Épîtres des Frères de la Pureté
رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء
Genres
ومن أخوات الحسد وأشكاله الحقد والغل والدغل، ثم تدعو هذه الخصال إلى المكاشفة بالعداوة والبغضاء والبغي والغضب والحرد والتعدي والعدوان وقساوة القلب وقلة الرحمة والفظاظة والغلظة والطعن واللعن والفحشاء، وتكون سببا للخصومة والشر والحرب والقتال، إن أمكن ذلك جهارا وإعلانا، وإلا يدعو إلى المكر والحيلة والخداع والغدر والخيانة والسعاية والغيبة والنميمة والزور والبهتان والكذب والمداهنة والنفاق والرياء، ويصير ذلك سببا لتشتيت الشمل وتفريق الجميع وقطيعة الرحم والبعد من الإخوان ومفارقة الإلف وخراب الديار ووحشة الوحدة والحزن والغم وألم القلب وهموم النفس وعذاب الأرواح وتنغيص العيش وسوء المنقلب وخسران الدنيا والآخرة، نعوذ بالله من هذه الخصال والشرور والأخلاق والأفعال القبيحة والأعمال السيئة الدنية التي تنكرها العقول السليمة والنفوس المهذبة والأرواح الطاهرة.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن المتكبر عن قبول الحق عدو للطاعة، وقد قيل: إن الطاعة هي اسم الله الأعظم الذي به قامت السماوات والأرض بالعدل ، وضد الكبر التواضع للحق والقبول له، ويقال في المثل السائر: من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله، وقيل في بعض كتب بني إسرائيل: قال الله - سبحانه وتعالى: الكبر ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما كببته في نار جهنم على منخريه، قال الله - عز وجل - في القرآن: @QUR05 أليس في جهنم مثوى للمتكبرين، وقيل: إن الحرص الشديد ربما كان سبب الحرمان، والحاسد عدو لنعم الله، وليس للحاسد إلا ما حسد، وقال الله - جل ذكره: @QUR09 أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، فاحذر يا أخي من هذه الخصال والأخلاق والأعمال؛ فإنها من أخلاق الشياطين وجنود إبليس أجمعين الذين يبغض بعضهم بعضا، ويعادي بعضهم بعضا كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR05 كلما دخلت أمة لعنت أختها، وقال تعالى: @QUR06 لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار، وآيات كثيرة في القرآن في ذم هؤلاء وسوء الثناء عليهم.
فقد تبين بما ذكرنا أن الكبر والحرص والحسد أصول وأمهات لسائر الخصال المذمومة والأخلاق الرديئة المنتشئة منها الشرور والمعاصي كلها، فاحذر يا أخي منها، فإن قيل: ما الحكمة والفائدة في كون هذه الخصال الثلاث موجودة في الخليقة، مركوزة في الجبلة؟ فنقول: أما التكبر فهو من كبر النفس، وكبر النفس هو من علو همتها، وعلو الهمة جعل في جبلة النفس لطلب الرياسة، وطلب الرياسة من أجل السياسة، وذلك أن الناس محتاجون في تصاريف أمورهم إلى رئيس يسوسهم على شرائط معلومة، كما ذكر ذلك في كتب السياسات بشرح طويل، وقد ذكرنا طرفا منها في رسالة سياسة النبوة والملك، فإذا لم يكن الرئيس عالي الهمة كبير النفس؛ لم يصلح للرياسة، وكبر النفس يليق بالرؤساء، ويصلح للملوك وسياسة الجماعات، فأما الرعية والأعوان والأتباع والخدم والعبيد فلا يصلح لهم كبر النفس ولا يليق بهم.
وأقول بالجملة: إن كبر النفس في كل وقت وفي كل شيء ليس بأمر محمود، ولكن إذا استعمل كما ينبغي في الوقت الذي ينبغي بمقدار ما ينبغي من أجل ما ينبغي؛ سمي ذلك محمودا، فيكون عامل ذلك طلق النفس ذا مروءة ، عالي الهمة عفيفا كريما جميلا دينا، ويكون صاحبه محمودا معظما مبجلا مهيبا، وأما التكبر عن قبول الحق وترك الإقرار بالواجب والفسق عن أمر الرئيس وترك الانقياد والإذعان للطاعة المفروضة؛ فهو المذموم وهو هو الشر والمعصية والمنكر.
وأقول بالجملة: ينبغي لك يا أخي أن تعلم وتتيقن بأنك كما تريد وتحب وتشتهي من عبدك أن ينقاد لأمرك وكذلك خادمك وأجيرك وتابعك وزوجك وولدك ولا يتكبرون عليك ولا يخرجون عن أمرك، ولا يجاوزون نهيك؛ فهكذا ينبغي ويجب أن تكون لرئيسك ومن هو فوقك في الأمر والنهي حتى تكون عادلا منصفا محقا ممدوحا مثابا مجازا ملتذا فرحا مسرورا منعما مكرما؛ فقد تبين بما ذكرنا ما الحكمة والفائدة في وجود التكبر في طباع النفس المركوزة في جبلتها، ومتى يكون صاحبه مذموما معاقبا، ومتى يكون محمودا مثابا.
وأما كون الحرص في طلب المرغوب فيه الموجود في الخليقة، المركوز في الجبلة؛ فهو من أجل أن الإنسان لما خلق محتاجا إلى مواد لبقاء هيكله ودوام شخصه مدة ما وإبقاء صورته في نسله زمانا ما؛ جعل في طبعه وجبلته الرغبة فيها والحرص في طلبها والجمع لها والادخار والحفظ لوقت الحاجة إليها؛ إذ كان ليس في كل وقت وفي كل مكان موجودا ما يريده ويحتاج إليه، فإذا رغب الإنسان فيما يحتاج إليه وطلب ما ينبغي له وجمع مقدار الحاجة وحفظه إلى وقت الحاجة، ثم استعمل ما ينبغي كما ينبغي، وأنفق بقدر الحاجة؛ فهو يكون محمودا عادلا منصفا محقا مصيبا مأجورا ملتذا مثابا منعما فرحا مسرورا مكرما.
فقد بينا ما الحكمة والفائدة في كون الرغبة والحرص في الجبلة المركوزة، فإذا طلب ما لا يحتاج إليه كان مذموما، أو جمع أكثر مما يحتاج إليه كان متعوبا، أو جمع ولم ينفق ولم يستعمل في وقت الحاجة إليه كان مقترا محروما، فإن أنفق واستعمل فيما لا ينبغي كان مسرفا مخطئا جائرا معاقبا معذبا، وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - أنه قال: من طلب الدنيا تعففا عن المسألة، وتوسعا على عياله ، وتعطفا على جاره؛ لقي الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر، ومن طلب الدنيا مكاثرا مفاخرا مرائيا؛ جعل الله فقره بين عينيه، ولم يبال الله به بأي واد هلك.
فأما كون الحسد المركوز في الجبلة، الموجود في الخليقة، فهو من أجل التنافس في الرغائب من نعم الله، وذلك أن نعم الباري تعالى على خلقه كثيرة لا يحصي عددها إلا هو، ولم يمكن أن يجمع عددها كلها على شخص واحد، ففرقت في الأشخاص بالقسط كما شاء ربهم - عز وجل - وضعها، وفضل بعضهم على بعض كما اقتضت حكمته فلم يخل أحد من الخلق من نعم الله وآلائه، ولا استوفاها أحد من خلقه، فمن رأى على أحد من الخلق نعمة ليست عليه بعينها، فلينظر هل عليه نعمة ليست بعينها على ذلك الشخص، فيقابل هذه بتلك، ويشكر الله، ويسأله أن يديمها عليه، ومن رأى على أخيه نعمة ليس عليه مثلها، فليسأل الله تعالى من فضله، ولا يتمنى زوال تلك عن أخيه؛ فإن ذلك هو الحسد بعينه، وهو المذموم الذي يكون الحاسد به معذبة نفسه، مؤلما قلبه، عدوا لنعم الله على خلقه.
(13) فصل في الحرص والزهد ودرجات الناس
اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأنك إن أنعمت النظر بعقلك، وجودت الفكر برويتك، وتأملت أمور الدنيا، واعتبرت تصاريف أحوال الناس؛ تبينت وعرفت أن أكثر الشرور التي تجري بين الناس إنما سببها شدة الرغبة في الدنيا والحرص على طلب شهواتها ولذاتها ورياستها، وتمني الخلود فيها. وإذا تأملت واعتبرت؛ وجدت أس كل خير وأصل كل فضيلة الزهد في الدنيا وقلة الرغبة في شهواتها ونعيمها ولذاتها والرغبة في الآخرة وكثرة ذكر المعاد في آناء الليل وأطراف النهار والاستعداد للرحلة إليها.
Page inconnue