ولا بد أن أتقدم إلى قارئي برجاء واحد، وذلك أنه إذا حكم على هذه الأشعار فليحتكم إلى شعوره الخاص، دون أن يركن إلى التفكير فيما يحتمل أن يحكم به الآخرون، فما أكثر أن تسمع إنسانا يقول: أنا نفسي لا أمج هذا الأسلوب في الإنشاء، ولا أكره هذه العبارة أو تلك، ولكنه قد يبدو وضيعا سخيفا لهذه الطائفة من الناس أو لتلك! ويكاد هذا اللون من النقد الذي يهدم كل رأي سليم صادق يكون عاما بين الناس أجمعين، فليتشبث القارئ بشعوره هو غير متأثر بشعور سواه، فإذا أحس في نفسه استمتاعا بما يقرأ فلا ينبغي أن يسمح لهذه الأقاويل بأن تحول دون استمتاعه.
إذا استطاع كاتب في بعض ما يكتب أن يحملنا على الاعتراف بمواهبه، فخليق بنا أن نتخذ من هذا دليلا على أننا حين قرأنا لهذا الكاتب عينه ما صادف منا الإعراض فربما نكون قد أخطأنا التقدير ومن الجائز ألا يكون الكاتب هزيلا عابثا فيما كتب، بل إنه لواجب حتم إذا ما أعجبنا بالكاتب في بعض ما كتب أن نغلو في مدحه غلوا يحملنا على مراجعة النظر فيما لم يظفر منا بالإعجاب، فنعيد تلاوته في عناية أكبر. وليس هذا ما تقضي به العدالة فحسب، ولكن أحكامنا على الشعر بصفة خاصة قد تكون بعيدة الأثر في تهذيب أذواقنا؛ لأن الذوق الدقيق في الشعر، وفي سائر الفنون جميعا ، كما لاحظ «السير جوزوا رينولدز
Sir Joshua Reynolds » ملكة مكتسبة، تنشأ بالتفكير والاشتغال الطويل المتصل بأجود نماذج الإنشاء. ولست أذكر هذا لغرض سخيف بأن أمنع القاري الناشئ من الحكم لنفسه بنفسه (فقد أردت له فيما سبق أن يحكم لنفسه) ولكني أريد أن أحد من التهور في الحكم، وأن أشير إلى أنه إذا لم ينفق في دراسة الشعر وقت طويل فقد يكون حكمنا عليه باطلا، وأنه لهذا السبب يتحتم أن يكون حكم الناقدين باطلا في كثير من الأحوال.
وإني لعلى يقين أن آخر ما يدنيني من غايتي التي أقصد إليها هو أن أبين أي نوع من اللذة نصادفه، وكيف ينشأ، فيما نتلوه من أساليب الشعر التي تخالف أشد اختلاف هذه القصائد التي أحاول أن أقدمها الآن؛ إذ لا ريب في أن لتلك الأساليب لذة لا تنكر، فسيقول القارئ إنه قد استمتع فعلا بذلك الأسلوب وماذا تراه يرجو من الشعر غير هذا؟ إن قوة الفنون على اختلاف أنواعها محدودة، فإذا زعمنا للقارئ أننا إنما نقدم له صديقا جديدا بهذا الأسلوب الجديد خشي أن يكون ذلك على شرط أن ينبذ أليفة القديم؛ هذا فضلا عما أشرت إليه فيما سلف من أن القارئ قد أدرك بنفسه المتعة التي لقيها من الأسلوب القديم، ذلك الأسلوب الذي اختصه باسم الشعر وهو اسم ما أعزه على النفس، وإنه لمن طبيعة البشر جميعا أن يشعروا بواجب الثناء، وأن يدعوهم الشرف إلى الاستمساك بالأشياء التي لبثت أمد طويلا مصدرا لاستمتاعهم، فلا يريد الإنسان أن يستمتع فحسب، بل إنه ليميل أن يستمتع بطريقة معينة ألفها فيما مضى. ويكفي أن تكون هذه المشاعر كامنة في الناس لتدحض ما شئت من براهين؛ ولذا فما أحسبني موفقا في محاربتها؛ لأنني أود أن أقرر بأن القارئ لن يستمرئ الشعر الذي أقدمه له الآن على النحو المرجو إلا إذا اطرح كثيرا مما ألف أن يستمتع به، ولو كانت حدود هذه المقدمة تأذن لي أن أبين كيف تنشأ اللذة بقراءة الشعر إذن لأزلت كثيرا مما يعترض الطريق من عقبات ، ولعاونت القارئ أن يدرك أن قوى اللغة ليست من الضيق بحيث يتوهم، وأن في مقدور الشعر أن يهيئ متعا أخرى أصفى طبيعة وأدوم بقاء وأروع جلالا. نعم إني لم أهمل هذا الجانب من الموضوع إهمالا تاما، ولكني في الوقت نفسه لم أقصد إلى إقامة الدليل عليه بحيث أن أبين للقارئ أن اللذة التي تحدثها ضروب الشعر الأخرى ضئيلة وليست خليقة أن تستخدم من أجلها قوى العقل السامية؛ إذ لو بينت ذلك لكان ثمة ما يؤيدني إن زعمت أني لو حققت بهذه الأشعار أملي لأنشأت بها نوعا جديدا من الشعر، هو الشعر بأدق معناه، الشعر الذي أعد بطبيعته ليبعث في الإنسانية كلها سرورا لا ينقطع، والذي يعظم شأنه لما فيه من تعدد الروابط الخلقية وسموها.
إذا ألم القارئ بما قلته، وإذا قرأ هذه الأشعار، استطاع أن يتبين في وضوح ما أقصد إليه من غرض، وسيرى إلى أي حد قد دنوت من غايتي، كما أنه سيدرك ما هو أخطر من ذلك شأنا؛ إذ سيحقق لنفسه إن كانت غايتي جديرة بالسعي لها أم لم تكن، وسيتوقف على قراره في هاتين المسألتين حقي في المطالبة باستحسان الجمهور.
النقد الأدبي بين الذوق والعقل
1
من أمتع المطالعة كتاب تطالعه لكاتب بينك وبينه ما بين الصديقين من ود وإخاء؛ عندئذ تمثل حركاته أمام ناظريك، ونبراته في مسمعيك، فلا يكاد يخيل إليك أنك فيما تطالع إزاء كتاب منشور، بل يتمثل لك الصديق الكاتب مسامرا متحدثا، هادئا حينا غاضبا حينا، وخصوصا إن كان هذا الصديق الكاتب متحمسا لموضوعه، يكاد القلم يرتعش في يده من حرارة تحمسه، ويقذف أمام قارئه بالرأي متحديا حينا بعد حين، كأنما يقول له وعيناه حادتان وشفتاه مزمومتان: هذا رأيي أزعمه لك بعد درس طويل عميق، فماذا أنت قائل؟!
ذلك هو موقفي من كتاب «النقد المنهجي عند العرب» لصديقنا الكاتب الأديب الدكتور محمد مندور، وهو كتاب يتتبع فيه مؤلفه الفاضل حركة النقد الأدبي كما تتمثل في أعلامها من تاريخ الأدب العربي، فاتخذ «مركزا لهذا البحث الناقدين الكبيرين أبا القاسم الحسن بن بشر بن يحيى الآمدي، صاحب كتاب «الموازنة بين الطائيين»، والقاضي أبا الحسن علي بن عبد العزيز بن الحسن بن علي بن إسماعيل الجرجاني، صاحب كتاب «الوساطة بين المتنبي وخصومه»، ولكننا مع ذلك تتبعنا موضوع بحثنا منذ أول كتاب وصل إلينا في النقد وتاريخ الأدب وهو كتاب «طبقات الشعراء» الذي كتبه ابن سلام الجمحي في القرن الثالث الهجري، كما تتبعناه إلى أن تحول النقد إلى بلاغة على يدي أبي هلال العسكري مؤلف «سر الصناعتين» في القرن الخامس، بل وانحدرنا به قرنين آخرين حتى لاقينا ابن الأثير في «المثل السائر».»
ثم يقول المؤلف الفاضل: «وفي خلال هذه الرحلة الطويلة عرض لنا الكثير من أمهات المسائل التي لم يكن بد من إيضاحها لكي نتبين معالم الطريق وندرك تسلسل علوم اللغة العربية المختلفة وتاريخ نشأتها كالبلاغة والبديع والمعاني والبيان، كما عرضت جملة من النظريات العامة في الأدب، فضلا عن عدد كبير من المناقشات الموضعية في النقد التطبيقي فتناولنا كل ذلك بالغربلة والتمحيص.»
Page inconnue