وبعد هذا الاعتذار ماذا عساني أقول؟
إذا قلت كلمة في الحالة الحاضرة أخشى أن تظهروا استحسانكم بإطلاق الرصاص؛ ولذلك لا أقولها، فإن الصحافيين كثيرون وكلهم في القول يتاجرون، بل كلهم من الأماجد الكرام كما يقول أنطونيوس في جنازة القيصر، والذي يقوله هؤلاء الأحرار الأفاضل لا يتجاسر أن يقوله هذا الفقير، الذي يقوله المسدس والخنجر لا يقوله اليوم القلم والمنبر. الذي تقوله الحماسة الوطنية لا تردده دائما الحكمة، الذي يقوله أنصار الأمة لا يقوله أنصار الحقيقة. وأني أؤكد لكم أيها السادة أن لسان الحال اليوم أفصح من لسان الاتحاد ولسان التقهقر أطول من لسان الترقي وبلاء بابل في ألسنتها، ولكن هذه البلبلة لا تدوم، وسينطق غدا لسان آخر هو لسان القوة والحكمة، فيردد صدى كلماته لسان الحال ولسان الاتحاد ولسان الترقي ولسان التقهقر أيضا وإن غدا لناظره قريب.
وأما الآن فحرمة للإنسانية أرى من الواجب أن نستلفت أنظار زعماء الفوضيين في أوروبا إلى حالتنا المبهجة المفيدة فيبعثوا بوفد من قبلهم إلى بيروت ليتعلموا فيها كيف تكون الفوضى، ولا بأس بالفوضى إذا علمتنا شيئا واحدا وهو أنه لا يثبت في العالم والناس إلا الانقلاب، لا بأس بالفوضى إذا تعلم الشعب في مدرستها أن يتقي زعماءه وأسياده؛ فإن الزعماء الذين يغرون الشعب اليوم على الصحافة حبا بالأمة يغرونه غدا على الأمة حبا بالصحافة. عفوا سادتي قد جاملت من حيث لا أقصد المجاملة، فإن الزعماء السياسيين يثيرون خواطر الشعب لا حبا بالصحافة ولا حبا بالأمة بل حبا بأنفسهم الكريمة ومطامعهم السياسية الشرفية، فاتق - أيها الشعب - الزعماء ولا تكن في أيديهم آلة صماء.
واتقوا - أيها الزعماء - الشعب فإنكم إذا أغريتموهم اليوم على أحد زملائكم يقوم غدا من يغريه عليكم، لا يثبت إلا الانقلاب، اذكروا هذا أيها الثابتون في التقلب ...
وقد قيل: إن صوت الله في صوت الجماعات، وكم هو يا ترى عدد العثمانيين الذين لا يقفون مع الواقف ولا يتزلفون إلى القوي، فالشعب اليوم واقف، الشعب اليوم قوي، ولكن الحق يقف فوق كل واقف، والحق أقوى من كل قوة بشرية.
فإذا قال السياسيون إن صوت الله في صوت الشعب يقولون ذلك يوم يكون الشعب خادما لمآربهم السياسية، ويوم ينقلب الشعب تنقلب - لا شك - الآية، يوم تصرخ الجماعات فلتسقط الصحافة الحرة تقول الحكومة المسلولة: إن هذا لصوت الله، ولا تكاد تنتهي من تهليلها حتى تصرخ الجماعات فلتسقط الحكومة! فيقول إذ ذاك الحكام إنه لصوت إبليس، والحقيقة أيها السادة أن إبليس بريء من هذا الشعب وأن الله بعيد عنه. الحق يقال إن صوت الشعب هو صوت أبي براقش لا صوت إبليس ولا صوت الله، الحق يقال إن أبا براقش هو معبود الشعب ومعبود السياسيين.
تبارك الشعب وتباركت صبغاته السياسية، تبارك السياسيون وتباركت نزواتهم الوطنية. (10) في وصف بيروت
أيها البيروتيون
أقمت في هذه البلاد (بلادنا) ست سنوات ولم أستطع قبل الآن أن أقول في بيروت كلمة حق يرضاها قلب شغف بحب بلاده ولا ينكرها عقل شغف بحب الحقيقة. نظرت إلى هذه المدينة بعين رأت مدن أوروبا وأميركا فاستصغرتها وندبت حظها ثم نظرت إليها بعين شاهدت غيرها من مدن سوريا فأحببتها وأكبرت شأنها، وأنا الآن ناظر إليها بالعينين فأصفها وأنصفها. بيروت أم البلاد السورية وأمة البلاد السورية، أميرة المدن الآسيوية وأجيرة المدن الآسيوية، بيروت حسنة من حسنات التمدن وآفة من آفاته، بيروت لؤلؤة شرقية في صيغة من النحاس غريبة.
هي خلخال في رجل سلطانة المشرق عند الصباح، وأسوار في معصم ربة المغرب عند الغروب، هي درة في أوحال تئن فوقها الكهرباء هي مرجانة على ساحل اختلط تبره برماله ولجينه بأوحاله. ساحل النغولة مهد أم المدن السورية وعرشها، فم الأتون بيروت، وأفق النور بيروت، ومطلع الظلمة بيروت، عروس الحرية هي وعجوز الحرية، يوما تتهادى تحت علم الوطن عفة وكبرا ويوما تتوكأ على عصاها كيدا ومكرا، يوما تلبس الرعاة العتاة أكليلا من الأزهار، تصعر يوما خدها للظالم وأمام سدته تعفر يوما وجهها، بيروت منبر الدستور ومشنقته، بيروت حسناء النظام وبيروت صخابة الفوضى.
Page inconnue