عهدنا بالفنان أنه تلقائي يصدر عنه الإبداع الفني دون أن يتكلف مشقة الموازنة والمقارنة بينه وبين غيره، ودون أن يضع لنفسه أساسا نظريا يشرح به وجهة نظره ويدافع عنها، والحق أن الفنان غالبا ما يجهل وجهة نظره هذه، ولا يعلم عنها شيئا؛ وكل ما في الأمر أنه ينتج، وأن هذا الإنتاج يبدو له في نظر نقاده النظريين عيوب ومزايا، وتتكشف لهم نواحي التجديد فيه، حتى إذا تقادم به العهد واجتاز اختبار الزمن بنجاح، أصبحت له في تاريخ الفن مكانة معينة تحدد موضعه بالنسبة إلى من سبقه وما تلاه، وصيغت تجديداته صياغة نظرية واحتلت مكانها بين قواعد الفن الموروثة.
أما ڤاجنر فقد شذ عن هذه القاعدة، ووضع لإنتاجه الفني أساسا نظريا اعتمد عليه كل من حاولوا تحليل فنه. وليس معنى ذلك أننا نحاول أن ننتقص من قدر ملكة العيان الفني لديه، أو نقلل من دور الإلهام المبدع فيما أنتج؛ وإنما ننبه إلى تلك الصفة التي انفرد بها دون بقية موسيقيي القرن التاسع عشر، وهي قدرته على التحليل الدقيق، والشرح النظري العميق، والتبرير المنطقي المقنع. ومن الصعب تعليل هذه الظاهرة تعليلا شافيا؛ فلسنا ندري أكان ڤاجنر يجمع إلى حاسته الفنية المرهفة قدرة على التفكير المنطقي الدقيق يستغلها خلال أوقات صحوه من أحلامه الإبداعية، أم أنه قد اضطر إلى ذلك التبرير النظري اضطرارا، بدافع رغبته في شرح وجهة نظره وإفهامها لمن استعصى عليه فهمها، وهم كثيرون. والأغلب أن السببين مجتمعان معا؛ فقد كان ڤاجنر فنانا تشعبت أطراف نشاطه وتعددت المظاهر التي تبدت عليها طاقته الروحية، وتوفرت له من الثقافة الكلاسيكية والحديثة ما لم يتوفر إلا للقلائل من الفنانين، وخاصة الموسيقيين منهم. وكان من جهة أخرى يواجه جمهورا معاديا في معظم فترات حياته؛ إذ كان انقلابه الفني من الجدة بحيث ذهل له البعض، وسخر منه غيرهم، وتجنبه آخرون، وظلت هناك أقلية ضئيلة هي التي تفهمته واستوعبته. وهكذا كان ڤاجنر في حاجة إلى «دفاع» عن وجهة نظره في الفن، وإلى تبرير انقلابه وبيان الأسس النظرية التي يستند إليها؛ حتى يضمن - على الأقل - أنه سيلقى جمهورا لا يبدؤه بالعداء، ولا يتحكم في تذوقه لإنتاجه تحامل سابق.
تقلبت أفكار ڤاجنر الفلسفية بين الثورة العنيفة على التقاليد وبين الاستسلام الديني الصامت. والفرق واضح بين الحالتين ولكن لندرس الأساس الذي قامت عليه ثورته، والسبب الذي ألجأه إلى الاستسلام والتشاؤم، فربما وجدنا بعد هذه الدراسة ما يعيننا على تصور الرابطة التي جمعت بين كل فترات تفكيره.
كانت فترة الثورة عند ڤاجنر هي تلك التي أعقبت الانقلاب الأوروبي المشهور في عام 1848م، وظلت مبادئها راسخة في ذهنه حتى وقع في يده كتاب شوبنهور في عام 1854م، وعندئذ اتخذ تفكيره مجرى آخر. وطبيعي أن تستهوي الثورة السياسية روحا كان موقفها من الفن المعاصر هو الثورة منذ البداية . وارتبط الانقلابان في ذهنه ارتباطا وثيقا، حتى بات يهاجم الملكية المستبدة في بلاده بنفس القوة التي كان يهاجم بها التقاليد الفنية الشائعة التي ثار عليها، وحدث في تلك الأثناء أمر تكرر أكثر من مرة في حياته؛ فقد تصادف أن قرأ مؤلفات «فويرباخ»، وتأثر بها كل التأثر ... ولم يكن ذلك التأثر راجعا إلى عمق الفلسفة التي قرأها، بقدر ما كان راجعا إلى ملاءمتها لحالته الذهنية في ذلك الحين. والحق أن تأثر ڤاجنر بأي مفكر لم يكن سلبيا على الإطلاق، بل كان دائما لا يستهويه من المفكرين إلا من عبرت أفكاره بوضوح عن آمال مشابهة لآماله، أو على الأقل يرى هو فيها هذا التشابه. وهكذا كان معيار إعجابه بالمفكرين هو انطباق آرائهم على الحالة الذهنية التي تتملكه في وقت قراءته لهم.
ولقد كان «فويرباخ» ملائما له في تلك الفترة إلى حد بعيد، ووجه التشابه بينهما هو الثورة على التقاليد. فكل فيلسوف مادي ثائر بالضرورة؛ إذ إن الإنسانية لم تتخذ - في أي عهد من عهودها حتى ذلك الحين - من المادية أساسا فكريا تعيش عليه. وقد نرى الناس في فترة من الفترات ماديين في سلوكهم العملي إلى أقصى حد، وقد نرى حضارة صناعية ضخمة لا تقوم إلا على الماديات، ومع ذلك فالأساس العقلي «الرسمي» لكل هذه الحضارات قد ظل حتى عصره روحيا. وهكذا صادف فويرباخ هوى في نفس ڤاجنر، واندفع معه في ثورته المادية، فإذا به يدعو إلى تحطيم كل الأصنام، وبلغ به الأمر حدا جعله يعبر عن أفكار لم نعهدها فيه طوال حياته، سواء قبل تلك الفترة أو بعدها؛ إذ يرى في الدين أسطورة، ويحمل على المسيحية خاصة، ويسخر من تقييدها لإرادة الإنسان في هذا العالم ومكافأتها لمن ينكر ذاته بسعادة خاملة في عالم آخر. ولم تكن تلك السعادة هي التي يراها ڤاجنر خليقة بالإنسان؛ وإنما كان يؤمن بحق الإنسان في حريته، وفي سعادة تامة في «هذا» العالم. والطريق الطبيعي لنيل هذه الحقوق هو الثورة؛ فالثورة كانت - كما يراها في تلك الفترة - هي الطريق الطبيعي الذي ينتقل به المجتمع من صورته الفاسدة الحالية إلى الحالة المثلى التي ترجى له المستقبل - تلك الحالة التي لم يحددها ڤاجنر بدقة، وإن كان قد لمح إليها، ودعا إلى الثورة لتدفع الإنسانية نحوها الدفعة الأولى. أما ما سيتلو ذلك فهذا ما لم يشأ أن يحدده؛ فقد رأى في ذلك التحديد تقييدا لحرية الإنسان، وهو يريد هذه الحرية وحدها ويدعو إليها، وهي بعد هذا كفيلة بأن تحقق كل أهداف الإنسانية.
وكما استمع ڤاجنر إلى نداء فويرباخ في فترة كانت كل ملكاته مهيأة فيها لتلقي هذا النداء، فإنه استجاب لدعوة شوبنهور في وقت كان كل شيء يدعوه إلى اليأس وإلى التشاؤم؛ فقد تضافرت الظروف السيئة لتدعوه بإلحاح إلى الفرار من هذا العالم والزهد فيه، وذلك خلال هذا الوقت العصيب من حياته، وفي نفس ذلك الوقت قرأ فلسفة شوبنهور. وهنا وجد ڤاجنر التعبير الفلسفي عن تشاؤمه، والصياغة المنطقية لما كان يفكر فيه خلال لحظات ألمه، فكتب إلى صديقه «ليست» يقول عن شوبنهور: «إن فكرته الكبرى، وهي النفي التام لإرادة الحياة، فيها عبوس مخيف، ولكنها هي وحدها الكفيلة بالخلاص. وهي ولا شك لم تكن جديدة علي، وليس في وسع مخلوق أن يفهمها ما لم يكن يعانيها حية في ذاته. ولكن ذلك الفيلسوف هو الذي أوضحها لي بجلاء لأول مرة.»
هكذا وجدت نفسه اليائسة في فيلسوف التشاؤم رفيقا مواسيا، ومنذ ذلك الحين تعلق ڤاجنر بشوبنهور، ولم يتخل عن آرائه لحظة واحدة؛ على أنه قرب بين شوبنهور وبين المسيحية وجمع بينهما في مركب واحد، فرأى في مبدأ الزهد في الحياة، وإماتة الرغبات الحيوية أساسا مشتركا بين دينه وبين تلك الفلسفة التي استهوته، ورأى في فرار المسيحية من العالم معبرا يؤدي بالضرورة إلى تأمل الكون تأملا سلبيا خالصا؛ أي النظر إليه بعين الفنان لا بعين الرجل العملي، وامتصاص عنصر الألم منه ليخرج الخيال إنتاجا فنيا يعكس طبيعة الكون الباطنة على مرآة الذهن الإنساني. ولست أدري كيف وفق ڤاجنر بين نظرة المسيحية إلى الوجود على أنه كمال من الكمالات، وإلى الخلق على أنه نعمة ، وبين نظرة شوبنهور إلى الوجود على أنه خطيئة، وإلى الخلق على أنه نقمة، ولكن الأغلب أنه تجاهل الجانب المسيحي من هذه الفكرة ليخلي الطريق لتشاؤم شوبنهور.
ولكن كيف تم الانتقال من النقيض إلى النقيض، وكيف تحول ڤاجنر من الثورة إلى التشاؤم والسكون؟ الواقع أن التناقض بين الموقفين يزول إذا فهمنا تعلقه بشوبنهور على أنه تعبير عن سخطه على العالم الحاضر، ذلك السخط الذي كان يبلغ في أحيان قليلة حد اليأس التام من كل إصلاح، ولكنه في أغلب الأحيان يقترن بأمل قوي في النهضة والبعث. وإذن فلم يكن التشاؤم متشابها من كل نواحيه عند الرجلين؛ وإنما كان عند شوبنهور غاية وحدا نهائيا تهدف فلسفته إلى الوقوف عنده. أما عند ڤاجنر فكان دليل تذمره على ما يسود الإنسانية الحالية من مبادئ فاسدة؛ والتذمر أولى مراحل الإصلاح.
وليس معنى ذلك أن ڤاجنر كان يهدف من تشاؤمه إلى غاية متفائلة في كل الأحيان؛ فقد رأيناه في «تريستان» يستسلم للتشاؤم ويجعله غاية قصوى، ويؤثر الموت على الحياة، ويراه خير حل لما يكتنف هذا العالم الأرضي من مشاكل، ولكن لنذكر أن تلك الدراما هي أوغل ما أنتج في باب التشاؤم، وقد اقترن تأليفه إياها بتجربة خاصة يائسة جعلته يربط بين الحب والموت، ويرى في الموت الوسيلة الوحيدة لعبور الهوة بين ما هو بشري وما هو إلهي، وبين شوق الحب واستحالة تحققه بعد ما وضعه المجتمع في سبيله من عوائق. وإذن ففي هذا الإنتاج وحده، ونتيجة للتجربة الخاصة التي صاحبته، بلغ التشاؤم قمته وأصبح غاية، أما في بقية درامات ڤاجنر، فما كان التشاؤم إلا وسيلة لهدف أسمى، هو «الخلاص».
فعلى الرغم من كل ما طرأ على تفكير ڤاجنر من تغيرات داخلية؛ فقد ظلت هناك أفكار ثابتة من وراء ذلك السطح المتغير، أهمها فكرة الخلاص عن طريق الزهد والتضحية والعزوف؛ ففي كل عمل فني له نراه يبحث جادا وراء السعادة الحقة، ويجدها في منقذ أو مخلص يرشد إلى الطريق القويم، أو يضحي بنفسه ليجلبها إلى من يسعى إليها؛ ففي «الهولندي» كانت المخلصة هي سنتا التي أنقذت تضحيتها ذلك الملاح التعس من المصير المؤلم الذي قدر له، وخلصته من لعنة الشيطان الأبدية. وفي «تانهويزر» يكتسي الخلاص ثوبا دينيا رومانتيكيا، فيكفل عزوف إليزابيث الطاهرة الخلاص للفارس التعس، الذي تذبذبت روحه بين الحس والحب الروحي. وكان «لوهنجرين» ذاته مخلصا، فأنقذ إلزا من أعدائها ومما رميت به من تهم ظالمة، وإن اضطر في النهاية إلى الزهد في السعادة الأرضية التي لم تستطع إلزا منحه إياها. وفي «النيبلونجن» نقلت فكرة الخلاص نقلا شبه صريح إلى المجال الاجتماعي؛ فالعامل يستغله صاحب رأس مال فظ بلا رحمة (يمثله النيبلونجن إزاء ألبيريش)، وليس لمالك الثروة من هدف سوى ملء خزائنه وتكديس أمواله، ثم السهر حارسا عليها (فافنر)، ووسيلة الخلاص هي القضاء على الأنانية قضاء تاما، وعندئذ فقط يمكن أن يسود الحب بين كائنات حرة في عالم مطمئن، لا يعود فيه آلهة ولا قوانين مقدسة مزعومة، وكل هذا يتم على يد الإنسان الحر في المستقبل (زيجفريد). وفي «أفول الآلهة» وهي آخر السلسلة الرباعية التي اتخذت وجهة مخالفة لوجهة الحلقات الثلاث الأولى، نرى فكرة الخلاص واضحة وإن ازدادت تشاؤما؛ فبعد أن زهد فوتان في كل رغبة في القوة وكل إرادة للحياة، ينتظر في صمت واستسلام نهاية العالم الذي دب فيه الفساد. وهذه النهاية تتم على يد «برنهيلدة» إذ يحين وقت أفول الآلهة حين تزهد برنهيلدة عن إرادة واختيار في «الخاتم»، وترده إلى بنات الرين، وبهذا تقضي على سبب التطاحن والرغبة الأنانية في القوة ... ورغم الطابع المرح الذي تتميز به «أساطين الطرب»، نراها لا تخلو بدورها من زهد وعزوف؛ إذ يزهد هانزساكس، الشيخ الحكيم، في حب إيفا، ويدعها للشاعر الشاب، ويلقنه التعاليم التي تكفل له الفوز، وبذا خلصه بتضحيته. وأخيرا ففي بارسيفال يقوم البطل بسلسلة من أفعال الزهد والتضحية، يعود بفضلها إلى مملكته «جرال» نقاؤها وطهارتها، ويبرأ جرح أمفورتاس الدامي إلى الأبد، ويمكن «كوندري» - شبيهه الهولندي في حيرته الأبدية - من أن تجد السلام والتوبة في النهاية، ويخلص بتضحيته العالم بأسره.
Page inconnue