الفصل الخامس
العقيدة الإلهية وموقف الدهريين منها
إنكار الألوهية:
تبين مما أسلفنا: أن طائفة النيتشريين «الدهريين» كلما نجمت في امة أفسدت أخلاقها، وأوقعت الخلل في عقولها، وتخطفت قلوب آحادها، بأنواع من الحيل، وألوان من التلبيس، حتى تصبح تلك الأمة وقد وهى أساسها، وتفطر بناؤها، واغتالتها رذائل الأخلاق: من الأثرة، وعبادة الشهوات، والجرأة على ارتكاب الخيانات، ولا يزال الفساد يتغلغل في أحشائها حتى تضمحل ويمحى رسمها من صفحة الوجود، أو تضرب عليها الذلة، ويخلد أبناؤها في الفقر والعبودية.
إلا أن قبيلا من هذه الطائفة، عملوا على إخفاء مقصدهم الأصلي، وهو الإباحة والاشتراك، واكتفوا في ظاهر الأمر بإنكار الألوهية وجحود يوم الدين؛ يوم العرض والجزاء، وقد يظن بعض ضعفة العقول، أن في ذلك بسطة الفكر، وسعة الحرية؛ لهذا أحببت أن أبين أن هذه النزعة وحدها كافية في إفساد الهيئة الاجتماعية، وتزعزع أركان المدنية، وليس من ضروب الباطل ما هو أشد منها تأثيرا في محو الفضائل، وإثارة الخبائث والرذائل، وليس من الممكن أن يجتمع لشخص واحد، وهم الدهري، وفضيلة الأمانة والصدق، وشرف الهمة وكمال الرجولة.
ذلك أن كل فرد من نوع الإنسان قد أودع - بحسب فطرته، وبناء بنيته - شهوات تميل به إلى مشتهيات، فشهواته تدفعه إلى تحصيل مشتهياته، ولا يستطيع تسكين هواه، ولا كسر سورة نفسه، إلا بنيل ما يمكنه من تلك المشتهيات، كأنه يعالج ألم الطلب بما يصل إليه من المطلوب، ولم تحدد الطبيعة طريقا معينة يسلكها الراغبون للوصول إلى رغائبهم: فسبيل حق، وسبيل باطل، وسبيل الفتنة والفساد، وسبيل الهدى والرشاد، وسبيل سفك الدماء، واغتصاب الحقوق، وسبيل الإجمال والتعفف، وكلها ميسر للطالب غير ممتنع على السالك.
Page 11