مقدمة
في النقد الأدبي
الشعر وألفاظه
النقد الأدبي بين الذوق والعقل
اللحظة المسحورة
الأدب العلمي
الليلة والبارحة
العرب والأدب المسرحي
شيوخ الأدب وشبابه
الفكر العربي المعاصر
Page inconnue
صفقة المغبون
قراءة الكتب
في الفلسفة
ثورة في الفلسفة المعاصرة
أسطورة الميتافيزيقا
وجهة الفكر المعاصر
الشك الفلسفي
المدرك الحسي
عينية ابن سينا
نزعتان
Page inconnue
في عالم الفلسفة
مقدمة
في النقد الأدبي
الشعر وألفاظه
النقد الأدبي بين الذوق والعقل
اللحظة المسحورة
الأدب العلمي
الليلة والبارحة
العرب والأدب المسرحي
شيوخ الأدب وشبابه
Page inconnue
الفكر العربي المعاصر
صفقة المغبون
قراءة الكتب
في الفلسفة
ثورة في الفلسفة المعاصرة
أسطورة الميتافيزيقا
وجهة الفكر المعاصر
الشك الفلسفي
المدرك الحسي
عينية ابن سينا
Page inconnue
نزعتان
في عالم الفلسفة
قشور ولباب
قشور ولباب
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
في هذا الكتاب مجموعتان من المقالات والأبحاث؛ إحداهما في النقد الأدبي، والأخرى في الفلسفة؛ وكل منهما يعرض مذهبي في موضوعه باختصار ودقة.
أما مجمل مذهبي في الأدب فهو أن الكاتب - مهما تكن الصورة التي اختارها لأدبه، شعرا أو قصة أو مسرحية أو مقالة - لا ينتج أدبا بمعناه الصحيح إلا إذا عبر عن ذات نفسه أولا، وإلا إذا جاء هذا التعبير - ثانيا - بحيث تتكامل أجزاؤه في بناء يكون بمثابة الكائن الفرد، الذي لا يشاركه في فرديته هذه كائن آخر من كائنات الوجود؛ فهذا التفرد هو من أخص خصائص الكائنات الحية، وكذلك ينبغي أن يكون من أخص خصائص الأثر الأدبي، لو أردنا حقا أن يجيء الأدب صورة من الحياة، ولم نقل هذه العبارة عبثا ولهوا.
ليس في عالم الأحياء - بل ولا في عالم الأشياء كلها - ما هو مجرد وعام؛ إذ كل ما هنالك أفراد، لكل فرد منها ما يميزه من سائرها؛ لكل فرد ما يميزه من بقية أفراد نوعه ودع عنك أفراد الأنواع الأخرى؛ وإنا لنحصل حاصلا إذا قلنا - مثلا - إن كل فرد من أفراد الناس يتميز ممن عداه، ولولا هذا التميز لما صح أن يكون نفسا قائمة بذاتها مسئولة عن فكرها وسلوكها؛ ليس هنالك «إنسان» بصفة عامة مطلقة مجردة، بل هنالك محمد وزينب، وما اللفظ العام «إنسان» إلا رمزا تواضعنا على أن نلخص به الآحاد الكثيرة ليسهل التفاهم، على ألا يغيب عنا أن حقائق الأحياء الجزئية المفردة لا شأن لها بمثل هذا التلخيص والتيسير في لغة التفاهم السريع.
Page inconnue
بل الفرد الواحد من أفراد الناس حياته سلسلة من حالات وجدانية، ولكل حلقة من هذه السلسلة ما يميزها من بقية الحلقات؛ فليس ما أشعر به الآن من ضيق نفسي هو نفسه الضيق النفسي الذي شعرت به أمس القريب أو أمس البعيد. إن حالتي النفسية الآن - مهما يكن مضمونها وفحواها - متفردة بخصائص أستطيع إدراكها لو وهبني الله موهبة الأديب الحق الذي يستطيع إدراك الخصائص التي تفرد الحالات والمواقف والأشخاص، وإذن فليس ما هنالك هو «ضيق نفسي عام» أحسه أنا ويحسه كل من ضاقت نفسه من أفراد البشر، بل الأمر في حقيقته حالات خاصة جزئية فريدة متميز بعضها من بعض، على الرغم مما بينها من تشابه يجيز لنا أن نجمع كل حزمة من المتشابهات في مجموعة واحدة ونطلق عليها اسما واحدا.
ولو وقف الرائي عند أوجه الشبه التي تجمع الأفراد في مجموعة واحدة، كان أقرب إلى العالم وأبعد عن الأديب؛ لأنه لو أراد له الله أن يكون أديبا بحق لاستوقفه من الأفراد - مهما يكن نوعها - ما يميزها ويخصصها، لا ما يطويها مع غيرها في مجموعة عامة الخصائص مجردة الصفات.
فالشاعر يكون شاعرا حين يلتفت إلى إحدى خبراته الوجدانية الذاتية، ثم يخرج هذه الخبرة الواحدة في بناء من اللفظ تتعاون أجزاؤه على إثارة مثل هذه الخبرة الوجدانية نفسها عند القارئ؛ فلو كنت شاعرا ونظرت إلى حالتي الوجدانية الراهنة - مثلا - وهي حالة من الضيق، لها عناصرها وخصائصها، لكن هذه العناصر والخصائص بالطبع تجتمع معا في نفسي لتتكون منها «خبرة واحدة»، ثم أردت إخراج هذه الحالة الداخلية ألفاظا ترص على الورق، وجب ألا تجيء هذه الألفاظ فرادى، بل وجب ألا تجيء العبارات المؤلفة من هذه الألفاظ عبارات فرادى، لا شأن للواحدة منها بالأخرى، بل ينبغي أن تتعاون على بناء كائن واحد، يصور الكائن الواحد الذي هو خبرتي الوجدانية؛ وإذن فمقياسنا في تقدير القصيدة من الشعر هو الإشارة إلى الخبرة الوجدانية الداخلية أولا، وثانيا إلى ما بين أجزاء القصيدة من ترابط يجعل منها بناء واحدا فريدا.
وقل شيئا كهذا في سائر الصور الأدبية؛ فعلامة القصة الجيدة أو المسرحية الجيدة هي تكامل الشخوص المصورة تكاملا يجعل منها أفرادا كهؤلاء الأفراد الأحياء الذين نراهم ونتحدث إليهم ويكون بيننا وبينهم حب أو كراهية، وعلامة المقالة الأدبية الجيدة أن تصور حالة وجدانية مرت بنفس الأديب بكل ما لها من خصائص تجعل منها حالة فريدة معدومة الأشباه، إذا أريد بالشبه كمال التماثل والتطابق.
أما إذا صاغ لنا الشاعر طائفة من القواعد العامة في سلوك البشر، وهو ما يسمونه «بالحكمة» حين يقولون عن شاعر إنه حكيم في شعره؛ وأما إذا استهدف القصصي أو الكاتب المسرحي أو كاتب المقالة مذهبا فكريا أو حقيقة عقلية يريد أن ينشرها في الناس لأنه يعتقد في صوابها، فذلك - في رأيي - قد يكون كلاما مفيدا نافعا له قيمته الكبرى في الرقي بالإنسان إلى ما شاء له الكاتب أن يرقى، لكنه لا يكون أدبا بالمعنى الخاص للأدب. •••
وأما في الفلسفة فإني أتبع فيها أصحاب المدرسة التحليلية بصفة عامة، والشعبة التجريبية العلمية المعاصرة منها بصفة خاصة؛ فأرى أن عمل الفيلسوف الذي لا عمل له سواه، هو أن يحلل الفكر الإنساني كما يبدو في العبارات اللغوية التي يقولها الناس في حياتهم العلمية أو في حياتهم اليومية على السواء، ليست مهمة الفيلسوف أن تكون له «آراء» في هذا أو في ذاك؛ لأن الرأي هو من شأن العلماء وحدهم؛ إذ لديهم دون سواهم أدوات البحث من مناظير ومخابير ومعامل وما إليها، بل مهمة الفيلسوف هي تحليل ما يقوله هؤلاء العلماء وتوضيحه، وهو يختار مما يقوله العلماء عبارات أو ألفاظا محورية أساسية ليلقي عليها الضوء بتشريحها إلى عناصرها الأولية، فإن أقام العلم - مثلا - بناءه على علاقة السبب بالمسبب، تناول الفيلسوف هذه العلاقة السببية بالتوضيح ، أو تحدث العلم عن كيفيات الأشياء وكمياتها، تولى الفيلسوف مدركات الكيف والكم بالتحليل، وهكذا.
وبديهي أن العالم يكون أقدر من سواه على تحليل الألفاظ الرئيسية التي ترد في علمه؛ ولذلك كان الأفضل دائما - وهذا الأفضل هو ما يحدث في كثير من الأحيان - أن يكون العالم هو نفسه فيلسوف علمه، وكل ما في الأمر أن يغير من وجهة سيره، فيسير إلى قاع البناء بدل أن يتجه إلى قمته؛ فلو كانت الأعداد - مثلا - هي نقطة الابتداء في السير، فالباحث عالم رياضي لو بدأ من هذه النقطة صاعدا نحو التركيبات المختلفة التي تتألف من هذه الأعداد، ولكنه يصبح فيلسوفا رياضيا لو بدأ أيضا من هذه النقطة نفسها هابطا إلى أسفل، بحيث يحلل الأعداد إلى عناصرها الأولية التي منها تتكون، وبهذا تكون الفلسفة امتدادا للعلم، ولكنه امتداد يسير في اتجاه مضاد.
ولو أخذنا بهذه النظرة إلى العمل الفلسفي لألقينا عن كواهلنا ما يثقلها من «مذاهب فلسفية» لبث الفلاسفة يدورون فيها قرونا من الزمن، لا فرق بين آخرهم وأولهم؛ وكيف يكون بينهما فرق وهما لا يتعاونان على بناء واحد، بحيث يبني أولهما الطابق الأرضي ويبني الآخر طابقا أعلى، بل «يذهب» كل منهما «مذهبا» كالتائه في الصحراء لا يساير زميله في درب واحد؟ •••
لما هممت بنشر هاتين المجموعتين من الأبحاث والمقالات في هذا الكتاب الذي أقدمه الآن للقارئ، راجعت ما تراكم عندي من هذه المقالات والأبحاث، فوجدتها متفاوتة في أزمانها تفاوتا بعيدا أو قريبا؛ فمنها ما كتبته منذ أكثر من عشرين عاما - نشر أو لم ينشر - ومنها ما كتبته منذ أقل من عام واحد؛ فالبحث الذي صدرت به الجزء الخاص بالنقد الأدبي ترجمة للمقدمة المشهورة التي قدم بها وليم وردزورث ديوانه عن الحكايات الوجدانية المنظومة، وشرح فيه وجهة نظره إلى الشعر وألفاظه؛ وقد ترجمت هذه المقدمة منذ خمسة وعشرين عاما، ولم أنشرها، وها أنا ذا أنشرها كما وجدتها بين أوراقي؛ لأنها - فيما أعتقد - ستصادف جوا فكريا ملائما، في هذا الوقت الذي يصطرع فيه نقادنا حول معايير الشعر، وكذلك مقالة «عينية ابن سينا» كتبتها - ونشرتها - منذ أكثر من عشرين عاما، فيما أذكر؛ ولذلك سيراها القارئ نشازا في نغمتي الفلسفية الراهنة.
هكذا تفاوتت أزمان هذه المقالات والأبحاث، لكنها في مجموعها تصور - كما قلت - مذهبي في الأدب ومذهبي في الفلسفة تصويرا موجزا دقيقا.
Page inconnue
زكي نجيب محمود
الجيزة في يونيو 1957م
في النقد الأدبي
الشعر وألفاظه
لوليم وردزورث (1770-1850م)(مقدمة الطبعة الثانية لديوان الحكايات الغنائية المنظومة، سنة 1800م)
يعد هذا المقال دستورا للشعراء الرومانسيين (الابتداعيين) كتبه زعيم الشعر الرومانسي في إنجلترا في بداية القرن التاسع عشر، نقدمه إلى الشعراء المحدثين في البلاد العربية لعله أن يوجه ويعين. ***
قد أذعت في القراء قبل اليوم الجزء الأول من هذه الأشعار، وكنت أرجو حين أذعته، أن يكون تجربة أستعين بها بعض العون في أن أستيقن الى أي حد أستطيع - إذا أنا صغت في قوالب العروض صفوة مختارة من كلام الناس كما هو، ما دامت تتوافر فيه قوة الإحساس - أن أتيح تلك اللذة، نوعا ومقدارا، التي يحرص الشاعر صائبا أن يهيئها لقارئه.
ولعلني لم أسرف في تجاوز الدقة حين قدرت ما عساه أن يكون لتلك القصائد من أثر؛ فلقد كنت أتملق نفسي بأن من تقع أشعاري منهم موقع الرضى، سيتلونها في لذة تربي على ما ألفوه من لذة، كما أنني كنت من الناحية الأخرى على يقين أن من تصادف منهم السخط سيقرءونها في كره يجاوز ما عهدوه من كره. ولم تختلف النتيجة عما توقعت إلا في أن رضي عن شعري من الناس عدد أوفر مما رجوت أن أرضي. •••
إن كثيرين من أصدقائي ليتمنون لهذه الأشعار توفيقا؛ إذ يؤمنون أنه لو صدقت بالفعل وجهة النظر التي على أساسها أنشئت هذه القصائد، لنتج ضرب من الشعر يصلح أن يكون للإنسانية متاعا لا ينقطع، دون أن يكون غثا في جودته أو ضحلا في نوازعه الخلقية؛ لهذا ودوا إلي أن أنسق بين يدي ديواني دفاعا عن المذهب الذي نظمت على وفقه هذه الأشعار، ولكني أبيت أن أتصدى لهذا العمل، موقنا أن القارئ حينئذ سيلقي على دفاعي نظرة باردة، متهما إياي أن ما قد حدا بي إلى الدفاع، هو قبل كل شيء أمل أناني أحمق، في أن أغريه بأدلة المنطق بامتداح هذه الأشعار بذاتها، ثم ازددت إعراضا عن العمل حين تبينت أنني إن بسطت رأيي بسطا دقيقا، وسقت الأدلة شاملة، لاقتضى الأمر حيزا أبعد ما يكون صلاحية لمقدمة ديوان؛ فلو أنني عالجت الموضوع بما قد يستدعيه من وضوح واتصال، لوجب أن أستعرض ذوق الناس الراهن في هذا البلد، وأن أقرر مدى سلامة هذا الذوق أو فساده، ولا يتيسر البت في ذلك بغير الإشارة إلى النحو الذي يجري عليه التفاعل بين اللغة وعقل الإنسان، وبغير أن أتعقب ما أصاب منها المجتمع نفسه كذلك؛ لهذا أبيت إباء قاطعا أن أتصدى لمثل هذا الدفاع الشامل المنسوق، ولكني مع ذلك أحس في الأمر شيئا من عدم اللياقة، إن فجأت الجمهور بإقحامي فيهم هذه القصائد التي تختلف أشد اختلاف عن القصائد التي تظفر اليوم باستحسان الناس، دون أن أتقدم إليهم بكلمات قلائل.
لقد تواضع الناس على أنه إذا عمد المؤلف فيما يكتب إلى النظم، فإنه بذلك يقطع على نفسه عهدا أن يرضي للجماعة سننا معلومة جرت عليها؛ فهو لا يقتصر في عهده أن يعد للقارئ بأنه لا بد مصادف في ديوانه طائفة معينة من المعاني وطرائق التعبير، بل يعده كذلك أنه كان حريصا أن يتجنب ما عدا تلك الطائفة من معان وألفاظ. ولا بد أن يكون هذا الأساس المفروض أو هذا المثال المحتوم، الذي يلزم أن يكون للشعر لغة خاصة، قد اختلف عند الناس معناه باختلاف عصور الأدب، فأراد الناس بلغة الشعر في عهد «كاتولوس
Page inconnue
Catullus » مثلا غير ما أريد بها في عهد «ترنس
Ternce »، كما قصدوا بلغة الشعر في عصر «ليوكريتيوس
Lucretius » معنى يباين ما قصدوا إليه في عصر «ستاتيوس
Statius » أو «كلوديان
Claudian » كذلك اختلف في بلدنا نحن ما أريد بلغة الشعر في عصر «شيكسبير» و«بومنت
Beaumont » و«فلتشر
Fletcher » عنه في عهد «دن
Donne » و«كولي
Cowley » و«دريدن
Dryden » و«بوب
Page inconnue
». ولن آخذ على نفسي أن أحدد تحديدا دقيقا أي وعد في عصرنا هذا يتعهد به المؤلف لقارئه، إذا صاغ ما يكتب في كلام منظوم، ولا سبيل عندي إلى الشك في أن نفرا كثيرا سيخيل إليه أني لم أوف بعهود الميثاق الذي أخذت به نفسي طواعية حين نظمت هذا الشعر؛ فأولئك الذين ألفوا أن يسمعوا من كثير من الكتاب الحديثين ألفاظا مزخرفة جوفاء، سيضطرون بلا ريب في غير قليل من المواضع - إن هم صبروا في تلاوة هذا الديوان حتى ختامه - أن يجاهدوا شعورهم بما يصادفون من غرابة ونبو. إنهم سيتلفتون حولهم باحثين عن الشعر، ويودون لو يسألونني أي ضرب من التجوز قد أباح لهذه المحاولات أن تنتحل لنفسها هذا العنوان. فأرجو إذن ألا ينحو علي القارئ باللائمة إذا حاولت أن أبسط ما التزمت أمام نفسي أن أؤديه؛ وأن أشرح كذلك (ما سمحت لي حدود المقدمة بذلك) بعض الدوافع الأساسية التي حدت بي أن أنحو إلى ما نحوت إليه من غرض؛ فبذلك يستطيع القارئ على الأقل أن يجنب نفسه شعورا كريها بخيبة الرجاء، وأستطيع أيضا أن أتقي نقيصة من أشنع ما يرمى به الكاتب من نقائص، ألا وهي التراخي، الذي يمنعه أن يستيقن ما واجبه، فإن كان ذلك الواجب بين المعالم منعه التراخي أن يؤديه.
إذن فالغرض الأساسي الذي قصدت إليه بهذه الأشعار، أن أنتزع من الحياة العامة أحداثا ومواقف، أصفها أو أرويها، من أولها إلى آخرها، في نخبة مختارة من الألفاظ، التي يستخدمها الناس في حياتهم الواقعة، ما استطعت إلى ذلك سبيلا، ثم أخلع عليها في الوقت ذاته لونا من الخيال، الذي يجب أن نكسو به الأشياء المألوفة حين نقدمها إلى العقل، لكي تصبح خلابة المظهر، وبعد ذلك، بل وفوق ذلك كله، أخلق المتعة في تلك الحوادث والمواقف، بأن أجريها - بالحق لا بالمظهر الخادع - وفق النواميس الأساسية للطبيعة الإنسانية، وأهمها ما يتعلق منها بالطريقة التي يستقبل بها الإنسان الأفكار وهو ثائر النفس. ولقد آثرت بصفة عامة حياة الريف الساذجة المتواضعة؛ لأن ذلك الضرب من الحياة يهيئ للعواطف القلبية المتأصلة تربة أصلح لاكتمال نضوجها؛ إذ لا يثقلها بأغلاله، فتجري بمكنونها الألسنة أصرح لفظا وأفعل أثرا؛ وكذلك آثرت حياة الريف لأن مشاعرنا الأولية تكون فيها أقل تعقيدا فنستطيع أن نتأملها على نحو دقيق، وأن ننقلها للقارئ في صورة أروع، ومن تلك المشاعر الأولية تنبت الأخلاق الريفية؛ فهي أيسر استساغة وأبقى على الزمن لطبيعة أعمال الناس في الريف؛ وأخيرا آثرت لشعري تلك الحياة لأنها تتيح للعواطف الإنسانية أن تندمج في مظاهر الطبيعة الجميلة الخالدة. وقد استخدمت كذلك لغة هؤلاء القوم (وإن كنت قد صفيتها مما يبدو معيبا حقا، ومما يدعو الناس إلى دوام بغضها ومقتها من أسباب معقولة) لما لهؤلاء الناس من صلات لا تنقطع بآيات الكون الفاتنات التي منها اشتققنا في البداية أروع أجزاء اللغة؛ ولأنهم بحكم منزلتهم في الجماعة، وتشابه حياتهم وضيق أفقها، وبعدهم عن التأثر بزيغ المجتمع، يبثون مشاعرهم وخواطرهم في عبارات ساذجة لا زخرف فيها؛ لذلك كانت هذه اللغة الساذجة التي نشأت من التجربة المتكررة والمشاعر المطردة، أطول بقاء وأعمق فلسفة تلك التي كثيرا ما يستبد بها الشعراء، الذين يحسبون أنهم يضيفون إلى أنفسهم وإلى فنهم شرفا بمقدار ما يباعدون بين أنفسهم وبين عواطف الناس، وما يغوصون في طرائق التعبير الحائرة التي يفرضونها فرضا؛ رغبة في أن يهيئوا بها طعاما لأذواق متحولة ورغبات متقلبة هي صنيعة أيديهم.
1
ولكني مع ذلك لا يجوز أن أصم آذاني عن الصيحة التي تتردد اليوم مستنكرة إسفاف العبارة وتفاهة المعنى التي يصطنعها أحيانا بعض المعاصرين فيما ينظمون من شعر؛ وإني لأعترف أن هذه النقيصة، حيثما وجدت، أجلب للضعة إلى شخص كاتبها من ذلك الصقل المزيف والطرافة الممجوجة؛ غير أني في الوقت نفسه أؤكد أن نتائج الأولى في مجموعها أهون من الثانية شرا. على أن القارئ سيتبين في قصائد هذا الديوان ما يميزها من تلك الأشعار بوجه واحد من وجوه الاختلاف على أقل تقدير؛ وذلك أني نشدت في كل قصيدة من قصائدي غرضا نبيلا . ولست أعني بذلك أني كنت أبدأ الكتابة دائما وفي نفسي غرض محدود أدرك هيكله، ولكن إطالة التفكير، فيما أعتقد، كانت تستثير مشاعري وتنظمها، بحيث جاءت القصائد الوصفية، التي تتناول من الأشياء ما يثير تلك المشاعر إثارة عنيفة، ولها غرض تقصد إليه، فإن تبين بطلان هذا الرأي فليس لي إلا أصغر الحق في أن أكون شاعرا، فما الشعر الجيد بأسره إلا فيض المشاعر القوية من تلقاء نفسها. على أنه، وإن كان هذا حقا، فإن القصائد التي تستحق شيئا من التقدير، مهما اختلف موضوعها، لم ينظمها قط إلا رجل، فضلا عما أوتيه من حس مرهف ممتاز، قد أطال التفكير وغاص إلى أعماقه؛ وذلك لأن فكر الإنسان يشكل مجرى شعوره المتدفق المتصل ويأخذ بزمامه؛ ذلك الفكر الذي إن هو في حقيقة الأمر إلا صورة تمثل كل ما مضى بنا من مشاعر. وكما أن الإنسان إذا أنعم الفكر فيما يربط تلك الصور الذهنية العامة بعضها ببعض من صلات، تبين له من العلم ما يهمه في حياته، فكذلك إن هو عاود هذا التفكير وواصله فإن مشاعره سترتبط بتلك الحقائق الهامة ارتباطا ينتهي به، إذا كان ذا طبيعة موهوبة بالحساسية الخصبة، إلى اكتساب عادات عقلية من شأنها - إذا أطاع دوافع تلك العادات إطاعة آلية عمياء - أن تمكنه من وصف الأشياء والتعبير عن العواطف التي تنير عقل القارئ إلى حد ما وتزيد من عاطفته قوة وصفاء، بحكم طبيعتها واتصال أجزائها.
لقد سبق لي القول إن لكل قصيدة من هذه القصائد غرضا. ولا بد أن أشير إلى ناحية أخرى تمتاز بها هذه الأشعار عما يسود في هذا العصر من شعر، وهي أن ما بثثت في القصيدة من شعور يزيد في جلال الحادث أو الموقف، وليس الموقف أو الحادث هو الذي يضيف إلى الشعور ما له من جلال.
ولن يمنعني التواضع الزائف أن أقرر أن ما يدفعني إلى توجيه نظر القارئ إلى هذه الصفة المميزة هو خطورة الموضوع في إجماله أكثر منه عنايتي بهذه القصائد بذاتها. ألا إنه لموضوع خطير حقا! إذ في مقدور العقل البشري أن يتأثر دون أن يتعرض للبواعث القوية العنيفة، وإن من لا يعلم هذا، ومن لا يعلم فوق هذا أن الأحياء تتفاوت سموا بمقدار ما أوتيت من هذه المقدرة، فلا بد أن يكون ضعيف الإدراك جدا لما للعقل من جمال وجلال؛ لهذا يلوح لي أن الجهد في إنشاء هذه الملكة أو إرهافها خدمة جلى جديرة أن تشغل الكاتب في أي عصر، غير أن هذه الخدمة إن كانت جليلة في كل العصور، فهي أكثر جلالا في عصرنا هذا، حيث تتآزر اليوم طائفة الأسباب التي لم تعرفها الأعصر السالفة على أن تثلم ما يميز من قوى، وأن تفقده القدرة على النهوض بمجهوده طواعية، حتى إنها لتوشك أن تعود به إلى حالة من العقم المخيف. وأبلغ هذه الأسباب أثرا ما ينتاب هذا الوطن من جسام الحوادث التي تتجدد كل يوم، واحتشاد الناس المتزايد في المدن، الذي أنشأ فيهم - نتيجة لاطراد ما يؤدونه من عمل - رغبة قوية في الشاذ من الحوادث، التي إن وقعت، تضخمت ساعة بعد ساعة لسرعة تناقل الخبر في الناس. ولقد آلى الأدب والمسرح في هذا البلد على نفسيهما أن يسايرا هذه النزعة من الحياة والأخلاق. إن الآثار القيمة التي خلفها الأسلاف من كتابنا، وكدت أعين تآليف شيكسبير وملتن، لتنحدر إلى الإهمال أمام سيل من القصص الهوجاء والمآسي الألمانية المملة الباردة، وطوفان من القصص المنظومة الجوفاء المسرفة في غلوها. إنني إذا ما فكرت في هذا التعطش المخجل المشين من البواعث، كدت أستحي خجلا مما تحدثت به عن المجهود الضعيف الذي بذلته في هذه الدواوين لأقاوم ذلك الاتجاه. كذلك إذا فكرت في فداحة الشر وشموله لما أثقلت نفسي بما يحز فيها من أسف لهذا الشين، لو لم أكن ثابت اليقين بما للعقل البشري من صفات موروثة تستعصي على الفناء، وبالقوى التي تكمن في الأشياء الجليلة الخالدة التي تؤثر في العقل ولا تقل عنه في نظرتنا رسوخا واستعصاء على الزوال، لم أكن لأثقل نفسي بذلك الأسف لولا ذلك اليقين الثابت ، وإلى جانبه إيمان بأن قد اقترب اليوم الذي يقاوم فيه السوء مقاومة منظمة رجال أعظم عبقرية وأشد توفيقا.
أما وقد أطلت الوقوف عند موضوع هذه القصائد وغرضها، فإني أستأذن القارئ أن أحيطه علما بقليل مما يتصل بأسلوبها بسبب، وإنما أقصد بهذه الإحاطة إلى أشياء كثيرة، منها ألا يأخذ علي القارئ أني لم أؤد شيئا لم أحاول أداءه قط؛ فإنه قل أن يصادف في هذا الديوان تجسيدا للمعاني المجردة، التي أبيت إباء قاطعا أن أستخدمها - كمألوف الشعراء - لتسمو بالأسلوب وترفعه فوق مستوى النثر. إذا أردت أن أقلد لغة الناس وأن أقتبس منها ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وإنه مما لا ريب فيه أن مثل هذا التجسيد لا يكون من لغة الناس جانبا، لا طبعا ولا تطبعا. نعم هو لون من ألوان البيان قد تستنيره العاطفة الحين بعد الحين؛ ولذا فقد استخدمته بهذا الاعتبار وحده، ولكني جاهدت أن أطرحه وراء ظهري باعتباره طريقة آلية من طرائق التعبير، أو باعتباره لغة تسود بين جماعة الشعراء، الذين يودون فيما يظهر أن تصبح هذه اللغة خاصة بالشعر في شيء من التحتيم. إنني حريص أن أتيح للقارئ صحبة من لحم ودم، مؤمنا أني بهذا الصنيع أهيئ له شيئا من المتاع؛ وإن سواي ممن يسلكون سبيلا غير هذه السبيل ليودون أيضا أن يبعثوا في نفس القارئ لذة كما أفعل، ولا يعنيني ما يزعمون من دعوى، ولكني أريد أن أؤثر لنفسي دعواي. كذلك لن يصادف القارئ في هذا الكتاب إلا قليلا مما يسمى عادة بألفاظ الشعر، فقد عانيت نصبا أن أتجنبها بقدر ما يعاني سواي أن يصطنعها؛ وإنما فعلت ذلك للسبب الذي سبقت إشارتي إليه، وهو أن أدنو بلغتي من لغة الناس، فضلا عن أن اللذة التي أخذت على نفسي أن أهيئها في شعري لتختلف في نوعها أشد اختلاف عن اللذة التي يظن كثيرون أنها غرض الشعر الصحيح. وإذا أردت ألا أتورط في خطيئة التخصيص فلست أدري كيف أصف لقارئ الأسلوب الذي وددت واعتزمت أن أكتب فيه، وصفا أدق من القول بأنني جاهدت دائما أن أضع موضوعي نصب عيني فلا أحول عنه النظر، فجاءت نتيجة ذلك أن لم تحو هذه القصائد، فيما آمل، إلا قليلا من الزيف في الوصف ولقد صغت خواطري في عبارة تكافئ ما لها من شأن عظيم. ولا بد أن أكون بعد هذه المحاولة قد ظفرت بشيء يلازم إحدى خصائص الشعر الجيد، ألا وهو المعنى الجيد، ولكن تلك المحاولة قد أبعدتني بالضرورة عن كثير من الصبغ وألوان البديع التي طالما عددناها، خلفا بعد سلف، إرثا مشاعا بين الشعراء. ولقد ذهب بي الظن كذلك ألا مندوحة عن التزام قيد آخر، إذ لم أبح لنفسي أن تستخدم كثيرا من العبارات الجيدة الرائعة في حد ذاتها ولكن لاكتها ألسنة الحثالة من الشعراء في غباء، حتى أحيطت بشعور الابتذال الذي يكاد يستحيل على أي فن من فنون المعاني أن يمحوه.
فلو قد جاء في إحدى القصائد مجموعة من الأبيات، بل قل لو جاء فيها بيت واحد، مما تشبه لغته لغة النثر سوى أنها منسوقة بطبيعتها وفق قواعد العروض الدقيقة، وثبت طائفة من النقاد عديدة النفر، دأبها إذا ما عثرت على أسطر من هذا الشعر المنثور كما يسمونه، وصورت لنفسها أنها استكشفت أمرا خطيرا، وأخذت تبتسم للشاعر كأنه رجل جاهل بفنه، فالقاعدة التي يجري عليها هؤلاء النقاد في نقدهم لا مندوحة للقارئ عن رفضها رفضا باتا إذا أراد أن ينعم بهذا الديوان. وإنه لمن أيسر الأمور أن نقيم له الدليل على أن شطرا عظيما من كل قصيدة جيدة، ولا تستثن من ذلك أبرع القصائد وأسماها، لا مفر من أن تستوي اللغة فيه مع لغة النثر الجيد إلا في أن الكلام منظوم، وليس هذا فحسب بل إن أروع الأجزاء في أبرع القصائد هي ما جرت في لغتها مجرى النثر إذا أجيدت كتابته. ونستطيع أن نقيم الحجة على صحة هذا القول بأمثلة لا عدد لها من آثار الشعر كلها تقريبا، بل مما نظمه ملتن نفسه. وتوضيحا للموضوع بصفة عامة سأسوق أسطرا قلائل من شعر «جراي
Gray » الذي كان في مقدمة الذين حاولوا بما ارتأوا من سبل أن يبعدوا مسافة الخلف بين ألفاظ النثر وألفاظ الشعر، وكان أكثر من غيره صقلا لديباجة شعره:
2
Page inconnue
عبثا لنفسي تشرق الأصباح الباسمة،
وترفع الشمس الدامية نارا من نضار،
وعبثا تتغنى الأطيار بأناشيد حبها،
أو تسترد الحقول النضيرة رداءها الأخضر؛
فهاتان الأذنان، وا أسفاه! تحن شوقا لأنغام أخر، ⋆
وهاتان العينان تتطلبان من المناظر غير ما تريان. ⋆
إن شقوتي في وحدتي لا تذيب قلبا غير قلبي؛ ⋆
فإن تافه المتاع قد انبت في صدري،
ولكن الصبح يبتسم ليحيي العاملين،
فيكون للهائمين منه متاع جديد،
Page inconnue
وتنفح الحقول الناس قاطبة بنفحة معهودة،
والأطيار تتشاكى لتلهب قلوبها الصغيرة، ⋆
وأنا أبكي عبثا لغير سميع، ⋆
فأشتد بكاء كلما رأيت عبث البكاء.
وتستطيع في غير عسر أن ترى أن ما يستحق التقدير في هذه المقطوعة الشعرية هي الأسطر المرقومة وحدها، وهي لا تختلف في لغتها عن النثر في شيء.
3
يتبين من هذا المثال السابق أن لغة النثر يجوز أن تستخدم في الشعر، ولقد زعمنا فيما سلف أن ألفاظ الشطر الأعظم من روائع الأشعار لا تختلف عن ألفاظ النثر الجيد في شيء، فلنخط إذن إلى الأمام خطوة فنؤكد تأكيدا لا يأتيه الباطل أن ليس ثمة، بل يستحيل أن يكون ثمة فارق جوهري بين لغتي النثر والشعر. إننا نميل إلى تعقب أوجه الشبه بين الشعر والتصوير حتى عددناهما تربين؛ فأين عسانا أن نجد من الروابط الوثيقة ما يكفي أن يجلو الصلة بين لغتي النثر والنظم؟ فكلاهما تنطقهما أداة بعينها وكلاهما يخاطب عضوا بعينه، ويمكن القول إن ما يكسو كليهما من الجسد قوامه مادة بعينها، ونزعتاهما متقاربتان بل تكادان تكونان متطابقتين، وليس يلزم بالضرورة أن يختلفا حتى من حيث الدرجة. إن الشعر
4
لا يهمي من العبرات «ما يشبه عبرات الملائكة» ولكنه يسفح دمعا آدميا طبيعيا. إنه لا يستطيع أن يفاخر النثر بأن دماء مقدسة تجري في عروقه فميزت دماءه من دماء النثر؛ إذ يدب في عروقهما على السواء دم بشري واحد.
فلو أقيم لي الدليل على أن القافية والوزن وحدهما يكونان فارقا يعكس ما زعمناه الآن من تشابه دقيق بين لغتي الشعر والنثر، ويمهد الطريق لفوارق أخرى مصطنعة يسلم بها العقل راضيا، لأجبت أن لغة هذا الشعر الذي أقدمه في هذا الديوان نخبة اختيرت بقدر المستطاع من لغة الناس كما ينطقون بها؛ فهي حيثما صيغت في ذوق سليم وشعور صادق تميز نفسها بنفسها أكثر جدا مما تظن عند الوهلة الأولى، ويكون فيها الفارق الذي يباعد مباعدة تامة بينها وهي مصوغة في الشعر وبين حوشية الحياة العادية وضعتها. وإني لأومن أنه بإضافة الوزن إلى تلك اللغة ينشأ فارق يكفي لإقناع العقل المنطقي، ولكن ترى هل ثمة فارق آخر؟ أنى عسى أن يجيء؟ وأين ينتظر أن يكون؟ يقينا إنه لن يكون حيث ينطق الشاعر على ألسنة أشخاصه؛ فها هنا لا تحتم الضرورة ذلك الفارق، لا من حيث التسامي بالأسلوب ولا من حيث ما يزعمون له من زخرف؛ إذ لو كان الشاعر موفقا في اختيار شخصه، فإنه سيتأدى بحكم ذلك الشخص وفي الفرصة الملائمة، إلى عواطف لو انتقيت عبارتها في صدق وفطنة، لجاءت نبيلة وبارعة وحية بما تحوي من ألوان البيان والبديع. وإني لأمسك هنا عن الحديث فيما يصيب القصيدة من تشويه يصعق له القارئ الذكي، إذا ما خلط الشاعر في شعره أبهة يضيفها من عنده إلى ما توحي به طبيعة العاطفة، وحسبي أن أقول إن هذه الإضافة لا تحتمها الضرورة، ويقيني أنه من الجائز جدا أن يكون لتلك العبارات التي تزخرفها ألوان البديع والبيان زخرفة منسقة ما هي جديرة به من أثر، على أن تساق في مواضع غير هذه، حيث تكون العواطف رخية قليلة العنف، على شريطة أن يجيء الأسلوب كذلك طيعا هادئا.
Page inconnue
ولما كانت اللذة التي أرجو أن أهيئها بأشعاري التي أقدمها اليوم للقارئ، إنما تعتمد كل الاعتماد على صحة الرأي في هذا الموضوع الذي هو في ذاته ذو شأن عظيم في ذوقنا وشعورنا؛ فليست تكفيني هذه الملاحظات المفككة. وإذا كنت في رأي بعض الناس، بما أشك أن أقوله، إنما أؤدي عملا لا حاجة إليه، وأنني كمن يحارب موقعة بغير أعداء، فلا بد أن أذكر أمثال هؤلاء أنه مهما تكن لغة التفاهم بين الناس، فإن العقيدة العملية بالرأي الذي أريد أن أسوقه تكاد تكون مجهولة. أما إذا قوبلت آرائي بالتسليم ثم ذهبت في تطبيقها إلى الحد الذي يجب أن تذهب إليه ما دامت قد ووفق عليها، فإن أحكامنا على آثار العباقرة من الشعراء قديمهم وحديثهم ستختلف اختلافا بعيدا عما هي عليه الآن، ستختلف في المدح والقدح على السواء، كما أن مشاعرنا الخلقية التي تؤثر وتتأثر بهذه الأحكام ستصح وتصفو فيما أعتقد.
فلننظر إلى الموضوع من حيث أسسه العامة، وليسمح لي القارئ أن أسأل: ماذا نعني بكلمة «شاعر»؟ من هو الشاعر؟ ومن ذا يخاطب بشعره؟ وأي عبارة ترجى منه؟ هو إنسان يخاطب الناس، حقا إنه لرجل أوتي حسا أرهف وحماسة أحر وشعورا أرق ودراية أشمل بطبيعة البشر ونفسا أوسع أفقا مما يحتمل أن يكون لعامة الناس. إنه رجل تسره عواطفه ونوازعه، ويغتبط أكثر مما يغتبط سائر الناس لروح الحياة التي تدب فيه، ويمتعه أن يفكر في العواطف والنوازع التي تشبه ما له منها والتي تتجلى في جوانب الكون، وكثيرا ما يضطر إلى خلقها إن لم يجدها، ثم يتميز الشاعر فضلا عن هذه الصفات بميل إلى التأثر أكثر ممن عداه بالأشياء الخافية كأنها بادية لناظريه، كما أن له مقدرة في أن ينشئ في نفسه عواطف هي في حقيقة الأمر أبعد شبها بالعواطف التي تنشأ بما يقع فعلا من الحوادث، ولكنها مع ذلك (وبخاصة فيما يسر ويمتع من نواحي العاطفة العامة) أكثر شبها بالحوادث التي تثيرها الحوادث الواقعة، مما تعود سائر الناس أن يحسوا في أنفسهم بفعل عقولهم وحدها؛ لهذا ولما يكتسب من مران تراه أشد استعدادا وأعظم مقدرة على التعبير عما يفكر فيه وما يشعر به، وبخاصة تلك الخواطر والمشاعر التي تنزو في نفسه بمحض اختياره أو بطبيعة تركيب عقله ، دون أن يثيرها مؤثر خارجي مباشر.
ولكن مهما أوتي أعظم الشعراء من هذه الملكة، فلا سبيل إلى الشك في أن ما يوحى إليه من لغة لا بد أن يكون في أغلب الأحيان أقصر مدى في صدقه وحيويته من اللغة التي ينطق بها الناس في الحياة الواقعة، متأثرين بتلك العواطف الحقيقية التي تارة ينشئ الشاعر في نفسه بعض ظلالها، وتارة يحس أنها قد نشأت في نفسه بذاتها.
إنه مهما اشتد إعجابنا بشخصية الشاعر فلسنا نرتاب في أنه وهو يصف العواطف أو يحاكيها فهو إنما يؤدي عملا آليا إلى حد ما بالقياس إلى الحرية والقوة اللتين تكونان في الفعل أو الألم في الحقيقة والواقع. حتى إن الشاعر ليرجو أن يدنو بشعوره من شعور الأفراد الذين يصف شعورهم. لا، بل إنه ليود أحيانا أن يفلت بنفسه ولو إلى فترة وجيزة من الزمن، فيغوص في وهم نفسه لكي يمزج بل يطابق بين شعوره وشعورهم، وهو في أثناء ذلك لا يزيد على أن يصوغ اللفظ الذي يوحى إليه به؛ بقصد أنه إنما يصف لغرض معين، وذلك أن يتيح للقارئ لذة. وهنا إذن تراه يطبق قاعدة الاختيار التي أطلنا فيها القول سابقا؛ فهو باختياره ما يختار سيتمكن من أن يمحو من العاطفة جوانبها المفكرة المؤذية، وسيحس أن ليس ثمة حاجة إلى مخادعة الطبيعة أو إلى التسامي بها؛ فإنه كلما أمعن في تطبيق تلك القاعدة ازداد إيمانا أن ليس بين الألفاظ التي يوحيها إليه خياله أو وهمه ما يدنو من الألفاظ التي انبعثت من الصدق والواقع.
ولكن قد يزعم الذين لا يجادلون في صحة هذه الملاحظات من حيث جوهرها العام أنه ما دام مستحيلا على الشاعر أن يجد في كل الظروف عبارة تتكافأ مع العاطفة التي يعبر عنها تكافؤا دقيقا بحيث تجيء في قوة العبارة التي تنبعث من العاطفة الحقيقية حين تختلج في نفس صاحبها، فلا جناح عليه أن يقف موقف المترجم الذي لا يضيره أن يستبدل بما يعجز عن ترجمته أفكارا بارعة ولكنها تختلف عن الأصل المنقول، ولا غضاضة أن يحاول حينا بعد حين أن يسمو عن ذلك الأصل لكي يعوض عجزه الذي لا حيلة له فيه، ولكنا لو سمحنا للشاعر بذلك كان مدعاة للكسل واليأس الذي ينافي الرجولة الصحيحة، هذا فضلا عن أن تلك حيلة من ينطقون بما لا يفهمون، والذين يتحدثون عن الشعر كأنه وسيلة للتسلية واللهو السخيف، أولئك الذين سيجادلوننا في ذوق الشعر، على حد تعبيرهم، بنفس الجد الذي يجادلون به في توافه الأمور، كذوق الألعاب البهلوانية، أو ألوان الخمر المتباينة. لقد أنبئت أن أرسططاليس قال عن الشعر إنه أعمق ألوان الكتابة فلسفة؛ وإنه لكذلك بلا ريب. إنه ينشد الحق، ولست أعني الحق الذي يرتبط بفرد من الناس أو بمكان من الأرض، ولكني أقصد الحق العام ذا الأثر الفعال، نعم لست أعني الحق الذي يعتمد صدقه على برهان خارجي عنه، بل أقصد الحق الذي تسكبه العاطفة في القلب حيا نابضا؛ أقصد الحق الذي ينهض بنفسه على نفسه دليلا لصدقه، الحق الذي إذا احتكم في أمره إلى قاض ألهمه الثقة واليقين واستمد منه بدوره ثقة ويقينا. الشعر هو صورة الطبيعة والإنسان، وإن العثرات التي تعترض سبيل المؤرخ والراوية اللذين يتوخيان الأمانة فيما يكتبان، والتي تعترض سبيل القراء فيما بعد، لأشد هولا مما ينبغي على الشاعر أن يذلله من عقبات، لو كان الشاعر يدرك ما لفنه من جلال. إن الشاعر لا يلتزم فيما يكتب إلا قيدا واحدا؛ إذ يتحتم عليه أن يتيح الطرب بشعره لكائن من كان من البشر إذا ما توافر لديه من المعرفة ما يفرض فيه. ولست أعني بتلك المعرفة علم المحامي أو الطبيب أو الملاح أو الفلكي أو الفيلسوف الطبيعي، ولكنني أقصد معرفة الإنسان باعتباره إنسانا، فإذا استثنيت هذا القيد الواحد لما ألفيت من العوائق ما يحول بين الشاعر وبين تصوير الأشياء، في حين أن آلافا من تلك الحوائل تتوسط بين المؤرخ أو الراوية وبين ذلك التصوير.
ولا تظنن أن في إلزام الشاعر أن يهيئ لقارئه لذة مباشرة بشعره حطا من قدر فنه، بل إنه على نقيض ذلك اعتراف بجمال الوجود اعترافا يزيد من صدقه أنه صريح لا مواربة فيه؛ وإن تيسير تلك اللذة لعمل يسهل ويهون على من ينظر إلى العالم نظرة ملؤها الحب، فضلا عن أنه فريضة واجبة يؤديها إجلالا للإنسان من حيث هو إنسان، فريضة يؤديها في سبيل اللذة التي هي من بنائنا أس جوهري عظيم؛ فباللذة يعلم الإنسان ويحس ويعيش ويسعى. إن الإنسان لا يعاطف الإنسان إلا فيما يوفر له السرور، ولست أحب أن يخطئ القارئ فهم ما أريد؛ فحيثما نشاطر الناس ما يشعرون من ألم فإنما تنشأ تلك المشاركة وتتصل بفعل الروابط الدقيقة التي تربطها بإحساس اللذة؛ فإننا لم نحصل من العلم، وأقصد به المبادئ العامة التي استقيناها من التفكير في الحقائق الجزئية، اللهم إلا ما استعنا على تكوينه بشعور اللذة، ثم لا يستقر في نفوسنا هذا العلم المتحصل إلا بما نحس نحوه من لذة كذلك. وإن العلماء، كرجال الكيمياء والرياضة، ليقرون هذا ويحسونه في أنفسهم، مهما يكن ما يلاقونه في سبيل علمهم من صعاب تضيق بها النفس؛ وإنه مهما أصاب عالم التشريح من عناء في سبيل أغراضه العلمية فهو يحس لذة في عمله، وحيث لا يجد اللذة لا يحصل العلم، فماذا ترى يصنع الشاعر؟ إنه يرقب الإنسان وما يحيط به من أشياء تؤثر فيه وتتأثر به بحيث ينشأ في نفسه مزيج لا حد له من السرور والألم. إن الشاعر لينفذ إلى الإنسان فيراه على سجيته وفي مجرى حياته المعتاد، حيث يتأمل تلك المشاعر من لذة وعناء في قدر محدود من المعرفة المباشرة، وتحدد نظره طائفة من العقائد والتقاليد وشذرات من العلم تتخذ بحكم العادة صبغة التقليد؛ نعم إن الشاعر لينفذ إلى الإنسان وهو ينظر إلى هذا الشتيت المترابط من الخواطر والمشاعر فيصادف أينما وجه النظر أشياء لا تلبث أن تثير في نفسه من العواطف ما تقتضي طبيعة تكوينه أن تقترن بغبطة ترجحها فتطغى عليها.
إلى هذا اللون من المعرفة الذي يصطحبه الناس جميعا أينما ساروا، وإلى هذه العواطف التي يستمتع بها الإنسان بحكم جبلته مدفوعا بطبيعة حياته السائرة دون سواها، ينبغي أن يبذل الشاعر أعظم عنايته. إنه لينظر إلى الإنسان والطبيعة وكأنما قد أعد كلاهما في جوهرهما ليكونا عنصرين متلائمين، كما يعد عقل الإنسان مرآة طبيعية تعكس أجمل خصائص الطبيعة وأمتعها. وعلى ذلك ترى الشاعر يناجي الطبيعة في مجموعها مدفوعا بشعور اللذة الذي يرافقه فلا يفارقه طوال دراسته، إنه يناجي الطبيعة وفي مشاعر شديدة الشبه بتلك التي يستثيرها العالم في نفسه فتنشأ خلال عمله وعلى الزمن من طول ما يتحدث إلى جزئيات الطبيعة التي تكون موضوع دراسته. إن معرفة الشاعر والعالم كليهما إن هي إلا اللذة، غير أن معرفة الشاعر تكون جزءا لازما من وجودنا، وإرثا طبيعيا لا ينفك ملازما لنفوسنا، أما علم العالم فلا يعدو شخصه ونفسه، فإن سار إلى نفوسنا كان وئيد الخطى، وهو لا يثير فينا عاطفة مباشرة تربطنا بسائر إخواننا من البشر. إن العالم لينشد الحقيقة كأنما هي معين خير مجهول لا تصله بنفسه الصلات؛ فهو يعشقها ويحبها، وحيدا لا يشاطره الحب إنسان، أما الشاعر فإذا غرد أنشودة شاركته في تغريده الإنسانية بأسرها، وإنه ليغتبط إذ يرى الحقيقة صديقه للإنسان سافرة عن وجهها ورفيقة تلازمه ولا تهجره. إن الشعر من المعرفة كلها أنفاسها المترددة وروحها الشفاف، إنه هو ما ترى على جبين العلم من علائم العاطفة، وتستطيع أن تقول في الشاعر صادقا ما قاله شيكسبير عن الإنسان من «أنه يستذكر الماضي ويتسلف مقبل الأيام.» إن الشاعر حصن يذب عن الطبيعة البشرية فهو يحفظها ويحميها، وينشر الحب والقربي أينما ارتحل. إنه رغم ما يضرب بين البشر من تباين في الأرض والهواء واللغة والأخلاق والعادة والقانون، ورغم ما يتسلل من العقل فينمحي، ورغم ما تعصف به الأيام فينقوض، تراه يوشج الأواصر بين الجماعة الإنسانية المترامية أطرافها بعاطفته ومعرفته، فيصل ما قطع الزمان وما نثر المكان بين أفرادها. إن الشاعر أينما وجه النظر صادف موضوعا لخواطره، فلئن كانت نواظر الإنسان وحواسه هي بحق دليله الأمين ، إلا أنه يؤثر أن يتجه إلى حيثما يجد مجالا من الإحساس يسمو فيه بجناحيه ويحلق. وإذن فالشعر من ضروب المعرفة بأسرها هو الأول والآخر؛ فإنه باق على الزمان ما بقي قلب الإنسان، فإن جاء اليوم الذي يكتب فيه لبحوث العلماء أن تشعل في نفوسنا وفي آرائنا ثورة خطيرة أيا كان لونها، مباشرة كانت أو غير مباشرة، إذن لنهض الشاعر مما يغط فيه اليوم من سبات، ولأخذ الأهبة ليقتفي أثر العالم، فلا يتأثر بنتائجه العامة غير المباشرة وحدها، بل يقف إلى جانبه يجول بإحساسه بين الأشياء التي يغوص فيها العلم نفسه. إن أعمق ما يكشفه علماء الكيمياء والنبات والمعادن لموضوعات جديرة بالشاعر وفنه كأي موضوع آخر مما يستخدم فيه الشعر. نعم إنه إذا أقبل اليوم الذي نألف فيه هذه الدقائق العلمية، والذي نحس فيه بأن لتلك الجوانب التي يسبح فيها أبناء العلوم بأفكارهم شأنا في حياتنا صريحا جليا باعتبارنا كائنات تشقى وتسعد، أقول إنه إذا جاء ذلك اليوم الذي يشيع فيه بين الناس ما نسميه اليوم بالعلم، شيوعا يدنو به من قلوبهم حتى يكتسي ثوبا من لحم ودم؛ عندئذ ترى الشاعر يجود بروحه الإلهية ليعين العلم أن يتخذ صورة الحياة، ثم تراه يستقبل هذا الوليد الجديد، صديقا مخلصا حميما لعشيرة الإنسان، فلا ينبغي إذن أن يذهب الظن بقارئ إلى أن رجلا هذا إيمانه بمنزلة الشعر السامية، تلك المنزلة التي حاولت أن أبسطها فيما سلف، سيشوه ما في أشعاره من قداسة وحق بزخارف اللفظ الزائلة الفانية أو يحاول أن يستثير الإعجاب بنفسه بأن يصطنع فنونا لا يتحتم اصطناعها إلا إذا صدق ما يزعمون لموضوع الشعر من ضعة.
إن ما قلته حتى الآن يصدق على الشعر إجمالا، ولكنه يصدق بصفة خاصة على الأجزاء التي ينطق فيها الشاعر على ألسنة شخوصه. وجدير بنا في هذا الصدد أن نعترف بأن ثمة نفرا ممن أوتوا الحس الرهيف لا يسلمون بأن المواضع التمثيلية من الشعر تكون معيبة بمقدار ما تنأى عن اللغة الطبيعية التي يتحدث بها الناس في حياتهم، وبنسبة ما يصبغها الشاعر بألفاظه هو، سواء كانت تلك الألفاظ خاصة به بصفته الشخصية، أو باعتباره عضوا في أسرة الشعراء؛ أعني باعتباره منتميا إلى قوم ينتظر الناس منهم أن يتخذوا ألفاظا خاصة بهم ما دامت عبارتهم قد انفردت دون غيرها بالوزن.
لسنا إذن نريد أن تكتب الأجزاء التمثيلية من الشعر بأسلوب ممتاز؛ فقد يكون هذا الأسلوب الممتاز مستساغا وضروريا حينما يحدثنا الشاعر بنفسه وعن نفسه، بل إني لأنكره حتى في هذا، وأعود بالقارئ إلى الوصف الذي أسلفناه للشاعر، فلن يجد بين صفاته التي عددناها جوهرية في تكوين الشاعر صفة يختلف بها عن سائر الناس من حيث النوع؛ إذ هو يباينهم في الدرجة وحدها. ومجمل ما قيل هو أن الشاعر يتميز عن سائر الناس قبل كل شيء بقابليته العظيمة للتفكير والشعور حين لا يكون ثمة مؤثر خارجي مباشر يستثير ذلك التفكير أو الشعور، ثم هو يتميز عن سائر الناس بمقدرته الفائقة على التعبير عن تلك الخواطر والمشاعر على نحو ما نشأت في نفسه. وهذه العواطف والأفكار والمشاعر هي نفسها ما يختلج في نفوس الناس من عواطف وأفكار ومشاعر، وإحساساته الحيوانية كما تتناول الأسباب التي تخلق تلك المشاعر والإحساسات. إنها تبحث في فعل العناصر الأولى وفيما تراه العين من مظاهر الوجود، فهي تستعرض الزعازع العاصفة وضوء الشمس الساطع، ودورة الفصول، وما يتعاور الأرض من برد وحر، وما يصيب الناس من فقد الأصدقاء والأقرباء، وما يثير في الناس الأذى والشحناء، والأمل وعرفان الجميل، وما يدور في صدورهم من خوف وأسى. تلك وأشباهها هي ما يصف الشاعر من أشياء وما يبسط من مشاعر، وهي هي الأشياء والمشاعر التي تظفر عند سائر الناس بالحب. إن الشاعر ليشعر ويفكر بروح العواطف البشرية، فكيف إذن يجوز أن يختلف أسلوبه اختلافا جوهريا عن اللغة التي يتحدث بها الناس جميعا، وأريد بهم من يشعرون في قوة ويرون في وضوح؟ إنه لمن الهين أن نقيم البرهان على استحالة ذلك، ولكن هبه مستطاعا لا استحالة فيه، إذن فيجوز للشاعر أن يستخدم لغة ممتازة حين يعبر عن مشاعره هو إن كان في ذلك إرضاء لنفسه ونفوس من يشاكلونه. غير أن الشعراء لا يكتبون للشعراء وحدهم، وإنما هم يخاطبون الناس بشعرهم؛ وعلى ذلك، فإذا لم يكن الشاعر من دعاة ذلك اللون من الإعجاب الذي يعتمد على الجهل، وتلك اللذة التي قد يستشعرها من ينصت إلى كلام لا يفهمه، نقول إذا لم يكن الشاعر من أنصار ذلك اللون من الإعجاب وتلك اللذة لوجب أن ينزل من عليائه المزعومة؛ فلكي يثير عاطفة مبصرة ينبغي أن يعبر عما يدور بنفسه على نحو ما يعبر سائر الناس عما يدور بنفوسهم؛ لأنه إذا عمد إلى اختيار لفظه مما يتحدث به الناس في حياتهم الواقعة، أو إذا هو أنشأ ما ينشئ من شعر وروحه مشبع بما يستخدم الناس من ألفاظ - إذ لا فرق بين الحالتين - فإنه يجنب نفسه التواء السبيل، ويمكن القارئ أن يتهيأ لشعره، وذلك بعينه هو ما يدفعني أن أحتفظ للشعر بوزنه؛ فخليق بي أن أذكر القارئ بأن صفة الوزن هذه تجري على قاعدة معروفة ونظام مطرد، وهي تختلف في ذلك عن الصفة التي تسمى عادة «بالألفاظ الشعرية»؛ إذ الشاعر وحده هو الذي يتحكم في هذه الألفاظ، فهي لذلك تخضع لما لا نهاية له من تقلب الأهواء، الذي لا يمكن القارئ أن يهيئ نفسه في شيء من اليقين لأسلوب معين من الشعر. إن مبدأ «الألفاظ الشعرية» يضع القارئ تحت رحمة الشاعر المطلقة، عليه أن يرضى بما يحلو للشاعر من صور وألفاظ مما يرتبط بالعاطفة التي ينشئ فيها الشعر. أما الوزن فهو بعكس الألفاظ الشعرية يسير وفق قانون معلوم، يسلم به الشاعر والقارئ كلاهما راضيين؛ لأنهما يسلكان به سبيلا قصدا، ولا يعترضان به مجرى العاطفة إلا فيما أجمعت شواهد العصور المتتابعة على أنه يسمو ويرتفع باللذة التي تثيرها تلك العاطفة.
وحقيق بي الآن أن أجيب سؤالا لا إخال القارئ إلا سائله، وهو: ما دمت أنشر هذه الآراء، فلماذا كتبت ما كتبت شعرا؟ وجواب هذا السؤال متضمن فيما سلف، ولكني أضيف إلى ذلك جوابا آخر؛ فقد لجأت إلى الشعر أولا لأنني مهما أسرفت في التزام القيود، فلا تزال معروضة أمامي تلك العناصر التي تكون أنفس جوانب الكتابة بأسرها، نثرا كانت أم شعرا، فما تزال أمامي عواطف الناس النبيلة وأعمالهم الممتعة، بل ما تزال الطبيعة بأسرها منشورة الصفحات أمام ناظري، وكل هؤلاء يمدني بما ليس يحصى من صور الخيال ووسائل التعبير، ولكن لنفرض جدلا أن كل ما يأخذ باللب من هذه الأشياء نستطيع أن نصفه بالنثر وصفا رائعا، فماذا يغريني بالانزلاق في هذا الزلل بأن أضيف إلى ذلك الوصف النثري فتنة أجمعت الأمم كلها على أنها من خصائص الكلام المنظوم؟ سيقول المعارضون إن شطرا ضئيلا جدا من لذة الشعر يجيء من الوزن، وإنه من الغفلة أن أكتب كلاما منظوما ما لم تصحبه زخارف الأسلوب الصناعية الأخرى التي تلازم النظم عادة، وإنني إذا عريت عبارتي عن ذلك التنميق حرمت قارئي مما يفعله الأسلوب في إثارة الخواطر حرمانا يرجح على كل متعة يهيئها له الوزن القوي، فإلى هؤلاء الذين ما يزالون يكافحون دفاعا عن ضرورة اقتران الوزن بضروب معينة من زخرفة الأسلوب حتى يكون له ما نرجو من أثر، والذين أراهم يبخسون جدا من قوة الوزن في ذاته، إلى هؤلاء ألاحظ - وحسبي فيما أظن هذه الملاحظة تبريرا لهذا الديوان - أن هنالك من القصائد ما يدور حول موضوعات أكثر من هذه تواضعا، وصيغت في أسلوب أشد من هذا الأسلوب بساطة وتجردا عن الزخرف، ومع ذلك فهي خالدة باقية، يستمتع بها الناس جيلا بعد جيل، فإذا كانت البساطة والتجرد عن التنميق عيبا، فإن هذه الحقيقة التي ذكرتها لتنهض دليلا أقوى دليل على أن قصائدي - وهي أقل بساطة من تلك القصائد المشار إليها وأقل منها تعريا عن وسائل التزويق - قادرة على إثارة اللذة في نفوس الناس في يومنا هذا. وإن ما أردته الآن قبل كل شيء هو أن أبرر ما كتبته متأثرا بهذا الرأي.
Page inconnue
ولكني أستطيع أن أسوق أسبابا عدة تبين لماذا يحدث ، إن كان في الأسلوب قوة الرجولة وكان لموضوع القصيدة بعض الخطر، أن يظل الكلام المنظوم أمدا طويلا لذيذ الوقع في نفوس الناس فيستمتعون به استمتاعا يحقق ما علق عليه ناظموه من رجاء. إن الغرض من الشعر هو أن يؤثر في النفس أثرا يبقى ما بقيت نشوته، وإن كانت النشوة أرجح مقدارا من التأثر. وبديهي أنه إذا تأثر العقل كان في حالة شاذة لا تطرد، وفي هذه الحالة لا تتتابع الخواطر والمشاعر في إثر بعضها بالترتيب المعتاد، فإذا كانت العبارة التي أثرت في النفس قوية في ذاتها، أو ارتبط بالخيال والشعور مقدار من الألم لا تدعو إليه الحاجة، خيف أن تنساق النفس في تأثرها إلى أبعد مما يراد بها، فإذا قرنا عندئذ هذا التأثر بشيء معهود ألفه العقل في مختلف حالاته وحيث يكون أقل تأثرا، كان ذلك وسيلة ناجعة لقيد العاطفة والتخفيف من حدتها، وذلك لامتزاج الشعور الذي تعوده العقل بالشعور الجديد الذي لا يرتبط حتما بالعاطفة ارتباطا وثيقا؛ هذا حق لا مراء فيه؛ ولذا فلسنا نشك إلا قليلا في أن المواقف والعواطف التي تكون أحد شعورا؛ أي التي تكبر فيها نسبة الألم الذي تستدعيه، تكون أكثر استساغة في الشعر، والمقفى منه بنوع خاص، منها في النثر؛ وذلك لأن طبيعة الوزن تبعد اللغة إلى حد ما عن حقيقتها، فتبدو القصيدة لذلك في مجموعها وكأن فيها ما يحمل قارئيها بعض الشيء على أن يلمس فيها وجودا موهوما لا حقيقة له؛ تلك هي العلة رغم ما يبدو فيها من تناقض للوهلة الأولى. إن وزن الأغاني القديمة لم يكن نصيبه من الفن عظيما، ومع ذلك ففيها أسطر كثيرة تؤيد هذا الرأي. وإني لآمل أن يجد القارئ في هذه الأشعار التي أقدمها دليلا آخر على صدق رأيي، إن تلاها في عناية وتريث. وفضلا عن هذين الدليلين فأنا أؤيد الفكرة بدليل ثالث وهو أن أحتكم إلى تجربة القارئ نفسه فيما يلقاه من سأم حين يعيد قراءة الأجزاء الحزينة في
Clarissa Harlowe
أو
Gamester . بينما يستحيل أن تؤثر فينا المناظر التي صورها شيكسبير قوية العاطفة؛ بسبب ما فيها من عاطفة، أثرا أبعد مما نحسه في قراءتها من لذة، وهذا الأثر الممتع قد يرجع إلى مؤثرات ضئيلة ولكنها دائمة في نظام، هي مؤثرات المفاجأة اللذيذة التي يصادفها القارئ في وزن الكلام؛ تلك هي علة استمتاعنا وإن بدت علة غريبة عند النظرة الأولى. هذا ومن ناحية أخرى إذا لم تتكافأ عبارة الشاعر مع ما تحمل من عاطفة، ولم تفلح في أن ترفع القارئ إلى ما أريد له أن يعلو إليه من تأثر، فإن الشعور اللذيذ الذي تعود القارئ أن يقرنه بالوزن بصفة عامة، والشعور - مرحا كان أو حزينا - الذي تعود أن يقرنه إلى حركة الوزن في هذه القصيدة بصفة خاصة، هذان الشعوران سيؤثران أثرا عظيما (إلا إذا كان الشاعر قد أسرف في تجاوزه الحكمة عند اختياره لوزن القصيدة) في بث العاطفة في عبارة الشاعر، وفي أن ينتج الشعر ما قصد إليه الشاعر من غاية متشعبة النواحي.
لو كنت آليت على نفسي أن أكتب دفاعا شاملا عن المذهب الذي أؤيده في هذه المقدمة، لكان حتما علي أن أتناول بالتحليل مختلف الأسباب التي عنها تنشأ اللذة التي نتذوقها في تلاوة الشعر. وإننا لنذكر بين الرئيسي من هذه الأسباب مبدأ يعرفه جيد المعرفة أولئك الذين اختصوا فنا من الفنون، كائنا ما كان، بتفكير دقيق، وأعني به استمتاع العقل بإدراكه أوجه الشبه في أوجه الخلاف؛ هذا المبدأ هو المعين الأكبر لفاعلية العقل، كما أنه المورد الأساسي الذي يستمد منه العقل غذاءه؛ فها هنا في هذا المبدأ ينشأ اتجاه الشهوة الجنسية وكل ما يتصل بها من عواطف، وهو الذي ينفخ في أحاديثنا السائرة ما فيها من حياة. وعلى دقة إدراكنا لأوجه الشبه في أوجه الخلاف، أو لأوجه الخلاف في أوجه الشبه، يتوقف ذوقنا وشعورنا الأخلاقي، وقد يكون من المجدي أن أطبق هذا المبدأ على وزن الشعر، فأبين أن هذا هو الأساس الذي يمد الوزن بما يحمله إلينا من لذة عظمى، كما أبين على أي نحو تنشأ تلك اللذة، غير أن حدود المقدمة لا تأذن لي بالدخول في هذا الموضوع، فلأكتف من هذا بموجز عام.
لقد أشرت إلى أن الشعر فيض المشاعر القوية فيضا ذاتيا، وأنه ينبع من عاطفة نستذكرها في حالة الهدوء، فما تزال تلك العاطفة المستذكرة موضع التأمل، حتى يحدث شيء من رد الفعل فينمحي على أثره ما يشتملنا من هدوء، ثم تنشأ بالتدريج عاطفة أخرى قريبة الشبه بالعاطفة الأولى التي كانت موضعا للتفكير، فلا تلبث هذه العاطفة الثانية أن تملأ شعاب العقل. في مثل هذه الحالة الشعورية يبدأ إنشاء الشعر الصحيح، ثم يتصل الإنشاء في حالة شعورية شبيهة بتلك، ولكن العاطفة، أيا كانت نوعا ومقدارا، تثير ضروبا مختلفة من اللذة تختلف باختلاف أسبابها؛ فالعواطف - مهما تباينت - إذا وصفها العقل راضيا، استمد منها العقل بصفة إجمالية شعورا مرحا، فإذا كانت الطبيعة كما تراها من الحذر بحيث لا تسكب في نفس الشاعر عاطفة إلا إذا قرنتها بنشوة حتى يظل في غبطته، فواجب الشاعر أن يفيد بهذا الدرس الذي تلقنه إياه الطبيعة، وحتم عليه بنوع خاص أن يقرن دائما العواطف المختلفة التي يبثها في شعره لقارئه، بقسط وافر من اللذة إن كان عقل القارئ قويا سليما؛ فجرس الكلام المنظوم وموسيقاه، وإدراك ما لقيه الشاعر في نظمه من عسر، واللذة التي تقترن في أذهاننا اقترانا أعمى بالكلام الموزون المقفى لمجرد أننا قد استمتعنا بمثل تلك اللذة من قبل في عبارة تطابق هذه أو تماثلها وزنا وقافية، والإدراك الغامض الذي ما ينفك يتجدد، بلغة شديدة الشبه بلغة الحياة الواقعة ولكنها مع ذلك تباينها أشد التباين لما ينظم ألفاظها من وزن؛ كل هذه تحدث في نفس القارئ شعورا مركبا بغبطة تتسلل إليه من حيث لا يدري، وهي غبطة مفيدة جدا في تخفيف الألم الذي نحسه دائما في ثنايا الوصف القوي للعواطف العميقة. ويحدث هذا الأثر دائما إذا ما التهب الشعر بالعاطفة والشعور، أما في الشعر الخفيف فإن القارئ يستمد متعته بغير شك من سلاسة الوزن وتدفقه. وكل ما ينبغي أن أشير إليه في هذا الموضوع أن أذكر ما سينكره أفراد قليلون؛ ذلك أنه إذا كان ثمة وصفان لعاطفة أو لأخلاق أو لأشخاص، وكان كلا الوصفين جيد العبارة غير أن أحدهما نثر والثاني شعر، كان الشعر خليقا أن يتلى مائة مرة إذا قرئ النثر مرة واحدة.
أما وقد بسطت قليلا من الأسباب التي دفعتني إلى اصطناع الشعر فيما كتبت، والتي حدث بي أن أتخير موضوعاتي من الحياة العامة، وأن أحاول الدنو بعبارتي من لغة الناس الحقيقية، فإنني إذا كنت كذلك أسرفت في تفصيل الدفاع عن قضية هي قضيتي فلقد كنت كذلك أعالج موضوعا يهم الناس أجمعين؛ لهذا سأضيف كلمات قلائل، أشير بها إلى هذه القصائد المعينة وحدها، وإلى بعض ما يحتمل فيها من عيوب؛ فأنا أعلم أن ما طرقت من موضوعات لا بد أن يكون في بعض المواضع خاصا وكان يجب أن يكون عاما، وأنني نتيجة لذلك ربما أكون قد أخطأت في تقدير الأشياء فكتبت في بعض الموضوعات التي لم تكن جديرة بالكتابة فيها، ولكني لست أخشى هذا النقص بقدر ما أخشى أن أكون في عبارتي قد تعنت أحيانا في أن أربط مشاعر وأفكارا بألفاظ وعبارات معينة؛ فذلك عيب ما أحسب أحدا بمستطيع أن ينجو منه نجاة تامة. وإني لذلك لا أشك في أنني قد سقت لقرائي في بعض المواضع مشاعر تثير السخرية، في عبارة رقيقة مليئة بالعاطفة، ولكني لو كنت على يقين أن مثل هذه العبارات زائفة حقا وضرورة الشعر وحدها تحتم بقاءها رغم بطلانها، لارتضيت طائعا أن أحتمل كل ما أستطيع من عناء في سبيل تصحيحها، ولكن من الخطر أن أحدث هذا التحوير لمجرد أن أفرادا قلائل ليس لرأيهم في الموضوع وزن راجح، أو حتى لمجرد أن طبقة خاصة من الناس، تريد ذلك؛ لأنه إذا لم يقتنع عقل الكاتب، أو إذا أصاب مشاعره شيء من التحوير، كان في ذلك أذى جسيم لنفسه؛ لأن مشاعره هي قوامه ودعامته، فإذا أطرحها مرة جاز له أن يكرر هذا العمل، حتى يفقد عقله الثقة في نفسه، ويصيبه الفساد التام. وإني لأضيف إلى ما تقدم أنه ينبغي للناقد أن يذكر دائما أنه هو أيضا معرض لنفس الأخطاء التي يتعرض لها الشاعر، بل قد يكون أشد من الشاعر استهدافا للخطأ؛ إذ لا يجوز أن نفرض في معظم القراء ترجيح ألا يكونوا على أتم العلم بمراحل المعاني المختلفة التي اجتازتها الألفاظ، أو بما تتصف به الروابط التي تصل تلك المعاني بعضها ببعض من تقلب أو ثبات، كلا ولا يجوز بصفة خاصة أن نقول إنه ما دام القراء أقل منا شغفا بالموضوع، فسيقضون بحكمهم في الأمر في استخفاف وإهمال.
وما دمت قد وقفت بالقارئ هذه الوقفة الطويلة فأرجو أن يأذن لي في أن أحذره من نوع من النقد الباطل الذي يوجه إلى الشعر الذي صيغ في لغة شبيهة بلغة الحياة الواقعة. ولقد استطاع النقد أن ينتصر على مثل هذا الشعر حيثما صيغ فيه الجد بقالب الهزل، ولعل أقوى مثل لهذا النوع هذه الأسطر الآتية للدكتور جونسون:
وضعت قبعتي على رأسي،
ومشيت في ستراند،
Page inconnue
5
فرأيت ثمة رجلا آخر،
قبعته في يده.
ولنعرض بعد هذه الأسطر مباشرة مقطوعة من أجدر الشعر بالإعجاب، وأعني بها مقطوعة «الأطفال في الغابة»:
هؤلاء الأيفاع الجميلون، متشابكة أيديهم،
أخذوا يطوفون في غدو ورواح،
ولكنهم لم يروا بعد إنسانا
يدنو إليهم من المدينة.
فأنت في هاتين المقطوعتين لا ترى الألفاظ وترتيبها يختلفان في شيء عن الحديث السائر غير المشبوب بالعاطفة، وترى في كلا المقطوعتين ألفاظا مثل «ستراند» و«المدينة» مما يرتبط في الذهن بأكثر الخواطر ابتذالا، ومع ذلك فلا يسعنا إزاء إحداهما إلا أن نبدي إعجابنا الشديد، وإزاء الأخرى إلا أن نعترف بأنها مثل واضح للشعر المزدرى، فمن أين جاء هذا الفرق بين المقطوعتين؟ إنه لم يجئ من الوزن ولا من العبارة ولا من ترتيب الألفاظ، ولكنه المعنى الذي عبر عنه الدكتور جونسون في مقطوعته هو الذي يتصف بالضعة. ولعل أقوم طريقة لنقد الأشعار التافهة الحقيرة، التي سقنا مقطوعة الدكتور جونسون مثلا لها، ليست أن نقول إن هذا نوع رديء من الشعر، أو أن نقول ليس هذا من الشعر في شيء، بل أن نقول إنه خلو من المعنى؛ فليس هو شعرا شائقا في حد ذاته، ولا هو يؤدي إلى شيء شائق؛ فالخيال في مثل هذا الشعر لا يستمد أصوله من المشاعر المبصرة التي تنشأ من التفكير، ولا هو يثير في القارئ تفكيرا أو شعورا؛ تلك هي الطريقة المعقولة الوحيدة لنقد مثل هذه الأشعار، فلماذا تجهد نفسك في مناقشة النوع قبل أن تقضي أولا برأي قاطع في الجنس؟ لماذا تكلف نفسك عناء البرهنة على أن القرد لا يضارع «نيوتن
Newton »، مع أنه بداهة ليس إنسانا؟
Page inconnue
ولا بد أن أتقدم إلى قارئي برجاء واحد، وذلك أنه إذا حكم على هذه الأشعار فليحتكم إلى شعوره الخاص، دون أن يركن إلى التفكير فيما يحتمل أن يحكم به الآخرون، فما أكثر أن تسمع إنسانا يقول: أنا نفسي لا أمج هذا الأسلوب في الإنشاء، ولا أكره هذه العبارة أو تلك، ولكنه قد يبدو وضيعا سخيفا لهذه الطائفة من الناس أو لتلك! ويكاد هذا اللون من النقد الذي يهدم كل رأي سليم صادق يكون عاما بين الناس أجمعين، فليتشبث القارئ بشعوره هو غير متأثر بشعور سواه، فإذا أحس في نفسه استمتاعا بما يقرأ فلا ينبغي أن يسمح لهذه الأقاويل بأن تحول دون استمتاعه.
إذا استطاع كاتب في بعض ما يكتب أن يحملنا على الاعتراف بمواهبه، فخليق بنا أن نتخذ من هذا دليلا على أننا حين قرأنا لهذا الكاتب عينه ما صادف منا الإعراض فربما نكون قد أخطأنا التقدير ومن الجائز ألا يكون الكاتب هزيلا عابثا فيما كتب، بل إنه لواجب حتم إذا ما أعجبنا بالكاتب في بعض ما كتب أن نغلو في مدحه غلوا يحملنا على مراجعة النظر فيما لم يظفر منا بالإعجاب، فنعيد تلاوته في عناية أكبر. وليس هذا ما تقضي به العدالة فحسب، ولكن أحكامنا على الشعر بصفة خاصة قد تكون بعيدة الأثر في تهذيب أذواقنا؛ لأن الذوق الدقيق في الشعر، وفي سائر الفنون جميعا ، كما لاحظ «السير جوزوا رينولدز
Sir Joshua Reynolds » ملكة مكتسبة، تنشأ بالتفكير والاشتغال الطويل المتصل بأجود نماذج الإنشاء. ولست أذكر هذا لغرض سخيف بأن أمنع القاري الناشئ من الحكم لنفسه بنفسه (فقد أردت له فيما سبق أن يحكم لنفسه) ولكني أريد أن أحد من التهور في الحكم، وأن أشير إلى أنه إذا لم ينفق في دراسة الشعر وقت طويل فقد يكون حكمنا عليه باطلا، وأنه لهذا السبب يتحتم أن يكون حكم الناقدين باطلا في كثير من الأحوال.
وإني لعلى يقين أن آخر ما يدنيني من غايتي التي أقصد إليها هو أن أبين أي نوع من اللذة نصادفه، وكيف ينشأ، فيما نتلوه من أساليب الشعر التي تخالف أشد اختلاف هذه القصائد التي أحاول أن أقدمها الآن؛ إذ لا ريب في أن لتلك الأساليب لذة لا تنكر، فسيقول القارئ إنه قد استمتع فعلا بذلك الأسلوب وماذا تراه يرجو من الشعر غير هذا؟ إن قوة الفنون على اختلاف أنواعها محدودة، فإذا زعمنا للقارئ أننا إنما نقدم له صديقا جديدا بهذا الأسلوب الجديد خشي أن يكون ذلك على شرط أن ينبذ أليفة القديم؛ هذا فضلا عما أشرت إليه فيما سلف من أن القارئ قد أدرك بنفسه المتعة التي لقيها من الأسلوب القديم، ذلك الأسلوب الذي اختصه باسم الشعر وهو اسم ما أعزه على النفس، وإنه لمن طبيعة البشر جميعا أن يشعروا بواجب الثناء، وأن يدعوهم الشرف إلى الاستمساك بالأشياء التي لبثت أمد طويلا مصدرا لاستمتاعهم، فلا يريد الإنسان أن يستمتع فحسب، بل إنه ليميل أن يستمتع بطريقة معينة ألفها فيما مضى. ويكفي أن تكون هذه المشاعر كامنة في الناس لتدحض ما شئت من براهين؛ ولذا فما أحسبني موفقا في محاربتها؛ لأنني أود أن أقرر بأن القارئ لن يستمرئ الشعر الذي أقدمه له الآن على النحو المرجو إلا إذا اطرح كثيرا مما ألف أن يستمتع به، ولو كانت حدود هذه المقدمة تأذن لي أن أبين كيف تنشأ اللذة بقراءة الشعر إذن لأزلت كثيرا مما يعترض الطريق من عقبات ، ولعاونت القارئ أن يدرك أن قوى اللغة ليست من الضيق بحيث يتوهم، وأن في مقدور الشعر أن يهيئ متعا أخرى أصفى طبيعة وأدوم بقاء وأروع جلالا. نعم إني لم أهمل هذا الجانب من الموضوع إهمالا تاما، ولكني في الوقت نفسه لم أقصد إلى إقامة الدليل عليه بحيث أن أبين للقارئ أن اللذة التي تحدثها ضروب الشعر الأخرى ضئيلة وليست خليقة أن تستخدم من أجلها قوى العقل السامية؛ إذ لو بينت ذلك لكان ثمة ما يؤيدني إن زعمت أني لو حققت بهذه الأشعار أملي لأنشأت بها نوعا جديدا من الشعر، هو الشعر بأدق معناه، الشعر الذي أعد بطبيعته ليبعث في الإنسانية كلها سرورا لا ينقطع، والذي يعظم شأنه لما فيه من تعدد الروابط الخلقية وسموها.
إذا ألم القارئ بما قلته، وإذا قرأ هذه الأشعار، استطاع أن يتبين في وضوح ما أقصد إليه من غرض، وسيرى إلى أي حد قد دنوت من غايتي، كما أنه سيدرك ما هو أخطر من ذلك شأنا؛ إذ سيحقق لنفسه إن كانت غايتي جديرة بالسعي لها أم لم تكن، وسيتوقف على قراره في هاتين المسألتين حقي في المطالبة باستحسان الجمهور.
النقد الأدبي بين الذوق والعقل
1
من أمتع المطالعة كتاب تطالعه لكاتب بينك وبينه ما بين الصديقين من ود وإخاء؛ عندئذ تمثل حركاته أمام ناظريك، ونبراته في مسمعيك، فلا يكاد يخيل إليك أنك فيما تطالع إزاء كتاب منشور، بل يتمثل لك الصديق الكاتب مسامرا متحدثا، هادئا حينا غاضبا حينا، وخصوصا إن كان هذا الصديق الكاتب متحمسا لموضوعه، يكاد القلم يرتعش في يده من حرارة تحمسه، ويقذف أمام قارئه بالرأي متحديا حينا بعد حين، كأنما يقول له وعيناه حادتان وشفتاه مزمومتان: هذا رأيي أزعمه لك بعد درس طويل عميق، فماذا أنت قائل؟!
ذلك هو موقفي من كتاب «النقد المنهجي عند العرب» لصديقنا الكاتب الأديب الدكتور محمد مندور، وهو كتاب يتتبع فيه مؤلفه الفاضل حركة النقد الأدبي كما تتمثل في أعلامها من تاريخ الأدب العربي، فاتخذ «مركزا لهذا البحث الناقدين الكبيرين أبا القاسم الحسن بن بشر بن يحيى الآمدي، صاحب كتاب «الموازنة بين الطائيين»، والقاضي أبا الحسن علي بن عبد العزيز بن الحسن بن علي بن إسماعيل الجرجاني، صاحب كتاب «الوساطة بين المتنبي وخصومه»، ولكننا مع ذلك تتبعنا موضوع بحثنا منذ أول كتاب وصل إلينا في النقد وتاريخ الأدب وهو كتاب «طبقات الشعراء» الذي كتبه ابن سلام الجمحي في القرن الثالث الهجري، كما تتبعناه إلى أن تحول النقد إلى بلاغة على يدي أبي هلال العسكري مؤلف «سر الصناعتين» في القرن الخامس، بل وانحدرنا به قرنين آخرين حتى لاقينا ابن الأثير في «المثل السائر».»
ثم يقول المؤلف الفاضل: «وفي خلال هذه الرحلة الطويلة عرض لنا الكثير من أمهات المسائل التي لم يكن بد من إيضاحها لكي نتبين معالم الطريق وندرك تسلسل علوم اللغة العربية المختلفة وتاريخ نشأتها كالبلاغة والبديع والمعاني والبيان، كما عرضت جملة من النظريات العامة في الأدب، فضلا عن عدد كبير من المناقشات الموضعية في النقد التطبيقي فتناولنا كل ذلك بالغربلة والتمحيص.»
Page inconnue
هذا مجمل البحث كما وصفه المؤلف في «تقديم» الكتاب، وقد استغرق الكتاب ثلاثمائة وثلاثا وأربعين صفحة من القطع الكبير، قسم فيها الكاتب موضوعه جزأين، أما أكبرهما فجزء يتعقب تاريخ النقد من ابن سلام إلى ابن الأثير، وأما أصغرهما فيتناول بالبحث موضوعات النقد ومقاييسه. ويقع أكبر الجزأين في سبعة فصول، فيحدثك المؤلف في الفصل الأول عن النقد الأدبي عند ابن سلام وابن قتيبة، وفي الفصل الثاني عن نشأة النقد المنهجي عند ابن المعتز وقدامة، وفي الفصل الثالث يحدثك الكاتب الأديب في براعة تستوقف النظر عن الآمدي في موازنته بين أبي تمام والبحتري، كما يحدث في الخامس والسادس عن القاضي الجرجاني ونقده المنهجي حول المتنبي، ثم يذكر لك في الفصل السابع كيف تحول النقد إلى بلاغة على يدي أبي هلال العسكري.
وأما أصغر الجزأين فيقع في ثلاثة فصول: في الأول بحث حول الموازنة بين الشعراء، وفي الثاني حديث عن السرقات الأدبية، وفي الثالث عرض لمقاييس النقد الأدبي. •••
كدت لا أقرأ صفحة من هذا كله دون أن أجد موضعا أعجب فيه بكاتبنا الأديب، أو موضعا أجادله فيه الرأي؛ فهو يرغمك إرغاما على الإعجاب به في مئات المواضع من كتابه، تارة بسداد فكرته، وطورا بجودة عرضه لفكرة سواه.
وعندي أن أظهر ما ظهرت فيه براعة المؤلف الفاضل هو عرضه لمذهب الآمدي في النقد الأدبي وفي طريقة دفاعه عنه، يقول: «إننا نستطيع أن نستخلص من أقواله روحه في الدراسة، فهي روح ناضجة، روح منهجية حذرة يقظة، وهو يتناول الخصومة كرجل بعيد عنها يريد أن يجمع عناصرها ويعرضها ويدرسها، فإن حكم قصر حكمه على الجزئيات التي ينظر فيها؛ فقد يكون البحتري أشعر في باب من أبواب الشعر أو معنى من معانيه، وقد يكون أبو تمام أشعر من ناحية أخرى. وأما إطلاق الحكم وتفضيل أحدهما على الآخر جملة فهذا ما يرفضه الآمدي» (ص77)، ثم انظر كيف يلخص استعراض الآمدي للمحاجة التي أدارها حول المفاضلة بين أبي تمام والبحتري، تلخيصا لا يستطيعه إلا رجل يستوعب ما يقرأ استيعابا يجعله جزءا منه، يقول في صفحة 299 وما بعدها:
يبدأ فيقرر أن أصحاب البحتري هم الميالون إلى الشعر المطبوع المتمسكون بعمود الشعر، بينما أصحاب أبي تمام هم أهل الصنعة وتوليد المعاني، وأما عن نفسه فهو يرفض أن يفضل أحدهما على الآخر تفضيلا مطلقا، وبفراغه من وصف طرفي الخصومة يورد مناظرتهم في إحدى عشرة نقطة نلخصها قبل أن نأخذ في مناقشتها، والذي يبدأ المناظرة هو صاحب أبي تمام يورد الحجة وصاحب البحتري يرد عليها: (1)
البحتري أخذ عن أبي تمام وتتلمذ له، ومن معانيه استقى، حتى قيل الطائي الأصغر والطائي الأكبر؛ واعترف البحتري نفسه بأن جيد أبي تمام خير من جيده، على كثرة جيد أبي تمام. - يرد صاحب البحتري بإيراد بدء تعارفهما، ويظهر أن البحتري كان إذ ذاك يقول الشعر الجيد، وإذن فهو لم ينتظر حتى يعلمه أبو تمام صناعة الشعر؛ وإذا كان البحتري قد استعار بعض معاني أبي تمام فهذا غير منكر لقرب بلديهما وكثرة ما كان يطرق سمع البحتري من شعر أبي تمام، ولهذا نظائره؛ فكثير أخذ عن جميل، ثم إن استواء شعر البحتري مزية يفضل بها أبا تمام الذي تفاوت شعره تفاوتا يقدح في صحة طبعه، وتفضيل البحتري لجيد أبي تمام على جيده هو، ليس إلا تواضعا يحمد عليه لا حجة تساق ضده. (2)
إن أبا تمام رأس مذهب عرف به، وهذه فضيلة عري عن مثلها البحتري. - لم يخترع أبو تمام شيئا، وإنما أسرف فيما سبق إليه من أوجه البديع، ورأس المذهب ليس أبا تمام بل مسلم بن الوليد، الذي قيل عنه إنه «أول من أفسد الشعر ...»
وهكذا يأخذ الدكتور مندور في تلخيص هذه المحاجة تلخيصا حيا واضحا حتى نهايتها.
قلت إن إعجابك بالمؤلف الفاضل يكون تارة لحسن عرضه لفكرة غيره، ويكون طورا لصواب رأيه وما يبديه من سلامة ذوق وحسن تذوق، فانظر مثلا كيف يوضح لك الكاتب الأديب في صفحة «5» فكرته بأن التاريخ الأدبي شيء يختلف كل الاختلاف عن النقد الأدبي، فيسوق لك هذا المثل: «يدرس النقد رثاء المهلهل لأخيه كليب والخنساء لصخر وابن الرومي لابنه والمتنبي لأخت سيف الدولة، كلا منهم منفردا ثم يأتي تاريخ الأدب فيؤرخ للمراثي عند العرب فيكون عمله تأريخا لفن أدبي. ويدرس النقد غزل جميل وكثير أو غزل العرجي وعمر ابن أبي ربيعة، ويأتي التاريخ الأدبي فيؤرخ للنسيب العذري أو لغزل اللذة الحسية، ويكون عمله تأريخا لتيار فني أخلاقي. وأخيرا يدرس النقد شعر مسلم بن الوليد وشعر أبي تمام أو شعر الحطيئة وشعر زهير، ثم يأتي التاريخ الأدبي فيؤرخ لتذوق الصناعة في الشعر أو تذوق الخيال الحسي، ويكون عمله تأريخا لعصر من عصور الذوق المختلفة.»
أو انظر إلى هذه الموازنات الكثيرة التي يبدي فيها كاتبنا الأديب رأيه فيدل على ذوق أدبي ممتاز، نسوق لك منها هذا المثل الذي يذكره في صفحة «66» موازنا بين بيت امرئ القيس:
Page inconnue
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا
لدى وكرها العناب والحشف البالي
وبيت بشار:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (ووجه المقارنة بين البيتين هو أنهما يشبهان شيئين بشيئين) فيقول الدكتور مندور: «لننظر في تشبيه امرئ القيس وتشبيه بشار لنرى كيف أن امرأ القيس لم يذهب بعيدا، وإنما طلب إلى حواسه المألوفة وإلى حياته الراهنة أن تأتيه بهذا الصادق القريب، تشبيه قلوب الطير التي افترستها العقاب بالعناب والحشف البالي، العناب للقلوب الرطبة والحشف للجافة، ثم ننظر في تشبيه بشار التمثيلي كما يقولون، فنراه يشبه النقع وقد انعقد فوق الرءوس والسيوف تضرب، بالليل تتهاوى كواكبه، وبشار لم ير الليل تتهاوى كواكبه ولا رآه حتى المبصرون، فهو تشبيه بعيد ليست له في النفس صورة ما؛ ونحن لا نكاد نتصور ليلا تسقط نجومه فيشبه ذلك معركة ترتفع فيها السيوف ثم تسقط مبرقة وسط النقع المثار. ولا كذلك تشبيه امرئ القيس.»
ولا ينفك أديبنا الفاضل ينثر أحكامه الأدبية الصادقة نثرا في أرجاء كتابه، وحسبنا من ذلك مثلان، فهو يذكر رأي ابن سلام القائل بأن المفاضلة بين الشعراء تكون على أساس كثرة الإنتاج، ثم يعقب على ذلك برأيه قائلا: «في ظننا أنه من الواضح أن الكم ليس مقياسا صحيحا لقيم الشعراء» (ص11).
ويعرض للمذاهب الأدبية التي تسود هذا العصر أو ذاك فتتحكم في الأدباء بقواعدها وأوضاعها، لكنه يسارع عندئذ إلى إثبات رأيه الصائب، فيقول: «... وعندما تقوم في الشعر مذاهب نظرية نرى دائما أنها لا تطغى إلا على الشعراء الغير الموهوبين (وكان الصواب أن يقول غير الموهوبين إذ لا تجوز أداة التعريف مع كلمة غير لأن غير نكرة بطبيعة معناها) فهي - أي المذاهب النظرية - «عكاز الأعمى» وأما الشاعر الأصيل فإن المذهب لا يمكن أن يكون عنده إلا مجرد اتجاه عام، فالرومانتيكية أو الكلاسيكية مثلا غير موجودتين بمبادئهما المحكمة إلا عند الضعفاء من الشعراء والأدباء، وأما كبارهم فقد صدر كل منهم عن طبعه هو ولم يكن للمذهب تأثير عليه إلا في التوجيه العام؛ لهذا نجد الكلاسيكية الشكلية عند براون أكثر مما نجدها عند راسين، وكذلك الأمر في الرومانتيكية فهي أوضح - كمذهب - عند بريزيه مثلا منها عند موسيه» (ص41). •••
ولو مضيت في ذكر المواضع التي استثارت إعجابي في هذا الكتاب، لما بلغت النهاية في حيز قليل، ولا بد لي الآن أن أجادله بعض رأيه.
وأول ما أجادله فيه هو هذا الرأي الذي أشفق منه على أوساط القراء أن يضلوا به ضلالا بعيدا، هذا الرأي الذي يجعل ل «الذوق» الشخصي الكلمة العليا في نقد الفنون؛ إننا يا سيدي الدكتور نعيش في بلد لا تضبطه القواعد ولا تلجمه القوانين، وما أكثر ما يصادفك الفتى لم يكد يشب عن طوقه، فيتغنى لك بشعر زميله في حجرة الدراسة، زاعما لك أنه من غر القصيد، فإذا ما أردت تأديبه فطالبته بالدليل أجابك أنه يطرب له وكفاه ذلك دليلا، ولست أذكر في هذا السياق عشرات من أساتذة الأدب عندنا تأدبا، فماذا لو طلع عليهم أديب نقادة مثل الدكتور محمد مندور برأي كهذا قد يتسرعون في فهمه فيساعدهم على فوضاهم في الأدب والنقد؟ وأقول: «يتسرعون في فهمه.» لأني ألاحظ أن أديبنا الفاضل قد تحفظ بعض الشيء، فاشترط أن يستند الذوق إلى أسباب (ص ب في التقديم)، ثم عاد فأكد لقارئه أن «النقد المنهجي لا يكون إلا لرجل نما تفكيره فاستطاع أن يخضع ذوقه لنظر العقل» (ص7).
لكني أصارح أديبنا بأنني لا أكاد أفهم عنه حين يشترط للذوق «أسبابا»، ولا حين يطالبنا بإخضاع الذوق ل «نظر العقل»، «الأسباب» و«النظر العقلي» لا يكونان إلا في التحليل الموضوعي. فأنت يا سيدي بين أمرين؛ إما أن يكون الحكم للذوق، وإما أن يكون للعقل بنظره وأسبابه، فأيهما تختار؟ إما أن تحتفظ لنفسك بهما معا فذلك منك بمثابة النظر إلى الجنة بعين وإلى النار بعين كما يقولون. نعم، من حقك أن تطالب الناقد بذوق أنتجه طول النظر في روائع الفن فتضمن له شيئا من سلامته وحسنه، دون أن تقع في تناقض القول؛ وذلك ما أخذ به الآمدي نفسه؛ وما ظفر منك بالتأييد حين عقبت على قوله بقولك: «ومن الواضح أنه في هذه الفقرة يريد أن يقرر الحقيقة الثابتة من أن النقد ملكة مستقلة لا بد من أن تدرب على تلك الصناعة ...» (ص93)، بل ذلك هو ما أثبته أنت في مستهل كتابك حين قلت في الصفحة الأولى منه: «أساس كل نقد هو الذوق الشخصي تدعمه ملكة تحصل في النفس بطول ممارسة الآثار الأدبية.»
Page inconnue
على أننا إذا سلمنا بخلو هذا القول من التناقض، فلسنا نسلم بصوابه، ونعجب غاية العجب أن يقال للناقد: «تذوق الأدب تذوقك الطعام والشراب، ثم اكتب!» ماذا تكتب يا سيدي في تفضيل الكمثرى أو البرتقال، إذا أقمت المفاضلة على أساس الذوق وحده؟!
كلا، لسنا نرى هذا الرأي، و«نصر» على أن يقوم النقد على تدليل عقلي، نصر على أن يكون النقد «علما»، ولا نوافق الدكتور مندور في رأيه الذي أثبته في صفحة (2): «والنقد ليس علما ولا يمكن أن يكون علما، وإن وجب أن نأخذ فيه بروح العلم.» فها هنا كذلك ينظر إلى الجنة بعين وإلى النار بعين؛ فلست أدري يا سيدي ما العلم وما روحه؟!
تعريف العلم هو منهج البحث، ولست أعلم للعلم تعريفا غير هذا، فلتكن مادتك ما شئت لها أن تكون، لتكن أفلاك السماء أو أحجار الأرض، لتكن ماء أو هواء، لتكن ذهبا أو نحاسا، لتكن أدبا أو تاريخا، ف «هي علم» إذا اصطنعت في بحثها «منهجا»؛ ليس العلم «حقائق» بعينها، بل هو «ترتيب منهجي» لما شئت من حقائق، فإذا علمنا أن الدكتور مندور تحمل عناء كتابه ليبين للناس قواعد «النقد المنهجي» علمنا كذلك أنه أراد للنقد أن يكون علما - رضي أو كره - ولو جعلنا النقد منهجيا يا سيدي الدكتور - كما أردت له أنت أن يكون - إذن لجعلناه علما، وإذن لصددنا عنه رجالا أدعياء يستخفون حمله وإن حمله لثقيل.
وإنه لتعجبني في هذا الصدد عبارة ساقها الأستاذ المؤلف نقلا عن لنسون (ص6) تأييدا لرأيه، والواقع أنها أقرب إلى تأييد الرأي الذي أدعو إليه، في ختام العبارة المذكورة يطالبنا لنسون بعدم الخلط بين المعرفة والإحساس، وهو في ذلك مصيب؛ فلنا أن نتذوق القطعة الأدبية، لكن هذا التذوق لا يكون معرفة ؛ وبالتالي لا يجعل الناقد ناقدا، وإنما تبدأ عملية النقد الفني بعد أن تنتهي مرحلة التذوق، فالتذوق يأتي أولا، ثم يعقبه تحليل - إذا أمكن - للعناصر الموضوعية التي أثارت هذا التذوق، وهذا التحليل الموضوعي هو المعرفة، وهو النقد بأدق معناه، ولو وقفت عند مرحلة الذوق لما نطقت بكلمة واحدة، بل لما كنت شيئا على الإطلاق بالنسبة إلى سواك، وماذا عسى أن يقول لغيره المستدفئ بضوء الشمس في برد الشتاء؟!
وننتقل بعد ذلك إلى نقطة أخرى أريد أن أجادل فيها الكاتب أعنف الجدل، وهي هذا الرأي العجيب الذي يقوله في مواضع كثيرة وبصور مختلفة، من أن «الشعر لا يحتاج إلى معرفة كبيرة بالحياة ونظر فيها، بل ربما كان الجهل بها أكثر مواتاة له، وكثيرا ما يكون أجوده أشده سذاجة» (ص7)، وهو يكرر مثل هذا الرأي في صفحة 22 وفي صفحة 96. أية حياة تريد يا سيدي، هذه التي لا يحتاج الشعر إلى معرفة كبيرة بها؟ ما دمت لم تعمد إلى تحديد، فأنت بالطبع إنما تريد الكلمة على إطلاقها؛ فليس - في رأيك - بالشاعر حاجة إلى معرفة حياة أحد من الناس ولا إلى معرفة بأحاسيسه هو وخواطره؛ لأن هذه الأحاسيس وهذه الخواطر هي الجزء الأكبر من حياته، بل ليس بالشاعر حاجة إلى معرفة الحيوان والنبات من حيث هي أحياء، وسواء لديه أكانت هذه حية أو جامدة، فماذا تريده أن يكتب إذن؟ وبماذا تريده أن يتغنى؟ ثم ماذا تعني ب «السذاجة» التي هي في الشعر علامة على أجود الشعر؟ لو كنت تريد بها تعبيرا عن عواطف الحياة الريفية أو البدائية، فنحن نوافقك، لكنا نذكرك بما لا بد أنت عالم به، وهو أن الحياة الريفية حياة، والحياة البدائية حياة كذلك. أتعلم يا سيدي أن الشاعر الإنجليزي وردزورث لم يصدق في شعره «الساذج» إلا عن اطلاع واسع أغرى بعض المؤرخين أن يقول عنه إنه أوسع الناس اطلاعا في عصره؟ وها هنا أيضا أشفق مرة أخرى على أوساط القراء في بلدنا من مثل هذا الرأي؛ فمعظم «شعرائنا» إنما يلتمسون قرض «الشعر » لخلاء رءوسهم، فماذا لو طلع عليهم أديب نقادة مثل الدكتور محمد مندور فأوصاهم بالزيادة فيما هم فيه من جهل وخلاء؟
2
رد الدكتور محمد مندور
تفضل الدكتور زكي نجيب محمود بأن خص كتابي «النقد المنهجي عند العرب» بمقال ضاف عميق.
لقد أوضح الدكتور في مقاله موضوع الكتاب، وعرض لطائفة كبيرة من المسائل التي استوقفت نظره، بل تكرم فقال في أكثر من موضع إنها قد أثارت إعجابه، إما للفكرة التي تحتويها أو للروح التي ترقد تحتها أو للقدرة على صياغتها في لفظ واضح مركز.
على أن هذه الروح الكريمة التي أملت على الكاتب تقريظه، لم تمنعه - كما يقتضي الواجب وكما تقتضي الرسالة الجامعية التي ينهض بها في تنشئة الأجيال الصاعدة - نعم لم تمنعه هذه الروح الكريمة، ولا منعته صداقته للمؤلف من أن يتناول بالمناقشة الصارمة مسألتين تعتبران من أمهات المسائل التي عالجناها في كتابنا. وهاتان المسألتان هما: (1)
Page inconnue
طبيعة النقد الأدبي ومنهجه ووجوب اعتماده على الذوق أو نهوضه كعلم موضوعي. (2)
الشعر وطبيعته وملكة إنتاجه من حيث حاجته إلى معرفة عميقة بالحياة أو استغناؤه عن تلك المعرفة.
ولما كانت هاتان المسألتان أمرهما قديم، وكانت قد قامت بيننا وبين عدد من الأدباء وأساتذة الأدب منذ سنوات مناقشات حادة حولهما، ولما كنا قد أحسسنا بأن العناصر المكونة لهما لا تزال مختلطة غير واضحة، فقد رأينا أن نعود إليهما وبخاصة وأنهما يدخلان في صميم الأدب ونقده وتوجيهه، ونحن الآن في مرحلة من تاريخ الحياة العقلية في مصر لا يمكن إلا أن تفيد من مثل تلك المناقشات التي قد تنقدح منها شرارة الصواب. •••
يقول الدكتور زكي نجيب محمود: إن ما نقول به من أن الذوق هو أساس النقد الأدبي فيه خطر بالغ على الشبان الدارسين للأدب أو المتعلقين به؛ وذلك لأنه يمد لهم في حبل الغرور، ويطلق لأهوائهم العنان، ويعفيهم من ضرورة الحذر في الأحكام وتحصيل المعرفة وقراءة عيون المؤلفات ... إلخ، قبل أن يتخذوا من أنفسهم فيصلا للحكم على الأدب والأدباء.
ونحن مع اعترافنا بصدق هذه الحقيقة التي لمسناها أحيانا كثيرة في قاعات التدريس بالجامعة، بل وفي الكتب والمجلات، نعم إننا مع تسليمنا بهذه الحقيقة لا نظن أن كتابنا عن «النقد المنهجي عند العرب» يمكن أن يدفع على أي نحو في هذا الاتجاه؛ وذلك لأن الذوق الذي ندعو إليه كما لاحظ الكاتب نفسه أبعد ما يكون عن نزوات الغرور التي يخشاها عند الشباب.
لقد حددنا نحن أنفسنا لهذا الذوق مجال عمله وأوضحنا مقوماته فقلنا إن الذوق الذي يعتد به هو الذوق المدرب المصقول بطول الممارسة لقراءة النصوص الأدبية وفهمها وتحليلها، ثم أضفنا أنه لا يكفي أن يكون هذا الذوق مدربا، بل يجب أن تبرره نظرات العقل القائمة على التفكير السليم والمعرفة الدقيقة، وذلك حتى يصبح الذوق وسيلة مشروعة من وسائل المعرفة التي تصح لدى الغير.
وأما أن الذوق في ذاته هو أساس كل نقد أدبي صحيح فتلك حقيقة واقعة، بل هي ضرورة إنسانية. ولما كان إنكار الواقع لا يمحوه، وكانت مقاومة الضرورات الإنسانية لا تجدي فتيلا، فإنه من الخير للأدب وناقديه أن نسلم بعظم الدور الذي يلعبه هذا الذوق في نشاطنا الأدبي.
ولأكبر نقاد فرنسا في العصر الحاضر الأستاذ لانسون مقال عن المنهج في الأدب ترجمناه إلى اللغة العربية ونشرته دار العلم للملايين ببيروت في كتاب صغير بعنوان «منهج البحث في الأدب واللغة» وقد ضم هذا الكتاب بين دفتيه مقال الأستاذ لانسون المشار إليه، ثم مقالا آخر للعالم العالمي المشهور الأستاذ مييه عن منهج البحث في اللغة، وكم كنت أود لو اطلع الدكتور زكي على بضع صفحات من مقال الأستاذ لانسون عالج فيها المشكلة التي نتعرض لها اليوم، فأوضح من معالمها وألقى عليها من الضوء ما كان خليقا بأن يغني الدكتور زكي عن كثير من الشكوك والمخاوف التي تساوره عن النقد والعلم.
وفي الحق أن الدكتور زكي قد أخذ الحقائق الأدبية والفلسفية، بل والحقائق الإنسانية العامة على نحو مسرف في التبسيط. وآية ذلك أنه بالرغم من القيود والتحفظات التي وضعناها للذوق عندما يعمل في الأدب، نعم بالرغم من كافة تلك القيود والتحفظات، عاد الدكتور الفاضل إلى مناقشة في الأسس لا نراها تستند إلى شيء ثابت من الحقائق المعقدة التي يزخر بها الأدب من جهة والحياة الإنسانية من جهة أخرى.
عاد الدكتور الفاضل فتساءل عن كيفية تعليل الذوق بأسباب وكيفية إخضاعه لنظر العقل ورأى تناقضا في الجمع بينهما.
Page inconnue
ومع ذلك فإننا نحب أن يتدبر دكتورنا الفقرات الآتية من منهج الأستاذ لانسون.
قال ذلك الناقد العظيم: «إذا كان النص الأدبي يختلف عن الوثيقة التاريخية بما يثير لدينا من استجابات فنية وعاطفية، فإنه يكون من الغرابة والتناقض أن ندل على هذا الفارق في تعريف الأدب، ثم لا نحسب له حسابا في المنهج. لن نعرف قط نبيذا بتحليله تحليلا كيمياويا أو بتقرير الخبراء دون أن نذوقه بأنفسنا، وكذلك الأمر في الأدب؛ فلا يمكن أن يحل شيء محل «التذوق». وإذا كان من النافع لمؤرخ الفن أن يقف أمام لوحات زيتية مثل «يوم الحساب» أو «حلقة الليل» وإذا لم يكن ثمة وصف في قائمة متحف أو تحليل فني يستطيع أن يحل محل إحساس العين، فكذلك نحن لا نستطيع أن نتطلع إلى تعريف أو تقدير لصفات مؤلف أدبي أو قوته ما لم نعرض أنفسنا أولا لتأثيره تعريضا مباشرا، تعريضا ساذجا.»
ثم يضيف: «وإذا كانت أولى قواعد المنهج العلمي هي إخضاع نفوسنا لموضوع دراستنا لكي ننظم وسائل المعرفة وفقا لطبيعة الشيء الذي نريد معرفته، فإننا نكون أكثر تمشيا مع الروح العلمية بإقرارنا بوجود التأثرية في دراستنا وتنظيم الدور الذي تلعبه فيها؛ وذلك لأنه لما كان إنكار الحقيقة الواقعة لا يمحوها، فإن هذا العنصر الشخصي الذي نحاول تنحيته سيتسلل في خبث إلى أعمالنا ويعمل غير خاضع لقاعدة. وما دامت التأثرية هي «المنهج الوحيد» الذي يمكننا من الإحساس بقوة المؤلفات وجمالها فلنستخدمه في ذلك صراحة، ولكن لنقصره على ذلك في عزم ولنعرف مع احتفاظنا كيف نميزه ونقدره ونراجعه ونحده، وهذه هي الشروط الأربعة لاستخدامه. ومرجع الكل هو عدم الخلط بين المعرفة والإحساس واصطناع الحذر حتى يصبح الإحساس وسيلة مشروعة للمعرفة.»
وإذن فأولى عمليات النقد هي التذوق، والتأثرية هي المنهج الوحيد الذي يمكننا من الإحساس بقوة المؤلفات وجمالها، والقول بغير ذلك لا نظنه يستقيم في بداهة العقول.
وأما أن الذوق يجب بعد ذلك إخضاعه لنظر العقل من جهة وتعليله من جهة أخرى، فذلك ما لا تناقض فيه، وها هو ناقدنا العظيم لانسون يطالب بأن «نميز» و«نقدر» و«نراجع» و«نحد» الذوق حتى يصبح وسيلة مشروعة للمعرفة. وما نخال دكتورنا الفيلسوف زكي نجيب محمود إلا مقرا بأن هذه العمليات من اختصاص العقل، مما يقطع بأننا لا نتناقض عندما ندعو إلى إخضاع الذوق ل «نظر العقل».
والواقع أننا عندما نقرأ نصا أدبيا «لا تكون استجابتنا الفنية في العادة تامة النقاء؛ إذ إن ما نسميه ذوقا ليس إلا مزيجا من المشاعر والعادات والأهواء التي تساهم فيها كل عناصر شخصيتنا المعنوية بشيء، ومن ثم يدخل في تأثراتنا الأدبية شيء من أخلاقنا ومعتقداتنا وشهواتنا.»
وإذن فالمجال واسع لإخضاع الذوق لنظر العقل؛ وذلك لأن الذوق - كما يقول لانسون - لا يقوم على الحاسة الفنية فحسب، بل تداخله كل تلك العناصر النفسية والأخلاقية والاجتماعية التي يشير إليها في الفقرة السابقة.
وإذا لم يكن هناك تناقض بين إعمال الذوق في الأدب وإخضاعه لنظر العقل، فكم يرتفع من باب أولى ذلك التناقض العجيب الذي زعمه الدكتور زكي بين الذوق وتعليله! أظن أن الأمر لا يحتاج إلى جدل؛ فباستطاعة كل منا - بحسب قدرته على الاستبطان واتساع أو ضيق أفقه ومعرفته - أن يذكر أسباب إعجابه بهذا البيت من الشعر أو ذاك دون أن يكون هناك تناقض بين الإعجاب وأسبابه، وإذا بقي بعد ذلك شيء - ولا بد أن يبقى ذلك الشيء - لا يمكن تعليله فهذا هو سر العبقرية عند الشاعر، وهذا هو ما يعبر عنه لانسون بقوله: «نحن لا نعرف قط كل العناصر التي تدخل في تكوين العبقرية، ولا نسبة كل عنصر في المركب، كما لا نستطيع أن نتنبأ بالناتج الذي سيصدر عن ذلك التركيب.» وما عبر عنه أيضا من قبل إسحق الموصلي بقوله: «إن من الأشياء أشياء تحيط بها المعرفة ، ولا تؤديها الصفة.» إذ معنى المعرفة هنا هو «الاستبطان»
Intuition
و«الصفة» معناها «التعبير بالألفاظ».
Page inconnue