فما قولكم بهذا العدل في أرض تدعى مهد الحرية والمساواة، أفلا ترون أن حال عبد الحميد اليوم شبيه نوعا بحال ملك الاحتكار الأميركي! فالمال الذي تدفعه الأمة اليوم لإعاشة السلطان المخلوع هو ما يحق لكل المجرمين في البلاد أن يطالبوها بجزء منه، هذا ما يدعونه المساواة أمام الشريعة، وهذه هي المحجة التي لم نزل بعيدين عنها. أما المساواة في الهيئة الاجتماعية فالعقدة فيها أشد وأمنع، وإن عقدة عقدها الله لا يحلها إلا هو.
ليعمل كل منا عمله بإخلاص وإتقان، وليعرف كل منا مركزه، ليجازي كل منا عماله على أعمالهم بعدل وإنصاف، لنكن أحرارا بمعنى الكلمة، فنصبح متساوين فضلا وإباءة في عين الله - قلت في خطابي في زحله كلمة عن الذين يتلبسون بالحرية ويفاخرون الناس بأنهم من الأحرار، وذكرت - على سبيل المجاز - بياع البصل، أو بالحري من لا يعرف كنه الحرية والمساواة، وأصبح يجتمع اليوم والأحرار الحقيقيين في ناد واحد، فقام أحد الخطباء يعترض على تحقيري الشعب وعبثي بعقيدة المساواة المقدسة، وهؤلاء الناس يحاولون تعزيز عقيدة لم يعززها الله وما عززتها الطبيعة، فقال: كيف لا يحق لبياع البصل مثلا أن يكون من الأحرار، وكيف لا يحق له أن يجتمع وسيده الأمير في ناد واحد؟
لا يا سادتي، إذا كان بياع البصل أو الأمير نفسه يبيع حريته ببصلة فهو من العبيد الذين لا يحررهم إلا الله، إذا ظل المرء حرا ما زالت حريته لا تضر بمصلحته أو بمنصبه أو بنفوذه فلا الدستور ولا الثورة ولا المصلحون يستطيعون أن يرفعوا عن نفسه سلاسل العبودية. (9) الشعب والسياسيون
41
أيها السادة
إن لهذه المدينة مزية طبيعية جميلة، ما رأيت مثلها في مدن العالم الكبرى التي زرتها وأقمت فيها. وهذه المزية المبهجة تظهر في هذا الفصل من السنة في أجمل معانيها، فتسير مع النسيم في الليل فتنسي السائر حفر الأسواق وأوحالها، نعم إن أجمل ما في بيروت جنائنها، وإن نفحات أزهار الجنائن تسكرني وتحزنني معا، فقد طالما سألت نفسي وأنا سائر ليلا في شوارع المدينة - متى يا ترى تنتشر مثل هذه الروائح الشذية في آدابنا وأدياننا وأخلاقنا ومبادئ زعمائنا، متى يا ترى تصير أرض سوريا صافية كسمائها، متى يا ترى تصير قلوب أبناء سوريا نقية كهوائها، متى يا ترى تصير حكومة هذه البلاد صالحة كأنبيائها؟ سؤالات يطرحها الرجاء على اليأس بل النور على الظلمة، سؤالات طالما رددتها نفسي، فكنت كمن يقلب جذوة في الرماد، كلما حركتها صغر حجمها وأمست أخيرا رمادا.
سؤالات إذا سألها علم العالمين بجلهم يجيب عليها جل من ادعى العرفان، سؤالات إذا سألتها أزهار الحب والتساهل والإخاء نبت حولها شوك التعصب والنزاع والخصومات.
ولكنني لا أيأس من كل ما هو جار اليوم، أنا لا أتشاءم بأخبار الأستانة المكدرة، فإن الأمة هي كالأم ساعة الولادة، الأمة الجديدة كالطفل تولد بالعذاب والآلام.
اعذروني أيها السادة إذا خالفت هذه الليلة رأيي في أمر الخطابة خلال الفصول؛ فإنني وإن قلت بإبطال هذه العادة أعلم جيدا أن ذلك غير ممكن قبل أن يصير عندنا دار خصوصية للاجتماعات العمومية.
وإذا كان الخلط بين الخطابة والتمثيل اليوم لازما فالإشارة إلى أن الطلاق كافل سلامة الاثنين لازمة أيضا.
Page inconnue