وفي مقابل هذا الموضع في ناحية الجنوب؛ حيث مدار سهيل يكون نهارا كله ستة أشهر صيفا فيحمى الهواء ويصير نارا سموما ويحترق الحيوان والنبات من شدة الحر، فلا يمكن السكنى ولا السلوك هناك.
وأما ناحية المغرب فيمنع السلوك فيها البحر المحيط؛ لتلاطم أمواجه وشدة ظلماته، وأما ناحية المشرق فيمنع السلوك هناك الجبال الشامخة، فإذا تأملت وجدت الناس محصورين في الربع المسكون من الأرض، وليس لهم علم بالثلاثة أرباع الباقية.
واعلم أن الأرض بجميع ما عليها من الجبال والبحار بالنسبة إلى سعة الأفلاك ما هي إلا كالنقطة في الدائرة، وذلك أن في الفلك ألفا وتسعة وعشرين كوكبا، أصغر كوكب منها مثل الأرض ثماني عشرة مرة، وأكبرها مائة وسبع مرات، فلشدة البعد وسعة الأفلاك تراها كأنها الدر المنثور على بساط أخضر، فإذا فكر الإنسان في هذه العظمة تبين له حكمة الصانع وجلالة عظمته ، فينتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ويعلم أنه ما خلق هذه الأشياء إلا لأمر عظيم، وذلك قوله تعالى: @QUR08 وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق.
(2) فصل في الحث على النظر في الأرض للاعتبار
اعلم يا أخي بأن من دخل الدنيا وعاش فيها زمانا طويلا مشغولا بالأكل والشرب والنكاح؛ دائبا في طلب الشهوات والحرص على جمع المال والأثاث واتخاذ البنيان وعمارة الأرض والعقارات وطلب الرياسة، متمنيا الخلود فيها، تاركا لطلب العلم، غافلا عن معرفة حقائق الأشياء، مهملا لرياضة النفس، متوانيا في الاستعداد للرحلة إلى الدار الآخرة، حتى إذا فني العمر وقرب الأجل وجاءت سكرة الموت التي هي مفارقة النفس الجسد، ثم خرج من هذه الدار جاهلا لم يعرف صورتها ولم يفكر في الآيات التي في آفاقها، ولا اعتبر أحوال مجوداتها، ولا تأمل الأمور المحسوسة التي شاهد فيها؛ فمثلهم مثل قوم دخلوا إلى مدينة ملك عظيم حكيم عادل رحيم قد بناها بحكمته، وأعد فيها من طرائف صنعته ما يقصر الوصف عنها إلا بالمشاهدة لها، ووضع فيها مائدة قوتا للواردين إليها وزادا للراحلين عنها، ثم دعا عبادا له إلى حضرته ليمنحهم بالكرامة، وأمرهم بالورود إلى تلك المدينة في طريقهم؛ لينظروا إليها ويبصروا ما فيها، ويتفكروا في عجائب مصنوعاته ويعتبروا غرائب مصوراته؛ ليروض بها نفوسهم، فيصيرون برؤيتها ومعرفتها حكماء أخيارا فضلاء، فيصلون إلى حضرته ويستحقون كرامته.
فوردها قوم ليلا فباتوا طول ليلتهم مشغولين بالأكل والشرب واللعب واللهو، ثم خرجوا منها سحرا لا يدرون من أي باب دخلوا ولا من أيها خرجوا ولا رأوا مما فيها شيئا من آثار حكمته وغرائب صنعته، ولا انتفعوا بشيء منها أكثر من تمتعهم تلك الليلة بالأكل والشرب وحسب.
فهكذا حكم أبناء الدنيا الواردين إليها جاهلين، الماكثين فيها متحيرين مكرهين، المنكرين أمر الدار الآخرة، الراحلين عنها كما قال الله - جل ثناؤه: @QUR011 ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا، وقال ذما لهم: @QUR06 صم بكم عمي فهم لا يعقلون بأمر الآخرة، فأعيذك أيها الأخ البار الرحيم أن تكون منهم، بل كن من الذين مدحهم - عز وجل - فقال جل ثناؤه: @QUR014 تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين، وحكى قولهم لما تمنوا عرض الدنيا حين قال: @QUR011 يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم، وقال الذين أوتوا العلم بحقيقة أمر الآخرة: @QUR012 ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون، @QUR011 وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم، وفقك الله أيها الأخ البار الرحيم للسداد، وهداك للرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد.
وإذ قد فرغنا من ذكر الأرض ووصفنا الربع المسكون؛ نريد أن نذكر الأقاليم السبعة، ونبين حدودها طولا وعرضا وما في كل إقليممن المدن الكبار والجبال والأنهار الطوال.
فاعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن حدود الأقاليم معتبرة بساعات النهار وتفاوت الزيادة فيها؛ وبيان ذلك أنه إذا كانت الشمس في أول برج الحمل كان طول الليل والنهار وساعاتهما تتساوى في هذه الأقاليم كلها، فإذا سارت الشمس في درجات برج الحمل والثور والجوزاء اختلفت ساعات نهار كل إقليم؛ حتى إذا بلغت آخر الجوزاء الذي هو أول السرطان صار طول النهار في وسط الإقليم الأول ثلاث عشرة ساعة، وفي وسط الإقليم الثاني ثلاث عشرة ساعة ونصفا، وفي وسط الإقليم الثالث أربع عشرة ساعة، وفي وسط الإقليم الرابع أربع عشرة ساعة ونصفا، وفي وسط الإقليم الخامس خمس عشرة سواء، وفي وسط الإقليم السادس خمس عشرة ونصفا، وفي وسط الإقليم السابع ست عشرة سواء، وفي المواضع التي عرضها ست وستون درجة وما زاد إلى تسعين درجة يصير نهارا كله، وشرح كيفيتها طويل مذكور في المجسطي.
واعلم أن معنى كل طول بلدة ومدينة هو بعدها من أقصى المغرب، ومعنى عرضها هو بعدها من خط الاستواء، وخط الاستواء هو الموضع الذي يكون الليل والنهار هناك أبدا متساويين، فكل مدينة على ذلك الخط فلا عرض لها، وكل مدينة في أقصى المغرب فلا طول لها أيضا، ومن أقصى المغرب إلى أقصى المشرق مائة وثمانون درجة، مقدار كل درجة تسعة عشر فرسخا، وكل مدينة طولها تسعون درجة فهي في وسط من المشرق والمغرب، وما كان أكثر فهي إلى المشرق أقرب، وما كان أقل فهي إلى المغرب أقرب، وكل مدينتين إحداهما أكبر طولا وعرضا فهي إلى المشرق والشمال أقرب من الأخرى، والتفاوت الذي يكون بينهما في العرض كل درجة تسعة عشر فرسخا بالتقريب، وأما تفاوتهما في الطول فمختلف، فما كان منها على خط الاستواء، فكل درجة في الطول تسعة عشر فرسخا، وما كان في الإقليم الأول فكل درجة سبعة عشر فرسخا، وما كان في الثاني فكل درجة خمسة عشر فرسخا، وفي الثالث كل درجة ثلاثة عشر فرسخا، وفي الرابع كل درجة عشرة فراسخ، وفي الخامس كل درجة سبعة فراسخ، وفي السادس كل درجة خمسة فراسخ، وفي السابع كل درجة ثلاثة فراسخ.
Page inconnue