3
فقد كان يستحيل على العلم أن يبلغ ما قد بلغه من السيطرة على عقول الناس وعلى حياتهم العملية في عصرنا هذا، دون أن يكون لذلك صداه في الفلسفة وأهدافها؛ والحق أنه لم يشهد تاريخ الفكر عصرا رفضت فيه الفلسفة أن تتابع الحركة الفكرية السائدة، بحيث تجعل من نفسها معينا للإنسان على بلوغ ما يريد بلوغه من حق في سائر الميادين؛ كانت الحياة الإنسانية هي شغل اليونان الأقدمين، يريدون للإنسان أن يحيا حياة كاملة متكاملة، فماذا ينبغي أن يكون أساس السلوك البشري بحيث يحقق الإنسان غايته تلك؟ كان ذلك هو سؤال الناس عندئذ؛ ومن ثم كان هو سؤال الفيلسوف؛ إذ جعل همه الأكبر أن يلتمس مبدأ للأخلاق العملية لا يكون صوابه موضع شك وريبة، بل يتصف بمثل اليقين الذي تتصف به الرياضة؛ فهذا سقراط يبحث في تحديد معاني الألفاظ الخلقية كالشجاعة والتقوى وما إلى ذلك، وهذا أفلاطون يبحث عن الحقائق العقلية الثابتة التي إليها نقيس شئون العالم الأرضي كمالا ونقصا، وهذا أرسطو يحلل الأخلاق العملية كما يضع مبادئ التفكير المنطقي الذي يؤدي بصاحبه إلى اليقين وهكذا. وإذن فقد كانت الفلسفة عند اليونان خادمة للأخلاق، ثم جاء العصر الوسيط تشغله الحياة الآخرة وتشغله العقيدة الدينية، يريد أن يفلسف ما جاء في الكتب المنزلة لكي يطمئن العقل كما اطمأن القلب، فأسرعت الفلسفة إلى أداء مهمتها في ذلك، وجعلت تصب أضواءها على ما يشغل الناس؛ ومن ثم كانت إذ ذاك خادمة تخدم الدين. وأخيرا جاء العصر الحديث، يضع معظم اهتمامه في العلوم الطبيعية بصفة خاصة، أفتقصر الفلسفة الآن فيما لم تقصر فيه في عصورها الماضية؟ أتدع الناس في شغل من العلم الطبيعي وتضرب هي فيما وراء الطبيعة؟ إنها لا مندوحة لها عن متابعة اهتمامات عصرها الآن كما تابعتها في سائر العصور.
من ذا الذي كذب الأكذوبة الكبرى عن الفلسفة فظنها في برج عاجي لا تصطخب في سائر الميادين وتيار الحياة الفكرية؟ متى كان ذلك وعند من من الفلاسفة؟ هل كان سقراط وهو يجول في طرقات أثينا يناقش الناس في مبادئهم الأخلاقية معتزلا في برج من العاج؟ هل ترك فلاسفة العصر الوسيط في الشرق الإسلامي أو الغرب المسيحي سائر الناس في واد وذهبوا هم في واد آخر، أم جالوا معهم في الميدان الواحد الذي كانوا يجولون فيه وهو العقيدة الدينية وتأييدها؟ هل ترك «كانت» علماء عصره يبحثون في الرياضة والطبيعة وحبس نفسه دونهم في برج عاجي يتكلم فيما لم يكونوا يشتغلون به، أم إنه كان يحلل قوانين الرياضة وقوانين الطبيعة التي كان يأخذ بها علماء ذلك العصر؟
وكذلك تريد الفلسفة لنفسها في عصرنا هذا؛ تريد أن تجلس مع الناس على مائدة واحدة، وتسكن معهم في بيت واحد؛ فلئن كان الناس في شغل شاغل من الطبيعة الذرية التي غيرت من وجهة النظر إلى قانون الطبيعة فجعلته احتمالا لا يقينا، وإحصاء لا إملاء، لتتقدم الفلسفة لتبحث في هذا الاحتمال: ما معناه؟ وفي هذا الإحصاء: ما سنده من المنطق؟
إن الفيلسوف الذي ينفض يديه من تيارات عصره إنما هو متمرد لا يفيد أحدا بعصيانه. وتيار العصر هو بغير شك تيار العلوم الطبيعية التجريبية، أو ما يتصل بتلك العلوم بسبب قريب أو بعيد؛ فكيف تغير الفلسفة التقليدية من نفسها بحيث تتجاوب هي وعصرها؟ تفعل ذلك - وقد فعلته - بثلاثة أمور رئيسية:
أولها:
أن تترك العلوم لأصحابها؛ فلا يجوز للفيلسوف باعتباره فيلسوفا أن ينافس العالم في علمه؛ لا يجوز له أن يبحث في طبيعة المادة وهنالك من علماء الطبيعة من يصنعون ذلك على نحو أدق وأوفى، لا يجوز له أن يبحث في طبيعة الإنسان وهنالك من علماء النفس من يحاولون ذلك ما وسعتهم المحاولات العلمية وبمقدار ما يمكن إخضاع الإنسان للتجارب العلمية، وهكذا قل في شتى الموضوعات التي هي علوم دقيقة أو في طريقها إلى أن تكون علوما دقيقة تتحدث بلغة الرياضة وصيغها الكمية، لا بلغة الأوصاف الكيفية التي تتوقف على ذات الإنسان المتغيرة.
وثانيها، وأهمها:
أن تنفض يديها من كل المباحث الميتافيزيقية نفضا؛ كان الفيلسوف اليوناني، وكان الفيلسوف في العصر الوسيط، وكان الفيلسوف حتى أول القرن العشرين من قرون التاريخ الحديث - كان هؤلاء جميعا - يبحثون عن مبادئ تنطبق على الوجود كله باعتباره كلا واحدا؛ لأن علماء تلك العصور نفسها كانوا يقيمون علومهم على هذا الفرض نفسه، وهو أن الوجود حقيقة واحدة متكاملة، وإذن فلم يكن على الفيلسوف ضير أن يعاون العالم على تحقيق هدفه، لم يكن الفيلسوف عندئذ نشازا في عصره، أما الآن وقد تغير الموقف بحيث أصبح العلم لا ينظر إلى الكون كله باعتباره حقيقة واحدة، بل ينظر إليه باعتباره كثرة وباعتباره متحركا متطورا، حتى الذرة الصغيرة دائبة الحركة والتغير، فكيف يجوز لفيلسوف معاصر أن ينسلخ عن علم العصر انسلاخا ليبحث عن حقيقة واحدة يقول عنها إنها حقيقة الوجود؟
لا، لم يعد للميتافيزيقا موضع قدم من ميدان الفلسفة المعاصرة؛ فكل ما هنالك «فيزيقا» وتحليلها، كل ما هنالك طبيعة يصفها العالم، ثم يأتي الفيلسوف فيجعل أقوال العالم موضوعا للتحليل والتوضيح.
Page inconnue