التي تمتد في اتجاه شمالي شرقي من قلمرية في البرتقال إلى سرقسطة، ويمكن أن يعد نهر إبره حدا تقريبيا، فكان المسلمون ينعمون بالسهول الخصيبة لأنهار تاجه، ووادي يانه، والوادي الكبير، وهو الاسم الذي سمى به العرب هذا النهر لعظمه، وكانوا يملكون إلى جانب مدن الأندلس الشهيرة مزايا الثروة، ورواج التجارة، واعتدال الجو إلى غير ذلك مما اشتهر به هذا القسم من عهود الرومان.
وهذا التقسيم طبيعي، فقد تميز القسمان تميزا جغرافيا منذ القدم لاختلاف أجوائهما، فالشمال موحش معرض للرياح الهوج والأمطار الهاطلة والبرد الشديد، وهو على جودة بعض المروج والمراعي به لا يصلح كثير من أراضيه للزراعة، أما الجنوب وإن كان مهددا بالرياح الحارة التي تهب من إفريقية، فمزدهر كثير المياه صالح للزراعة، وبين القسمين مساحة واسعة كان المسلمون ينتفعون بها على الرغم من أن ملكيتها كانت موضع شك وجدال، وأبغض العرب - وهم عشاق الشمس المتألقة - هذه المساحة الباردة، فتركوها لقبائل البربر أصحاب طارق، وكان هؤلاء دائما موضع زراية العرب الخلص الذين جنوا ثمرات الفتوح.
ملك المسلمون ثلثي شبه الجزيرة وسموها بالأندلس، وأنشأوا بها مملكة قرطبة العظيمة التي كانت أعجوبة العصور الوسطى، والتي حملت وحدها في الغرب شعلة الثقافة والمدنية مؤتلقة وهاجة وقت أن كانت أوربا غارقة في الجهالة البربرية، فريسة للشقاق والحروب.
ويجب ألا يجول ببال أحد أن العرب عاثوا في البلاد أو خربوها بصنوف الإرهاق والظلم كما فعل قطعان المتوحشين قبلهم، فإن الأندلس لم تحكم في عهد من عهودها بسماحة، وعدل، وحكمة كما حكمت في عهد العرب الفاتحين.
وقد يسأل المرء نفسه دهشا: من أين جاء لهؤلاء العرب كل هذه المواهب السامية في الإدارة والحكم؟ فقد جاءوا مباشرة من صحرائهم العربية ولم تترك لهم فتوحهم المتوالية من الزمن إلا قليلا لدراسة فنون سياسة الأمم المغلوبة، نعم، إن بعض رجال دولتهم كانوا من اليونان والإسبان، ولكن هذا لا يبطل العجب؛ لأن هؤلاء لو تركوا وحدهم أو عملوا في ميدان آخر بعيد عن العرب لعجزوا عن أن يكون لهم أمثال هذه النتائج الباهرة، وكل ما هيئ للعقول الإسبانية من القدرة الإدارية لم يكف لجعل الحياة أيام دولة القوط محتملة هنيئة، ولكن الأمة الإسبانية على النقيض من ذلك كانت في ظلال حكم العرب راضية هانئة كما يمكن أن يرضى ويهنأ شعب مغلوب يحكمه غاصب، بل إنها كانت أسعد حالا وأرخى بالا مما كانت عليه حين كان حكامها القوط يدينون بدينها الذي تراءوا باسمه دون حقيقته، فإن اختلاف الدين كان في الحق أقل المصاعب التي لاقاها العرب في أول حكمهم، وإن أصبح بعد ذلك مثار عنت واضطراب؛ لأن ميول الإسبانيين للمسيحية كانت لا تقل عن ميولهم للوثنية، فقد فرض عليهم قسطنطين المسيحية فرضا، فبقي الناس متشبثين برومانيتهم، ولم يترك الدين في نفوسهم إلا أثرا ضئيلا، وهم في الواقع لم يكونوا في حاجة إلى دين جديد، بل كانوا في أشد الحاجة إلى القدرة على أن يعيشوا حياتهم في أمن ورغد، وقد منحهم ساداتهم المسلمون هذين.
وفي بداءة الفتح، مر بالأندلس وقت قصير مضطرب، شوهته حوادث الإحراق والقتل والمصادرة، غير أن حكام العرب أسرعوا إلى وقف كل ذلك، ورأت الرعية بعد أن استقرت الأمور في نصابها أن حياتها على كل حال لم تكن أسوأ مما كانت عليه من قبل، ثم أخذ الناس بعد قليل يشعرون بأنهم أفادوا من تغير الحكم، فقد كان للإسبانيين أن يحتفظوا بشرائعهم وقضاتهم، وعين لهم حكام من أنفسهم يديرون المقاطعات ويجمعون الضرائب ويفصلون فيما شجر بينهم من خلاف، وأصبح سكان المدن لا يكلفون إلا الجزية والخراج - إن كانت لهم أرض تزرع - بعد أن كانوا في عهد القوط يحملون وحدهم عبء الضرائب والأموال التي تنفق على الدولة، وكانت الجزية متدرجة على حسب منزلة المطالبين بها، فكانت تبتدئ من اثني عشر درهما إلى ثمانية وأربعين في العام، أو من نحو ثلاثة جنيهات إلى اثني عشر، وقد قسمت اثني عشر قسطا، يجبى قسط في كل شهر للتخفيف عن الرعية، وقصرت الجزية على المخالفين في الدين من النصارى واليهود، أما ضريبة الأراضي التي كانت تتفاوت على حسب قدرة إنتاج الأرض، فإنها فرضت بعدل ومساواة على النصارى واليهود والمسلمين جميعا، ولم تمتد يد المسلمين في الغالب إلى أملاك المدن والأهلين التي كانت لهم قبل الفتح، نعم، إن أملاك الكنائس صودرت، وكذلك الأملاك التي فر أصحابها إلى جبال الشمال، ولكن العرب تركوا عبيد هذه الأراضي يعملون بها على أن يؤدوا إلى ساداتهم المسلمين نسبة من الحاصل تتفاوت بين الثلث وأربعة الأخماس، وعومل بعض المدن كماردة وأريولة معاملة خاصة، وفازت من الفاتحين بخير الشروط، فاحتفظ السكان فيها ببضائعهم وأراضيهم على أن تؤدى إلى الحاكم إتاوة في كل عام، ولم يكن المسيحيون على أسوأ الفروض ملزمين دفع ضرائب أكثر مما كان يدفع جيرانهم المسلمون، على أنهم قد ظفروا بحق لم يكن لهم أيام ملوك القوط، فأصبحوا في عهد الإسلام قادرين على نقل ملكية أراضيهم لغيرهم، أما التسامح الديني فلم يدع للإسبانيين سببا للشكوى، فقد تركهم العرب يعبدون كما يشاءون من غير أن يضطهدوهم أو يلزموهم اعتناق عقيدة خاصة كما كان يفعل القوط باليهود، وكانت الجزية كبيرة الفائدة لخزانة الدولة، حتى إن بعض أمراء قرطبة كانوا يميلون لتثبيط عزائم المتحمسين من المسلمين الذين أخذوا يدعون إلى الإسلام؛ لأن هذه الدعوة كانت تحرم الدول منبعا غزيرا من موارد جبايتها.
وكان من أثر هذه المعاملة وذلك التسامح أن رضي المسيحيون بالنظام الجديد، واعترفوا في صراحة أنهم يؤثرون حكم العرب على حكم الإفرنج أو القوط، حتى إن القساوسة أنفسهم لم يكونوا شديدي التألم لحكم العرب كما يدل على ذلك التاريخ المنسوب إلى (إيزيدور) الباجي
2
الذي كتب بقرطبة سنة 754م/137ه فإن هذا الراهب الصالح لم يتحرج من تدوين تلك الصلة غير الجائزة من زواج أرملة لذريق بابن موسى ابن نصير،
3
Page inconnue