Épîtres des Frères de la Pureté
رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء
Genres
قال الراهب: جزاك الله خيرا من واعظ ما أبلغه، ومن ذاكر أنعاما ما أحسنه، ومن هاد رشيد ما أبصره، وطبيب رفيق ما أحذقه، وأخ ناصح ما أشفقه.
فصل
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الأمور الطبيعية محيطة بنا ومحتوية على نفوسنا كإحاطة الرحم بالجنين، وكإحاطة قشرة البيضة بمحها؛ كل ذلك حرص من الطبيعة على تتميمها وتكميلها وصيانتها من الآفات العارضة إلى أجل معلوم، فإذا جاء وقت الخروج من هناك بعد تتميم البنية وتكميل الصورة، فالجنين حينئذ هو الذي يحرك أعضاءه، ويركض برجليه، ويضرب بيديه حتى يخرق المشيمة، وتتقطع تلك الأوتار والرباطات التي كانت تمسكه هناك، ويمكنه الخروج من الرحم، وكذلك أفعال الفرخ بالبيضة، فهذا قياس ودليل لكل نفس تريد فراق الدنيا والخروج من عالم الأجسام إلى عالم الأرواح، وتنبيه لها على أنه ينبغي لنا أن نتحرك ونجتهد حتى ندفع عن أنفسنا الأخلاق الطبيعية المركوزة في الجبلة المذمومة منها، المانعة للنفوس عن النهوض والخروج من عالم الكون والفساد إلى عالم الأفلاك وسعة السماوات ومعدن الأرواح ومقر النفوس.
فلما كان هذا كما ذكرناه، ولم يكن في منة إنسان أن يعقل هذا الأمر الجليل، ويفهم هذا الخطب الخطير؛ كان من فضل الله وإحسانه وإكرامه لعباده أن بعث إليهم النبيين والمرسلين مؤيدين؛ ليعلموا الناس هذه الأمور ويعرفوهم هذا الخطب وينبهوهم عليه ويدعوهم إليه ويرغبوهم فيه ويحثوهم على طلبه، ويكلفوهم الاجتهاد في نيله طوعا أو كرها، وهذه من جسيم نعم الله سبحانه على عباده وعظيم إحسانه إليهم، الذي عمهم كلهم، ولم يخص أحدهم دون الآخر؛ وإذ قد تبين بما ذكرنا بأن بعض نعم الله تعالى وإحسانه ما هي عموم لجميع خلقه لا يخص واحدا دون الآخر، فنريد أن نذكر ما يخص منها، ونبين كيف يكون ذلك، ومن يستحقها ويستأهلها.
فاعلم يا أخي أن من نعم الله وإحسانه وإكرامه ما يخص به خواص من عبيده بحسب اجتهادهم وسعيهم وحسن معاملتهم، ويحرمه قوما آخرين عقوبة لهم؛ إذ كان سعيهم واجتهادهم ومعاملتهم بخلاف سعي أولئك واجتهادهم، فهذا الباب من عدله وإنصافه بين خلقه؛ إذ كان الإحسان إليهم والنعم التي هي من قبله تفضلا عليهم تعمهم كلهم والتي يستحقونها بحسب سعيهم، ويستأهلونها باجتهادهم لا يساوي بينهم فيها؛ إذ لم يكونوا متساوين في العمل.
واعلم يا أخي بأن الله - جل ثناؤه - لما بعث أنبياءه ورسله إلى الأمم الجاهلة الغافلة عن هذا الأمر الجليل الخطير؛ لم يأمرهم ولا كلفهم شيئا شاقا سوى ما في وسع طاقتهم من القول والعمل والنية والإضمار، فأول شيء أمرهم الأنبياء وطالبوهم به هو الإيمان الذي هو إقرار اللسان لهم بما جاءوا به من الأنباء والأخبار عن أمور غائبة عن حواسهم وترك الجحود والإنكار لها، كما ذكر بقوله - جل ثناؤه: @QUR013 قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ... فآمنوا بالله ورسوله، فمن أعطاه الإقرار باللسان وثبت ولم يرجع؛ كان جزاؤه ومكافأته لإقراره في الدنيا عاجلا أن يهدي الله قلبه بنور اليقين، ويشرح صدره للتصديق بما أخبر به عن الغيب، وينجي قلبه من ألم الكرب والتكذيب، ويخلص نفسه من عذاب الشك والريبة والحيرة، كما وعد - جل ثناؤه - بقوله: @QUR05 ومن يؤمن بالله يهد قلبه؛ يعني: من يقر بلسانه يهد قلبه للتصديق واليقين والإخلاص، وقال: @QUR02 والذين اهتدوا؛ يعني: أقروا، @QUR02 زادهم هدى؛ يعني: يقينا واستبصارا @QUR02 وآتاهم تقواهم؛ يعني: أزال عنهم الشك والارتياب.
واعلم يا أخي بأن المقر بلسانه والمنكر بقلبه يكون شاكا مرتابا متحيرا دهشا، وهذه كلها آلام للقلوب وعذاب للنفوس، فأراد الله - جل ثناؤه - أن يخلص عباده المقرين لأنبيائه بما جاءوا به من هذه الآلام والعذاب، فأمر المقرين بأشياء يفعلونها ونهاهم عن أشياء ليتركوها؛ كل ذلك ليبلوهم، فمن قبل وصاياه وعمل بها وثبت عليها كان جزاؤه وثواب عمله في الدنيا عاجلا قبل وصوله إلى الآخرة؛ أن هدى قلوبهم بنور اليقين وشرح صدورهم من ضيق الشك والريبة والإنكار والحيرة والدهشة والنفاق وخلصهم من عذابها.
وأما من ترك الوصية ولم يعمل بها، بل خادع ومكر، وأضمر خلاف ما أظهر، وأسر غير ما أعلن، وأخلف الوعد، وأقام على هذه المساوئ والمخازي؛ كان جزاؤه وعقوبته أن يترك في ريبه مترددا في دينه، متحيرا شاكا مذبذبا معذبا قلبه ، متألمة نفسه، كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR015 فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون، وقوله تعالى: @QUR013 ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: @QUR07 هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون، فقد تبين بما ذكرنا طرف من كيفية اختصاص الله تعالى المؤمنين بأفضاله وأنعامه وإحسانه إلى قوم دون قوم مكافأة لهم بحسب معاملتهم مع ربهم في عاجل الحياة الدنيا قبل وصولهم إلى الآخرة، وكيف يحرم تلك النعم قوما آخرين عقوبة لهم وجزاء لما تركوا من وصاياه ولم يعملوا بها.
فصل
واعلم يا أخي، أيدك الله، بأنه - جل ثناؤه - قد فرض على المؤمنين المقرين به وبأنبيائه أشياء يفعلونها، ونهاهم عن أشياء ليتركوها؛ كل ذلك ليبتليهم بها، وجعلها عللا وأسبابا ليرقيهم فيها، وينقلهم بها حالا بعد حال إلى أن يبلغهم إلى أتم حالاتهم وأكمل غاياتهم.
Page inconnue