197

لا يدهشنك ما أقول؛ فإن الإسلام اليوم لم يزل كما كان يوم كنت أعلم الفلسفة في كلية قرطبة إسلاما في الدين، وإسلاما في السياسة، وإسلاما في الاجتماع، وإن النبي محمدا لأول من شاد العصبية العربية على هذه الأركان الثلاثة، فكان منها أن الخليفة رفع صولجانه فوق الأرض ومده إلى السماوات، وفي تقليده السلطتين السياسية والروحية أفسدت الواحدة وأسيء استخدام الأخرى.

وهذا الخلط في الأحكام، مثل الخلط في العلوم يبدو القبيح فيه أولا فينمو سريعا فيفسد الصحيح، والغريب العجيب أنه لم يقم في الإسلام حتى الآن من أشار إشارة إلى أن النبي محمدا لو سئل في ذا الخلط لما كان عنه اليوم راضيا.

قلت: وهل يرى فضيلة الشيخ في كنه الدين خلاصا للناس من صبغات الأديان وسيادات الدنيا الدينية؟

فقال: إن نظر الإنسان محدود، وكذلك نظر الأرواح. على أن أفقنا أوسع جدا من آفاق الأحياء حتى الصالحين منهم المقربين، فالمسافة بين جرم وآخر عندنا كالفرسخ مثلا عندكم، ويصح هذا القياس في المعنويات أيضا؛ لذلك أقول - إجابة سؤالك: إن كل ما ظهر في العالم حتى اليوم من حقائق الدين والسياسة والاجتماع إنما هو خاضع لناموس التحول والانقلاب، وإن شئت قل ناموس النشوء والارتقاء، وهذا الناموس صحيح قويم في الطبيعيات وفي الاجتماعيات وفي الروحيات أيضا، صحيح قويم على قدر ما نرى الآن، وقد يسلك بنو الأرض وكل حي فيها سبيله ألفا بل ألوفا من السنين فيصلون - إذ ذاك - إلى حيث ينتهي سبيل النشوء، ويبتدئ سبيل آخر قد يكون أوسع منه وأطول.

وبكلمة أخرى: إن الله - سبحانه - لا يكشف لسكان الأرض من أسرار الوجود إلا ما كان موافقا لحال الإنسان الروحية والمادية، وأن كشف الستار يكون بالنسبة إلى الرقي في الحالين. وبكلمة أوضح: إنه تعالى مقيم الحدود وعالم بها، فلا يقدم لكم في الأرض من حقائقه دفعة واحدة إلا ما تستطيعون هضمه واقتباسه، فلو علمتم مثلا ما قد يكون حال البشر بعد ألف سنة لما كنتم بذا العلم راضين، سر أو أساء؛ لأنه إذا أنبئتم بسوء المستقبل أسأتم إلى الحاضر في استرسالكم إلى الشهوات واللذات فتفسدون حسناته الحقيقية على قلتها ففي كلتا الحالتين إذن لا تكون النتيجة حسنة ولا تكونون إذا تبصرتم راضين، وحالنا نحن في عالم الأرواح شبيه نوعا بحالكم، إلا أن حدود الإدراك عندنا أبعد جدا من حدودكم.

لذلك أقول إن ناموس النشوء والارتقاء اليوم أمامكم وحولكم وفوقكم وفيكم، فادرسوه وافقهوه، وانتفعوا به، ولا تمددوا أيديكم إلى الستار، ستار الأسرار، إذا رأيتموه يتحرك، بل كونوا متيقظين، متبصرين، راغبين بكل مظهر من مظاهر الحقيقة والوجود، تائقين إليها، وانبذوا من ثمار البارح ما لا يليق بمائدة اليوم. والسلام عليكم.

وما كاد ينهي كلامه حتى زال النور دفعة واحدة، إلا نقطا كانت تهتز فوق كرسي فارغ، وقد انعكست على الحائط خلال الثقوب في الباب.

تاريخ سوريا

في معجم ياقوت وجغرافية أسطرابون ودليل السياح شيء من تاريخ نهر الكلب وأشياء من أساطيره المستغربة، وفي أثر مشهور هناك خلاصة تاريخ سوريا القديم والحديث، خطته يد الزمان على فم المضيق الذي أذل ملوك الأرض وسمع صليل الرماح لجيوش مصر وبابل وآشور، وهناك أيضا من آثار الطرق والأقنية الرومانية، ومن الكتابات الفينيقية والمسمارية واللاتينية، ومن رسوم للملوك والآلهة منقوشة في الصخور ، ما يهم علماء الآثار فيجيئون من أقاصي البلاد ليحلوا رموزها ويكشفوا أسرارها، وهي تلذ للسياح فيزورونها ويكبرونها ولا يفهمون منها سوى ما يردده الترجمان والدليل.

أما كاتب هذه السطور وهو لبناني ابن اليوم فلا يهمه من أخبار الماضي وآثاره إلا ما ينير منها ظلمات زماننا الحاضر، فقد زار نهر الكلب أول مرة ووقف عند آثاره وكتاباته كسائر السياح دون أن يحل شيئا من رموزها غير ما يحله الكتاب والدليل، وأكثر السياح، وكاتب هذه الأسطر كان يومئذ من الأكثرية، يتطلعون إلى الأطلال والأنصاب تطلع العين إلى القمر، ولكنه كفر عن زيارته الأولى بزيارة ثانية فراقه من جميل الأزهار وطيب النبات حول آثار النهر القديمة، ومن فصاحة المشهد الطبيعي فوقها؛ ما لا يستطيع قراءته غير الشاعر ولا يحل رموزه غير الله.

Page inconnue