ثم يزول عني السحر مرة أخرى، ذلك السحر الذي فتنني عن نفسي عند القراءة الأولى، وأثوب إلى قواي العاقلة المحللة لأجد أديبنا الشاب في عمره، شيخا في جريه وراء السنة التي استنها الأدباء الشيوخ في أدبهم بوجه الإجمال، وهي أن يكتفوا بفتات الموائد! اسمح لي يا صديقي أن أكذبك فيما تزعمه لنفسك من خلق ينبذ الترديد والتقليد، لأنني استعرضت فصولك كلها بعد أن زال عني سحر أسلوبها، لأجدها - في أغلبها - تعليقا على رجل أو كتاب، وهذا هو ما أسميه بفتات الموائد التي قنعنا بها قناعة الأذلاء؛ ترى ماذا كنت تكتب لو لم يكن الله قد خلق برناردشو، ولورد بايرون، ومدام ريكامييه، وتوفيق الحكيم، وأبا العلاء، ورابعة العدوية، وعمر بن الخطاب، وعلي محمود طه، والمازني، ولن يوتانج، وبيكاسو، وأوسكار وايلد، وجميل بثينة، وجمهرة أخرى كبيرة من أدبائنا المعاصرين كتبت عن كتبهم؟ هبنا قد رضينا بما قسم الله لنا من نصيب قليل في الأدب، وهو أن نكتب المقالة القصيرة، ونفرك أكفنا بعدها حمدا لله وشكرا على فضله العميم، أفتكون هذه المقالة القصيرة نفسها تعليقا على رجل من الفحول أو كتاب حديث أو قديم، ولا تكون - إلا في القليل النادر جدا - عن مشكلة من المشاكل الحية التي يعج بها الهواء من حولك؟ ثم أتكون هذه حالنا من حيث الصورة ومن حيث المادة، مقالة قصيرة مرتكزة على إنتاج الآخرين، ونقول لناشئة الجيل القادم: هاكم «النماذج» التي تحتذونها في الأدب إن قصدتم إلى حمل الأقلام، وأردتم أن تكتبوا في تاريخ الأدب صفحة جديدة؟
لا، لا تصدقوا الأستاذ المعداوي في ثورته؛ إنه ليس بالثائر كما رجونا لشبابه الفتي الطموح أن يكون؛ إنه لا يزال يسير على النهج الذي لا بد من الثورة الحقيقية على أسسه وأوضاعه؛ إنه لا «يخلق» جديدا على نحو ما يخلق الأدباء الفحول؛ إنه لا يزال - مثلنا - عبدا من العبيد الذين يقنعون بما يملى عليهم من خارج نفوسهم.
إن في هذا الكتاب لسحرا، وإني لأخشى على قرائه من سحره، لأنه سيشدهم في فهم الأدب إلى الوراء، ونحن نتمنى لهم أن يتقدموا خطوة إلى أمام.
الفكر العربي المعاصر
اتجاهه وخصائصه
1
ليس كل ما يكتب بالعربية فكرا عربيا؛ فالفكر لا تتحدد قوميته باللغة التي كتب بها، بل ينتسب إلى قومية منتجه، كائنة ما كانت اللغة التي استخدمها ذلك المنتج في التعبير عن فكره؛ فلو نقلنا إلى اللسان العربي شيكسبير من إنجليزيته، أو راسين من فرنسيته، فلا يصبح الأدب المنقول أدبا عربيا بسبب الثوب العربي الذي ألبسناه إياه، كما لا يصبح الرجل من الإنجليز أو من الفرنسيين أعرابيا إذا ما لبس العباءة العربية.
لقد نظم طاغور بعض شعره بالإنجليزية، لكن هذا الشعر يضاف إلى الأدب الهندي رغم لغته؛ لأن القلب الشاعر هندي يشعر بما يشعر به الهنود. على أنه يجوز أن تستثني من هذا التعميم، الكاتب الذي ينشأ في وطن غير وطنه فيصبح وكأنه من أبناء هذا الوطن الجديد، ويندمج مع أهله في أفكارهم ومشاعرهم، ومن أمثلة ذلك «كنراد» البولندي الذي كتب قصصه بالإنجليزية بعد أن نشأ وتربى بين الإنجليز، فجاء أدبه فصلا من تاريخ الأدب الإنجليزي، ولذلك أيضا أمثلة كثيرة لرجال من الفرس كتبوا ما كتبوه باللغة العربية، وجاءت كتابتهم جزءا من الفكر العربي؛ لتأصل الروح العربية في نفوسهم.
فلا مندوحة لنا - إذ نتناول بالتحليل فكرنا العربي المعاصر - عن اطراح ما نقلناه من اللغات الأجنبية على اختلافها لا فرق في ذلك بين قديمها وحديثها، ولا بين ترجمة كاملة وتلخيص؛ لكي نحصر أنظارنا فيما هو فكر عربي خالص.
ثم لا يكون هذا الفكر العربي الخالص الذي نخلص إليه بعد تنحية الفكر المنقول فكرا معاصرا، إلا إذا كان أصحابه الذين أنشئوه وأنتجوه من أبناء الجيلين أو الثلاثة الأجيال الأخيرة - وهي الأجيال التي يمكن أن نتفق على أنها تحدد معنى المعاصرة - بحيث يجوز لنا أن نطلق لفظ «الفكر العربي المعاصر» على ما أنتجه أبناء الدول العربية في الثلث الأخير من القرن الماضي وفي هذا النصف المنقضي من القرن الحاضر؛ ولا مندوحة لنا مرة أخرى عن اطراح الكتب التي نشرناها في هذه الفترة من تراثنا القديم، والتي ليس لنا من فضل إلا فضل بعثها وهو كفضل الذي يخرج من جوف الأرض آثار آبائه الأقدمين، نعم إن الكشف كشفه، لكن فضل الكشف عن الآثار لا يجعلها من صنع يديه، فله إن شاء أن يفخر بمجد آبائه على ألا ينسى أن مجده هو من ذلك كله لا يكون إلا لنسبته إلى هؤلاء الآباء.
Page inconnue