وبالقرب من النهر شمالا قد شاهد وهو عائد إلى بيروت أثرا ينسي السوري كونها حمارا أو عالما أو شاعرا أو أجيرا، أثرا حديثا يذكره بماضي بلاده البعيد وبماضيها القريب، ولا فرق يذكر بين الاثنين، أجل، إن في ذا الأثر تاريخ سوريا القديم والحديث، سوريا سبية الأمم، سوريا أمة الشرق والغرب، سوريا نهب الملوك الفاتحين، سوريا حاملة نير الأجانب والغرباء. لقد كتب شلمنصر سفرا من تاريخك ما بقي منه غير أثر طمسه الزمان، ثم جاء رعمسيس وأوريليوس وأنطونيوس وبلدوين وسليم الفاتح فكتبت سيوف جيوشهم أسفارا، ولم يبق منها غير ما يهم الأثريين والسياح.
سوريا، أمي! أيكتب تاريخك بسنابك الخيل وبرماح الفرسان، فيمحي جيش اليوم ما خطه جيش الأمس، ويمزق جيش الغد ما سطره جيش اليوم؟
بالقرب من فم النهر شمالا، في صفيحة نقش عليها، فوق ما نقشه الآشوريون والمصريون والرومان، ذكر الحملة الإفرنسية التي دخلت بلادنا في سنة 1860 يقرأ الزائر تلك الآثار خلاصة تاريخ سوريا القديم والحديث، فمن نبوكدنصر إلى مرقص أوريليوس إلى السلطان سليم إلى نبوليون الثالث
1
فصول طوال، اختصرتها جيوش مصر وآشور، وسودتها جيوش الترك، وعلقت عليها جيوش الفرنسيس حاشية صغيرة مهمة، سوريا سبية الأمم متى تعتقين؟ سوريا أمة الشرق والغرب متى تنهضين؟
سوريا، أمي! متى يكتب أبناؤك أول صفحة من تاريخك الجديد؟
الأشجار الناطقة
في أحراج كاليفرنيا من ولايات أميركا المتحدة أشجار تفوق أرز لبنان قدما وكبرا، وقد حفرت في جذوعها طرق كأنها أنفاق تمر فيها العربات، هذا دليل واحد على ضخامتها المدهشة، والدليل على قدمها ظاهر في بقايا الجذوع المتحجرة في تلك الأحراج. ولكن أشجار كاليفرنيا وهي من عجائب الدنيا إنما هي جماد هائل لا سر فيها ولا معنى لها، هي عظيمة ولكنها صماء بكماء، هي قديمة ولكنها عقيمة لا قصة لها ولا تاريخ، لم يعش في ظلها نبي، ولا تغزل بها شاعر، كانت تظلل البربري ووحش الغاب، وما عند مثل هؤلاء شيء من الفكر والشعور ليزرعه حولها، إن عظمة تلك الأشجار مادية محض وشهرتها لا تتجاوز بلادها وعلم العلماء والسياح.
أما شجر الأرز وغيره من الأشجار المقدسة كالبو عند الهنود والسدر عند المسلمين ففيها غير الظاهر من الضخامة والعظمة فيها غير المادة، إن للأرزة صوتا لا يتلاشى وإن صارت هي إلى الفناء، الأرز من الأشجار الناطقة بسر من أسرار التاريخ بل من أسرار النفس البشرية.
فما السر يا ترى في القداسة التي تنمو في هذه الأشجار فتزيد قدمها جلالا وعظمتها جمالا؟ أعبثا يمزج الإنسان شيئا من نفسه وآماله بشيء من التراب والشمس والماء والهواء؟
Page inconnue