتاجا ضخما يفوق جميع نظائره، فهي بالقياس إلى غيرها من الأوبرات الشائعة تمثل تقدما كبيرا؛ لذا صمم ڤاجنر على أن يعرضها في مدينة كبرى بالقياس إلى بلدة «ريجا» الصغيرة التي كان قد انتقل إليها في تلك الآونة.
وهكذا بارح ڤاجنر ريجا ساخطا عليها، وكانت رحلته البحرية منها محفوفة بالمخاطر، حتى أوشكت السفينة الصغيرة التي كان يستقلها على الغرق مرارا، ولم تقاوم العواصف الجبارة والصخور الضخمة التي اعترضتها إلا بمعجزة. ولكن ڤاجنر الذي يعرف كيف يستفيد من أسوأ ظروفه، استمد من أهوال سفرته البحرية إلهاما شعريا وموسيقيا تبدت آثاره واضحة في «الهولندي الطائر»؛ وهي إنتاجه الفني الأول بعد «رينزي». •••
وبعد إقامة قصيرة في لندن، دخل ڤاجنر مدينة باريس وقلبه عامر بالأمل في الوصول إلى ما يشتهيه من شهرة ومجد. ولم يكن اليأس يعرف إلى روحه سبيلا في مستهل عهده بمدينة النور، إذ كان واثقا من مقدرته الفنية، وكان آملا - من جهة أخرى - في تذوق أهل باريس لفنه وهم الذين يرفعون إلى الجوزاء فنانين أقل منه قدرا وموهبة.
ولكن هوة الخلاف بينه وبين البيئة الباريسية سرعان ما اتسعت؛ فلم يلق من أحد أذنا صاغية، بل كان الجواب التقليدي الذي يتلقاه ممن يتقدم إليهم بشيء من موسيقاه، هو إعجابهم بتلك الموسيقى الجديدة، مع أسفهم لاستحالة عزفها أو نشرها في الوقت الحالي! ... ولكن كيف كان ڤاجنر يرتزق طوال هذه الفترة؟ كان من أهم موارد رزقه، سؤال أصحابه القدامى وأشقائه في ألمانيا! أما المورد الآخر، فهو القيام بأعمال تافهة ومرهقة في نفس الوقت، لبعض ناشري الموسيقى، كان ينال منها أجرا زهيدا بعد عناء كبير، نظير عمل مهين لم يكن ليقبله لولا الحاجة الماسة؛ ولذا لم يكن عجيبا أن تبدأ شكواه من رئتيه في تلك الفترة، وهي شكوى لازمته طوال حياته.
وفي الوقت الذي كان فيه ڤاجنر يعمل في صمت على إتمام درامته الأولى «الهولندي الطائر
Der Fligender Holländer »، عانى أشد الأزمات المادية والروحية من جراء تنكر باريس له، حتى انتهى آخر الأمر إلى رأي واضح إزائها؛ هو أن الذوق الباريسي في انحطاط مستمر، وأن تلك الأوبرات الإيطالية الخفيفة التي ترحب بها باريس ليست من الفن الصحيح في شيء، وأن أكبر فناني باريس لا يمكنهم أن يدانوا الفنانين الألمان الذين عرفهم وعاش معهم طويلا. هكذا تكشفت الحقيقة الأليمة لعينيه، وانهارت تلك الآمال الشامخة التي كان يعلقها على مدينة لاهية، بل فترت حماسته في تنفيذ مشروعاته الفنية بها، بعد أن أيقن أن جمهورها لن يتذوق فنا متغلغلا في أعماق النفس البشرية؛ وإنما يريد أن يرقص ويلهو فحسب.
ولقد بلغ به سوء الحال أن أوشك ذات مرة على الموت جوعا، لولا أن أسعفته زوجته بشراء ما يلزم لوجبة طيبة، بعد أن تعهدت كتابيا بدفع المبلغ اللازم. ولم يخلصه من تلك الأزمة الحادة سوى بيع تلك الرواية الشعرية التي ألفها في أشق الظروف وأصعبها، وهي «الهولندي الطائر». أما موسيقاها فقد فرغ منها بسرعة تبعث على الدهشة، ثم طوى الصحائف التي تضمنتها، وأضافها إلى مجموعة مؤلفاته المتراكمة.
وفي تلك الفترة عبر ڤاجنر عن مشاعره تعبيرا صادقا في سلسلة من المقالات ظهرت له في الصحف الفرنسية بعد أن كانت تترجم من الألمانية. ولعل أبلغ هذه المقالات دلالة، مقال بعنوان «نهاية موسيقي في باريس» يصف فيه آلام فنان تنكرت له عاصمة الآمال، فأخذ يؤدي صلاة قصيرة يثبت بها إيمانه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ويقول: «أومن بالله، وبموتسارت، وبيتهوفن، وبآلهم وأصحابهم، أومن بالروح القدس وبفن واحد لا شريك له، وأومن بأن هذا الفن إنما يأتينا من عند الله، ولا يعمر إلا القلوب التي أنارها الله ... أومن بأن في وسع الكل أن يصلوا إلى السعادة بفضل هذا الفن، وأنه من المعقول لذلك أن يموت المرء جوعا وهو يشيد بعظمة ذلك الفن؛ وأومن أخيرا بأني كنت في الدنيا مجموعة أنغام ناشزة ستجد في العالم الآخر حلها المنسجم المتناسق.»
ولا جدال في أن صفة من الصفات الأساسية في روح ڤاجنر كانت في تلك الفترة بسبيل التكون؛ وأعني بها حماسته للروح الألمانية؛ ففي الوقت الذي أيقن فيه بعدم استعداد الفرنسيين لتلقي تعاليم فنه الجديد، وفي الوقت الذي عانى فيه أهوال البؤس والفاقة بين قوم تنكروا له وتجاهلوه، لم يكن من الغريب أن يتجه خيال ڤاجنر إلى الأدب الألماني يستلهم منه وحيا، أو عزاء وتعويضا عما يلقاه بين الفرنسيين من عناء؛ ولذلك ترجع معرفته بالأساطير الألمانية الوسطى، مثل أسطورة تانهويزر
Tannhauser
ولوهنجرين
Lohengrin
إلى ذلك العهد. ووجد فيهما ڤاجنر ذلك الجو الخيالي العنيف الذي هو أحوج ما يكون إليه للهروب من واقعه القاسي، فصمم على أن ينقل هاتين الأسطورتين إلى عالم الفن، ويخلدهما في تاريخ الشعر والموسيقي.
وسرعان ما استجاب الوطن الذي كان يحيا فيه بكل قلبه إلى دعائه، فواتته في ربيع عام 1842م أنباء كان ينتظرها بصبر نافذ؛ فقد قبل مسرح درسدن أن يعرض الأوبرا الكبيرة «رينزي»، كما قبلت برلين «الهولندي الطائر». وفي السابع من أبريل سنة 1842م غادر ڤاجنر المدينة التي تنكرت له. وهكذا انتهت فترة إقامته في باريس، وبدأت من حياته مرحلة جديدة حاسمة. •••
كان هناك أمل قوي يداعب ڤاجنر في عودته إلى وطنه؛ فقد وجد أخيرا من يستمعون إليه ويفهمونه، وأتيحت له الفرصة ليذيع ثمرات عبقرية على الملأ، وفتح أمامه طريق الشهرة الذي طالما تاق إليه.
ولكم كان العمل شاقا في إعداد «رينزي» ومراجعة أجزائها. على أن جمال ألحانها خفف من عنائه وعناء بقية الفنانين إلى حد بعيد. ومن أطرف ما رواه ڤاجنر في هذا الصدد أن المغني الأول في الفرقة كان أثناء فترات التمرين يتمايل طربا كلما بلغ قطعة معينة في الفصل الثالث، فأخرج ذات يوم قطعة صغيرة من النقود وقدمها إلى ڤاجنر مازحا، على أنها هدية له على ذلك اللحن الرائع، ثم طلب من كل فرد في الفرقة أن يحذو حذوه، وتلقى ڤاجنر النقود ضاحكا هو الآخر. واستمر هذا المزاح في كل يوم من أيام التمرين، حتى كان يقال: «حانت لحظة الدفع.» فيدفع الجميع! وكان المفروض أن ذلك العمل دعابة بريئة، وأن ڤاجنر يتلقى تلك الهدايا الصغيرة على سبيل الدعابة، ولكن ما من أحد كان يعلم أنهم كانوا يقدمون إلى ڤاجنر في عملهم هذا ثمن وجبة غذائه اليومية!
وأخيرا حان اليوم الذي أحدث تغييرا حاسما في حياة ڤاجنر، وهو يوم العرض الأول لأوبرا «رينزي» (20 أكتوبر 1842م)، في ذلك اليوم أحرزت الأوبرا نجاحا هائلا، وأعيدت بعد ذلك مرارا، وأبدت أميرتان من البيت المالك إعجابهما الشديد بالفنان الناشئ، وأصبح انتصار «رينزي» حديث أهل درسدن لمدة طويلة. ووجد ڤاجنر الفرصة سانحة لعرض الأوبرا الأخرى «الهولندي الطائر» في درسدن، ولكنها لم تلق نجاحا يناظر نجاح رينزي؛ وذلك لعدة أسباب، منها أن المغنين لم يطلعوا على أدوارهم اطلاعا كافيا، ولم يجيدوا أداءها - وأهم من ذلك، أن «الهولندي الطائر» كانت أول دراما غنائية يتقدم بها ڤاجنر إلى جمهور لم يكن على استعداد لتلقي نظريات فنية جديدة. أما رينزي فكانت أوبرا من النوع المألوف لديهم؛ ولذا اضطر ڤاجنر - ليحفظ سمعته من التدهور - إلى إعادة عرض رينزي، فعاد الإعجاب سائدا.
وترامت أنباء نجاحه إلى فردريش، ملك ساكس، فأمر بتعيينه قائدا للفرقة الملكية في درسدن. وهكذا ضمن ڤاجنر معاشا معقولا يكفيه للتفرغ لأعماله الفنية.
وفي عام 1843م بدأ ڤاجنر في كتابة أشعار «تانهويزر
Tannhauser »، مسلتهما إياها من الأساطير الألمانية في العصور الوسطى؛ إذ اطلع حينئذ على كتاب «جريم
Grimm » عن الأساطير الألمانية فكان له على خياله تأثير عجيب، وكان لتفكك تلك الأساطير ما يثير مشاعره التي يحركها كل ما هو غامض حفي؛ ولذا عمل على تكملة تلك الأقاصيص ليخرج منها دراما عميقة كاملة. وأعاد ڤاجنر قراءة الكتاب مرارا، فإذا به يحس نحو شخصياته بألفة غريبة، وكأنه يعرفهم منذ عهد بعيد، حتى أصبحت حياته مع تلك الشخصيات العتيقة «حياة جديدة» على حد تعبيره، تغيرت معها نظرته إلى العالم تغيرا كليا، «مثلما تتغير حياة الطفل حينما تبدر منه بوادر النطق والفهم». أما موسيقى تلك الدراما فقد أتمها ڤاجنر في أواخر شهر ديسمبر، وكان خلال تأليفها يقضي الجزء الأكبر من وقته سائرا في جولات انفرادية، أوحت إليه معظم ألحان تلك الدراما المحبوبة.
ولم يكن العرض الحاسم لتلك الدراما هو العرض الأول؛ إذ اتضحت لڤاجنر في خلال الأداء عيوب كثيرة وخاصة في توزيع الأدوار؛ ولذا أسرع إلى تعديلها إما بالحذف أو الزيادة أو التحوير. وهكذا أقبل على العرض الثاني وهو كامل الثقة بنجاحه. ورغم أن عدد المتفرجين في ذلك العرض لم يكن كبيرا، فإن حماستهم كانت بالغة، وخرج ذلك الفوج من النظارة ليذيع في درسدن خبر إنتاج ناجح جديد لفنانهم العبقري. واستمر النجاح مرات عديدة، وكان من أهم الظواهر التي رفعت رأس ڤاجنر عندئذ أنه لاحظ وجود أناس بين النظارة لم يكونوا ممن يؤمون حفلات الأوبرا على الإطلاق؛ مما أثبت له أنهم يقدرون شعره في ذاته، وأن اتجاهه الجديد قد أثمر إذ اجتذب أناسا يرغبون في مشاهدة «الدراما» فحسب.
فترة النضوج
بعد صيف عام 1847م الهادئ، الذي قضاه ڤاجنر في تأليف دراما جديدة هي «لوهنجرين
Lohengrin »، مستمدا إياها من منبعه الجديد وهو الأساطير الألمانية القديمة، أقبل عام 1848م بأحداثه الجسام ...
ففي فبراير من ذلك العام جاءت الأنباء بفرار «لوي فيليب» وإعلان الجمهورية في فرنسا، وبدأ الشعور العام يتوتر في ألمانيا، حتى وصل تيار الثورة إلى مدينة درسدن ، تلك المدينة الهادئة الخاملة في ساكس. وكان اتجاه ڤاجنر السياسي واضحا في ذلك الحين؛ إذ كان ميالا إلى جانب الأحرار والثائرين على التقاليد الرجعية، وكان يدعو بحماسة إلى الإصلاح الاجتماعي، ويطالب أمراء ألمانيا بمراعاة مصالح شعوبهم والانصراف عن مشاغلهم التافهة. واتخذ نشاطه مظهرا عمليا منذ البداية؛ فكان يرسل المقالات الثورية إلى الصحف معبرا فيها عن رأيه في وسائل الإصلاح، ويخطب بحماسة في المنتديات السياسية، حتى تعرض لغضب الملك حين نقده في إحدى مقالاته نقدا عنيفا.
ولم يمض وقت طويل حتى تعرف ڤاجنر إلى ميشيل باكونين
Michel Bakunine
الثائر الروسي المشهور الذي مضى في التحرر إلى أبعد مراحله تطرفا، حتى أصبحت الفوضوية له مذهبا، والتخريب العام غاية قصوى. كان باكونين في تلك الأثناء مطاردا، هاربا من سلطة الحكومة، غير أنه تقدم إلى ڤاجنر بجرأة بعد حفلة عزفت فيها السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، وعبر الثائر للموسيقي المتحرر عن تقديسه لتلك الموسيقى التي يجب أن تظل خالدة وسط ذلك الدمار والحطام العالمي الذي يوشك أن يأكل الأخضر واليابس. ومنذ ذلك الحين توطدت الصداقة بين الفنان وبين الثائر الذي كفر بكل ما كان مقدسا، إلا الموسيقى ... وكثيرا ما كان ڤاجنر يدعوه لقضاء السهرة في منزله، فيشرح له باكونين أسس فكرة الفوضوية، التي أثارت خاطر ڤاجنر ودفعته إلى التفكير العميق، وإن رآها بعيدة عن التحقيق، ولكن أعجب ڤاجنر بتلك الشخصية الشاذة الفريدة «التي جمعت بين البغض القاتل لكل مدنية، وبين أنقى مظاهر المثالية الخالصة»؛ غير أنه لم يتمكن من إقناعه بآماله في نهضة فنية شاملة؛ إذ كان باكونين يضع نصب عينيه الفوضى والدمار ولا شيء سواهما، فلم يكن في وسعه أن يفهم كيف تقوم تلك النهضة مرتكزة على الأوضاع الحالية التي رآها فاسدة لا تستحق إلا الهدم والتدمير.
وفي 3 مايو 1849م اندلعت نيران الثورة في درسدن، وقام سكان المدينة الهادئة يحملون السلاح في وجه الحكومة، وأصبحت شوارعها مسرحا لكل أنواع الفوضى والدمار. وشهد ڤاجنر تلك الروح الجديدة فطرب لها كل الطرب، وسايرها بحماسة، ومشى في تيار الثورة بقدر ما وسعه ذلك، وإن لم يكن عنيفا هداما في ميوله. وأخذ يرقب بشغف بالغ مناظر القتال في الشوارع، ويتملكه الابتهاج الساذج وهو يستمع إلى قصص الشجاعة في تلك الحرب المحلية الصغيرة.
غير أن الثورة لم يقدر لها أن تعمر طويلا، فلم يمض وقت قصير حتى قضت القوات النظامية على أحلام الثائرين وأسقطت حكومتهم المؤقتة، وقبض على باكونين بعد أن نصب له فخ بارع، نجا منه ڤاجنر بأعجوبة. وتبين لڤاجنر أن الإقامة في درسدن - وخاصة في منصب قائد الفرقة الموسيقية الملكية بها - لن تطيب له يوما واحدا بعد ذلك؛ نتيجة لما عرف من أمر مشاطرته الثوار مشاعرهم، ومعاونته لهم بقدر استطاعته، فالتجأ إلى فيمار، وأقام عند صديقه «ليست»، وهناك تأكد من أن عودته إلى درسدن في أعقابها خطر جسيم عليه؛ إذ صدر أمر بالقبض عليه. وهنا أظهر «ليست» عطفا كريما عليه، وأصبح شغله الشاغل هو التفكير في وسيلة لإبعاد ڤاجنر من خطر الاعتقال، لا سيما وأن بقاءه في فيمار ذاتها قد أصبح أمرا غير مأمون. وهكذا استقر عزم ڤاجنر نهائيا على مغادرة ألمانيا كلها، والرحيل عن طريق باڤاريا إلى سويسرا، ومنها إلى باريس؛ معقل الحرية والثورة كما خيل إليه في بادئ الأمر.
ولم يكن هدف ڤاجنر من باريس في هذه المرة هو البحث عن فرص وآفاق جديدة في عالم الموسيقى، بل كان لاجئا سياسيا فحسب. ولكنه لم يكد يقضي بها فترة قصيرة حتى علم أن قوى الرجعية قد غلبت الحرية؛ وأتته صدمة أخرى أعنف من السابقة، في صورة رسالة من زوجته تنبئه فيها بيأسها من مغامراته وروحه المتقلبة، وتؤكد له عدم احتمالها لتلك المتاعب التي يرغمها عليها، أو لذلك البؤس الذي طال أمده بلا أمل في زواله؛ فكان رد ڤاجنر هو أنه لن يرغمها على تحمل ظروفه الشاقة ومشاطرته مستقبله المظلم، وترك لها مطلق الحرية في الانفصال عنه. وهكذا تم الفراق الذي ارتاح له ڤاجنر فيما بعد، وإن لم يكن فراقا نهائيا حاسما.
وآثر ڤاجنر في نهاية الأمر الإقامة في تسوريخ ، حيث كان مورد رزقه الوحيد - في ذلك البلد الذي لا يعرف عنه ولا عن الموسيقى عامة الشيء الكثير - هو كتابة بعض المقالات الأدبية، ومن هنا اتصفت مجهودات ڤاجنر في تلك الفترة بالطابع الأدبي، وحاول خلالها أن يعوض ما فاته من الثقافة الأدبية، وخاصة الفلسفة التي طالما تشوق إلى الاستزادة منها.
أما مؤلفات ڤاجنر الخاصة في تلك الفترة، فكانت منها رسالتان عن «لوهنجرين» و«تانهويزر» قصد بهما إلى شرح إنتاجه الفني الخاص ونقل آرائه الجديدة إلى الجمهور، فكانت لهما قيمة كبيرة في توضيح نظريته الفنية وتبريرها، كما نشر كتيبات على جانب كبير من الأهمية، تجلى فيها الامتزاج واضحا بين ثورته الفنية والثورة السياسية التي كان من أقطابها؛ ففي رسالة بعنوان «الفن والثورة» نظر ڤاجنر إلى تاريخ الفن بأسره نظرة نقدية؛ فبعد إبداء إعجابه باليونان ودراماتهم، حمل حملة شعواء على الرومان؛ إذ كانوا جحافل صارمة لا تفهم الفن ولا تقدره، وهم الذين مهدوا الطريق لظهور المسيحية التي دعت المرء إلى ألا يفعل شيئا سوى الإقرار ببؤسه وشقائه، والانصراف عن كل مجهود يرمي إلى انتزاعه من قبضة هذا البؤس. ولكن الدم الجديد الذي يجري في عروق العناصر الجرمانية يعمل على محاربة الروح المسيحية، ويفتتح عهد الثورة، ويقضي كذلك على الفن الحديث السائد؛ إذ إنه فن تتحكم فيه الصناعة، وهدفه الأقصى هو جمع المال، ووظيفته الكبرى هي دفع الملل والسأم، وهي وظيفة لا تصلح إلا للبيئات الصناعية المتعبة المكدودة.
فليتحرر الفن إذن من تلك القيود المسيحية والصناعية التي شوهت الطبيعة البشرية وأفسدت نزعاتها، وليعد الفن إلى المسرح، مهد الفن القديم، وإلى الدراما اليونانية الخالدة، ولنكتف من المسيح بما نال من عذاب في سبيل البشر، ولنختر إلها يونانيا يعرف كيف يقودنا إلى الحياة الحافلة بالخيال السعيد.
وفي كتاب آخر عن «الأوبرا والدراما» يستعرض ڤاجنر تاريخ الأوبرا، وينتهي من ذلك إلى رأي صريح هو أن هدف كل أوبرا سابقة - باستثناء أوبرات موتسارت - كان إيجاد ألحان مقبولة للآذان، يمكن أن تستبدل بكلماتها أية كلمات، وليس لها من هدف سوى الترويح عن النفس؛ غير أن هذه الأغراض قد استنفدت، ولا بد من انقلاب حتى تحفظ الأوبرا من الضياع. وعلى الرغم من جهود فيبر، فإن الأوبرا الإيطالية التي تزعمها اليهودي «مايربير» - الذي أنكر جنسيته وقوميته - قد أفسدت كل اتجاه إصلاحي. وهكذا لم تعد الأوبرا فنا؛ وإنما ظاهرة تتغير تبعا لمقتضيات الذوق العابر، ولم يعد الشاعر إلا تابعا ذليلا للملحن الموسيقي، ولا يمكن أن تغدو الأوبرا فنا صحيحا إلا باستخدام كل الوسائل الممكنة لإذكاء الخيال، ومعنى ذلك أن تتحول الأوبرا إلى الدراما؛ أي تصبح فنا جامعا شاملا، ينطوي على الشعر والموسيقى والتمثيل والفن التصويري المسرحي معا في مركب واحد.
ولقد وجد ذلك الكتاب الأخير من المعجبين بقدر ما وجد من الأعداء الذين كانوا يدركون جيدا أن اتجاه ڤاجنر الجديد لو نجح لكان فيه القضاء المبرم عليهم، ومنذ ذلك الحين بدأت حملة أنصار الأوبرا الخفيفة، من فرنسية وإيطالية، على ڤاجنر، يحمل لواءها مايربير. أما أنصار ڤاجنر فقد أخذوا ينشرون في الصحف الصادرة في ألمانيا خاصة، مقالات تشيد بفنه وبآرائه الجديدة، وكان لتلك الدعاية الطيبة التي تزعمها «ليست» أكبر الأثر في نشر اسم ڤاجنر وإذاعة شهرته في القارة بأكملها.
وبعد رحلة استشفاء قصيرة طاف فيها ڤاجنر أنحاء سويسرا وشمال إيطاليا، عاد إلى مقره في تسوريخ ليجد أن تلك الدعاية قد أثمرت، وأن العروض أخذت تنهال عليه في طلب «تانهويزر» من برسلاو، وبراج، وفيزدبان، وغيرها من المدن. وهكذا انتشرت تانهويزر في ألمانيا بأسرها، وذاعت معها شهرة مؤلفها.
وفي خلال ذلك الوقت الذي أتته فيه الشهرة من بعيد، كان ڤاجنر عاكفا على مشروع ضخم، هو تأليف دراما رباعية كبيرة، هي «خاتم النيبلونجن
Niabelungen Ring »، بأقسامها الأربعة؛ وهي «ذهب الرين
Rheingold » و«الفالكيرات
Die Walküre » و«زيجفريد
Siegfried » و«أفول الآلهة
Götterdämmerung ».
أما الموسيقى فقد بدأها في عام 1853م، خلال فترة اعتزل فيها الجميع في تسوريخ، وصمم على أن ينتهي من عمله الجبار دفعة واحدة، وقد بدأ ڤاجنر «بذهب الرين»، واتبع في تأليفها خطة جديدة، إذ كان يسطر بقلمه رموزا معينة سريعة هي التي ستبنى عليها ألحان الدراما بأكملها؛ ولذا كان عليه أن يؤلفها كلها دفعة واحدة دون أن ينقطع عن العمل؛ حتى لا تغيب عن ذاكرته تلك الخطة التي رسمها منذ البداية. وبفضل تلك الطريقة تمكن من الانتهاء منها تماما في مارس 1854م.
وحدث ما جعل ڤاجنر ينقطع بعد تأليف الدراما الأولى مدة معينة، وعاد خلالها إلى القراءة الفلسفية، فكان لتلك القراءة في هذه المرة أكبر الأثر في تحويل مجرى الدراما الرباعية إلى اتجاه جديد، هو الاتجاه التشاؤمي، بعد أن كانت الآراء الثورية هي المسيطرة تماما على خطته الأولى في تأليف تلك الدراما - ذلك بأن ڤاجنر قرأ في تلك الفترة كتاب «العالم إرادة وتمثلا» لشوبنهور، فكان له فضل تخليصه من قبضة مذهب فويرباخ المادي، وتوجيهه وجهة جديدة تلائم نزعته الخيالية الخالقة في الفن والشعر، وكان أول ما لفت نظره آراء شوبنهور في علم الجمال، وخاصة تلك المكانة الرفيعة التي احتلتها الموسيقى في مذهبه الجمالي. ولكنه في أول الأمر أحس بشيء من الرهبة والقلق إزاء النتائج الأخلاقية التي انتهى إليها شوبنهور؛ ففي رأيه أن إماتة الإرادة والاستسلام التام يخلصان الفرد من عجزه عن فهم العالم والاندماج فيه اندماجا كليا شاملا - وتلك نتيجة كانت تتعارض بشدة مع نزعة ڤاجنر في الحرية الفردية، وهي نزعة تكبد أكبر العناء، وقاسى مرارة النفي والتشريد من أجل الدفاع عنها والدعوة إليها، غير أن واحدا من أصدقائه نبهه ذات مرة إلى أن المغزى الحقيقي لمذهب شوبنهور إنما ينحصر في عدم اعترافه بالعالم الخارجي كما يتبدى لنا، وذكر له أن كل شاعر كبير، وكل رجل عظيم بوجه عام، كان يحس في قرارة نفسه بهوة عميقة تفصل بينه وبين العالم الخارجي. ولكم عجب ڤاجنر حين استمع إلى هذا التفسير؛ إذ إنه في درامته الرباعية قد عبر عن مثل هذا الرأي دون أن يشعر. وهنا قرر أن يعود إلى دراسة الكتاب دراسة عميقة؛ وذلك حتى يستوعب بخاصة الجزء الأول منه، وهو الذي يتعرض للجانب المثالي في فلسفة كانت، والذي عانى ڤاجنر الكثير من أجل تفهمه؛ إذ إن رأسه لم يخلق لفهم مشكلات المنطق. وهكذا عاود ڤاجنر قراءة الكتاب مرات عديدة، وكان تأثيره على تفكيره حاسما حتى ليمكننا أن نؤكد أن كل كتابات ڤاجنر - وخاصة كتابه عن «بيتهوفن» - وكل دراماته، بل كل نظرته إلى الحياة قد اصطبغت باللون الخاص الذي يتميز به تفكير شوبنهور، وذلك إذا استثنينا الجانب الاجتماعي والسياسي من آرائه؛ إذ إن ذلك الجانب قد ظل يدعو إلى الحرية الفردية حتى النهاية.
وما إن انتهى ڤاجنر من القسم الثاني من الدراما الرباعية، حتى تلقى دعوة من الجمعية الفيلهارمونية بلندن، ليقيم بعض الحفلات لقاء مبلغ لا بأس به، وعاد ڤاجنر إلى لندن مرة ثانية، ولكنه لم يكن حينئذ ذلك الفنان المشرد الذي التجأ إلى لندن في المرة الأولى، بل كان موسيقيا مشهورا دعته بلاد غريبة من مقره في وسط القارة لتستمع إلى إنتاجه الجديد. وبلغ من نجاحه أن دعته الملكة فكتوريا وزوجها الأمير ألبرت في إحدى الحفلات ودارت بينه وبينهما محادثات ودية.
وما إن عاد ڤاجنر إلى تسوريخ، حتى ترامت إليه أنباء ذلك النجاح الباهر الذي أحرزته «تانهويزر» و«لوهنجرين» على مسارح ألمانيا؛ وكان من نتائج ذلك النجاح أن خفت وطأة الديون المتراكمة عليه، بل خيل إليه أنه قد نفض عن نفسه كل مظاهر البؤس التي لازمته طوال حياته كظله. وفي نفس الوقت عمل على إتمام «زيجفريد»؛ على أن تفكيره في ذلك المشروع الضخم تفكيرا واقعيا جعله يوقن بأن تنفيذه مستحيل في ظروفه تلك؛ مما أدى به إلى أن يدع جانبا ذلك المشروع إلى حين، ويبدأ في دراما كانت فكرتها تلح عليه إلحاحا غريبا، وتتوالى على رأسه ألحانها كاملة مترابطة؛ تلك هي «تريستان وإيزولده
Tristan und Isolde »؛ على أن ڤاجنر وإن كان قد أكد أن التفكير العملي في مشروع الدراما الرباعية هو وحده الذي أوحى إليه هذا المشروع الجديد، كان يخفي وراء ذلك دون شك حقيقة على أعظم جانب من الأهمية؛ إذ إن تأليف «تريستان» قد جاء خلال تجربة عاطفية ربما كانت أعنف وأصدق التجارب التي مرت به؛ تلك التجربة هي حبه «لماتيلده فزندونك
Mathilde Wesendonk »؛ فقد عاش ڤاجنر حينا من الدهر في صحبة أسرة فزندونك، وانتابته عاطفة غريبة نحو تلك الزوجة التي كانت تهفو دائما إلى صحبة فنان مرهف الحس صادق الشعور، بعيد عن جو المال والتجارة الذي غرق فيه زوجها حتى أذنيه. وسرعان ما تكشفت العاطفة على حقيقتها فإذا بها حب عنيف متبادل وتبدى واضحا فيما تبقى من رسائل حارة تبادلها المحبان؛ غير أن ذلك الحب كان ميئوسا منه في بداية الأمر؛ فهو حب بين فنان متزوج من امرأة غيور حمقاء (عادت إليه في وقت متأخر من فترة إقامته بسويسرا)، وبين زوجة لا يسهل عليها التخلي عن واجباتها تجاه أسرتها وأهلها. وهكذا كان غراما صامتا تفصل بين طرفيه حواجز لا سبيل إلى تجاوزها أو التغلب عليها؛ ومن هنا رأينا تشاؤم شوبنهور يؤثر عليه في تلك الفترة أكبر الأثر، فإذا بفكرة الحب ترتبط ارتباطا قويا بفكرة الموت، وإذا بالفردية تتبدى له كريهة ممقوتة، وإذا بالحياة والنور بغيضة إلى قلبه. وهكذا رحب تريستان بالموت وتمناه، وتاق إلى الظلام الهادئ حيث لا تقوم بين المحبين حواجز ولا تفصلهما عقبات الحياة القاسية؛ فالموت من حيث هو مخلص المحبين، هو المحور الرئيسي الذي تدور حوله تلك الدراما الصادقة، التي انتزعها ڤاجنر من قلبه واقتطعها من واقعه المرير.
وأحس ڤاجنر بالحاجة إلى الراحة بعد الانتهاء من عمله الضخم المرهق، وتاقت نفسه إلى زيارة باريس، حيث يمكنه على الأقل أن يستمع إلى فرق موسيقية ضخمة حسنة التدريب، وهي في نظره نعمة حرم منها طوال فترة إقامته بسويسرا. وهكذا لم تغرب شمس يوم 15 سبتمبر سنة 1859م حتى عاد ڤاجنر إلى باريس مرة أخرى.
وكان 13 مارس سنة 1861م هو يوم ذلك العرض التاريخي المشهور لتانهويزر في دار الأوبرا الكبرى بباريس. لقد كانت مقاعد المسرح غاصة بالنظارة حتى إن كثيرا من أصدق أصدقاء ڤاجنر لم يتوفر لهم مكان لحضور العرض الكبير؛ غير أن أولئك الذين شغلوا الجانب الأكبر من ذلك المسرح، كانوا جماعة من أعضاء نادي «الجوكي
Jokey »؛ وهم فئة من الأرستقراطيين المتبذلين الذين لا يفهمون من الفن سوى بعض معلومات عتيقة موروثة. ولم يستطع هؤلاء المترفون تحمل الدراما العميقة خلال ثلاث ساعات كاملة، وراعهم أن يجدوها مخالفة لما اعتادوه، فقاطعوها بالصفير والتهكم بصوت مرتفع طوال العرض، وتكررت المأساة مرتين أخريين، كان الفرنسيون خلالهما يستغلون «الحرية» التي جرت في دمائهم أبشع استغلال ... كانوا يستمعون فترة قصيرة بأدب إذا أعجبتهم قطعة ما، فيدوي بعدها تصفيقهم معبرا عن إعجاب حقيقي، ولكنهم سرعان ما يعودون إلى التهريج إذا ثقل عليهم فهم جزء معين، فيتوقف العرض حتى تخمد ثورتهم ... وهكذا كان نصيب تانهويزر في باريس!
ورغم أن تلك الفترة من إقامته في باريس لم تزده إلا يقينا من استحالة فهم الفرنسيين له، ووثوقا من أن نجاحه الحقيقي لن يكون إلا بين عشيرته وبني جنسه، فإن هناك عوامل أخرى إلى جانب قصور الفهم، ساعدت على التعجيل بذلك الفشل الذريع؛ كان أهمها تلك الحملة الشعواء التي شنها عليه نفر من النقاد الذين دفعهم أعداء ڤاجنر من الموسيقيين وعلى رأسهم مايربير وبرليوز.
على أن ڤاجنر لم يعدم صديقا مخلصا يقدره حق قدره في باريس؛ فقد أبدى الشاعر «بودلير» إعجابه به منذ البداية، وأرسل إليه خطابا يعبر فيه عن مقدار تأثير موسيقاه في نفسه، وهو الذي كان يظن أنه لا يملك إلا حاسة الألوان لا حاسة الأنغام، فكان مما قاله: «لقد بلغت سنا لم أعد أطرب فيها بالكتابة إلى عظماء الرجال. ولقد ترددت مدة طويلة في أن أكتب إليك معبرا عن إعجابي، لولا أن استبانت لعيني يوما بعد يوم تلك المقالات الحمقاء المخزية التي بذل فيها كل جهد للحط من قدر عبقريتك. إنك يا سيدي لست الشخص الوحيد الذي اضطررت أمامه إلى أن أتعذب وأحمر خجلا من أفعال وطني. وأخيرا دفعني احتقاري لنقادك إلى أن أشهد لك بالفضل، قائلا لنفسي: لا بد أن أبرئ ذمتي من هؤلاء المعتوهين!» والغريب في الأمر أن بودلير لم يذكر في هذا الخطاب عنوانه؛ حتى لا يظن ڤاجنر أنه يقصد تملقه؛ غير أن ڤاجنر اهتدى سريعا إلى مقره، وسرعان ما أصبح بودلير عضوا بارزا في دائرة أصدقاء ڤاجنر، وشخصية بارزة في «صالونه» الخاص.
ولو صرفنا النظر عن حالات الإعجاب القليلة هذه، فإن الطريقة العامة التي عومل بها ڤاجنر في باريس، كانت سوء الفهم التام، حتى إن المرء لا يرى مفرا من الاعتراف مع ڤاجنر بأن أهل باريس كانوا يريدون اللهو فحسب؛ أما ڤاجنر فلم يكن يقبل أن ينحدر إلى مستوى اللهو هذا؛ ولذا لم يفهم في باريس. ولقد كان مدار سخريتهم هو الاعتقاد بأن لڤاجنر مذهبا عقليا هو وحده المتحكم فيما أنتجه من موسيقى. ولا شك في أنه ما من شيء يخيف الجمهور اللاهي - الذي هو عبد للعرف والتقاليد - أكثر من محاولة شخص أن يفرض عليه أفكارا جديدة، وخاصة إذا كانت على صورة «مذهب». ومهما بلغت درجة الجمال الفني الذي حققه ڤاجنر في موسيقاه، فسيظل الحمقى يؤمنون بأنهم إنما يستمعون إلى شخص يدافع عن مذهبه، لا إلى إنتاج فني رائع.
وهكذا غادر ڤاجنر باريس بعد أن خابت آماله، ولم يستغرق وقتا طويلا في وداع أصدقائه القليلين، مثل بودلير ولا مارتين وليست. وعاد كل فرد في هذه الجماعة إلى مقره؛ إذ كان على كل منهم أن يشق طريقه إلى المجد مستقلا. •••
كانت أخطر نتائج كارثة باريس، هي أثرها الفادح في مركز ڤاجنر المالي؛ فقد ظل بعدها ثلاث سنوات كاملة يهيم على وجهه دون أن يكون له هدف سوى تصيد المال من أي مخلوق وبأية وسيلة، ومهما تكلف في سبيل ذلك من امتهان لكرامته وجرح لكبريائه، والغريب في الأمر أن ڤاجنر كان خلال تلك السنوات واقعا تحت تأثير موجة من المرح اليائس كان يدهش لها كل من عرفه. ويبدو أن الطبيعة قد حبته منذ حداثته قدرة هائلة على التعويض مكنته من أن يتحمل أعظم المشاق، ويخلق من متاعبه معبرا ينتقل به إلى عالمه الذاتي الذي يسوده المرح، ولا يأبه كثيرا للواقع المحيط به.
وهكذا أوحت إليه تلك القدرة التعويضية موضوعا مرحا في أحلك ساعات حياته، هو موضوع مؤلفه الجديد «أساطين الطرب
Die Meistersinger » التي استمدها بدورها من كتاب «جرم
Grimm » عن الأساطير الألمانية في العصور الوسطى، وكان لا بد لڤاجنر من عزلة هادئة ليتم فيها ذلك العمل الرائع، فاختار بلدة صغيرة على ضفاف الرين هي بيبرش
Biberich ، وهناك كان تدفق الوحي عليه غزيرا، حتى إنه أتم الافتتاحية بأسرها في ليلة واحدة بعد أن لمعت فجأة بأدق تفاصيلها في ذهنه.
وفي هذه العزلة النائية، وفد على ڤاجنر أصدقاء قدماء، هم هانس فون بيلوف
Hans Von Bülow
وزوجته كوزيما
Cosima
ابنة ليست. ولا جدال في أن ڤاجنر كان سعيدا بهؤلاء الضيوف؛ لا لأن الجميع كانوا من أسرة موسيقية واحدة، ولا لطيبة قلب بيلوف وتقديسه لفن ڤاجنر، بل لأن تيارا خفيا قد سرى بين الفنان المشتعل عاطفة، وبين زوجة صديقه. كان بينه وبين كوزيما إعجاب صامت وتفاهم غامض، استشفه ڤاجنر من نظراتها الخفية إليه وهو يعزف ألحانه أو يغنيها للجماعة الصغيرة؛ فكانت تصغي إليه في سكون، فإذا سئلت عن رأيها، لم تجد ما تجيب به سوى البكاء!
وفي هذه الأثناء أتاه نبأ كان ينتظره بصبر نافد؛ فقد فتحت عواصم الموسيقى في العالم أبوابها لدراماته ، وتوالت عليه العروض من كبريات مدن ألمانيا وأوروبا عامة، فانصرف مؤقتا عن إتمام «أساطين الطرب» ليتفرغ إلى هذه المهام الجديدة الناجحة. وهكذا استقبلته فرنكفورت وليبتسج استقبالا لم يحلم به، وعرفت ڤيينا كيف تتذوق موسيقاه، واستدعته «براج» في أوائل سنة 1863م، وكان ترحيبها به موضع دهشته. وفي «سان بيترزبرج» عاصمة روسيا امتدت موجة النجاح الهائلة التي أصبحت تصادف ڤاجنر أينما حل، وحازت مقطوعاته إعجاب الجماهير وتقدير النقاد وأثارت حماس الفنانين العازفين.
وانتقلت الحماسة إلى موسكو التي مجدت الفن الجديد في شخص مبدعه، وتنافس أعيانها على شرف تكريمه. ورحبت المجر بڤاجنر حين استمعت عاصمتها «بشت» إلى روائعه، واستقبله شعبها بحماس شديد.
كان ذلك كله نجاحا باهرا ولا شك - ولكن هل تحسنت حالته المادية بعد كل هذا؟ الواقع أنه ما إن بدأ عام 1864م حتى أشرفت سفينته على الغرق، وأصبح مركزه المالي ميئوسا منه تماما؛ فرغم ما جناه في تلك الرحلات الناجحة من أرباح، فإن تبذيره واستهانته بالمستقبل أو تفاؤله الغامض الذي كان يلازمه في أحلك ساعات اليأس، جعل من المستحيل عليه أن يبقي على شيء للظروف، بل كان ينفق عن سعة، فإن نفد ماله لجأ إلى الحل الذي كان يراه طبيعيا؛ وهو الاستدانة. ولا يسع المرء بعد كل هذا الاستهتار إلا أن يقول مع صديقه كورنيليوس
Cornelius : «إن أخلاق ڤاجنر ضعيفة لم تقم على أساس صحيح؛ إذ حفل مجرى حياته بشواهد الأنانية التي تركته في متاهات أخلاقية لا يعرف منها مخرجا. كان يستخدم الناس من أجل ذاته فحسب، دون أن يدفعه نحوهم أي شعور صادق، بل دون أن يرد إليهم ما يدين به لهم من ولاء. لقد ركز ڤاجنر كل همه في تغليب السمو العقلي على السمو الأخلاقي في نفسه، وأخشى أن يكون نقد الأجيال القادمة له في هذا الباب أشد وأخطر ...»
مع الملك في باڤاريا
في ذلك الوقت الذي بلغ فيه ڤاجنر أقصى حالات اليأس، كان هناك رسول أرسله ملك بنفسه ليسعى وراءه وينتقل من بلد إلى بلد عسى أن يجد له أثرا. وأخيرا اهتدى إليه في شتتجارت وطلب مقابلته، فظن ڤاجنر أن أحد دائنيه قد أتى ليزيده هما على هم، وحاول التهرب منه، ولكنه اضطر تحت إلحاحه إلى أن يسمح له بمقابلته كارها، وأبدى المبعوث له سروره بالاهتداء إليه، وأنبأه بأنه رسول لودفيج الثاني ملك باڤاريا الجديد، أتى ليرفع إليه رغبة ملكه في أن يظل الفنان الكبير بجواره في قصره، ليتفرغ لرسالته السامية في هدوء. ولكي يزيده اطمئنانا، قدم إليه صورة الملك وخاتمه، وطلب إليه أن يصحبه إلى عاصمة ملكه في ميونيخ. وكانت مفاجأة تدعو إلى الذهول، بل كانت نجدة من نفس النوع الذي طالما تاق إليه ڤاجنر، والتي لا تتحقق إلا في حلم خيالي يصعب تصوره؛ وهي أن يعيش الفنان إلى جوار ملك يوفر عليه كل عناء مادي وينسيه مشكلات المال ومتاعبه، ليتوفر لفنه في هدوء، ولم يملك ڤاجنر إلا أن يكتب لمنقذه كلمات يعبر فيها عن مدى تأثير المفاجأة في نفسه فيقول: «تلك الدموع التي تعبر عن أقدس العواطف أرفعها إليك قائلا إن معجزات الشعر قد أصبحت حقيقة واقعة في حياتي التعسة التي لم تذق للعطف طعما. وإن حياتي هذه، وآخر ما ألفظ به من شعر وأردده من ألحان، ستكون منذ هذه اللحظة لك يا مليكي الشاب الرءوف، فلتتحكم فيها كما لو كانت ملك يديك!»
وهكذا طويت صفحة البؤس من حياة ڤاجنر، وبدأ فصل جديد في تلك الحياة الشائقة الزاخرة بالتجارب، والمليئة بالمفاجآت. •••
كان الملك لودفيج الثاني غارقا منذ صباه في عالم الدراما الڤاجنرية. وبعد أن سمع وهو في الثالثة عشرة من عمره الكثير عن «لوهنجرين» أمر بعرضها من أجله خصيصا في ميونيخ، وفي السادسة عشرة عرف «تانهويزر» فازدادت روحه تحليقا في سماء ڤاجنر. وكانت مقالات ڤاجنر هي قراءته المفضلة على الدوام، أما أشعار دراماته فكان يحفظها عن ظهر قلب، وكان يقلد أسلوبه في الكتابة حتى في أدق تفاصيله. واطلع لودفيج بين ما اطلع عليه من مؤلفات ڤاجنر، على المقدمة التي صدر بها طبعته لأشعار «نيبلونجن»، وفيها شرح ڤاجنر آراءه المقترحة لإنشاء مسرحه المثالي؛ فهو يرى تركيز فرقة قوية من أبرع المغنين في مكان واحد، وتصميم مسرح تختفي فيه الفرقة الموسيقية ويكون غرض النظارة ليس مجرد اللهو أو الترويح عن النفس كما يهدف رواد الأوبرا؛ وإنما يستعدون لتلقي أسمى الأفكار الشعرية وتذوق أعمق الألحان الموسيقية ... وبهذه التعديلات وحدها اعتقد ڤاجنر أن المسرح الألماني الحقيقي يمكنه أن يصبح أداة فعالة للإصلاح الفني والاجتماعي. وما إن اعتلى لودفيج عرش باڤاريا حتى صمم على أن يحقق حلم ڤاجنر، ويبذل كل ما في وسعه لمعونة رائده الروحي.
وفي 5 مايو سنة 1864م تمت مقابلة الملك الشاب لأستاذه الفنان. وكم تملكت لودفيج الرهبة العميقة وهو يتلقى عبارات الشكر من ڤاجنر، ولم يملك إلا أن يقول: «سأبذل كل جهدي لأعوض عنك ما قاسيته في ماضيك، وسأخلصك إلى الأبد من متاعب الحياة اليومية، وأجلب لك الهدوء الذي كنت تواقا إليه حتى تكفل لك حرية نشر أجنحة عبقريتك الهائلة في سماء الفن الأثيرية الخالقة. لقد كنت المصدر الوحيد لمتعتي منذ صباي المبكر، وإن لم تعرف أنت ذلك؛ وكنت الصديق الذي يخاطب قلبي بلغة لا يحسنها سواك، وكنت خير مرب ومثقف لي ... سأرد لك كل هذا الفضل على قدر وسعي.»
بمثل هذه الروح قرر الملك لودفيج أن يعامل ڤاجنر، فيقدم إليه كل ما يشاء حتى يتفرغ لإنتاجه الفني. ومنذ ذلك الوقت، دأب ڤاجنر على أن يقضي ساعات طويلة مع الملك، يتحدثان فيها عن مشروعات ڤاجنر وآماله في المستقبل. ويذكر ڤاجنر أنه لم يجد من الناس من يداني لودفيج في إلمامه بمؤلفاته وإنتاجه الأدبي والفني. وأغلب الظن أن هذا الحكم كان من قبيل التملق للملوك الذين يطربهم دائما أن يسمعوا أنهم أوسع الناس علما ومعرفة. وليس معنى ذلك أن لودفيج كان جاهلا بإنتاج ڤاجنر، ولكن من الصعب أن يصدق المرء أنه كان أوسع الناس علما به.
وهكذا تصور لودفيج علاقته بڤاجنر، لا على أنها صلة راع رحيم بفنان معدم، بل على أنها صلة روحية بين تلميذ وأستاذه، ترمي إلى تحقيق هدف مشترك يساهم فيه كل من الطرفين بما يستطيع تقديمه: الأول بماله، والثاني بفنه، وقد وضع ڤاجنر لنفسه هدفا مفرطا في الطموح؛ هو بعث ألمانيا وإنهاضها عن طريق المسرح، ومثل هذه الغاية (التي كانت دون شك مستحيلة من الوجهة الواقعية؛ إذ قد يكون المسرح واحدا ضمن عوامل نهوض أمة، ولكنه قطعا ليس العامل الأساسي في نهوضها) كانت تقتضي وسائل غير عادية، وإمكانيات مادية هائلة. ولم يكن هناك من هو أقدر من لودفيج على جلب هذه الإمكانيات، فهو ملك يتصرف في أموال دولة بأسرها، وهو في الوقت ذاته معجب بفن ڤاجنر أشد الإعجاب؛ فمن المحال إذن أن يبخل عليه بشيء.
ولقد أطال كثير ممن كتبوا عن ڤاجنر الحديث عن «غيرة» الساسة المحيطين بلودفيج من تسلط ڤاجنر عليه، وعن حقدهم الأزرق على هذا الفنان الموهوب الذي أغدق عليه ملكهم عطاياه، ولكن النظرة الموضوعية إلى الأمر كفيلة بأن تضع الأمور في نصابها؛ فمن المعقول أن يعمل الحاكم على تشجيع الفن بالمال. أما أن يغدق الأموال بغير حساب على مشروعات فنية يعتقد صاحبها أنها ستنهض بأمة بأسرها، ويتجاهل ما عدا ذلك من المشروعات أو النفقات التي ينبغي على أي حاكم مسئول أن يضعها نصب عينيه؛ ففي ذلك دون شك ما يبعث على السخط ويثير غضب كل من يفكر جديا في المصلحة العامة لبلاده. ومن المؤكد أن مشروع ڤاجنر كان يستلزم نفقات باهظة، فضلا عن بذخ ڤاجنر الشخصي وحبه المفرط لجميع مظاهر الترف، وما يقال عنه من أنه ملأ البلاط الملكي بأصدقاء أو معارف له لا يؤدون أعمالا على الإطلاق. ولنضف إلى ذلك كله أن لودفيج لم يكن شخصا متمالكا قواه العقلية تماما؛ فقد انتهت حياته بالجنون. وكانت الأعراض الأولى لاعتلاله العقلي ظاهرة منذ وقت مبكر، هذا فضلا عما عرف عنه من شذوذ جنسي ثبت عليه بصفة قاطعة، وساعد على تدهور حالته النفسية بسرعة، ولم يفلح الدواء الذي ظن أنه سيفيده - وهو تطهير نفسه عن طريق فن ڤاجنر- في الحيلولة دون هذا التدهور. كل هذه العوامل كانت كفيلة بأن تدفع كل حريص على مصلحة البلاد إلى أن يجهر بصوته معلنا اعتراضه على هذا التسلط الذي استحوذ به ڤاجنر على شخص الملك، وداعيا إلى إيقاف هذا التبديد الجنوني للأموال العامة. •••
فإذا تركنا الحديث عن علاقات ڤاجنر العامة مؤقتا، وانتقلنا إلى علاقاته الخاصة، لوجدناه قد تحدى التقاليد في هذا الميدان بدوره، وقام بمغامرات جلبت عليه سخط الكثيرين، وإن كان نجاحه فيها أعظم من نجاحه مع ساسة باڤاريا وصحفييها. ولقد أحس ڤاجنر بأن وفرة المال ليست وحدها كافية لتحقيق سعادته؛ ولذلك كان أسعد الناس حين جاءته كوزيما فون بيلوف ملبية دعوته لزيارته في مقره الجديد. وكانت هذه الدعوة موجهة إليها وإلى أفراد أسرتها جميعا؛ غير أن زوجها كان مريضا، فحضرت مع طفليها بدونه.
وسرعان ما طرح ڤاجنر وكوزيما جانبا كل التقاليد والقيود الاجتماعية. ولم يكن ذلك بالأمر العسير على ڤاجنر، كما أنه لم يكن بالمثل عسيرا على كوزيما؛ فقد كانت تعلم منذ طفولتها أن أباها «ليست» قد هجر أمها ليعيش مع الأميرة الغنية «كارولين فون فنجنشتين». وقد بذلت كارولين جهودا كبيرة لإقناعها بسلامة موقفها، وبأن حبها لأبيها كان أقوى من جميع التقاليد الاجتماعية. وهكذا لم يكن من الصعب على كوزيما، حين تعرضت لنفس الظروف، أن تهتدي بسرعة إلى الحل الذي تنشده، وهو تحدي جميع تقاليد المجتمع.
وهكذا أقامت كوزيما فترة من الزمن مع ڤاجنر، وعندما أنجبت فيما بعد ابنتها إيزولدة، كان الجميع يعلمون أنها ابنة ڤاجنر، لا بيلوف. وحين حضر بيلوف ليلحق بها، لم تطل مدة إقامته؛ إذ كانت صحته تبعث على القلق، فرحل سريعا إلى برلين. ولما لم يستطع ڤاجنر أن يجد سببا يبرر به في نظر العالم استبقاءه لكوزيما، اضطر إلى فراقها مؤقتا؛ حتى يهتدي إلى وسيلة تجمع بينهما على الدوام.
والواقع أن الحواجز التي كانت تقف حائلا بين ڤاجنر وبين كوزيما لم تكن قوية إلى الحد الذي تبدو عليه لأول وهلة؛ فهناك أولا «مينا» زوجة ڤاجنر، وهذه قد أراحت الجميع بوفاتها في يناير سنة 1866م. وهناك ثانيا «ليست»، أبو كوزيما، الذي تظاهر في البداية بالحزن احتراما منه لرداء القسس الذي أصبح يرتديه، ولكن كان من الصعب أن يتصور أحد صدور معارضة حقيقية من مثل هذا الأب الذي لم تطلب منه ابنته سوى أن يسمح لها بما استحله لنفسه مع عشرات النساء. وكان ڤاجنر أدرى الجميع بنفسية ليست؛ فحين تقابلا، لم يتحدثا في الأمر مباشرة؛ وإنما فتح أمامه الصفحة التي دونت فيها مقدمة «أساطين الطرب»، وجلس ليست ليعزف، بينما وقف ڤاجنر يغني، وأتمت الموسيقى التفاهم بين الرجلين. وعاد ليست وهو يقول: «إن قواعد المجتمع وتقاليده المعتادة لا تلزم إلا الناس العاديين، أما ڤاجنر فإنه يخلق دررا وجبالا من الماس!» أما العقبة الثالثة، وهي بيلوف، زوج كوزيما، فلم تكن جدية بدورها؛ إذ يبدو أن صاحبنا هذا لم يكن حريصا كل الحرص على زواجه، أو أنه كان يشعر بتضاؤل تام لشخصيته إزاء ڤاجنر، بحيث طغى عليه احترامه «المهني» له، ولم يستطع أن يقف في وجه إرادة هذا العملاق الموسيقي الذي يعرف بيلوف، أكثر من غيره، قيمته الحقيقية. وهكذا فإنه عندما علم من ڤاجنر وكوزيما بحقيقة العلاقات بينهما، تراجع ولم يحاول المقاومة، ثم أصبح رضوخه ضروريا بعد أن أنجبت كوزيما من ڤاجنر في سنة 1869م ابنا كان الموسيقي الكبير يترقبه، ولم يجد بيلوف في النهاية بدا من أن يكتب إلى كوزيما، في مذلة عجيبة، يقول: «لقد آثرت أن تهبي حياتك ونفائس قلبك وروحك لشخص يسمو علي في كل شيء. وأنا لا ألومك على هذا، بل أشهد بحسن تصرفك في كل ما فعلت. وإني لأقسم لك أن الفكرة الوحيدة التي تجلب لي السلوى وتنير ظلمات نفسي من آن لآخر فتخفف عني آلامي، هي أن كوزيما - على الأقل - سعيدة.» أما علاقته بڤاجنر، سارق زوجته، فكانت أعجب وأغرب؛ إذ إنه ظل على صداقته واحترامه له، واستمر في عزف موسيقاه بكل فخر وإعجاب ... إنه نمط عجيب من الرجال، لا نستطيع، نحن أهل الشرق، أن نفهمه!
وفي يوليو سنة 1870م، أعلن رسميا طلاق كوزيما من بيلوف، وفي الشهر التالي تم زواج ڤاجنر بها، وتعميد ابنه «زيجفريد». ولم يكن هناك وقت أكثر ملاءمة لهذا الوطني الألماني المتعصب؛ فقد اقترن احتفاله بزواجه بمظاهر الانتصار الألماني على فرنسا في الحرب السبعينية، وهوى عرش نابوليون الثالث بعد مولد ابنه بفترة، مثلما هوى عرش نابوليون الأول بعد مولده هو بفترة قصيرة أيضا، واقترن مولد الأب بانتصارات للأمة الألمانية التي كان ڤاجنر من أشد أبنائها تعصبا لها. •••
وخلال هذه الأحداث كان ڤاجنر يعمل بجد لإتمام العمل الأكبر الذي كرس له هذه الفترة من حياته، وهو عرض «تريستان وإيزولدة»، ورغم كل ما صادفه في حياته العامة والخاصة من متاعب، فقد نجح في إخراج هذه الفكرة المستحيلة إلى حيز الوجود. وهكذا رفع بيلوف عصاه في العاشر من يونيو سنة 1865م ليقود «تريستان»، وتم العمل الهائل الذي كرست له أعظم الجهود، وتحققت المعجزة، وأمكن أداء ما لا يمكن أداؤه، وعرضت «تريستان وإيزولده» بعد أن ظلت مهملة ست سنوات كاملة ... ولئن كان أولئك الذين حظوا بمشاهدة أول حفل تعرض فيه هذه الدراما الخالدة، وأحسنوا فهمها، قد ارتفعوا إلى أسمى درجات النشوة الصوفية التي يمكن أن تحققها الألحان، فإن ضعاف العقول والأذواق قد وجدوا فيها لغزا جديدا من تلك الألغاز التي يغرقهم فيها ڤاجنر واحدا تلو الآخر، ورأوا في ألحانها قمة الغموض والإبهام اللذين لا يزال ڤاجنر يوصف بهما حتى اليوم.
على أن الجو عاد يكفهر مرة أخرى عندما حان موعد تنفيذ المشروع الأكبر، وهو مسرح ڤاجنر المثالي، وإذا كانت الفكرة حلما جميلا ظل منذ وقت طويل يداعب ڤاجنر ومليكه، فقد كانت في نظر ساسة باڤاريا حملا ثقيلا على ميزانية الدولة المتواضعة، ولهوا باطلا لا يستحق كل هذا العناء. وهكذا تضافرت جهودهم لعرقلة هذا المشروع على قدر وسعهم، وأدرك ڤاجنر ذلك وأيقن أن مشروعه قد جلب له عداء الجميع، وتبينت له تلك الحقيقة بجلاء في فترة غادر فيها ميونيخ لأعمال خاصة، فقرر ألا يعود إليها، وكان تعليله البسيط لكل ما حدث هو «أن العالم لا يعرف كيف يعاملني؛ لأنه لم يصادف من قبل رجلا مثلي ...»
ولكم كان أسف الملك مريرا وهو يكتب إلى ڤاجنر يعتذر له عما حدث، ويؤكد له أن تلك الأحداث العابرة التي حدثت رغما عنه لا يمكن أن تؤثر في تقديره لفنه، وأن كل آثار ذلك العمل الذي اضطر إليه اضطرارا، ستمحى كلها في القريب. وهكذا افترق الصديقان؛ أحدهما يعلل الأمل بإمكان إصلاح ما أفسدته الظروف القاسية، وبقرب عودة منقذه ومخلصه في حياته الروحية المضطربة، والآخر يواجه مرة أخرى تلك الحياة القاسية التي لم تهادنه يوما، ويرى سعة الهوة التي تفصل بين العالم الواقعي وعالمه المثالي.
واستقر رأي ڤاجنر، بعد بحث طويل، على اختيار الإقامة في سويسرا، حيث اهتدى إلى دار هادئة تحف بها الأشجار الظليلة، وتطل على بحيرة واسعة بالقرب من لوسرن، وكان اسم الدار «تريبشن
Triebschen » وهنا فقط أحس ڤاجنر بالاستقرار الذي ينشده والهدوء الذي يتوق إليه، ليتفرغ لإنتاجه الفني الذي أعاقته إقامته الصاخبة في ميونيخ، ولحياته العاطفية الجديدة مع كوزيما، التي لم تصبح ملكا له وحده إلا هناك.
بايرويت ونهاية المطاف
كانت لا تزال أمام ڤاجنر مهمة كبرى، هي بناء مسرحه المثالي، الذي اعتقد أنه سيكون مدرسة الفن الصحيح في المستقبل. وفي خلال طوافه بالمدن الألمانية في عام 1871م شاهد ڤاجنر القصر العتيق في بلدة «بايرويت
Bayreuth » فأعجب به كل الإعجاب، وخاصة موقع منه على رابية مشرفة على ما حولها، فاستقر رأيه على أن يقيم هناك مسرحه المرتقب؛ على أن ذلك لم يكن السبب الوحيد لاختياره هذا؛ فقد وضع ڤاجنر مقدما عدة شروط لا بد من توفرها في المدينة التي يختارها لبناء مسرحه، فكانت بايرويت خير مدينة توفرت فيها تلك الشروط؛ إذ رأى أنها لا بد أن تكون مدينة لا يوجد فيها مسرح من قبل، ولا مياه معدنية؛ كي لا تجتذب في الصيف حشودا من الناس لهم هدف لا صلة له بالفن الرفيع إطلاقا. وكان من المستحسن في نظره أن تكون في قلب ألمانيا، بل في باڤاريا ذاتها؛ إذ أراد ڤاجنر أن يقيم في مدينته المختارة على الدوام، وهو لا يمكنه أن يحيا على الدوام إلا في باڤاريا. وتلك كلها شروط توفرت في بايرويت، وزاد عليها أنها أرض بكر في ميدان الفن؛ ففي وسعه إذن أن ينمي فيها فنه الجديد كما يشاء.
وأخذ ڤاجنر يطوي ألمانيا الكبرى داعيا إلى مشروعه الجديد، وأكرمت برلين وفادته في حفل حضره الإمبراطور وزوجته. وتقابل ڤاجنر وبسمارك؛ غير أن رجل الفن لم يتفاهم جيدا مع رجل السياسة والواقع، وظل بسمارك حذرا من ذلك الثائر الذي ظل يذكر جهوده عام 1848م. ولم يحاول ڤاجنر من جانبه أن يطلب من بسمارك شيئا تساهم به حكومة بروسيا في مشروعه، بل كان يعلم أن جمعيات عديدة قامت في كبريات المدن الألمانية باسم جمعيات «أصدقاء ڤاجنر»، وأخذت تجمع التبرعات حتى تكمل مليونا من الفرنكات، وهو المبلغ الذي قدرت به نفقات المشروع. وكانت سرعة التبرع مثار دهشة ڤاجنر وإعجابه، ومما شجعه أن بلدية بايرويت تبرعت له بأرض المسرح بلا مقابل. وفي الوقت الذي كان فيه ڤاجنر يتم الأجزاء الأخيرة من الدراما الرباعية الكبرى، جاءته نسخة من كتاب «ميلاد التراجيدي» يهديها إليه نيتشه بقوله: «سترى أنني قد حاولت في كل صفحة أن أعبر لك عن شكري على ما أفدتني إياه. وإني لأشعر والفخر يملؤني بأن لي شأنا، وبأن اسمي سيقرن دائما باسمك.»
وفي أبريل سنة 1872م ودع ڤاجنر تريشن لينتقل إلى حيث آثر أن يقضي بقية أيام حياته. وكان استقبال بايرويت له رائعا. أما أول حفلة فكر ڤاجنر في إقامتها هناك؛ فقد عزف فيها السيمفونية التاسعة لبيتهوفن؛ وفاء منه واعترافا بجميل أستاذه العظيم، وإشارة إلى أنه منها قد بدأ.
وفي اليوم التالي لذلك الحفل، أمسك ڤاجنر بالحجر الأساس وثبته في التراب، وفي تلك اللحظة أتته برقية من الملك لودفيج الثاني يقول فيها: «أعبر لك من أعماق قلبي عن أخلص وأحر أمنيات السعادة في هذا اليوم المشهود من تاريخ ألمانيا. فليبارك الله مهمتك الكبرى في العام القادم. وإني اليوم - أكثر مني في أي وقت مضى - لأشاركك شعورك بكل روحي.»
وكان شحوب ڤاجنر مخيفا وهو يستقل عربته عائدا مع زوجته ونيتشه بعد ذلك اليوم الحافل. وقد وصفه نيتشه فيما بعد فقال: «كان ڤاجنر صامتا، يلقي من وقت لآخر نظرة طويلة إلى داخل ذاته؛ نظرة لا تعبر عنها أية كلمة ... كان قد بدأ في ذلك اليوم عامه الستين، ولم تكن كل حياته الماضية إلا إعدادا لتلك اللحظة ذاتها.»
وبعد عامين، أحس ڤاجنر بأنه قد أتم رسالته أو كاد؛ إذ اكتمل بناء مسرحه الجديد، وبني معه بيته الذي ضم قبره وقبر كوزيما فيما بعد، وهو «فانفريت
Wahnfried »، وأتم آخر صفحات «أفول الآلهة» وهي آخر حلقة في الدراما الرباعية، فكتب ڤاجنر على الصفحة الأخيرة: «تمت في فانفريت، ولن أضيف أي تعليق.» وما كان في وسع أي تعليق أن يعبر عن ذلك العمل الذي بدأ يطوف بمخيلته منذ ربع قرن من الزمان، والذي تخللته واعترضته أحداث هائلة تغلب عليها آخر الأمر بعزيمته وإصراره.
وقضى ڤاجنر عام 1875م بأكمله يعمل في مسرحه الجديد على إعداد الدراما الرباعية الكبرى، «خاتم النيبلونجن». وكان المسرح محققا لكل أغراضه؛ إذ كانت الفرقة الموسيقية تشغل مكانا لا يشاهده النظارة؛ وبذلك كانت الموسيقى تنساب حرة في خيالهم، دون أن يعوق تأثيرها مشاهدة حركات العازفين، ودون أن ينشغل العازفون أنفسهم بمشاهدة النظارة. وكانت قاعة المسرح واسعة متدرجة، ليست بها طوابق عليا ولا مقصورات؛ ففي ذلك المسرح ما يذكرنا بالمسارح القديمة إلى حد كبير، مع فارق هام هو أن المقاعد الحجرية عند الرومان قد استبدلت بها مقاعد أخرى خشبية لا يستند ذراعا الجالس عليها على شيء. وكانت القاعة تتسع لألف وخمسمائة متفرج، وعلى جانبيها رسوم تنتمي إلى أسلوب عصر النهضة. ولأول مرة ابتدع ڤاجنر طريقة فتح الستار أفقيا من اليمين واليسار، بعد أن كان يرتفع دائما إلى أعلى. وقد اقتبست كل مسارح العالم تلك الطريقة عنه.
وكان أغسطس من عام 1876م هو شهر الافتتاح، وتوالت الوفود على بايرويت من جميع أنحاء ألمانيا وخارجها، فكان خليطا عجيبا جمع بين أفراده إعجابهم وتقديرهم للفن الجديد. ووصل الملك لودفيج الثاني، ولكن غيبة ثمانية أعوام عن صديقه كانت كفيلة بأن تجعله صامتا فاترا لا يدري ماذا يقول.
وفي الليلة الأخيرة لذلك العرض الأول الذي استغرق أياما أربعة، وقف ڤاجنر يخاطب مستمعيه الذين شهدوا الدراما الرباعية للمرة الأولى قائلا: «لقد شاهدتم ما يمكننا أن نفعله بوصفنا ألمانا. ولو شئتم فسيكون لنا فن مستقل.» ثم عاد يقول: «لا أستطيع أن أقول إننا لم نجعل لأنفسنا فنا مستقلا قبل الآن، ولكن الألمان كانوا يفتقرون دائما إلى فن قومي، كذلك الذي نلمسه لدى الإيطاليين والفرنسيين، رغم الفارق بين فننا وفنهم.» وهكذا كان ڤاجنر يذكر وطنه وقومه على الدوام في لحظات انتصاره.
لم يكن الهدوء والاستقرار كافيين ليتفرغ ڤاجنر لعمله الجديد، بل كان في حاجة إلى شيء آخر؛ إلى حب جديد. حقا إن كوزيما كانت معه، ولكن كوزيما زوجته، وهو وإن كان حقا يحبها، فإنه لم يزل بحاجة إلى اقتناص حب آخر فيه مقامرة وتهيب وإلهام. وقد عاوده هذا الشعور بعنف أمام جوديت جوتييه
Judith Gautier
ابنة الشاعر الفرنسي تيوفيل جوتييه، حين زارته مع زوجها وصديق لهما في تربشن. كانت جوديت قد أغرقته من قبل برسائلها التي بلغ فيها إعجابها حد التقديس، وأشادت فيها بفنه في أرق أسلوب شعري. ولكم عاود ڤاجنر مرحه وهو يتحدث مع هؤلاء الزوار الجدد حديثا يفيض طربا وفكاهة! بل لقد عاد طفلا من جديد، فأصبح يقفز ويستلق الأشجار بخفة القرود أمام زائريه المتعجبين! وفي ظل ذلك الشعور الملهم، واصل عمله في تأليف بارسيفال؛ فما كان في وسعه المضي فيها دون أن يطمئن إلى أنه يحوز إعجاب امرأة. وهكذا كانت ردوده على رسائلها حافلة بعبارات الحب الواله. ولكن أحقا أن هذا الشيخ الذي تجاوز الستين كان يحب الفرنسية الجميلة ابنة الخامسة والعشرين؟ لقد كان يعرف أن هذا وهم، وأنه يخادع نفسه؛ ولكن لا بد من هذا الخداع حتى يقتنع بأن روحه ما زالت فتية، وبأن في وسعه أن يحب ويعيش ويلحن.
ولكن وطأة الإقامة في بايرويت كانت شديدة على ذلك الذي كان يعلم أنه يدون آخر أعماله، كان في حاجة إلى هدوء الجنوب وصفائه، فليمض إلى إيطاليا! وفي نابلي كان ڤاجنر يطل من شرفته فيشاهد بركان فيزوف، فيراه قديما عتيقا، ولكنه لم يزل حيا يثور ويثور ... وكذلك كان ڤاجنر. وفي ذات يوم أتته رسالة من الملك لودفيج الثاني يعده فيها بأن يعرض بارسيفال على نفقته الخاصة حين يتمها. وكان لا بد أن يعود ڤاجنر إلى ألمانيا ليشكره. وفي ميونيخ قرر أن يقيم حفلا موسيقيا يعزف فيه مقطوعات من دراماته؛ غير أن الملك تأخر قليلا عن الحضور، فغضب ڤاجنر، واشتد غضبه حين أخذ الملك يلح عليه في عزف قطع أخرى لم تكن ضمن برنامجه، فلم يلبث أن قذف بعصا القيادة إلى أحد أصدقائه، ثم أسرع إلى منزله، حيث انتابته نوبة مرضية عنيفة، وانفجر غضبه على شكل سباب ولعن لكل الحكام في العالم: الملك، والإمبراطور، وبسمارك؛ الكل على حد سواء!
وساءت صحة ڤاجنر في عام 1881م. وحين عاده الأطباء لم يروا شكواه راجعة إلى علة جسمية، بل كان في حاجة إلى هواء الجنوب لتهدئة نفسه المتعبة. ومرة أخرى تتجه الأسرة إلى إيطاليا، وهناك لم يضع ڤاجنر لحظة واحدة بغير تأليف؛ فقد أصبح يخشى أن يفاجئه الموت قبل أن يتم عمله الأخير؛ وما كان في وسعه أن يحتمل نقصان بنائه الشامخ حجرا واحدا.
ويعود ڤاجنر إلى بايرويت في أوائل عام 1882م ليشهد افتتاح بارسيفال. ويتكرر العرض ست عشرة مرة، ويحقق نجاحها كل آمال ڤاجنر، حتى يزهد في المجد والنجاح، ويتوق مرة أخيرة إلى هدوء الجنوب ... لقد عمل بنصيحة كوزيما إذ قالت: على المرء أن يعيش في ألمانيا ويموت في إيطاليا.
وها هي ذي إيطاليا تناديه، والبندقية خاصة تنتظره ... لقد بلغت الحياة قمتها والشمس المشرقة سمتها في تلك المدينة؛ وما أجمل الموت حيث تزدهر الحياة.
وفي الثاني عشر من فبراير عام 1883م نام ڤاجنر ليلة هادئة، كان أفراد أسرته يستمعون إلى صوته خلالها كثيرا، كما اعتاد أن يفعل حين يؤلف أشعارا جديدة ... وحين استيقظ في فجر اليوم التالي، كان يحس قلقا لا يدري سببه، عبر عنه بقوله: «لا بد لي أن آخذ حذري اليوم.» وبينما كانت الأسرة تتناول الغداء، وهو لم يزل ملازما غرفته وحيدا، سمع الجرس الصادر عن غرفته يرن بقوة، ثم أسرعت خادم تطلب من كوزيما أن تأتي على عجل، ولكن ڤاجنر في سورة ألمه ونضاله الأخير يطلب من زوجته أن تبتعد، زاعما أنه لم يكن في حاجة إليها. وفي المرة الثانية، حين علا رنين الجرس، استسلم لكوزيما، ولم يكن في وسعه هذه المرة أن يقاوم، فأسند رأسه إلى صدرها في سكون، ثم صمت إلى الأبد.
وكان موكب جسد الفنان وهو ينتقل من إيطاليا إلى ألمانيا رهيبا مهيبا. وانتهى المطاف به في بايرويت، حيث رست أخيرا سفينة «الهولندي الطائر»، واستقر حيث كان يتمنى دائما أن يكون. •••
في حياة ڤاجنر صفحة واحدة متكررة، هي الثورة مع التقلب والحركة الدائمة. وفي ضوء هذه الصفحة تتضح كل تفاصيل تلك الحياة وتفسر جميع وقائعها. ولا شك في أن هذه لم تكن صفة عارضة شاءتها الظروف القاسية التي مر بها، بل كانت راجعة إلى تركيبه وتكوينه؛ فطبيعته النشطة الدائمة الحركة هي التي شاءت أن تكون حياته كذلك. وكانت تلك الطبيعة الثائرة هي أول ما يلفت أنظار مشاهديه ... ولنستمع إلى بعض من وصفوه لتكمل بذلك الصورة الحية التي نود رسمها لڤاجنر ولشخصيته.
وصفه موسيقي فرنسي هو «لوي لاكومب
Louis Lacombe » في عام 1860م بقوله: «كانت تضيء جبهته الجليلة نظرة ملؤها الحيوية والقوة والحرارة النفاذة. ولقد كان في كيانه بأكمله عنصر من الحيوية والصراحة والقوة والروحية كان يجذبنا إليه. ولا زلنا نذكر - بعد عشرة أعوام طوال - ذلك الأثر الذي كانت تحدثه فينا عينه الذكية، التي كان يبدو لنا أن شعاعا من الشمس يكمن دائما فيها.»
وفي نفس العام وصفه فيورنتينو
Fiorentino
وصفا اقترن بالتلميح إلى براعته في التوفيق بين الأنغام وبعث الانسجام بينها، وضعفه في الإتيان بلحن مستقل جميل
melodie
فقال: «لڤاجنر جبهة جميلة نبيلة رفيعة، أما أسفل الوجه فقبيح وضيع - حتى لكأن جنيتين إحداهما ثائرة والأخرى هادئة قد ساهمتا في إنجابه؛ فداعبت جنية التوافق والانسجام
harmonie
جبهته وجملتها، ومن هنا نبعت عنها تلك الأفكار القوية والآراء الجريئة. أما جنية اللحن
melodie
فقد تنبأت مقدما بالأذى الذي سيلحقه بها طفلها، فجثمت على وجهه وحنت أنفه.»
وفي عام 1861م يصفه شارل لورباك
Charle Lorbac
بقوله: «كان ڤاجنر متوسط القامة، ينبئ كل ما فيه بتكوين عصبي؛ فحركاته مباغتة، تنم عن صبر نافد، كحركات شخص يلتهم فكره زمانه؛ ولجبهته اتساع غير عادي، وتحتها عينان صغيرتان، ولكن يشع منهما لهب نفاذ، أما الأنف فانحناؤه أقوى ... والصفة العامة في الرجل هي الإرادة الطاغية والنشاط الدائب.»
مثل هذه الطبيعة كان من المحال أن يغيرها الزمان أو يبعث فيها الهرم تأثيره المخدر. وها هو ذا فيكتور تيسو
Victor Tissot
يقارن بينه في عام 1875م وبينه في عهد شبابه فيقول : «لم يتغير فيه سوى الشعر الذي اكتسى بريقا فضيا خفيفا. أما الرأس فكما هو؛ لا يزال له نفس التركيب بزواياه الحادة ... وظلت لحركاته نفس السرعة والمباغتة ... وللسانه نفس القدرة على الدوران كالطاحون ... إنه دائما ثائر تبدو عليه الرغبة في النضال أو الحض على حرب صليبية، فهو كبركان دائم التفجر؛ في كل ما يفعله وكل ما يقوله خليط من الحمم واللهب والدخان، وإن المرء ليحس بالوهج بمجرد أن يقترب من ذلك الرجل البركان، حتى لتدفعه الرغبة إلى عودة رجال المطافئ ليبردوا لهيبه.»
وما كان لتلك الحيوية المتدفقة أن تعبر عن نفسها إلا على شكل هجوم دائم، وما كان لها أن تحيا إلا حياة كلها صراع ونضال لا تعرف الهدوء أو السرعة حتى لحظتها الأخيرة. وهكذا كانت حياته هجوما متواصلا: على تقاليد الفن عامة، والموسيقى والشعر والدراما والمسرح بتفاصيلها، وعلى السياسة والمجتمع، وعلى الكنيسة، واليهود والفرنسيين والإيطاليين. كانت ثورة جارفة دعمت الأيام نتائجها وثبت التاريخ أركانها، واستمرت عناصرها في كثير من التيارات الموسيقية والدرامية والمسرحية الحالية، بحيث لا يستطيع أحد أن ينكر أن ڤاجنر، شأنه شأن كل فنان أصيل، قد ترك في الفنون التي عالجها طابعا خاصا به لا يمكن أن تمحوه الأيام.
فلسفة ڤاجنر وفنه
بين التفاؤل والتشاؤم
أفكار ڤاجنر الفلسفية
عهدنا بالفنان أنه تلقائي يصدر عنه الإبداع الفني دون أن يتكلف مشقة الموازنة والمقارنة بينه وبين غيره، ودون أن يضع لنفسه أساسا نظريا يشرح به وجهة نظره ويدافع عنها، والحق أن الفنان غالبا ما يجهل وجهة نظره هذه، ولا يعلم عنها شيئا؛ وكل ما في الأمر أنه ينتج، وأن هذا الإنتاج يبدو له في نظر نقاده النظريين عيوب ومزايا، وتتكشف لهم نواحي التجديد فيه، حتى إذا تقادم به العهد واجتاز اختبار الزمن بنجاح، أصبحت له في تاريخ الفن مكانة معينة تحدد موضعه بالنسبة إلى من سبقه وما تلاه، وصيغت تجديداته صياغة نظرية واحتلت مكانها بين قواعد الفن الموروثة.
أما ڤاجنر فقد شذ عن هذه القاعدة، ووضع لإنتاجه الفني أساسا نظريا اعتمد عليه كل من حاولوا تحليل فنه. وليس معنى ذلك أننا نحاول أن ننتقص من قدر ملكة العيان الفني لديه، أو نقلل من دور الإلهام المبدع فيما أنتج؛ وإنما ننبه إلى تلك الصفة التي انفرد بها دون بقية موسيقيي القرن التاسع عشر، وهي قدرته على التحليل الدقيق، والشرح النظري العميق، والتبرير المنطقي المقنع. ومن الصعب تعليل هذه الظاهرة تعليلا شافيا؛ فلسنا ندري أكان ڤاجنر يجمع إلى حاسته الفنية المرهفة قدرة على التفكير المنطقي الدقيق يستغلها خلال أوقات صحوه من أحلامه الإبداعية، أم أنه قد اضطر إلى ذلك التبرير النظري اضطرارا، بدافع رغبته في شرح وجهة نظره وإفهامها لمن استعصى عليه فهمها، وهم كثيرون. والأغلب أن السببين مجتمعان معا؛ فقد كان ڤاجنر فنانا تشعبت أطراف نشاطه وتعددت المظاهر التي تبدت عليها طاقته الروحية، وتوفرت له من الثقافة الكلاسيكية والحديثة ما لم يتوفر إلا للقلائل من الفنانين، وخاصة الموسيقيين منهم. وكان من جهة أخرى يواجه جمهورا معاديا في معظم فترات حياته؛ إذ كان انقلابه الفني من الجدة بحيث ذهل له البعض، وسخر منه غيرهم، وتجنبه آخرون، وظلت هناك أقلية ضئيلة هي التي تفهمته واستوعبته. وهكذا كان ڤاجنر في حاجة إلى «دفاع» عن وجهة نظره في الفن، وإلى تبرير انقلابه وبيان الأسس النظرية التي يستند إليها؛ حتى يضمن - على الأقل - أنه سيلقى جمهورا لا يبدؤه بالعداء، ولا يتحكم في تذوقه لإنتاجه تحامل سابق.
تقلبت أفكار ڤاجنر الفلسفية بين الثورة العنيفة على التقاليد وبين الاستسلام الديني الصامت. والفرق واضح بين الحالتين ولكن لندرس الأساس الذي قامت عليه ثورته، والسبب الذي ألجأه إلى الاستسلام والتشاؤم، فربما وجدنا بعد هذه الدراسة ما يعيننا على تصور الرابطة التي جمعت بين كل فترات تفكيره.
كانت فترة الثورة عند ڤاجنر هي تلك التي أعقبت الانقلاب الأوروبي المشهور في عام 1848م، وظلت مبادئها راسخة في ذهنه حتى وقع في يده كتاب شوبنهور في عام 1854م، وعندئذ اتخذ تفكيره مجرى آخر. وطبيعي أن تستهوي الثورة السياسية روحا كان موقفها من الفن المعاصر هو الثورة منذ البداية . وارتبط الانقلابان في ذهنه ارتباطا وثيقا، حتى بات يهاجم الملكية المستبدة في بلاده بنفس القوة التي كان يهاجم بها التقاليد الفنية الشائعة التي ثار عليها، وحدث في تلك الأثناء أمر تكرر أكثر من مرة في حياته؛ فقد تصادف أن قرأ مؤلفات «فويرباخ»، وتأثر بها كل التأثر ... ولم يكن ذلك التأثر راجعا إلى عمق الفلسفة التي قرأها، بقدر ما كان راجعا إلى ملاءمتها لحالته الذهنية في ذلك الحين. والحق أن تأثر ڤاجنر بأي مفكر لم يكن سلبيا على الإطلاق، بل كان دائما لا يستهويه من المفكرين إلا من عبرت أفكاره بوضوح عن آمال مشابهة لآماله، أو على الأقل يرى هو فيها هذا التشابه. وهكذا كان معيار إعجابه بالمفكرين هو انطباق آرائهم على الحالة الذهنية التي تتملكه في وقت قراءته لهم.
ولقد كان «فويرباخ» ملائما له في تلك الفترة إلى حد بعيد، ووجه التشابه بينهما هو الثورة على التقاليد. فكل فيلسوف مادي ثائر بالضرورة؛ إذ إن الإنسانية لم تتخذ - في أي عهد من عهودها حتى ذلك الحين - من المادية أساسا فكريا تعيش عليه. وقد نرى الناس في فترة من الفترات ماديين في سلوكهم العملي إلى أقصى حد، وقد نرى حضارة صناعية ضخمة لا تقوم إلا على الماديات، ومع ذلك فالأساس العقلي «الرسمي» لكل هذه الحضارات قد ظل حتى عصره روحيا. وهكذا صادف فويرباخ هوى في نفس ڤاجنر، واندفع معه في ثورته المادية، فإذا به يدعو إلى تحطيم كل الأصنام، وبلغ به الأمر حدا جعله يعبر عن أفكار لم نعهدها فيه طوال حياته، سواء قبل تلك الفترة أو بعدها؛ إذ يرى في الدين أسطورة، ويحمل على المسيحية خاصة، ويسخر من تقييدها لإرادة الإنسان في هذا العالم ومكافأتها لمن ينكر ذاته بسعادة خاملة في عالم آخر. ولم تكن تلك السعادة هي التي يراها ڤاجنر خليقة بالإنسان؛ وإنما كان يؤمن بحق الإنسان في حريته، وفي سعادة تامة في «هذا» العالم. والطريق الطبيعي لنيل هذه الحقوق هو الثورة؛ فالثورة كانت - كما يراها في تلك الفترة - هي الطريق الطبيعي الذي ينتقل به المجتمع من صورته الفاسدة الحالية إلى الحالة المثلى التي ترجى له المستقبل - تلك الحالة التي لم يحددها ڤاجنر بدقة، وإن كان قد لمح إليها، ودعا إلى الثورة لتدفع الإنسانية نحوها الدفعة الأولى. أما ما سيتلو ذلك فهذا ما لم يشأ أن يحدده؛ فقد رأى في ذلك التحديد تقييدا لحرية الإنسان، وهو يريد هذه الحرية وحدها ويدعو إليها، وهي بعد هذا كفيلة بأن تحقق كل أهداف الإنسانية.
وكما استمع ڤاجنر إلى نداء فويرباخ في فترة كانت كل ملكاته مهيأة فيها لتلقي هذا النداء، فإنه استجاب لدعوة شوبنهور في وقت كان كل شيء يدعوه إلى اليأس وإلى التشاؤم؛ فقد تضافرت الظروف السيئة لتدعوه بإلحاح إلى الفرار من هذا العالم والزهد فيه، وذلك خلال هذا الوقت العصيب من حياته، وفي نفس ذلك الوقت قرأ فلسفة شوبنهور. وهنا وجد ڤاجنر التعبير الفلسفي عن تشاؤمه، والصياغة المنطقية لما كان يفكر فيه خلال لحظات ألمه، فكتب إلى صديقه «ليست» يقول عن شوبنهور: «إن فكرته الكبرى، وهي النفي التام لإرادة الحياة، فيها عبوس مخيف، ولكنها هي وحدها الكفيلة بالخلاص. وهي ولا شك لم تكن جديدة علي، وليس في وسع مخلوق أن يفهمها ما لم يكن يعانيها حية في ذاته. ولكن ذلك الفيلسوف هو الذي أوضحها لي بجلاء لأول مرة.»
هكذا وجدت نفسه اليائسة في فيلسوف التشاؤم رفيقا مواسيا، ومنذ ذلك الحين تعلق ڤاجنر بشوبنهور، ولم يتخل عن آرائه لحظة واحدة؛ على أنه قرب بين شوبنهور وبين المسيحية وجمع بينهما في مركب واحد، فرأى في مبدأ الزهد في الحياة، وإماتة الرغبات الحيوية أساسا مشتركا بين دينه وبين تلك الفلسفة التي استهوته، ورأى في فرار المسيحية من العالم معبرا يؤدي بالضرورة إلى تأمل الكون تأملا سلبيا خالصا؛ أي النظر إليه بعين الفنان لا بعين الرجل العملي، وامتصاص عنصر الألم منه ليخرج الخيال إنتاجا فنيا يعكس طبيعة الكون الباطنة على مرآة الذهن الإنساني. ولست أدري كيف وفق ڤاجنر بين نظرة المسيحية إلى الوجود على أنه كمال من الكمالات، وإلى الخلق على أنه نعمة ، وبين نظرة شوبنهور إلى الوجود على أنه خطيئة، وإلى الخلق على أنه نقمة، ولكن الأغلب أنه تجاهل الجانب المسيحي من هذه الفكرة ليخلي الطريق لتشاؤم شوبنهور.
ولكن كيف تم الانتقال من النقيض إلى النقيض، وكيف تحول ڤاجنر من الثورة إلى التشاؤم والسكون؟ الواقع أن التناقض بين الموقفين يزول إذا فهمنا تعلقه بشوبنهور على أنه تعبير عن سخطه على العالم الحاضر، ذلك السخط الذي كان يبلغ في أحيان قليلة حد اليأس التام من كل إصلاح، ولكنه في أغلب الأحيان يقترن بأمل قوي في النهضة والبعث. وإذن فلم يكن التشاؤم متشابها من كل نواحيه عند الرجلين؛ وإنما كان عند شوبنهور غاية وحدا نهائيا تهدف فلسفته إلى الوقوف عنده. أما عند ڤاجنر فكان دليل تذمره على ما يسود الإنسانية الحالية من مبادئ فاسدة؛ والتذمر أولى مراحل الإصلاح.
وليس معنى ذلك أن ڤاجنر كان يهدف من تشاؤمه إلى غاية متفائلة في كل الأحيان؛ فقد رأيناه في «تريستان» يستسلم للتشاؤم ويجعله غاية قصوى، ويؤثر الموت على الحياة، ويراه خير حل لما يكتنف هذا العالم الأرضي من مشاكل، ولكن لنذكر أن تلك الدراما هي أوغل ما أنتج في باب التشاؤم، وقد اقترن تأليفه إياها بتجربة خاصة يائسة جعلته يربط بين الحب والموت، ويرى في الموت الوسيلة الوحيدة لعبور الهوة بين ما هو بشري وما هو إلهي، وبين شوق الحب واستحالة تحققه بعد ما وضعه المجتمع في سبيله من عوائق. وإذن ففي هذا الإنتاج وحده، ونتيجة للتجربة الخاصة التي صاحبته، بلغ التشاؤم قمته وأصبح غاية، أما في بقية درامات ڤاجنر، فما كان التشاؤم إلا وسيلة لهدف أسمى، هو «الخلاص».
فعلى الرغم من كل ما طرأ على تفكير ڤاجنر من تغيرات داخلية؛ فقد ظلت هناك أفكار ثابتة من وراء ذلك السطح المتغير، أهمها فكرة الخلاص عن طريق الزهد والتضحية والعزوف؛ ففي كل عمل فني له نراه يبحث جادا وراء السعادة الحقة، ويجدها في منقذ أو مخلص يرشد إلى الطريق القويم، أو يضحي بنفسه ليجلبها إلى من يسعى إليها؛ ففي «الهولندي» كانت المخلصة هي سنتا التي أنقذت تضحيتها ذلك الملاح التعس من المصير المؤلم الذي قدر له، وخلصته من لعنة الشيطان الأبدية. وفي «تانهويزر» يكتسي الخلاص ثوبا دينيا رومانتيكيا، فيكفل عزوف إليزابيث الطاهرة الخلاص للفارس التعس، الذي تذبذبت روحه بين الحس والحب الروحي. وكان «لوهنجرين» ذاته مخلصا، فأنقذ إلزا من أعدائها ومما رميت به من تهم ظالمة، وإن اضطر في النهاية إلى الزهد في السعادة الأرضية التي لم تستطع إلزا منحه إياها. وفي «النيبلونجن» نقلت فكرة الخلاص نقلا شبه صريح إلى المجال الاجتماعي؛ فالعامل يستغله صاحب رأس مال فظ بلا رحمة (يمثله النيبلونجن إزاء ألبيريش)، وليس لمالك الثروة من هدف سوى ملء خزائنه وتكديس أمواله، ثم السهر حارسا عليها (فافنر)، ووسيلة الخلاص هي القضاء على الأنانية قضاء تاما، وعندئذ فقط يمكن أن يسود الحب بين كائنات حرة في عالم مطمئن، لا يعود فيه آلهة ولا قوانين مقدسة مزعومة، وكل هذا يتم على يد الإنسان الحر في المستقبل (زيجفريد). وفي «أفول الآلهة» وهي آخر السلسلة الرباعية التي اتخذت وجهة مخالفة لوجهة الحلقات الثلاث الأولى، نرى فكرة الخلاص واضحة وإن ازدادت تشاؤما؛ فبعد أن زهد فوتان في كل رغبة في القوة وكل إرادة للحياة، ينتظر في صمت واستسلام نهاية العالم الذي دب فيه الفساد. وهذه النهاية تتم على يد «برنهيلدة» إذ يحين وقت أفول الآلهة حين تزهد برنهيلدة عن إرادة واختيار في «الخاتم»، وترده إلى بنات الرين، وبهذا تقضي على سبب التطاحن والرغبة الأنانية في القوة ... ورغم الطابع المرح الذي تتميز به «أساطين الطرب»، نراها لا تخلو بدورها من زهد وعزوف؛ إذ يزهد هانزساكس، الشيخ الحكيم، في حب إيفا، ويدعها للشاعر الشاب، ويلقنه التعاليم التي تكفل له الفوز، وبذا خلصه بتضحيته. وأخيرا ففي بارسيفال يقوم البطل بسلسلة من أفعال الزهد والتضحية، يعود بفضلها إلى مملكته «جرال» نقاؤها وطهارتها، ويبرأ جرح أمفورتاس الدامي إلى الأبد، ويمكن «كوندري» - شبيهه الهولندي في حيرته الأبدية - من أن تجد السلام والتوبة في النهاية، ويخلص بتضحيته العالم بأسره.
وهنا نلاحظ أن فكرة الخلاص هذه، التي احتلت هذه المكانة الكبرى في إنتاج ڤاجنر، هي فكرة مسيحية معروفة، فهل كان معنى ذلك أن ڤاجنر قد تأثر بالمسيحية طوال حياته الفنية، وأن إنتاجه كله قد بني على فكرة واحدة استمدها مباشرة من المسيحية؟
الواقع أن نظرة ڤاجنر الحقيقية إلى المسيحية يشوبها كثير من الغموض؛ ففي دراماته، خاصة الدراما الرباعية الكبرى، ما يوحي بأنه ملحد عنيد يدعو إلى زوال حكم الآلهة والمناداة بعهد الإنسانية الحرة. وفي بارسيفال ما يقطع بأنه كان مسيحيا مخلصا يرى في السخرية من آلام المسيح علة عذاب «كندري»، ويجعل الزهد والعزوف شرطين ضروريين لخلاص هذا العالم. فهل كان ڤاجنر إذن ملحدا أم متدينا؟ ... الأمر الذي لا يمكن إنكاره، هو أن ڤاجنر كان أقرب إلى التدين، وإن اصطبغ تدينه بصبغة إلحادية في كثير من الأحيان.
فليس في وسع المرء أن يتجاهل تيار الزهد الذي لازم إنتاجه من بدايته إلى نهايته؛ وإنما لا بد أن يعترف بأن تدين ڤاجنر قد دفعه إلى أن يدعو في دراماته إلى صفات قد يفتقر هو ذاته إليها، كالتضحية التامة وإنكار إرادة الحياة. ومن المحال أن تتردد هذه الأفكار الرئيسية في رأس ملحد. ولكن بعض العناصر اللادينية، أو على الأصح: اللامسيحية، تتردد في إنتاجه؛ ففي عهد الثورة، وفي فترة الإلحاد القصيرة التي مر بها، رأيناه يرسم للإنسانية الظافرة صورة تامة التحرر، فإذا بزيجفريد يتحدى الآلهة وينتصر عليها، ويستلهم الطبيعة في كل ما يعمل، ولا يحس إلا بمشاعر إنسانية خالصة - وتلك كلها صفات تذكرنا «بالإنسان الأرقى» عند نيتشه. ومن الغريب أن يجمع «بارسيفال» من هذه الصفات الشيء الكثير؛ فنراه مثل زيجفريد ساذجا تلقائيا يستلهم الطبيعة في أعماله؛ غير أنه أقل منه حيوية وأبعد عن مشاعر الإنسانية الأرضية. وعلى أية حال فصورة «بارسيفال» ليست صورة مسيحية خالصة. وفي وجود هذا العنصر الغريب في أكثر إنتاجه تدينا ما يوحي إلينا بحل المشكلة؛ ڧڤاجنر كان «مؤمنا» على الدوام، ولكنه لم يكن «مسيحيا» دائما. كان يقبل من العقيدة روحها، ويثور في كثير من الأحيان على شكلها ونصها. وهكذا كان من ذلك النوع من المفكرين الذين يتملك الإيمان كل حواسهم، ويحسون به إحساسا طبيعيا لا يداخله شك، وإن عبر إنتاجهم عن تعارض ظاهري مع «محتوى» ذلك الإيمان.
وعلى أساس هذا الحل نستطيع أن نقول إن تطور ڤاجنر بين الإلحاد والتدين لم يكن حادا مفاجئا؛ وإنما كان لتفكيره أساس روحي ظل دائما كما هو، وإن اختلف ظاهر البناء القائم على ذلك الأساس اختلافا يرجع إلى أحداث خارجية مرت به وفرضت تأثيرها عليه، أكثر مما يرجع إلى اختلاف جوهري في روحه، ونستطيع أن نقول أخيرا إن ما بدا من إلحاد له إنما كان تعبيرا عن خروجه على «تعاليم» الأديان ونصوصها الحرفية، بينما كان الإيمان السائد في إنتاجه تعبيرا عن قبول «روح» الأديان وتأثر نفسه المرهفة بجوها المسكن المهدئ. •••
وإذن؛ فقد عبر ڤاجنر عن روح المسيحية بفكرة «الخلاص»، ولكنه قبل الفكرة فحسب، وكان عليه أن يبحث عن وسائله الخاصة التي يتم بها ذلك الخلاص، ويتحقق للإنسانية بعثها من جديد على أساس قويم صالح.
وأصل الفساد - في رأي ڤاجنر - هو قيام المجتمع على أساس مادي صرف. وهنا نجد الفرق واضحا بينه وبين نيتشه؛ فبينما يعيب هذا على الحضارة الحديثة روحيتها الكاذبة ويدعو إلى مزيد من الواقعية والعودة إلى الطبيعة، رأى ڤاجنر في الحضارة الأوروبية، وخاصة في عهدها الأخير، نزعة مادية قوية تنذر بالقضاء على كل المقومات الروحية للبشر، وتهدد بحرمان الحياة من كل عنصر فني جمالي.
ومن أهم الأسباب التي أدت إلى سيادة هذه النزعة المادية، النفوذ اليهودي المسيطر على كل مرافق الحياة؛ ومن هنا كان عنف الحملة التي شنها على اليهود، والتي عد من أجلها «فنان النازية الأول».
والمقدمة الأولى التي استند عليها ڤاجنر في حملته على اليهود كانت فكرة العنصرية؛ فهو يؤمن إيمانا راسخا بآراء «جوبينو
Gobineau » كما شرحها في كتابه: «رسالة في تفاوت الأجناس البشرية»، ويعتقد بأن الأجناس تتفاوت مراتبها؛ ولهذا تحامل على بعضها، ورأى أن من الضروري تحكم الأجناس الراقية في الأجناس المنحطة؛ ومن هنا كان بغضه لليهود. ولقد كتب ڤاجنر في 1850م محذرا من «الخطر اليهودي» في كتاب «اليهودية في الموسيقى»؛ فالعنصر اليهودي هو أخطر العناصر التي اختلطت بالجنس الأبيض، وهو العنصر الوحيد الذي أمكنه الاحتفاظ بصفاته الأصلية سليمة كاملة؛ إذ يظل اليهودي يهوديا مهما غير موطنه ولغته وبيئته. وهو لا يتأثر بأية عقيدة روحية لأنه هو ذاته بلا عقيدة، ولا يعبد إلا المال؛ ومن هنا كان يسعى إلى أن يحول كل شيء إلى مال، حتى الفن! وأول ما ينفرك من اليهودي منظره الجسمي، وإذا تحدث كانت له دائما لكنة غريبة، وتراه عاجزا عن النطق بلهجة صحيحة صادقة، مهما طال أمد تعلمه له، وهو لا يملك إلا أن يحاكي ويقلد، دون أن يأتي بجديد، سواء في الأدب أو في الفن، وهو في الموسيقى خاصة لا يهتم إلا بالمسائل العملية، فلا مانع لديه من الاشتغال بالموسيقى ما دامت من وسائل كسب المال والنفوذ؛ ولذا ترى براعة اليهود تتجلى بوجه خاص في العزف لأنه الجانب العملي المربح من الموسيقى. أما التأليف الموسيقي فقليل من برعوا فيه، وإذا رأيت فيهم المؤلف فستجد موسيقاه سطحية لا تصل أبدا إلى قرار الوجدان، ولا تحرك مشاعر صادقة، بل تبهرنا بزخارفها المتكلفة فحسب. وأوضح مثل لذلك سيمفونيات مندلسون وأوبرات مايربير التي لا تهدف إلا إلى الترويح والتسرية عن نفس مكدودة مرهقة؛ فهي أداة تسلية وقتل للوقت فحسب.
وتعاليم اليهودية كلها مادية؛ فاليهودي واقعي بفطرته، ينفر من كل دعوة ترتفع بالإنسان إلى مرتبة مثالية، وكل همه هو النجاح في هذا العالم. وهكذا يظل يعمل جاهدا للوصول إلى غرضه، ويطرق كل الأبواب، ويقتحم ميادين لم يخلق لها - كالفن والأدب - كل هذا في سبيل النجاح المادي والشهرة والنفوذ. وهكذا يتضح التعارض بين الروح السامية والروح الآرية؛ فبقدر ما تغرق الأولى في الواقعية والمادية، تسمو الثانية إلى أعلى مراتب المثالية. وإذا كانت وسيلة بعث الإنسانية هي إماتة روح الأنانية، فلا شك في أن اليهود هم آخر من يستجيبون لتلك الدعوة؛ إذ إن الأنانية هي لب الروح اليهودية، حتى ليمكننا أن نقول إن اليهودي لن يصلح ويسير في ركاب المدنية الناهضة إلا إذا خرج تماما عن عقيدته، ولم يعد اليهودي يهوديا!
ومن هذه النتيجة الأخيرة نستطيع أن نتفهم المعنى الحقيقي لحملة ڤاجنر على اليهودية؛ فلم تكن تلك الحملة راجعة إلى عنصريته هو، بل إلى اعتقاده بأن اليهود ذاتهم عنصريون ومتعصبون؛ فطالما ظل اليهودي يقيم حاجزا بينه وبين الدولة التي يعيش فيها، ويظل محتفظا بصفات «الأمة» اليهودية، كان على الإنسانية أن تحاربه لأنه خارج ومنشق عنها. أما صلاح اليهود فلن يكون إلا بعودتهم إلى ركاب الإنسانية وخلعهم رداء التعصب. وهكذا كان هدف ڤاجنر من هذه الحملة إنسانيا في آخر الأمر. وليس أدل على تلك النزعة الإنسانية الكامنة لديه من صداقته المتينة لكثير من اليهود، كالموسيقي العازف روبنشتين، وقائد الأوركسترا هرمان ليفي. بل إن أكثر أنصار دعوته الموسيقية الجديدة، تلك الدعوة التي أطلق عليها اسم «موسيقى المستقبل»، كانوا من اليهود، كما كان اليهود في أغلب الأحيان هم الذين يسمون أبناءهم «زيجفريد» و«زيجمند» بعد ظهور الدراما الرباعية. ولكن سخرية الأقدار تتم إذا تذكرنا ذلك الاحتمال القوي في أن يكون أبو ڤاجنر الحقيقي هو لودفيج جاير؛ إذ كان أصل ذلك الرجل، واسمه يهوديا، وكان في انحناء أنف ڤاجنر وتقوسه ما يبرر ذلك الرأي إلى حد بعيد!
وكما كان القضاء على روح اليهودية وسيلة من وسائل بعث المجتمع الحالي؛ فقد كانت الروح الألمانية عاملا قويا من عوامل النهضة الحديثة؛ إذ إن العنصر الجرماني كان أقل العناصر اختلاطا وتأثرا بالروح اليهودية. والواقع أن إيمان ڤاجنر بألمانيا كان راسخا لا يتزعزع، فهو يستمد موضوعات دراماته من الأساطير الألمانية الشعبية في العصور الوسطى؛ لأنها تعبر في نظره عن عبقرية ذلك الشعب خير تعبير، وتكشف عن تلقائيته وإبداعه. ولا شك أن أصلح الأساطير في نظره للتعبير عن المشاعر الإنسانية العامة هي الأساطير الألمانية؛ فالشعب الألماني أسطوري بطبيعته ، تسوده نزعة صوفية عميقة، وتتغلب لديه العاطفة على العقل الخالص؛ وتلك بالضبط هي شروط النهضة التي يأمل ڤاجنر أن يبعثها في الإنسانية. والواقع أن تلك النزعة العاطفية الصوفية ترتبط بالتعصب ارتباطا وثيقا؛ إذ إن الشعب المنطقي الذي يتغلب عنده جانب العقل، لا يعرف التعصب ولا يؤمن به إيمانا راسخا. أما الشعب العاطفي فيحس بنواحي السمو فيه ويؤمن بها إيمانا راسخا، ويشيد على الدوام بمزاياه الروحية الرفيعة التي تعلو في نظر أفراده على كل ما عداه من الشعوب.
ولنحاول هنا أيضا أن نفهم تعصب ڤاجنر على حقيقته؛ فلا شك في أنه لم يكن متعصبا في بداية حياته، بل كان عالمي النزعة؛ ودليل ذلك أنه كتب إلى شومان في باريس يسأله معونة المجتمع الباريسي، وأنه لما رأى نفسه قد أخفق في ألمانيا، سعى إلى اكتساب عطف الفرنسيين؛ ففي ذلك الحين كانت نظرته إلى فرنسا نظرة كلها أمل ورجاء، كذلك استمدت دراماته الأولى من أدباء أجانب؛ فمن شيكسبير اقتبس «ممنوع الحب»
Liebesverbot
ومن ليتون
B. Laytton
اقتبس «رينزي» التي يدور موضوعها كله حول شخصية رومانية في مجتمع روماني بحت. وكانت تجربته الشخصية في باريس هي العامل الأكبر الذي جعل للتعصب طابعا عنيفا لديه، وجعل حبه للألمان يقترن بكراهية غيرهم.
مثل هذه الآراء كفيلة بطبيعة الحال بأن تدمغ ڤاجنر بتهمة التعصب، ومن المؤكد أنه كان كذلك بمعنى ما. ومع ذلك فمن المؤكد أيضا أن قوميته لم تكن عدوانية؛ فحبه لألمانيا وتأكيده لأهمية الدور الذي ستلعبه في الحضارة البشرية، لم يكن يقترن بأي ميل إلى الفتح والغزو، بل كان يتملكه شعور صوفي غريب بأن لدى الشعب الألماني من العبقرية ما هو كفيل بإنقاذ البشرية وإسعاد العالم. ولا شك في أن قصر نظر الفنان يتجلى هنا أوضح ما يكون؛ فتمجيده لقوميته قد استغل فيما بعد أبشع الاستغلال في محاولة تحقيق الأحلام التوسعية العدوانية لحكام ألمانيا المستبدين. ولقد بدأت بوادر هذه النزعة التوسعية في الظهور أثناء حياته، في الحرب السبعينية التي شهدها ڤاجنر. ولا شك أن عدم قدرته على استخلاص النتائج الضرورية من هذه الحرب ترجع إلى أنها انتهت نهاية ظافرة. أما النهاية المدمرة التي انتهت إليها الحربان العالميتان الأولى والثانية فكانت دون شك كفيلة برده إلى صوابه لو كان قد شهدها!
ولعل مما يخفف عن ڤاجنر، إلى حد ما، تهمة التعصب الضيق الأفق، أنه كان يمزج على نحو غريب بين حاضر الأمة الألمانية وبين تصور أسطوري قديم لها؛ فقد كان يتمنى أن تعود هذه الأمة إلى العهد الذي تصوره أساطير الفرسان والنبلاء في العصور الوسطى، وكان يرى في هذه العودة الوسيلة الوحيدة لخلاص هذه الأمة، ومعها العالم بأسره. وفضلا عن ذلك؛ فقد أتى على ڤاجنر في شبابه وقت كانت نزعته فيه إنسانية بكل معاني هذه الكلمة، وذلك حين اشترك إيجابيا في ثورة 1848م وتعرضت حياته للخطر من أجلها؛ غير أن هذه لم تكن إلا فترة قصيرة من حياته، وربما كان الدافع إليها هو أنه لم يكن لديه ما يخسره في ذلك الحين. أما حين ارتبطت حياته فيما بعد بالملوك، فقد نسى تماما نزعته الإنسانية وإيمانه بقوى الشعب، وأصبح أرستقراطيا متعصبا. •••
ومع ذلك لم يكن ڤاجنر مفكرا سياسيا بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة؛ وإنما كانت إنتاجه كله يرمي إلى تحقيق الإصلاح بوسيلة واحدة هي الفن؛ ففي رأيه أن صياغة الأفكار الاجتماعية في قالب فني هو الذي يجعل لها تأثيرا فعالا؛ فالفن أبلغ في نظره من أية خطبة سياسية أو موعظة دينية. وكل فكرة يعبر عنها الفن تتغلغل مباشرة في أعماق النفوس، وتصبح في النهاية جزءا لا يتجزأ من الكيان الروحي للإنسان. وبالفن وحده نصل إلى الاندماج التام في العالم، ونتفهم مشاكله من الأعماق.
وهكذا كان ڤاجنر من القائلين، على طريقته الخاصة، بارتباط الفن بالحياة، وبأن للفن وظيفة اجتماعية هي الإصلاح؛ غير أن الصفة المميزة لرأيه في هذا الصدد هي أنه رأى الفن سلاحا «وحيدا» في هذا الميدان، قادرا وحده على تحطيم الفساد وإنقاذ البشر، ولم يتصور أن يكون الفن مجرد واحد من الأسلحة العديدة التي يسعى بها الناس إلى إنهاض مجتمعهم ، أو أن يكون النضال الحقيقي في سبيل الإصلاح مركزا في ميادين أخرى أقدر من الفن على بعث نهضة إنسانية شاملة. وهكذا كانت أنانيته الفنية دافعا له إلى تجاهل كل ميادين الإصلاح الأخرى، فكان من الطبيعي أن يدرجه دعاة الإصلاح الاجتماعي الحقيقي ضمن أعدائهم الألداء.
الفن المتكامل
تطورت الموسيقى الخالصة في العصر الحديث، حتى بلغت القمة في عهد السيمفونيات الذي بدأ منذ هايدن وتقدم على يد موتسارت ووصل إلى عصره الذهبي عند بيتهوفن. ولقد سارت الموسيقى خلال ذلك التطور من الشكلية إلى العينية؛ فبينما كانت في أوائل عهدها، وفي معظم فترات القرن الثامن عشر، فنا شكليا إلى حد بعيد، وبينما كنا نعجز عن أن نستمد أية عاطفة واضحة المعالم من سيمفونيات هايدن وموتسارت - باستثناء العاطفة الدينية في موسيقاهما الكنسية - رأيناها تتخذ عند بيتهوفن، وخاصة منذ سيمفونيته الثالثة، صورة عينية واضحة؛ فهي تعكس عواطف ومشاعر عديدة، وتزداد تغلغلا في عالم الروح الباطن ... ولكن هذا الاتجاه نحو العينية لا يكفي في رأي ڤاجنر، فما زالت العواطف التي تعبر عنها الموسيقى عامة إلى حد بعيد، بحيث نعجز عن أن نحددها ونحصرها. ومهما بلغت الموسيقى الخالصة من تقدم في باب التعبير، فلن تصل إلى أكثر مما وصلت إليه على يد بيتهوفن؛ أي إلى التعبير عن مشاعر عامة مبهمة لا تحرك نفوسنا في اتجاه محدد بعين، بل تثير فينا أحاسيس غامضة وتترك لكل منا حق تفسيرها كما يشاء.
كذلك ظهر عجز مشابه في الشعر؛ فالشعر الحديث قد اتخذ لنفسه طريق «الرواية» وابتعد عن العالم الباطن ليصف وقائع وحوادث خارجية عديدة، وقل تعمقه في النفس الإنسانية بقدر ما اهتم بوصف بيئتها الخارجية. والفرق هائل بين ما انتهت إليه هذه الصورة الأدبية في العصر الحديث، وبين ما كانت عليه عند اليونان، حين كان الشعر يصاغ في قالب «الدراما» التي تتعمق في نفس فرد واحد، لتصف مشاعره العامة التي يشترك فيها مع الإنسانية جمعاء أدق وصف وتحللها أصدق تحليل؛ فبعد الشعر الحديث عن صورة الدراما هو علة قصوره وعجزه عن الوصول إلى أعماق النفس البشرية.
ولقد حاول العصر الحديث أن يسد هذا النقص، فأتى بفن جديد يجمع بين الموسيقى والشعر معا؛ هو الأوبرا. ولكن هذا الجمع كان سطحيا إلى حد بعيد، والتصقت الموسيقى بجانب الشعر دون أن يقوم بينهما أي امتزاج حقيقي؛ إذ إن دور الموسيقى يطغى على دور الشعر فيها حتى لا يعود هناك مجال للمقارنة بينهما، وتصبح مهمة الشاعر هي تقديم أساس كلامي يبني عليه الموسيقي بناءه الذي يستأثر بكل اهتمامنا. ومن جهة أخرى، قد يحدث أن يجبر الشاعر الموسيقي على أن يلحن أجزاء لا تصلح في أصلها للتلحين، ومن هنا رأينا الأوبرا حتى عهد موتسارت تتألف من فقرات غنائية بينها فواصل كلامية لا تلحن إلا تلحينا بسيطا، ثم رأينا الموسيقيين التالين يحاولون ملء ذلك الفراغ بألحان لا يمكن أن تتناسب مع طبيعة الموضوع الشعري. وهكذا انعدمت الرابطة بين الشعر والموسيقى في الأوبرا، وسار كل منهما في اتجاه مستقل عن اتجاه الآخر، وإن كان يجمع بينهما تلاصق سطحي لا يسمح لنا بأن نعد الأوبرا فنا متكاملا.
فإن كانت الأوبرا الحديثة قد أخفقت في تحقيق فن جامع بين الموسيقى والشعر، فأجدر بنا أن نتطلع إلى عهد تحقق فيه ذلك المثل الأعلى في الفن إلى حد يدعو إلى الإعجاب؛ ذلك هو عهد الدراما اليونانية؛ فالدراما لم تكن في عهد اليونان عرضا يرمي إلى اللهو والترويح عن النفس فحسب، كما هو الحال في الأوبرا الحديثة، بل كانت فنا وثيق الصلة بحياة الشعب اليوناني، عميق التأثير فيها؛ إذ كانت مستمدة من أساطير ذلك الشعب؛ أي معبرة عن عبقريته التلقائية تعبيرا مباشرا، وممثلة لروحه أصدق تمثيل. ومما زاد في تأثيرها على الشعب اليوناني أنها لم تكن تخاطب جانبا واحدا من جوانب النفس البشرية، بل كانت فنا جامعا بالمعنى الصحيح؛ فهي تطرب العقل والسمع والبصر والأفئدة معا، وفيها يتحد الشعر الأسطوري بالموسيقى والرقص والحركات المسرحية في وحدة شاملة متماسكة؛ فتلك الدراما لا تدع حاسة جمالية في الإنسان إلا أثارتها، ومن هنا كانت هي المثل الذي يجب أن نقتدي به في عصرنا الحديث إن شئنا بعث نهضتنا الفنية والاجتماعية على أساس سليم. وليس معنى ذلك أن نقلد الدراما اليونانية في تفاصيلها؛ إذ إن تلك الدراما قامت في عصر يختلف عن عصرنا كل الاختلاف، ونشأت في ظل أحوال لم تتكرر بعد ذلك ؛ وإنما يكفينا أن نستمد منها فكرتها العامة، ونقتدي بها في إهابتها بالأساطير الشعبية وتأثيرها على كل جوانب النفس البشرية بفنها المتكامل.
ولقد اهتدى ڤاجنر إلى رائد له في طريقه الفني الجديد، وإن لم يكن قد سار في ذلك الطريق إلى نهايته؛ ذلك هو بيتهوفن؛ ففي الفترة الأخيرة من حياة بيتهوفن، حين أدرك أنه قد بلغ من الموسيقى الخالصة غايته، وعبر بها عن أقصى ما يمكنها التعبير عنه؛ أدرك في لحظة عيانية رائعة أن للموسيقى الخالصة حدودا لا تستطيع تجاوزها، وأنها مهما ارتقت وكملت فلن تعبر إلا عن مشاعر غامضة لا يمكن تحديدها، ولا تؤثر في النفس الإنسانية على نحو واضح، بل تترك فيها أحساسيس مبهمة فحسب؛ ولذا سعى إلى تحديدها وصبغها صبغة عيانية بفن آخر، هو الشعر. وهكذا مزج بيتهوفن في الجزء الأخير من سيمفونيته الأخيرة بين الشعر والموسيقى، وبين أنغام الآلات والصوت الإنساني، في وحدة متناسقة أسمعت الإنسانية «أنشودة الفرح» فتغلغلت في الأعماق، ونفذت إلى أغوار من الروح لم تبلغها من قبل قصيدة شعر أو لحن موسيقي. هنا ظهر الفن المتكامل لأول مرة في العصر الحديث، وكشف بيتهوفن عالما جديدا: لم يستطع ارتياد كل نواحيه أو كشف كل غوامضه، ولكنه نبه إليه وقدم إلينا صورة رائعة عنه، تنير الطريق لمن يود استطلاع هذا العالم وفتح هذه الافاق الجديدة للإنسانية.
والواقع أن نظرة ڤاجنر إلى بيتهوفن قد تأثرت بهذه الفكرة كل التأثر؛ فعبقرية بيتهوفن - في رأيه - إنما تكمن في تمهيده الطريق للدراما الموسيقية. وخير أعماله هي السيمفونيتان التاسعة والثالثة، والافتتاحيات التي لا يراها مجرد مقدمات للدراما، بل هي الدراما بأسرها في شخصياتها وحوادثها ومشاعرها. فقبل بيتهوفن، كان ما يعنى به الفنان هو الموسيقى من حيث هي موسيقى، أما هو فقد عبر بها عن أفكار خارجة عن نطاقها. ومنذ تلك اللحظة سار الفن الموسيقي في طريق يؤدي مباشرة إلى الدراما الڤاجنرية؛ أي إلى السيمفونية الغنائية بالمعنى الصحيح. وقد نرى في هذا التحليل لفن بيتهوفن بعض الصحة، ولكنه يفتقر بلا جدال إلى الروح الموضوعية المنزهة ؛ ففي وسعنا أن نقول إن بيتهوفن لم يكن يهم ڤاجنر إلا من حيث هو سلف له فحسب، وليس من العدل أن نقول إن بيتهوفن كان يرمي من الجزء الغنائي من سيمفونيته التاسعة إلى نظرية فنية مشابهة لنظرية ڤاجنر في الفن المتكامل، أو أنه أدرك حدود الموسيقى الخالصة وحاول أن يكملها بالشعر ليكون تعبيره الفني أكمل وأدق؛ وإنما الواقع أنه حاول تلحين «أنشودة الفرح» لشيلر منذ عهد مبكر، وأن تلك القطعة الشعرية كانت تستهويه في فترات مختلفة من حياته، فيلحنها في كل مرة على نحو مخالف للمرات الأخرى، حتى انتهى إلى خير تنفيذ لفكرته في النهاية، وليس من العدل كذلك أن نقول إن التعبير الدرامي كان الغاية القصوى من تطوره الفني؛ إذ كانت للموسيقى الخالصة مكانة كبرى في نفسه، وكان تقديره لرباعيته وسوناتاته - وهي الصورة الموسيقية التي يراها ڤاجنر مضادة تماما لصورة الدراما الموسيقية عنده - لا يقل عن تقديره لسيمفونياته وافتتاحياته.
ولنتأمل دور الموسيقى في الدراما الشعرية الغنائية كما يتصورها ڤاجنر، فنجده يتجاوز بكثير دورها في الألحان المجردة، فليس للموسيقى أن تكتفي «بالإيعاز» و«التلميح» المبهم كما كانت تفعل في السيمفونيات؛ وإنما عليها أن تقترب من العينية بقدر طاقتها؛ حتى تستطيع عبور الهوة التي تفصلها عن الشعر؛ فعلى الموسيقار أن يتوغل في عالم العاطفة والشعور، ويجعل لأنغامه «محتوى» على الدوام، ولا يدعها تدور في نطاق الصورية الخالصة؛ إذ إن الموسيقى المجردة وحدها لا تكفي - في رأي ڤاجنر - لإعطاء صورة جمالية كاملة. ولا بد أن يكون للأوركسترا دوره الخاص في هذه النظرة الجديدة إلى الموسيقى؛ فبينما كان في الأوبرا التقليدية يعين اللحن الصوتي بعزف إيقاع مساعد له، أو يعزف بدون الأصوات البشرية موسيقى خالصة لا تمت إلى المشاعر الدرامية بصلة، أصبح على الفرقة الموسيقية أن تعبر عن الأحاسيس الخفية لشخصيات الدراما، وأن ترسم لنا من بعيد التيارات الخفية لمشاعرها، وفي وسع الفرقة الموسيقية أن تؤدي هذا الغرض بفضل الطبيعة الغامضة للتعبير الموسيقي، الذي يرسم مشاعر عامة لا يمكن إعطاؤها صورة متحددة إلا على يد الشعر المصاحب لها ؛ ولذا كان على الفرقة الموسيقية أن تختفي عن الأنظار، حتى لا يبدو منها إلا تأثيرها في النفوس فحسب، وحتى تمثل التيارات المختلفة التي تنتاب روح أبطال الدراما خير تمثيل، في اختفائها وإبهامها وغموضها.
وهنا نرى لزاما علينا أن نجري مقارنة بين فكرة ڤاجنر عن الموسيقى كما عرضناها، وبين الدور الذي أولاه إياها شوبنهور في فلسفته؛ فعلى الرغم من اقتداء ڤاجنر بشوبنهور وتأثره الواضح بآرائه الفلسفية، وعلى الرغم من إعجابه التام بفكرته عن الموسيقى من حيث هي معبرة عن الماهية العميقة للعالم، نجد بينهما اختلافا دقيقا في الرأي حول مقدرة الموسيقى والمدى الذي يمكنها الوصول إليه؛ فقد رأينا ڤاجنر لا يرى الموسيقى الخالصة قادرة على بلوغ المستوى التعبيري الكامل الذي ينشده؛ وإنما يؤكد ضرورة إكمالها بفن آخر هو الشعر الذي يكسب تعبيراتها دقة وتحددا. أما شوبنهور فجعل للموسيقى الخالصة مكانة تسمو على الموسيقى الغنائية إلى أبعد حد، وأكد أن تلك الموسيقى المجردة على الرغم من شمول تعبيرها وعموميته، متحددة متميزة إلى أدق حدود التحدد والتميز، وجعل لهاتين الصفتين في الموسيقى طبيعة خاصة تقربها من طبيعة الأشكال الرياضية؛ ففي كتابه الأكبر «العالم إرادة وتمثلا» يصفها بقوله: «إن الموسيقى من حيث هي تعبير عن العالم، هي لغة عامة إلى أبعد حد ... ولكن عموميتها ليست خاوية ناشئة عن التجريد؛ وإنما هي من نوع يختلف عن ذلك تماما؛ فهي متحددة متميزة كل التميز. وهي في ذلك الجمع بين العمومية والتميز تشبه الأشكال الهندسية والأعداد، التي هي أشكال عامة لكل الموضوعات الممكنة للتجربة ... ولكنها مع ذلك ليست مجردة؛ وإنما عينية ومتحددة كل التحدد؛ فكل المشاعر والنوازع والعواطف التي تنتاب الإرادة، وكل ما يجري في باطن الإنسان مما يطلق عليه العقل سلبيا اسم «الشعور
Gefühl » - كل هذا يجد خير تعبير عنه في الألحان التي لا تتناهى إمكانياتها، ولكن لذلك التعبير تعميم الصورة الخالصة التي خلت من كل مادة، فهو يعبر عن الشيء في ذاته، لا عن الظواهر وحدها ... ومن تلك الصلة الوثيقة بين الموسيقى وبين الماهية الحقيقية لكل شيء، يتضح لنا أنه إذا عبرت الموسيقى تعبيرا مناسبا عن أي منظر أو فعل أو حادث أو بيئة، فإن كلا من هؤلاء يتضح لنا معناه الباطن، وبهذا تكون الموسيقى خير شارح له، كذلك يبدو لمن استجاب لتأثير سيمفونية أنه يرى كل أحداث الحياة والعالم في ذاتها، مع أنه لو فكر في الأمر تفكيرا منطقيا لما وجد أي وجه للتشابه بين صوت الأنغام وبين الأشياء التي تحيط به؛ ذلك بأن الموسيقى تختلف عن كل ما عداها من الفنون في أنها ليست صورة مقلدة للظواهر، أو على الأصح لموضوعية الإرادة، بل هي صورة مباشرة للإرادة ذاتها، تعرض المعنى الميتافيزيقي لكل ما يوجد في هذا العالم الطبيعي، وتوضح الشيء في ذاته، الذي يكمن وراء كل ظاهرة؛ وعلى ذلك، فكما يمكن تسمية العالم إرادة متجسدة، يمكننا أن نسميه موسيقى متجسدة.»
وبينما كان في وسع الموسيقى الخالصة، على الرغم من شمول تعبيرها وعموميته، أن تنفذ إلى قلب العالم وقرار الإرادة في رأي شوبنهور، كان ڤاجنر أكثر واقعية في تفكيره؛ فهو لا يحسن الظن إلى هذا الحد بقدرة الخيال الإنساني، ولا يعتقد أن في وسع ذلك الخيال الوصول إلى ماهية الأشياء إن أثارته الموسيقى الخالصة وحدها؛ إذ إن ذلك الخيال في حاجة إلى مزيد من العينية والتحدد ليزداد تأثره قوة وعمقا؛ فنحن بوصفنا موجودات متناهية فانية، لا نحس بمشاعر أو نوازع إرادية إلا إذا تمثلت لنا معها صور محددة؛ ولا يمكن أن تثار فينا أحاسيس منطلقة مجردة عن الصور. كذلك لا بد للموسيقى، من حيث هي فن إنساني متناه بدورها، من أن ترتبط بصور معينة تحددها في أذهاننا؛ وعلى ذلك فالموسيقى الخالصة تظل على الدوام هائمة في بيداء الإبداع المطلق الخالص والخلق المعتم الغامض الذي يخيم عليه الضباب والظلام. أما التأثير الفني الكامل فلا يصدر عن الموسيقى المطلقة، بل عن الدراما الكاملة، التي ترتبط موسيقاها بالشعر كما يرتبط الجانب العقلي التصوري في الإنسان بالجانب الإرادي فيه، ويكونان معا مركبا عضويا واحدا.
ولننتقل إلى بيان مهمة الشعر في الدراما الموسيقية. وهنا لا بد أن نلاحظ أن الشعر الدرامي يجب أن يكون أسطوريا على الدوام؛ إذ إن الإنسانية لم تعبر عن مشاعرها الغريزية تعبيرا صادقا إلا بالأسطورة؛ ولا نعني بذلك أن يعود إنسان العصر الحديث إلى الحالة البدائية التي كان يخلط فيها بين الأسطورة وبين الواقع؛ وإنما كل ما نعنيه هو أن نلجأ إلى الأسطورة لأنها التعبير الصحيح عن المشاعر الإنسانية الصادقة، ونقتبس منها الشكل فحسب، أما المحتوى فمن الممكن تغيره من عصر إلى عصر. وفي وسعنا أن نملأ الإطار الأسطوري الرمزي بمادة تستمد من عصرنا الحالي، ونعالج بها مشاكل تعترضنا في أيامنا هذه. وهذا بالضبط ما فعله ڤاجنر بوجه خاص في دراما «النيبلونجن»، التي اتخذت شكلا أسطوريا وعالجت مشكلات لا تمت إلى عالم الأساطير بأية صلة تنتمي إلى صميم حياتنا الواقعية الحالية.
ومن شأن هذا الطابع الأسطوري للدراما الموسيقية أن يتخذ قالبا فلسفيا بالضرورة؛ إذ إن الأسطورة لا ترمي إلى التعبير عن تجربة فرد بعينه، بل تجعل أفرادها مجرد رموز لحقائق عامة شاملة تسري على الجنس البشري بأكمله، ولا تتحدث إلا عن «الإنسان» بوجه عام. وذلك التعميم والشمول هما أخص صفات التفكير الفلسفي، ومن هنا كانت تلك الدراما فلسفية؛ ولكنها ليست فلسفية بالمعنى المجرد، الذي اعتدناه لدى الفلاسفة الموغلين في المنطق الخالص، والذين لا تدور أفكارهم إلا حول تصورات عقلية تتعامل مع نفسها؛ بل هي ذات طابع «فلسفي عيني» إن جاز هذا التعبير؛ فالفلسفة التي ينطوي عليها شعر الدراما تتغلغل في صميم المشاعر الإنسانية، وتتعمق في باطن النفس البشرية دون أن تحاول العلو عليها أو تجريدها وإحالتها إلى تصورات خالصة غاضت منها دماء الحياة، والأفكار العامة في ذلك الشعر إنسانية خالصة؛ كمشكلة الحب، والموت، والخلاص. وهكذا لم يكن ڤاجنر يسعى من أساطيره إلا إلى البحث عن القانون الخالد الذي يكمن من وراء كل عاطفة إنسانية جزئية.
وإذا كنا قد عرضنا دور الموسيقى ودور الشعر في الدراما الموسيقية على حدة، فعلينا الآن أن نوضح مدى العلاقة بينهما في هذه الدراما، وننظر إليهما من خلال الوحدة الشاملة التي تجمع بينهما؛ فكل من الموسيقى والشعر يكمل الآخر؛ إذ إن لكل منهما ميدانا خاصا لا يكفي وحده لإحداث الأثر الدرامي الكامل في النفس الإنسانية؛ وإنما لا بد من الجمع بين الميدانين؛ فالشعر في تعبيره عن العواطف والمشاعر الباطنة في الإنسان، لا يعبر تعبيرا مباشرا؛ إذ إن وسيلته في نقل المشاعر، وهي الكلمات، تثير معاني عقلية بالضرورة، بحيث إن استجابتنا العاطفية لكلمات الشعر لا يمكن أن تكون صادرة عن الشعور العاطفي
sentiment
وحده، بل لا بد أن يصاحبها قدر من الاستجابة العقلية. وأما الموسيقى، فليست في حاجة إلى واسطة لتؤدي أثرها في النفس؛ وإنما تتغلغل فيها بطريقة مباشرة لا نعلم بالضبط كيف تتم؛ وإنما نستطيع أن نؤكد على الدوام أنها تنفذ إلى العاطفة والشعور مباشرة دون أدنى إهابة بالعقل. ومن جهة أخرى فالمجال العاطفي الذي تقتصر عليه الموسيقى يظل مبهما غامضا مهما بلغت قوة الإيحاء والتصوير في الأنغام، أما الشعر فبفضل كلماته التي تتخذ كل منها معنى معينا، يستطيع تحديد المعنى العام الذي يرمي إليه بسهولة، ووصف نوع العاطفة التي ستثار. وهكذا تكمل الموسيقى الشعر إذ تضفي عليه مزيدا من العاطفية وتنفذ به مباشرة إلى النفس الإنسانية، ويكمل الشعر الموسيقى إذ يحدد المشاعر العامة التي تعبر عنها، ويجعل لها في ذهن الإنسان صورة عينية واضحة.
ولقد كان بين الموسيقى والشعر تأثير متبادل في تجربة ڤاجنر الدرامية الخاصة؛ إذ كان تعمقه في باب التعبير الموسيقي باعثا له على إجادة التعبير الشعري والتفرغ له؛ ذلك لأن المرء - كما لاحظ ڤاجنر - إذا كان بصدد تعلم لغة غريبة، كان «الشكل» هو المشكلة الكبرى التي تواجهه، فلا يعنى عندئذ بمحتوى أفكاره بقدر ما يعنى بطريقة التعبير عنها. وهكذا لا يكون في وسعه التعبير عن كل عواطفه وإحساساته، بل يظل مقيدا بعجزه «الشكلي». أما بالنسبة إلى لغة المرء الأصلية، فلا يعنيه الشكل على الإطلاق، بل إن كل فكرة تأتيه تجد عنها تعبيرا مباشرا دون أي عناء، ويصبح اختيار المحتوى الفكري هو الأمر الذي يعنيه. ولقد بلغ ڤاجنر في تفهم دقائق لغة الموسيقى أقصى ما يمكن أن يبلغه فنان، ولم تكن مشكلة التعبير تعنيه على الإطلاق، بل كان كل همه موجها إلى الأفكار والإحساسات التي يعبر عنها، بعد أن أصبحت الموسيقى لغته الأصلية، وقضت خبرته الواسعة على مشكلة «الشكل» قضاء تاما. ومن هنا نرى إلى أي حد أثرت الموسيقى على اتجاهه الشعري في الدراما؛ فقد تفرغ ڤاجنر للمحتوى الشعري الذي تمتلئ به الدراما، ولم يقف عاجزا إزاء تحدد مقدرته الموسيقية أو ضيق مجالها.
وفي مقابل ذلك نرى للشعر في الدراما أثارا واضحة على موسيقاها؛ ففي حداثة عهد ڤاجنر بالموسيقى لم يكن يبغض «اللحن
melodie » ولكن عندما نضجت موهبته الشعرية تخلى - منذ تأليف «الهولندي» - عن التعصب للحن، وأصبح يرى أن اللحن لا يجب أن يطلب لذاته؛ وإنما من أجل ما يثيره من مشاعر فحسب. فإن اقتضى الموضوع الشعري لحنا فليأت به، أما إذا كانت وحدة الموضوع لا تستدعي لحنا قصيرا منفصلا، فلا بد من التخلي عن اللحن في سبيل الوحدة، وعندئذ يجد في الأنغام العديدة المتناسقة ما يغني عن السطح الظاهري الذي يعبر عنه اللحن، وما يبعث في الدراما عمقا ويكفل الوحدة التامة بين أجزائها.
ولقد ابتدع ڤاجنر وسيلة جديدة للربط بين مختلف الأجزاء المتشابهة في الدراما؛ إذ كان لزاما على الموسيقى أن تبرز كل شخصية من الشخصيات على نحو مستقل وتجعل لها طبيعتها الخاصة المنفصلة عما عداها. وبينما كانت الأوبرا القديمة مفككة مهلهلة بقطعها المنفصلة التي لا ترتبط بالجموع إلا ربطا متكلفا، نرى ڤاجنر يهدف قبل كل شيء إلى رسم خطوط الشخصيات والحوادث متسقة لا يعوق وحدتها شيء. وهكذا ابتدع ڤاجنر طريقة التعبير باللحن المميز
Leitmotiv ؛ فكما أن لكل شخصية ولكل عاطفة طابعا خاصا يسعى الشعر إلى إبرازه، فكذلك ترمي الموسيقى عنده إلى إيضاح تلك الصفة الأساسية في كل موقف، بحيث يمكن بناء هيكل عام للدراما من بضعة «الألحان المميزة» الرئيسية التي تسودها، والتي تكفي لإعطاء مجمل معبر عن العمل الفني بأسره. وما دام هدف ڤاجنر هو التعبير عن الشخصية أو العاطفة التي تصورها الدراما تعبيرا صحيحا ؛ فقد عمل على أن يكرر تلك الألحان الرئيسية كلما عرض ذلك الشخص أو أثيرت تلك العاطفة، وبهذا كفل للدراما وحدتها وتماسكها، ومزج بين الشعر والموسيقى مزجا عبقريا يهدف في النهاية إلى تحقيق فكرته الكبرى، وهي التأثير على أكبر قدر ممكن من الملكات النفسية، والإهابة بعقل الإنسان وقلبه وخياله عن طريق الفن الدرامي المتكامل.
خاتمة
من أخص صفات العباقرة تضارب الأحكام عليهم في عصورهم؛ فترى العبقري يلقى من البعض أعظم تقدير، ومن البعض الآخر أعنف نقد، وتظل الحرب سجالا بين مؤيديه ومعارضيه خلال حياته، ويظل صدى ذلك الخلاف فترة ما بعد وفاته، ثم تخفت أصوات الأعداء رويدا رويدا، حتى يأتي يوم يعترف الجميع بمكانته، ويشهد الزمان - وهو أصدق الشهود - بعبقريته. وفي وسعنا أن نقول إن الشخصيات التي تلقى خلال حياتها كل ما تحلم به من تقدير، لا تترك في التاريخ - إلا في أحوال نادرة - نفس الأثر الذي تتركه تلك التي يشتد حولها الخلاف في بادئ الأمر؛ إذ إن الإنسانية إذا أسرعت بالترحيب، كان ذلك دليلا على سهولة هضمها لما ترحب به، وعلى حسن استعدادها لتلقيه. أما إذا قاومت ولم تعترف بالفضل الكامل إلا بعد عهد بعيد؛ ففي ذلك برهان على أن الكشف كان جديدا بحق، وعلى أن في الأمر ثورة وانقلابا لا تتهيأ لهما الأذهان إلا بعد مضي وقت كاف للاستعداد والتمهيد والتمثل التام في النهاية.
ولقد كان ڤاجنر عبقريا صادقا بهذا المعنى. فليس لنا أن نغتر بهذا الترحيب والتقدير الهائل الذي لقيه في نهاية حياته؛ إذ إنه لم يصل إليه إلا بعد أن قاوم وناضل، ونازل خصوما أقوياء عنيدين، بل إن الحملة عليه لم تفتر لحظة واحدة حتى بعد أن حقق أمنيته الكبرى في بايرويت، فظلت شخصيته الغامضة تصادق من النقاد من ينزل بها إلى الحضيض، ومن المعجبين من يرتفع بها إلى مرتبة التقديس، ودام هذا الخلاف وقتا غير قصير، ولا زلنا نشهد له إلى اليوم آثارا، وإن كانت آثارا واهية خائرة لا تقوى على الصمود أمام تيار الإعجاب الجارف.
وقد أثارت آراء ڤاجنر النظرية نقدا عنيفا؛ فهو في دراماته يدعو إلى زهد واستسلام لا يعبران إلا عن نفس مغالطة تخدع نفسها وتخدع الناس. وكيف يدعو إلى الزهد رجل لم يعرف الزهد في حياته قط؟! وكيف يدعو إلى الموت في سبيل الحب رجل حفلت حياته بمغامرات لم تكن كلها «شريفة» أو «بريئة»؟! فإن كان ڤاجنر يعد ذلك الزهد فضيلة، فلا شك أن حياته كانت تفتقر تماما إلى تلك الفضيلة. أما إذا كان يراه فكرة خليقة بأن تتبع، فليعلم أن عهود الاستسلام قد انقضت إلى غير رجعة، وأنه هو ذاته يتناقض مع نفسه تناقضا صريحا حين يدعو إلى الرجوع إلى عهد الأساطير الحية الصادقة؛ إذ إن الأسطورة تعبر عن الغرائز الصريحة والمشاعر الحقيقية للإنسانية ولا تعرف للزهد أو العزوف معنى. ولسنا نملك لهذا النقد دفعا؛ إذ إن ڤاجنر كان بالفعل ذا حساسية دينية لا يمكن إنكارها، ولا تؤثر فيها فترة الإلحاد القصيرة التي مر بها. ولكن المشكلة الحقيقية في نظرنا ليست في محتوى أفكاره، بل في طريقة التعبير عنها، فليس من المفروض في الفنان أن يجيد الدفاع عن نفسه نظريا، وأن يشرح آراءه شرحا فلسفيا مقنعا، وليس من المفروض أن تروقنا تلك الآراء إن وجدت؛ وإنما يكون الفنان قد أدى رسالته إذا عرف كيف يخرج أفكاره إلى حيز الوجود، ويعبر عنها على نحو ينفذ به مباشرة إلى أعماق نفوسنا. ومن الظلم حقا أن يحكم الناس على ڤاجنر الفنان من خلال ڤاجنر المفكر؛ إذ إن الثاني لم يكن إلا ظلا معتما للأول ، وكما يحدث في كل تجربة فنية أصيلة، كان العيان يسبق التحليل، والثورة الفنية التلقائية تسبق الانعكاس الفكري المتأخر - فليكن حكمنا الصحيح عليه مستمدا من نظرتنا إلى فنه وحده.
ويبدو أن ذلك الجانب النظري في تفكير ڤاجنر قد أساء إليه بقدر ما أعانه على شرح وجهة نظره للعالم؛ فقد رأينا ڤاجنر يتحدث بلسان الفلاسفة والمصلحين الاجتماعيين، ويتكلم عن الثورة والنهضة والبعث، وعن محنة الإنسان الحديث، ووسائل تقويم المجتمع وإصلاحه. ثم رأيناه يؤكد أن في فنه وسيلة ذلك الإصلاح. وهنا كان الخطأ؛ فقد يجوز القول إن الإصلاح إذا تناول كل مرافق المجتمع، كان في وسع الفن أن يساهم بدوره في هذه الحركة الشاملة ويكون له منها نصيب. أما إذا عد الفن وحده وسيلة لإصلاح شامل، وإذا كان المجتمع يسير في طريق والفن يسير في طريق آخر محاولا اجتذاب المجتمع إليه - كما هو الحال في نزعة ڤاجنر الزاهدة الأخيرة، التي تناقضت تماما مع اتجاه المجتمع إلى الواقعية في عصرنا الأخير - فعندئذ تغدو محاولة الفن الخروج عن نطاقه عقيمة في أساسها، ويصبح علينا أن نكتفي بتأمله في ذاته فحسب، ونحكم عليه تبعا لقيمته الكامنة من حيث هو عمل فني، لا من حيث هو محاولة لبناء الوعي الاجتماعي على أساس جديد، وذلك هو مصير إنتاج ڤاجنر الفني في النهاية. •••
وقد تعرضت موسيقى ڤاجنر لنقد أشد وأعنف. ولقد شاء سوء حظه أن يصف اتجاهه الفني في كتاب عنوانه «العمل الفني والمستقبل»، فسميت موسيقاه باسم «موسيقى المستقبل
Zukunftmusik » ووجهت إلى هذا الاسم سخرية مريرة، حتى ظهرت في الصحف صورة امرأة تبكي وبجانبها أخرى تواسيها وتسألها: هل أصاب طفلك مكروه حتى تبكي أمام مهده؟ فتجيب الأولى باكية: أجل ... لقد استمعت بالأمس إلى السيد ڤاجنر ... أليس من المؤلم أن يستمع المرء إلى الموسيقى التي يدخرها المستقبل لآذان هذا الصغير المسكين؟! ...
ولقد انصب النقد الأكبر على افتقار موسيقى ڤاجنر إلى اللحن
melodie ، واللحن هو السطح البارز من مجموعة الأنغام المتوافقة التي تكون القطعة الموسيقية بأكملها، ولكن الواقع أن في موسيقى ڤاجنر ألحانا عديدة واضحة: وذلك ظاهر في افتتاحية «تانهويزر» وفي أجزاء عديدة من «الهولندي الطائر» و«لوهنجرين» و«أساطين الطرب». ولعل مرجع تلك الفكرة الباطلة هو أن اللحن عند ڤاجنر غارق في نسيج كثيف من الأنغام المصاحبة الغنية المتوافقة، حتى ليحدث في كثير من الأحيان أن يمر اللحن على الأذن غير الخبيرة دون أن تدركه. ولا يفوتنا أن الهدف الأول عند ڤاجنر كان التأثير الدرامي الكامل، وبعد هذا كان يضحي كثيرا باللحن من أجل ضمان وحدة الدراما وتماسك أجزائها، وحتى يتجنب ذلك التفكك الذي اتصفت به الأوبرا الإيطالية ، حين اتخذت اللحن غاية ففقدت الأوبرا وحدتها وشاع فيها التحلل والاضطراب. وبالمثل قيل إن ڤاجنر قد ضحى بالغناء في دراماته، وجعله مجرد وسيلة، أو آلات ضمن آلات الفرقة الموسيقية، بحيث لم يعد في وسع الصوت الإنساني أن يقف قبالة الفرقة بأسرها كما كان في سابق عهده. ولكن هذا القول لا يصح إلا على «تريستان» وحدها. أما بقية إنتاجه الفني؛ ففيه قطع غنائية رائعة تبعث على الطرب بحق.
ومن التهم الشائعة وصف موسيقى ڤاجنر بالضجيج، والسخرية منه لإفراطه في استعمال الآلات الصاخبة، كالبوق والطبول. فكانت الصحف المعادية له تحفل برسوم تصور الآلات النحاسية والطبول المحببة إلى نفسه حزينة على وفاته؛ إذ لن تعود بعد اليوم مصدر إلهام شاعر وموسيقي كبير! وأخذ الساخرون يتصورون المصير الأليم الذي ينتظر صناع الطبول بعد موته؛ إذ لن تجدي الطبول عندئذ شيئا سوى أن تقرع من أجل الإعلان عن دراماته فحسب! والواقع أن ڤاجنر قد أدخل على الأوركسترا بالفعل آلات جديدة، ولكنه لم يكن يستخدمها بغير تمييز، بل كان يلجأ إليها عند الضرورة فحسب، ولا يفوتنا أن تلك الضجة المزعومة تقابلها مواضع كثيرة هادئة ناعمة، كمقدمة لوهنجرين التي كان اعتماده الدائم فيها على مجموعة الكمان وبقية الآلات القوسية الهادئة، وكمقدمة تريستان وبارسيفال. وفي وسعنا أن نقول إن الهدوء هو العنصر السائد في موسيقى ڤاجنر، وأنه كان يستعين بموارد الأوركسترا كلها إذا رأى ذلك ضروريا فحسب، وعندئذ لا يدوم الجزء العنيف الصاخب إلا لحظات قليلة، يعود بعدها الهدوء سائدا مرة أخرى.
وأخيرا؛ فقد رمي ڤاجنر بأنه لم يكن موسيقيا على الإطلاق، وبأنه يجهل كل قواعد الموسيقى ولا يأبه بها، وقد شبهه كاتب معاصر بنابوليون، ولكن التشبيه كان في هذه المرة للسخرية منه؛ فكما أن الأخير قد سعى إلى تشييد إمبراطورية كبرى مستخدما فرنسا وسيلة لبلوغ هدفه فحسب، كذلك أراد ڤاجنر أن يخلق عملا فنيا جامعا
Gesamtkunstwerk
يضم كل الفنون، ولا تكون الموسيقى فيه سوى وسيلة من بين وسائل عديدة أخرى. وهكذا ضحى ڤاجنر، من أجل تحقيق مطامعه، بمصالح الموسيقى مثلما ضحى نابوليون بحياة الفرنسيين لنفس السبب! وتعليل تلك الظاهرة عند الرجلين بسيط؛ هو أن ڤاجنر لم يكن موسيقيا صميما كما أن نابوليون لم يكن فرنسيا صميما! وهكذا يحكم ذلك الكاتب على ڤاجنر بأنه كان يفتقر إلى صفات الموسيقيين الحقيقية؛ ولذا لا يعجب به إلا أناس لهم شغف غامض بالفن عامة. أما الموسيقيون الحقيقيون فلا يقدرونه أدنى تقدير. ولو كان ڤاجنر قد ركز جهوده في التعبير عن أفكاره في الشعر لما قلت شهرته في الشعر عن شهرته في الموسيقى. ولكن لم اختار ڤاجنر الموسيقى ذاتها أداة للتعبير؟ الرد الوحيد - في رأي هذا الناقد - هو أن الموسيقى كانت الفن السائد في القرن التاسع عشر، ولكل عصر فن معين يعبر أكثر من غيره عن القيم السائدة فيه؛ وهكذا كانت العمارة في العصر الوسيط، والرسم في عصر النهضة، والأدب في القرن الثامن عشر، ثم الموسيقى في القرن التاسع عشر؛ ولهذا السبب وحده كان ڤاجنر موسيقيا!
والواقع أننا نعترف بصعوبة إدراج ڤاجنر ضمن طائفة معينة من طوائف الفن العديدة؛ فقد كان له من الموسيقى والشعر والتمثيل والإخراج المسرحي نصيب، ولكن عبقريته في ميدان الموسيقى فاقت عبقريته في كل الميادين، وليس مما يعاب على ڤاجنر أنه كان متشعب الملكات ما دام قد بلغ في كل فن مرتبة رفيعة. أما أن يقال إنه لم يكن موسيقيا لأنه لم يسر على قواعد تأليفية معينة، فهذا ما لا يتعين علينا أن نقبله بحال. وقد نفهم أن يصدر مثل هذا النقد عن شخص مثل نيتشه، أما في عصرنا الحالي فلم يعد لمثل هذا القول أي مجال؛ فلم يكن ڤاجنر معاديا للقواعد الموسيقية الموروثة على طول الخط، بل إن موسيقاه سارت دائما في إطار من القواعد القديمة السليمة، وكان تجديده في صلة الموسيقى بالغناء وصلتها بالشعر أعظم بكثير من تجديده في قواعد الموسيقى ذاتها. وفي وسعنا أن نؤكد أن التراث الموسيقي الذي انحدر إلينا من بيتهوفن قد ظل سليما في جملته عند ڤاجنر، وأن خروجه عن قواعد «الهارموني» وقوانين «الشكل» لم يكن على صورة ثورة أو انقلاب عنيف كما كان عند «ديبوسي» مثلا. ولا شك أن عصرنا الحالي الذي شهد أشد الانقلابات في الفن الموسيقي، وآذاننا التي أسمعها المتطرفون أنغاما لم تكن تخطر لڤاجنر على بال؛ تستطيع أن تتذوق فن ڤاجنر وتستوعبه كاملا في حدود القواعد الجمالية المقبولة للأسماع، دون أن تجد في ذلك أي عناء.
أما فكرة الفن المتكامل، فهي لا تنقص من قدر مبدعها شيئا، طالما أننا نسلم بأن أفق العبقرية يتسع لكل شيء، وبأنه ليس من المحال أن تجمع روح واحدة بين ألوان عديدة من الفن، وإنما يبدو لي هنا سؤال يتوقف تقديرنا لتلك الفكرة على إجابتنا عنه، وهو: هل يزداد الفن تأثيرا في نفوسنا إذا ازداد تحددا وعينية، أم أن قيمته الكبرى فيما يلابسه من غموض؟ لقد رأينا ڤاجنر يلح على الجمع بين الشعر والموسيقى لأن كلمات الشعر تضفي على عواطف الموسيقي العامة دقة وتحددا - ولكن أهذا التحدد هو كل ما ترامى إليه؟ يبدو أن الجواب بالنفي؛ فأقرب الفنون إلى العينية أقلها تأثيرا في النفس، وما احتلت الموسيقى مكانتها الكبرى بين الفنون إلا لعنصر الغموض والإبهام الذي يكون ماهيتها، ولو زال هذا العنصر لفقدت الموسيقى هيبتها وجلالها. وليس أدل على ذلك من أن الموسيقى تفقد قيمتها الرفيعة كلما اتخذت لها موضوعا عينيا تصفه بوضوح؛ فالموسيقى ذات الموضوع الواضح، كتلك التي تصف عاصفة أو بحرا بشكل عيني لا يقبل الشك ، في مرتبة أدنى بكثير من الموسيقى الخالصة المجردة، التي لا تبعث أمام عينيك صورا واضحة تفسد عليك لذة التذوق الجمالي الخالص.
فإذا تمت الإجابة عن هذا السؤال، فإن هناك سؤالا آخر يتفرع منه، وهو: هل تزيد قيمة العمل الفني كلما تناول جوانب مختلفة ومتعددة من النفس؟ وهل بلغ ڤاجنر حقا هدفه حين كان يؤثر على أسماع النظارة وعقولهم وأبصارهم وقلوبهم مرة واحدة؟ الذي يبدو لي هو أن تلك الكثرة العددية في النواحي التي يؤثر بها الفن في الروح، قد تضعف هذا التأثير بدلا من أن تقويه. فليس من شأن تذوقي العقلي للشعر في الدراما إلا أن يضعف من تذوقي للموسيقى الخالصة، ومهما كان الارتباط قويا بين موضوع الشعر وتعبير الموسيقى، فسأظل عاجزا عن التعمق في التيارات الخفية التي تعبر عنها الأنغام، وينصرف انتباهي إلى السطح الأقل أهمية، الذي يعبر عنه الشعر. وإذا كان لنا أن نتحدث عن التكامل في النفس، فلنعلم أن النفس وحدة لا تتجرأ، وأن تعرضها لمؤثرات عديدة في وقت واحد يضعف كل هذه المؤثرات، بينما يستطيع العمل الفني الذي يتناول جانبا واحدا من النفس أن يجتذب إليه كل الجوانب الأخرى في استغراق عميق.
ومن الخطأ الأكبر أن نظن - كما فعل ڤاجنر - أن لون العمل الفني وتأثيره يتحدد تبعا لنوع العضو الذي ينقله إلينا؛ فالموسيقى تأتي حقا عن طريق الأذن، ولكنها تؤثر في النفس كلها من حيث هي وحدة لا تتجزأ، وكذلك المنظر الفني الذي يرسمه المسرح: تنقله العين، ولكن تأثيره ينتشر في كل جوانب النفس. وإذن فلن تزداد قيمة العمل الفني إذا ازداد عدد الوسائل المادية والأعضاء الحسية التي ينتقل بها إلى نفسنا؛ وإنما الأجدر بنا أن نركز جهدنا على وسيلة واحدة من هذه الوسائل، وهي وحدها كفيلة بأن تحدث في النفس بأسرها التأثير الذي نرمي إليه، إذا بلغت من العمق الحد المرغوب.
ولكن أي الفنون نختار؟ إن الموسيقى أقواها ولا ريب. وليس لهذا الحكم أساس منطقي يستند عليه؛ وإنما يقوم على أساس وجداني بحت. ولقد أدرك ڤاجنر ذلك، بدليل أنه أولى الموسيقى من الاهتمام ما لم يوله غيرها من الفنون، وأنه عد نفسه واحدا من أولئك العمالقة الذين يسير بهم مجرى التاريخ الموسيقي، ولم يحاول أن يجعل لنفسه مكانا في تاريخ الشعر أو الأدب. وإذا كان فنه المتكامل يقوم على أساس منطقي لا نراه سليما، ففي موسيقاه الخالصة وحدها ما يبرر مكانته الرفيعة بين عباقرة الفن، وفي محاولاته الأدبية والشعرية والفلسفية تعبير عن روح مرهفة لا تترك ميدانا إلا طرقته، وهي على أية حال محاولات لو تأملناها في ذاتها لأمكننا أن نأخذ عليها المآخذ، ولكنا لو نظرنا إليها في ضوء الفن الساطع الذي كان يطغى على عبقريته، لوجدناها كلها وسائل في يده يحاول أن ينفذ بها إلى أعماق في النفس البشرية لم يقترب منها قبله إلا القليلون.
Page inconnue