لو عرف هذا الهدف الكوني عرف بالتالي معنى حياتنا، ولكن ما السبيل إلى معرفة هدف الكون؟ كيف نحمله على البوح بسره؟ كيف ننقذ حياتنا من العدم؟! لم يجد نفسه في هذا المقام الحائر نتيجة لثورة أو فكر، ولكنه وجد نفسه في خضمه بتلقائية من لا يملك ذخيرة أو تراثا؛ ذلك أنه نشأ في جو خاص غير عادي، جو خلقه والدان من نوع خاص أيضا. «إبراهيم الدارجي»، الأب، مشغول بالحياة لدرجة لم تترك له فراغا لتساؤل أو تأمل ... إنه أبعد ما يكون عن الطراز المتدين، ولكنه في الوقت نفسه أبعد ما يكون عن النموذج الملحد أو الشاك. لم يتفوه طيلة حياته بكلمة مع الدين ولا كلمة ضده. الدين بالنسبة إليه غير موجود، أو مختف في ظل كثيف، ولا يخطر له ببال، ولا يتذكره إلا في المناسبات النادرة، وقد ترد في كلامه مصطلحات دينية يرددها دون أدنى انتباه إلى مغزاها، فيقول أحيانا «الله أعلم»، ولا تعني عنده أكثر من «لا أدري». وعيد الفطر عنده كحك، وعيد الأضحى عنده «لحمة». والأم «بيسة» لا تختلف كثيرا عن زوجها في لا مبالاته الفطرية، وإن لم تخل من إيمان بالشعوذة والسحر. فلم يعبق البيت بنفحة دينية ولو عابرة. هذا هو الجو الذي نشأ فيه «عبد الفتاح»، ولم تضف إليه المدرسة سوى حكايات تحفظ وتنسى، وألفاظ تشرح وتعرب، وامتحانات يودعها محفوظاته قبل أن تتلاشى، وفي المدرسة عبرت أمامه ومن حوله تيارات متضاربة دينية ومادية، فلم يهتم بها، وسخر منها؛ ولذلك لم تتوثق الصلة بينه وبين أحد المنتمين إليها، واختار أصدقاءه ممن هم على شاكلته من اللامبالين ... ومع ذلك هزته الهزيمة، فوجم وتألم، ولكنها لم تعدل به عن طريقه، بل لعله أوغل فيه أكثر وأكثر. من أجل ذلك كله وثب في أزمته إلى الكون يسائله عن معناه وهدفه بتلقائية ويسر، دون أن تعيقه عن ذلك عقيدة سابقة ... تعلق بالكون باعتباره الأمل الأخير الذي يمكن أن ينتشله من الفناء الزاحف على قلبه وروحه ... ترى هل يوجد سر ذلك عند أحد من البشر؟ هل تتضمنه حكمة أو علم أو فلسفة؟ وأليس مما يفزع أن ترتفع فجأة من كرة القدم إلى قلب الكون دفعة واحدة؟! وتوهم أن عالمه الداخلي يتوارى عن الأعين القريبة بما يفور فيه من تساؤلات حارة مستميتة، ولكنه لاحظ في أعين والديه محاولات أبوية قلقة تروم النفاذ إلى أعماقه. وضح ذلك يوم الأحد - يوم العطلة الأسبوعية - عندما دعواه للجلوس معهما في حجرة المعيشة عند الضحى، توقع في الحال استجوابا حميما، فضاق به قبل أن يعلن، وصدق حدسه عندما تساءل أبوه وهو يغوص بروبه الخفيف في الفوتي الأرجواني: ما لك يا عبد الفتاح؟!
فتظاهر بالدهشة لغرابة السؤال ... فقالت أمه: لست كعادتك، لا خفاء في ذلك.
وقال أبوه: بعد أيام معدودة سيبدأ عام الثانوية العامة، وهو عام يتقرر فيه المصير!
وقالت «بيسة»: ونحن أصدقاء، ولا يجوز أن يحجز بيننا سر.
قال محاولا الاحتفاظ بسره الغريب لنفسه: أنتما واهمان.
فقال الأب وأنامله تناجي حبات سبحته القهرمانية التي تلقاها هدية، واستغلها لامتصاص القلق: بل إن صحتك ليست على ما يرام. - أشعر بتمام الصحة والعافية. - إنك تمر بفترة من العمر شديدة الحرج.
ضحك ضحكة جافة، تغير موقفه بغتة، جرفته موجة استهانة كرد فعل للسهاد والألم، قال: الحق إنه يشغلني سؤال محير! - أي سؤال يا بني؟
قال ممهدا بضحكة كالاعتذار: سؤال عن الهدف الكوني!
تفشى صمت ثقيل حتى صار له دوي في الآذان، نظر والداه إليه طويلا، ثم تبادلا النظر طويلا، وتمتم الأب متسائلا: الهدف الكوني؟!
فتساءل عبد الفتاح: هل أندم على مصارحتكما بالحقيقة؟
Page inconnue