وهذا الذي ذكرناه ووصفناه على ما يوجبه القياس والقانون، فأما على ما يعرفه أهل هذا الزمان من المغنين وأصحاب الملاهي من الخفيف والثقيل؛ فهو غير هذا، وسنذكره بعد هذا الفصل.
واعلم يا أخي بأنه إذا زادت أزمان السكونات التي بين النقرات والإيقاعات على هذا المقدار من الطول خرج من الأصل والقانون والقياس؛ أعني: من أن تدركها وتميزها القوة الذائقة السمعية، والعلة في ذلك أن الأصوات لا تمكث في الهواء زمانا طويلا إلا ريثما تأخذ المسامع حظها من الطنين، ثم تضمحل تلك الأصوات من الهواء الحامل لها المؤدي إلى المسامع - كما بينا في فصل قبل هذا - وهكذا أيضا طنين الأصوات لا يمكث في المسامع زمانا إلا ريثما تأخذ القوة المتخيلة رسومها، ثم تضمحل من المسامع تلك الطنينات.
وإذا طالت أزمان السكونات بين النقرات والإيقاعات وزادت على المقدار الذي تقدم ذكره، اضمحلت النغمة الأولى وطنينها من المسامع قبل أن ترد النغمة الأخرى، فلا تقدر القوة المفكرة أن تعرف مقدار الزمان الذي بينهما، فتميزهما وتعرف التناسب الذي بينهما؛ لأن جودة الذوق في المسامع هي معرفة كمية الأزمان التي بين النغمتين، وما بين أزمان السكونات وبين أزمان الحركات من التناسب والمقدار، وعلى هذا المثال يجري حكم سائر المحسوسات والقوى الحاسة المدركة لها، وذلك أن القوة الباصرة أيضا لا تقدر أن تعرف مقدار أبعاد ما بين المرئيات إلا إذا كانت متقاربة في الأماكن، وأما إذا بعد ما بينها من الأماكن كما بعد ما بين المسموعات بالأزمان، فلا تقدر القوة الباصرة أن تدركها وتميز البعد ما بينها إلا بآلات هندسية كالذراع والأشل والباب والقبضة والأصابع، كما بينا في رسالة الجومطريا.
وهكذا إذا بعد ما بين أزمان الحركات بطول أزمان السكونات، فلا تقدر القوة الذائقة السامعة أن تدركها وتعرف بعد ما بينها إلا بآلات رصدية كالطرجهارات والشياهين والأصطرلاب، وما شاكلها من آلات الرصد، فأما إن كانت قريبة أدركها السمع وميزها الذوق - كما هو معروف في العروض - فقد تبين بما ذكرناه من العلة في أزمان السكونات التي بين النقرات، وأنه إذا زاد طولها على المقدار المذكور وخرج من الأصل والقانون.
وعلة أخرى أيضا وهي أن النغمة الواحدة إذا وردت على القوة السامعة لا يمكث فيها صوتها إلى أن يضمحل إلا بمقدار زمان ثلاث نقرات أخرى من أخواتها، بين كل واحدة زمان سكون أحدهما، فتكون جملتها ثمانية أزمان فحسب، مثل هذا الشكل: اه اه اه اه الألف علامة السكون، والهاء علامة المتحرك.
وإذ قد فرغنا من ذكر مقادير أزمان الحركات والسكونات وما بينهما من البعد والتناسب؛ فنريد أن نذكر أيضا طرفا من أمر الآلات المصوتة وكيفية صناعتها وإصلاحها، وما التام الكامل منها.
(6) فصل في كيفية صناعة الآلات وإصلاحها
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الحكماء قد صنعوا آلات وأدوات كثيرة لنغمات الموسيقى وألحان الغناء، مفننة الأشكال، كثيرة الأنواع؛ مثل الطبول والدفوف والنايات والصنوج والمزامير والسرنايات والصفارات والسلباب والشواشل والعيدان والطنابير والجنك والرباب والمعازف والأراغن والأرمونيقي وما شاكلها من الآلات والأدوات المصوتة، ولكن أتم آلة استخرجتها الحكماء وأحسن ما صنعوها الآلة المسماة بالعود.
ونحتاج أن نذكر من كيفية صنعها وإصلاحها واستعمالها، وكمية نسب ما بين نغمات أوتارها وطولها وعرضها وغلظها ورقتها ونقراتها طرفا شبه المدخل والمقدمات؛ ليكون تنبيها لنفوس الطالبين للعلوم الفلسفية والناظرين في الآداب الرياضية، ونبين لهم دقائق الحكمة وأسرار الصنائع التي هي كلها دلالة على الصانع الحكيم الذي هو الباري - تبارك وجل ثناؤه - وهو الذي خلق الصناع وألهمهم الصنائع الأول والحكم والعلوم والمعارف، والله أحسن الخالقين وأحكم الحاكمين.
ولكن نبدأ أولا بذكر ما قال أهل هذه الصناعة؛ فإنه قد قيل: استعينوا في كل صناعة بأهلها، فنقول: إن أهل هذه الصناعة قالوا: ينبغي أن تتخذ الآلة التي تسمى العود خشبا طوله وعرضه وعمقه يكون على النسبة الشريفة، وهي أن طوله مثل عرضه ومثل نصفه، ويكون عمقه مثل نصف العرض، وعنق العود مثل ربع الطول، وتكون ألواحه رقاقا متخذة من خشب خفيف، ويكون الوجه رقيقا من خشب صلب خفيف يطن إذا نقر.
Page inconnue