نريد - إذن - أن نبعد عن أنظارنا ونحن بصدد البحث في الفكر العربي المعاصر، كل منقول عن لغة أجنبية؛ لأنه ليس فكرا عربيا، وكل قديم منشور؛ لأنه ليس فكرا معاصرا؛ لنرى بعد ذلك ماذا يبقى بين أيدينا مما أنتجناه إنتاجا مبتكرا أصيلا، فقد يسهل علينا عندئذ أن نتعقب اتجاهنا الفكري وأن نلمح الخصائص التي تميز فكرنا.
لكن أين عسانا واجدون هذا الفكر الذي نريد أن نضعه موضع البحث والتحليل؟ إن الفكر لا يكون هواء سابحا في الفضاء بل هو شيء مدون في الكتب والصحف، فإذا أردنا جمع الفكر العربي المعاصر، فعلينا بما أخرجته المطابع خلال الفترة التي حددناها، مما كتبه أبناء الدول العربية عن ابتكار وأصالة، غير أن المطابع العربية قد أخرجت خلال الثمانين عاما التي ذكرناها، ألوف الكتب وعشرات الألوف من المجلات والصحف، وإنه ليتعذر علينا - بل قد يستحيل - أن نغربل هذا الإنتاج كله لنميز بين ما هو أصيل وما هو دخيل؛ ولذلك فحسبنا إنتاج طائفة قليلة من قادة الفكر، الذين أجمع الرأي على أنهم فينا صفوة ممتازة، فإن وجدنا هؤلاء في جملتهم يتجهون وجهة معينة، ويتسم تفكيرهم بسمات مميزة كانت لنا بذلك النتيجة المنشودة.
2
ها أنا ذا أضع أمامي طائفة من الأسماء التي لمعت في مجالنا الفكري إبان الفترة التي حددناها، وأحاول أن أستخرج ما بينها - أو ما بين أكثرها - من عناصر مشتركة، فأول ما يستوقف النظر في إنتاجهم، جهاد متصل في سبيل الحرية، لكنه جهاد تختلف ألوانه فيما بينهم؛ فكثرتهم تدعو دعوة صريحة إلى الحرية السياسية من المستعمر الأجنبي أو المستبد الداخلي، حتى لتجد نفرا منهم قد وصلوا أنفسهم بالأحزاب السياسية صلة جعلتهم يرتفعون بارتفاعها وينخفضون بانخفاضها، بل إن منهم من أوغل في هذه الصلة بالأحزاب السياسية إيغالا حتى تبوأ من حزبه مكان الرئاسة.
استنفد الجهاد السياسي شطرا كبيرا من جهدنا الفكري، فانطبع تفكيرنا - إلى حد ما - بالطابع الذي اقتضاه العراك الحزبي في ميدان السياسة، وهو أن يكون أصحاب الأقلام على وعي تام بتفصيلات الحوادث التي تتصل بقضايانا السياسية - الداخلية والخارجية - وأن يرهفوا قدراتهم الجدلية، بحيث يستطيع الكاتب أن يقرأ مقالة خصمه اليوم ليرد عليها غدا، فلا عجب أن يتسم تفكيرنا بقصر المدى وسرعة الإنتاج، وارتبط بالصحافة ارتباطا وثيقا، فجاءه من هذا الارتباط بالصحافة الخير مرة والشر ألف مرة، وسنرجئ الحديث في هذا لنعود إليه بعد قليل.
أقول إن الدعوة إلى الحرية طابع يميز الفكر العربي المعاصر، وإن هذه الدعوة قد جاءت صريحة من الأقلام التي نهض أصحابها بخدمة الأحزاب السياسية، وأقول «خدمة الأحزاب السياسية» وأعني ما أقول بمدلوله الحرفي؛ لأن الأحزاب السياسية جاءت أولا، ثم نهضت أقلام المفكرين للدفاع عنها بعد ذلك، فلم يكن المفكرون هم الذين أنشئوا الاتجاهات السياسية كما كان ينبغي أن يكون. حدث ذلك - مثلا - في فرنسا في القرن الثامن عشر، فظهر روسو وفولتير وديدرو ومن إليهم، وخلقوا الجو الفكري الذي شق للسياسة طريقها حتى كانت الثورة الفرنسية وما بعدها، وحدث ذلك في إنجلترا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حين جعل الكتاب يكتبون في الاشتراكية قبل أن تكون الاشتراكية حزبا سياسيا، حتى إذا ما خلق الحزب السياسي ونهض على قدميه، لم تعد ترى أئمة الفكر عندهم يلحقون به كما يلحق التابع بمتبوعه والخادم بسيده. وفي رأيي أن انعكاس الوضع عندنا في البلاد العربية له مغزاه وهو أن شعلة الحرية قد أضاءها رجال العمل لا رجال الفكر؛ ومن هنا جاء ما كتبه المفكرون في الحرية السياسية مقالات حزبية صحفية تسير وراء الحوادث اليومية، ولم يظهر بيننا المفكر الذي يكتب فيها رسالة لها نصيب من عمق أو اتساع، كما فعل مفكرو الغرب حين شقوا الطريق برسائلهم في الحرية السياسية لما قام بعدهم من أحزاب سياسية تكونت في ضوء تعاليمهم وآرائهم.
على أن الدعوة إلى الحرية السياسية لم تكن كل شيء؛ إذ ظهرت دعوات أخرى إلى حريات أخرى، وها هنا نجد لمفكرينا فضلا في الابتكار والإبداع؛ فلئن فات قادة الفكر منا أن يمسكوا بزمام الدعوة إلى الحرية السياسية، بأن تركوا هذا الزمام في أيدي الساسة واكتفوا هم بالسير في مواكب الأحزاب، فهم في سائر أنواع الحرية أئمة ورواد، ولنا في ذلك عزاء أي عزاء، إذا علمنا أن هذه الحريات الأخرى أبقى أثرا وأدوم حياة.
لقد شغلتنا المطالبة بالحرية السياسية حتى أوشكنا أن نفهم «الحرية» بهذا المعنى وحده، لولا جهود موفقة لقادة الفكر عندنا، علمتنا أن الحرية تكون في التعبير عن الرأي تعبيرا لا تقيده القيود؛ قل الرأي الذي تراه، وقله مخلصا صادقا، واحتمل في سبيله صنوف الأذى التي ربما نزلت بك نتيجة إعلانك لرأيك، تكن نصيرا للحرية أكبر نصير، مهما يكن نوع ذلك الرأي، ولو لم تذكر كلمة «الحرية» أبدا من أول المعركة إلى آخرها. ولا شك أن كثيرين من قادة الفكر العربي المعاصر، قد وقفوا دون آرائهم وقفات عنيدة فكانوا بذلك دعاة للحرية بمعناها الصحيح.
إننا إذ نقول إن الدعوة إلى الحرية سمة تميز فكرنا العربي المعاصر، نضع في اعتبارنا مظاهر قد تبدو تافهة إذا أخذت فرادى، لكنها هي القطرات التي يتكون منها التيار الدافق، فإذا رأيت الشعراء يجاهدون في تحطيم التقاليد الشعرية الموروثة ما استطاعوا إلى تحطيمها من سبيل، وإذا رأيت ألوانا جديدة تخلق في أدبنا خلقا من العدم أو شبهه، كالقصة والمسرحية، وإذا رأيت البائع في الطريق يحاول أن يحدد حقوقه إزاء الشرطي الذي يمثل الحكومة، والشاب الناشئ يريد أن يثبت شخصيته أمام أبيه أو معلمه، والزوجة تجاهد في اكتساب حقها كاملا في محيط الأسرة، إذا رأيت هذا كله ممثلا فيما ينشره المفكرون بينا، فاعلم أنه تيار فكري واحد يدفعنا نحو الحرية ونحو الكرامة الإنسانية، مهما تعددت ألوانه فيما أنتجه هؤلاء المفكرون.
3
Page inconnue