تقديم
آخر أيام القوط
موجة الفتح
الأندلسيون
الشاب الداخل
النصارى الشهداء
الخليفة العظيم
الحرب المقدسة
حاضرة الخلافة
الحاجب العظيم
Page inconnue
عودة البربر إلى الحكم
السيد المبارز
مملكة غرناطة
سقوط غرناطة
ظهور الصليب
تقديم
آخر أيام القوط
موجة الفتح
الأندلسيون
الشاب الداخل
Page inconnue
النصارى الشهداء
الخليفة العظيم
الحرب المقدسة
حاضرة الخلافة
الحاجب العظيم
عودة البربر إلى الحكم
السيد المبارز
مملكة غرناطة
سقوط غرناطة
ظهور الصليب
Page inconnue
قصة العرب في إسبانيا
قصة العرب في إسبانيا
تأليف
ستانلي لين بول
ترجمة
علي الجارم
عاثت بساحتك الظبى يا دار
ومحا محاسنك البلى والنار
فإذا تردد في جنابك ناظر
طال اعتبار فيك واستعبار
Page inconnue
أرض تقاذفت النوى بقطينها
وتمخضت بخرابها الأقدار
كتبت يد الحدثان في عرصاتها (لا أنت أنت ولا الديار ديار)
ابن خفاجة الأندلسي
تقديم
شغف الناس في القديم والحديث بتاريخ العرب في الأندلس، ووجدوا في قراءته والاستماع لأحاديثه لذة روحانية عجيبة لا يجدونها في سواه، ولعل من أسباب هذا الشغف أنهم يقرءون فيه قصة رائعة للبشرية تتقلب فيها أحداث الزمان، وتصطخب صروف الأيام، ويداول الدهر فيها بين شطريه، فهو مرة صفاء لا يشوبه كدر، وابتسام لا تحوم حوله جهومة، وأمن لا يخالطه حذر، وعز راسخ، وقوة، وسلطان، ونعيم، وملك كبير، وهو في أخرى هم، ونصب، وخذلان، وبلاء مستطير.
إن قصة الأندلس عجيبة حقا، مثيرة للنفس حقا، فيها من أحاديث البطولة والإقدام ما يعجب له العجب، ويهتز له عطف العربي الكريم، فيها جرأة طارق، وإقدام عبد الرحمن الداخل، وعزيمة الناصر، وعبقرية المنصور، وفيها إلى جانب كل هذا أمثلة رائعة للصبر حين البأس، وللجلد على أشد المكروه، وللتمسك بالعقيدة والسيف معا فوق الرءوس، وللثبات في مأزق يفر فيه الشجاع.
وقصة الأندلس - ككل القصص - كما تصور الرجولة تستهوي النفوس وتسحر العيون، ترسم إلى جانبها الفسولة والجبن، والحقد والنفج الكاذب، والشره في حطام الدنيا الزائل، وبيع النفوس للشهوات في أقبح ما يصوره المصورون.
وتاريخ الأندلس كله عراك ونضال وصخب، لا تكاد تقلب صفحة من صفحاته حتى تسمع قعقعة السيوف، وصليل الرماح : صراع بين ملوك المسلمين، وصراع بينهم وبين نصارى الشمال، وصراع بين الأجناس والقبائل، وصراع بين العقائد والمذاهب، ثم صراع أخير بين الحياة والموت، وبين الأذان والناقوس.
ومن العجب أنك على الرغم من هذا الاضطراب الشامل، تقرأ في قصة الأندلس صحائف من ذهب، تتجلى فيها مدنية العرب معجزة من المعجزات وآية من الآيات.
Page inconnue
فلقد كانت الأندلس في العصور الوسطى شعلة النور ومنار الهداية، وكانت جامعاتها بقرطبة، وإشبيلية، وغرناطة، وغيرها ملتقى طلاب العلم من الشرق والغرب، وكان فيها للأدب والشعر والفنون عامة منزلة لم تكد تصل إليها أمة، وإذا تحدثنا عن فنون العمارة، والهندسة، والنقش، وغيرها، طال بنا الكلام، وخرجنا عما قصدنا إليه من الإيجاز.
إن سقوط الأندلس لم يكن إلا سقوط النجم المتلألئ اللامع، وانهيار الجبل الأشم الراسخ، وإن دولة في الأرض لم تشيع بعبرات العيون، وحسرات القلوب، كما شيعت الأندلس، ولم يبك الشعراء ملكا طواه الزمان كما بكوا ملك الأندلس، ولم يقف المؤرخون وهم يدونون خاتمة أمة حاسري الرءوس خاشعين، يرسلون الزفرات - كما وقفوا عند قبر دولة العرب بالأندلس.
خفقت الجوانح بحب الأندلسيين على الرغم مما يزعمه التاريخ من أنهم أعطوا ملكا فلم يحسنوا سياسته، واستناموا إلى الشهوات، واستعان بعضهم على بعض بالأعداء، على أنه يجدر بأهل الرأي ألا يتعجلوا في الحكم على أهل الأندلس وهم لم يعيشوا في بيئتهم، ولم يدرسوا أتم الدرس الأحوال التي مرت بهم، ولم يدققوا النظر في نظام الحكم الذي التزمته الأمم في هذه الأزمان.
إن المسلمين بالأندلس كانوا في أرض غير أرضهم، وفي إقليم اجتمعت فيه كل صنوف الفتنة والجمال، وكان أعداؤهم من الإسبان يحيطون بهم من كل جانب، وأعداؤهم في المشرق ينصبون لهم الحبائل، أفبعد هذا نصب عليهم اللوم حميما، ونحملهم وزر تصاريف الزمان، وتحكم البيئة، وسيطرة الأحوال التي وضعتهم فيها يد القدر؟!
إن العرب عاشوا في هذه الفتن الجائحة نحو ثمانمائة عام، قل أن تستطيع أمة سواهم البقاء في مثلها، ليقل الشعوبية ما شاءوا، وليقس ابن خلدون وأمثال ابن خلدون على العرب كما أرادوا، أليس من التجني على الحقائق أن يدعي ابن خلدون أن العرب لا يصلحون لسياسة الأمم، وأنهم أمة جهل وتدمير، وأنهم إذا نزلوا بلدا أسرع إليه الخراب؟!
إن سماحة حكم العرب بالأندلس، وجمال مدنيتهم، واتساع مدى ثقافتهم أسمى من أن يصل إليه إنكار منكر أو جحود جاحد، وإن في آثار قرطبة، وإشبيلية، وغرناطة - التي لا تزال ماثلة إلى اليوم من معجزات البناء والهندسة - ما يخجل كل من يدعي أن أمة العرب أمة خراب وتدمير، وأنهم يهدمون القصور ليتخذوا من أحجارها أثافي للقدور، ومن خشبها أوتادا للخيام، أين هذه الأثافي وأين تلك الخيام من جنات الأندلس الباسمات، وقصورها الشامخات؟! ثم أين هي من عظمة دمشق أيام الأمويين، وجمال بغداد في حكم العباسيين، وازدهار القاهرة في عهد الفاطميين؟!
إن العرب يبنون ولا يهدمون، وإن الهدامين لآثارهم ومدنياتهم إنما هم أعداؤهم من البربر، والإفرنج، والتتار، وغيرهم، وإذا كانت دول العرب قد منيت بالانحلال السريع في الشرق والغرب، فإن أكثر السبب في هذا - فيما يغلب على الظن - إنما يعود إلى نظام الحكم الذي كان قائما، لا إلى طبائع العرب أنفسهم، ولو نظرنا في عهودهم إلى الأمم حولهم في أقطار الأرض، لرأينا أنها أصيبت بما أصيب به العرب.
والآن نعود إلى قصة الأندلس فنرى أن ما كتبه الأولون فيها لا يشفي نفس القارئ، ولا يبل غلته، وهذا كتاب نفح الطيب - وهو خير كتاب ألف في تاريخ الأندلس - كله اضطراب، واستطراد، وتكرار، والتواء، وتشتت؛ لهذا كانت خزائن الكتب العربية في أشد الحاجة إلى مثل كتاب «إستانلي لين بول» الذي سماه قصة العرب في إسبانيا، والذي قرأته فأحسست بدافع نفسي يلح بوجوب ترجمته إلى لغة العرب، وشعرت بأن النكول عن هذه الرغبة عقوق لحسبي وقومي وتاريخي، وإذا كان هذا القلم الذي جردته أربعين عاما لا يجيد إلا تنميق قصيدة في الغزل، أو المديح، أو الرثاء، ولا يصول إلا فوق صفحات من الأدب واللغة، حتى إذا جاء كاتب إنجليزي محقق فألف كتابا بلغته فيه إنصاف للعرب وتاريخهم ، وفيه إشادة بحكمهم وعلمهم وأدبهم وحضارتهم - انكمش في دواته وأدركه الحصر، فأجدر بهذا القلم أن يحطم، وأحرى بسنانه أن يقصف، وأخلق بصاحبه ألا يباهي مرة أخرى بعروبته!!
إن إستانلي لين بول يحب العرب ويتغنى بمجدهم، ويؤلف لأبناء أمته في تاريخهم كتابا، أو قل قصيدة طويلة الذيول كلها ثناء وإطراء، وحب وإعجاب، وعطف وحنان، ولوعة وبكاء، فهل كان يصح في حكم البر بالعربية أن يبقى أبناؤها محجوبين عن هذا الكتاب دهرا طويلا؟!
ترجمت الكتاب فارتاحت نفسي؛ لأني في حين واحد أذعت فضل العرب على لسان رجل ليس منهم، ثم أذعت فضل هذا الرجل؛ لأنه جدير بإعجاب العرب.
Page inconnue
أما طريقة لين بول في التأليف فجامعة بين التحقيق العلمي وربط الحوادث بعضها ببعض، وتأدية قصة الأندلس كاملة متصلة الأواصر، في أسلوب شائق وسياق رائع، فإنه بعد أن قرأ تاريخ الأندلس في مراجع شتى بين عربية وإفرنجية، ولقي ما لاقى في اجتياز ذلك الخضم المضطرب بالروايات والحوادث - استطاع أن يخرج للأدب والتاريخ قصة بديعة الأسلوب، متماسكة الحلقات، لها - مع صدق حقائقها - كل ما للقصص الخيالية من فتنة وسحر.
وقد يداخلك بعض الريب في أن المؤلف متعصب للعرب، محتطب في حبلهم؛ لأنك تراه يقتنص الفرص أو يخلقها للإشادة بدينهم، وسياستهم للأمم، ثم بآدابهم ومدنيتهم التي يعدها شعلة النور في أرجاء أوربا بعد أن خمدت مدنية الرومان، وزالت حضارة اليونان، ثم إنه رسم لعبد الرحمن الداخل، والناصر، والمنصور بن أبي عامر صورا من القوة والحزم، والعدل والدهاء، لم يستطع مؤرخ عربي أن يجمع ألوانها، وإذا غمز بعض المحسنين من الأمراء بنقد، كان خفيف المس رفيقا، حتى إنه لم يبخل بفضلة من عطفه على ملوك الطوائف الذين بددوا شمل الدولة، فأحسن رثاء دولتهم، وبكى فيهم الهمة والسخاء، وإنهاض العلوم، وإعلاء شأن الأدب والشعر، أما حديثه عن مملكة غرناطة وأفول شمس العرب بالأندلس، فلم يكن إلا أنات وزفرات ودموعا.
وقف على أطلال الأندلس كما يقف العاشق المحزون، فبكى مدنية زالت، وفنونا بادت، وعزا طاح مع الرياح، وملكا كأن لم يمض عليه إلا ليلة وصباح، ومجالس أنس كانت نغما في مسامع الدهور، ودروس علم هرعت إليها الدنيا وتلفتت العصور.
نعم، إن إستانلي لين بول كان يحب العرب حقا، ولكن هذا الحب لم يجاوز به الحق، ولم يخدعه عن نفسه، ولم يسلبه صفة المؤرخ المحقق، وكل ما في الأمر أنه كان صريحا في نشر الحقائق، فصدع بها حين أنكرها أو شوه من جمالها كثير ممن يكتمون الحق وهم يعلمون، إن لين بول لم يكن متعصبا للعرب، ولكنه كان لهم منصفا، وعلى تاريخهم أمينا، ولهم أخا وصديقا، حين قل الأخ وعز الصديق، على أن في الكتاب عتابا في مواطن العتاب، ولوما في مواضع اللوم، وتعنيف المحب المخلص حين يحسن التعنيف.
ومما تجمل الإشارة إليه أن المؤلف في حديثه عن الإسبان خاصة وأهل أوربا عامة، إنما كان يتحدث عن حياة قوم في العصور الوسطى، أو في أيام حكم البربون، قبل أن يتسع نطاق المدنية، وينبلج فجر العصر الحديث الذي غير كثيرا من أخلاق الناس وعقولهم ونظرهم إلى الأشياء، فإذا نقد المؤلف رجال العهود الماضية بأوربا وإسبانيا، فإنه لن يتردد اليوم في الحكم بأن الزمن دار دورته، وأن التاريخ لو نظر إلى الخلف لرأى مدنية جديدة وقوما آخرين.
وقد قصدت في ترجمة هذا الكتاب إلى ترجمة المعاني مع الحرص على الروح التي أملته، فإن لكل لغة بيانا، وحسب النقل أن يدرك الغاية، ويصيب اللباب، والله سبحانه المستعان.
علي الجارم
جزيرة الروضة
7 من أكتوبر سنة 1944
آخر أيام القوط
Page inconnue
بقيت بلاد العرب آمنة مطمئنة لها عرين، ولا يباح حماها، عندما كانت جيوش الإسكندر الأكبر تغير على الإمبراطوريات الشرقية القديمة؛ فلزم سكان شبه الجزيرة العربية صحراءهم في عزلة وأنفة، لا يبعثون إلى الفاتح العظيم رسلا، ولا يقدمون إليه طاعة ولا خضوعا، وعقد الإسكندر العزيمة على إذلال هؤلاء العرب المستكبرين، وأخذ الأهبة لغزوهم ووطئهم تحت قدميه، وما كاد يهم بذلك حتى أدركته المنية،
1
فحالت دون أمنيته، وبقي العرب أعزاء لا يغلبون.
كان ذلك قبل السيد المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة، والعرب من ذلك الحين وقبله أعزاء مستقلون بصحرائهم الواسعة، لا يخضعون لسطوة فاتح جبار، وقد مر بهم زهاء ألف سنة في هذه العزلة الهادئة التي قل أن يكون لها مثيل بين بقاع الأرض، وقامت من حولهم إمبراطوريات جديدة، فأنشأ خلفاء الإسكندر المملكة السورية، وكان بها السلاسدة (the Seleucids)
وأبناء الأسرة المصرية من البطالسة، وتوج أغسطوس إمبراطورا لرومة، وأصبح قسطنطين أول إمبراطور مسيحي لبيزنطة، وخضع حشود البربر لإمبراطورية القياصرة البعيدة الأطراف واندمجوا فيها، كل ذلك والعرب متحصنون بشبه جزيرتهم، لا يزعزع لهم أمن، ولا يطرقهم طارق، ولا يحاول غزوهم فاتح، وإذا دانت بعض مشارف بلادهم وثغورها بشيء من الطاعة أحيانا لأكاسرة الفرس وقياصرة الروم، وجاست بعض الفرق الرومانية بين الحين والحين خلال بعض مفاوزها، فإن شيئا من ذلك كان ضئيلا متقطعا، لم يمس استقلال البلاد ولم ينل من عزتها.
وهكذا ربض العرب في جزيرتهم لا تزعجهم صائحة، وطفقوا وقد أحاطت بهم الممالك الضاربة الظامئة إلى الغزو والفتوح، وادعين بصحرائهم، مستلئمين بشجاعتهم التي لا تقهر، وبقي لذلك تاريخ العرب مغمورا منذ أزمان بعيدة في القدم إلى القرن السابع الميلادي، فلم يعرف عنهم إلا أن لهم وجودا، وإلا أن أحدا من الغزاة لم يحاول غزوهم، إلا قعدت به الوساوس وساوره خوف الهزيمة، ثم حدث فجاءة في أخلاق العرب تطور جديد، فلم يعودوا يرغبون في العزلة كما كانوا، بل انطلقوا يجابهون الدنيا، وأخذوا في جد وحزم يحاولون غزو العالم.
نشأ هذا التطور من عزيمة رجل واحد هو محمد بن عبد الله، فإن هذا النبي العربي شرع في طليعة القرن السابع ينشر الإسلام، فلقيت دعوته آذانا واعية، وعظم تأثيرها في قلوب العرب، فأثارت في طبائعهم وأخلاقهم ثورة عنيفة شاملة، وكان ما يدعو إليه محمد سهلا حنيفا، قريبا إلى النفوس، يتفق مع شريعة اليهود التي كان لها أحبار بالجزيرة، وقد أبطل كثيرا من الأحكام والعادات، وأضاف أحكاما جديدة كان العرب في حاجة إليها، ودعا إلى الوحدانية، فكان ذلك فتحا جديدا بين قوم مردوا على عبادة الأوثان.
ويصعب علينا في هذه الأيام أن ندرك التأثير الشديد الذي بعثه هذا الدين الهادئ في قلوب العرب، ولكننا نعرف أن هذا التطور الديني قد تم فعلا، وأن للأنبياء الصادقين دائما قوة غريبة في اجتذاب النفوس، ولقد كان محمد حين دعا قومه صادقا، ولقد بلغ دينه الذي يراه الدين الحق أمينا مثابرا، ولقد كان في الدين من السمو، وفي النبي وأصحابه من الرغبة الحافزة في نشره ما أثار موجة ملكت على العرب شعورهم، وأجج في نفوسهم جذوة يسميها الناس اليوم بالتعصب الديني.
وكان العرب قبل بعثة محمد أشتاتا من شعوب وقبائل متطاحنة، تتنافس في الشجاعة الوحشية، والكرم والبطولة، وتعيش من الغارات وانتهاب الغنائم، فحولهم النبي في طرفة عين إلى قوم مسلمين، وملأ قلوبهم بحماسة الشهداء، ووصل حبهم الفطري للدنيا والمغانم بطموح نبيل هو تبليغ الدين إلى الناس كافة.
خضعت جزيرة العرب كلها لمحمد قبل أن يلاقي ربه، وانتشرت القبائل التي وحد كلمتها في الممالك المجاورة للجزيرة، وألقى أهلها لهم القياد دهشين مشدوهين، ثم اكتسحت جيوش خلفائه بلاد الفرس، ومصر، وشمال إفريقية، حتى بلغوا منه المكان المعروف بأعمدة هرقل، وردد المؤذنون أذانهم من وراء نهر جيحون بآسيا الوسطى إلى شواطئ المحيط الأطلنطي.
Page inconnue
وصدت الهجوم العربي بآسيا الصغرى قوات إمبراطور الروم، ولم يتح للمسلمين أن ينالوا من هذه البلاد حظا إلا في القرن الخامس عشر، حين بلغوا ما طال إليه تشوقهم من فتح القسطنطينية التي دكت حصونها شجاعة الترك العثمانيين وشدة مراسهم، وفي النهاية المقابلة من بحر الروم، صد أحد قواد الروم تيار العرب إلى حين، فاتجه العرب الفاتحون إلى ممالك شمالي إفريقية، وكبحوا جماح أمة البربر الشامسة العنيدة بعد جهاد عنيف، وأخضعوها لسلطانهم، ولم يقف في وجوههم إلا قلاع سبتة وحصونها، وكانت سبتة كغيرها من بلاد جنوبي بحر الروم، تحت حكم إمبراطور الروم، غير أنها لبعدها من القسطنطينية كانت تتوجه إلى مملكة إسبانيا بطلب المعونة، فهي تابعة للروم من حيث الحكم، مضافة في الحقيقة إلى ملك طليطلة لحمايتها والدفاع عنها، ولم يكن في حكم الظن أن تكون معاونة إسبانيا لها كافية لصد أمواج العرب الفاتحين، على أنه حدث فوق هذا أن كان هناك شقاق بين «يوليان» حاكم «سبتة» و«لذريق» ملك إسبانيا ففتح هذا الشقاق الباب واسعا لدخول العرب، وذلل سبيل الفتح للغزاة.
كان يحكم إسبانيا في ذلك الوقت القوط الغربيون، وهم قبيلة متوحشة كغيرها من القبائل التي اكتسحت ممالك الإمبراطورية الرومانية إبان ترنحها للسقوط، أما القوط الشرقيون فقد احتلوا إيطاليا، وتركوا أبناء عمومتهم من القوط الغربيين يأخذون مكان بعض القبائل الجرمانية الجافية، ويدقون أطناب حكمهم بإسبانيا في القرن الخامس الميلادي.
وكانت إسبانيا عندما دخلها القوط منحلة العرا، غارقة في ألوان من الترف الفاجر، والنعيم الذي يسلب الرجولة، وبمثل هذا العبث وذلك الفجور ذهبت ريح دولة الرومان قبلهم، فإن الرومان كغيرهم من رجال الحروب، حينما انتهوا من غزواتهم الكثيرة المتعاقبة بالنصر والغلب ورأوا الدنيا تحت أقدامهم، انصرفوا إلى الراحة بعد الجهد الشاق، والجهاد المضني، وألقوا بأنفسهم في أحضان النعيم، وناموا في ظل ظليل من الغنى الواسع والأمن الشامل، فذهبت أخلاقهم، وماتت فيهم حمية آبائهم الشجعان البسل الذين كانوا يرضون بالكفاف، ويتركون آلة الحرث ليجردوا السيوف ماضية بتارة، إذا دعاهم أحد القياصرة لحماية بلادهم، أو لغزو قارة جديدة.
كانت الطبقة الغنية بإسبانيا في عهد الرومان قد خلعت العذار لأنواع الترف والشهوات، حتى لكأنها لم تخلق إلا للطعام والشراب، واللهو والقمار، ولكل ما يثير النفس العابثة ويرضي نزعاتها، وكانت الطبقة الدنيا تشمل العبيد وأحلاس الأرض الذين أخلدوا إلى زراعتها حتى كأنهم قطعة منها لا يفارقونها حياتهم، فإذا انتقلت إلى مالك جديد، انتقلوا إليه معها.
وبين هاتين الطبقتين - طبقة الأثرياء، وطبقة العبيد والأحلاس - كانت الطبقة الوسطى من سكان المدن الأحرار تلاقي من سوء الحال وضنك العيش ما كان شرا مما يلاقي العبيد وأشد نكرا، فعليهم كان يقع عبء الإنفاق على الدولة، فهم الذين يؤدون الضرائب، ويقومون بخدمة الدولة وما تتطلبه المدن من الأعمال، وهم الذين يجمعون الأموال للأغنياء ليبعثروها في لذائذهم، وبديهي أن دولة تصاب بهذا الفساد وذلك الضعف لن تكون بها منة على صد فاتح بطاش شديد الشكيمة.
كان النبلاء والأغنياء - وهم في غمرة من النعيم ورفاغة العيش - لا يسمعون ما يلغط به الناس من اقتراب الأعداء، وكانت سيوفهم قد صدئت من طول ما مكثت في أغمادها، وكان العبيد لا يأبهون لتغلب حاكم على حاكم؛ لأنهم وصلوا إلى حال من الذل والبؤس بحيث لا يستطيع حاكم جديد أن يصيبهم بشر منها، وكانت الطبقة الوسطى ساخطة حانقة، وقد بهظها ما كانت تحمل من تكاليف الدولة، وما كان يقع عليها من الغرم من غير أن تنال من الغنم شيئا.
وإن شعبا هوى إلى هذه الهوة، وتدهور في هذا الدرك لا يستطاع في حكم البديهة أن يؤلف من رجاله جيش قوي مكافح؛ لذلك دخل القوط إسبانيا واستولوا عليها بدون عناء، وفتحت لهم المدن أبوابها عن طواعية، وخضعت لهم الحضارة الرومانية العليلة دون أن تمد للدفاع كفا، وفي الحق إن طريق القوط إلى الفتح كانت قد مهدت بمن نزل قبلهم بإسبانيا من متوحشي الأللان والوندال والسوابي، فلم يكلفهم الغزو جهدا، أو يحملهم عنتا؛ فقد علم الرومانيون من سكان إسبانيا حق العلم، ما يجر وراءه غزو المتوحشين من نكبات وأوزار، فكم رأوا مدائنهم والنار تلتهمها التهاما، وكم رأوا زوجاتهم وأولادهم يساقون إلى الذل والأسر، وكم رأوا قوادهم يقتلون صبرا، رأوا عواقب هذه الحروب ولعناتها، وما يتصل بأذيالها من الطواعين والمجاعات والقحط وشيوع الفوضى الضاربة، وعلمتهم هذه الكوارث درسا لم ينسوه، فألقوا القياد للقوط خاضعين.
وكان للقوط بإسبانيا أكثر من مائتي سنة حينما وصل العرب في أوائل القرن الثامن إلى شواطئ المحيط الأطلنطي بإفريقية، وعبروا بأبصارهم مضيق هرقل، فشاهدوا من بعد ولايات إسبانيا المشرقة.
وكان للقوط منذ أن فتحوا إسبانيا متسع من الوقت لإصلاح ما فسد من شئونها، وبعث روح جديدة في الشباب، وكان عليهم أن يستفيدوا من مدنية الرومان، فكثيرا ما استفادت العناصر المتوحشة التي كملت فيها صفات الرجولة من اندماجها في المدنيات القديمة الذابلة، وكان هناك أسباب خاصة تدعو القوط إلى إصلاح أحوالهم، فإنهم لم يكونوا شجعانا أشداء فحسب، بل كانوا - فيما يزعمون - نصارى مخلصين، والحقيقة أنهم عندما استولوا على إسبانيا لم تكن النصرانية فيها إلا صورة ورسما؛ لأن قسطنطين اكتفى بجعل النصرانية دين الإمبراطورية الرومانية، ولم يعن بتقوية دعائمها في الممالك الغربية، وكان في حكم الظن أن يكون هبوط دين جديد على أمة جاهلة كالقوط جديرا بأن يثير حماستها، ويملأ صدورها بالأمل بعد أن رزحت تحت أثقال الوثنية طويلا، حتى لقد طمع قساوسة الكاثوليك في أن يكون لهم ولكنائسهم في العهد الجديد شأن مذكور، ولكن النتائج لم تؤيد المقدمات، فإن القوط جعلوا من أعمالهم الدينية ذرائع لغفران ما يجترحون من ذنوب وآثام، وأعدوا لكل إثم نوعا من التوبة، واقترفوا الذنب ليتوبوا منه من جديد، دون أن يجدوا لذلك في صدورهم حرجا!
وجملة القول أنهم كانوا كأشراف الرومان الذين سبقوهم عادة وسوء خلق، ولم تدفعهم النصرانية إلى شيء من الخير والإصلاح، فكانت حال أحلاس الأرض اللازمين خدمتها أسوأ مما كانت في عهد الرومان؛ لأنهم لم يكتفوا بإلزامهم خدمة أرض بذاتها، أو سيد بعينه، بل حتموا عليهم ألا يتزوجوا إلا برضاء السيد، وأنهم إذا أصهروا من ضيعة مجاورة قسمت ذريتهم بين صاحبي الضيعتين. وحملت الطبقة الوسطى - كما كانت الحال في حكم الرومان - عبء الضرائب، فجر ذلك إلى خراب هذه الطبقة وإفلاسها، وكانت الأراضي في قبضة عدد قليل من الأغنياء، يقوم على خدمتها وزراعتها عدد عديد من العبيد البائسين الذين يعيشون بلا أمل في الانتعاش من كبوتهم، أو حلم في الخلاص من بؤسهم، وحسبك أن رجال الدين كانوا يخطبون ويشيدون بالأخوة المسيحية بعد أن أثروا وملكوا الضياع الواسعة، اتبعوا السياسة الموروثة، وعاملوا عبيدهم وخولهم بالعسف والشدة كما كان يفعل أثرياء الرومان، ثم إن أغنياء القوط غرقوا في صنوف من النعيم أفقدتهم الحس، ونافسوا الوثنيين في الفجور، ففلجوا عليهم حتى أدركهم ذلك السبات الذي أطاح بدولة الرومان.
Page inconnue
يقول بعض المؤرخين - وهو يحاول تمحيص الأسباب التي أدت إلى تغلب المسلمين على المسيحيين: «إن الملك ويتزا «غيطشة» علم إسبانيا كيف تقترف الآثام»، ولكن إسبانيا كانت قد تعلمت ذلك على أحسن وجوه العلم قبل «غيطشة» بزمن بعيد، وربما لم يكن هذا الملك أسوأ من سابقيه الذين أغرقوا في الشهوات، وترخصوا في كل ما أصاب الدولة من الفساد والتدهور، ولما كانت آثام القوط المتوحشين قريبة الشبه جدا من مآثم الرومان الدائلين، لم تشعر المملكة عند انتقال الحكم من الرومان إليهم بشيء جديد.
هكذا كانت إسبانيا حينما اقترب المسلمون من حدودها، طبقة فاسدة مفسدة من الأغنياء، قسمت الأرض بينها ليزرعها العبيد وأحلاس الأرض البائسون اليائسون، ثم طبقة من سكان المدن لم يبق لها الظلم والعسف رطبا ولا يابسا.
2
هكذا كانت إسبانيا حينما كان جنود الإسلام يقيمون على الجانب الآخر من بحر الزقاق الذي عرف فيما بعد بمضيق جبل طارق، وهم قوم بسل أشداء، تلتهب نفوسهم حماسة لدينهم، وتتأجج شوقا إلى ما في أرض الكفار الخصيبة من غنائم وخيرات، وقد تدربوا على السلاح منذ نعومة أظفارهم، وعاشوا في صحرائهم عيشة خشنة جافية، وإن موازنة بين هذين الفريقين لا تترك مجالا للشك فيمن سيكون له النصر والغلب، على أن الخيانة التي جاءت بعد ذلك فساعدت الفاتحين على اقتحام البلاد، أزالت كل أثر للشك في انتصارهم.
خلع لذريق غيطشة من عرشه،
3
وبدأ حكمه بداءة حسنة، ولكنه خضع آخر الأمر لإغراء الثروة والقوة، وجمح به النهم في الشهوات الدنيئة حتى نفرت منه القلوب، وأصبح كل ما حوله مستعدا للاشتعال، لا ينتظر إلا شرارة صغيرة لينفجر ويذهب بمملكته.
وكانت العادة بين أمراء المملكة أن يرسلوا ببناتهم وأبنائهم إلى القصر لتهذيبهم وأخذهم بكل ما يثقف النفس ويغرس الخلق الكريم! فأرسل الكونت (يوليان) حاكم سبتة، ابنته فلورندا إلى قصر لذريق بطليطلة لتنال قسطا من التربية بين وصائف الملكة، وكانت فلورندا غاية في الجمال فشغف لذريق بها، ودنس عفافها ذاهلا عما يوجبه عليه الشرف من حمايتها كما يحمي إحدى بناته،
4
وزاد في بشاعة الجريمة أن زوج يوليان كانت بنت غيطشة، فكان في فعلة لذريق تلطيخ للشرف الملكي بالعار.
Page inconnue
وقد كتبت الفتاة إلى أبيها حينما شعرت بجسامة الكارثة، ودعت غلاما تثق به وأوصته أن يسرع بالكتاب، وأن يصل ليله بالنهار حتى يضعه في يد أبيها، ثم منته الأماني.
ولم يكن يوليان يحب لذريق؛ لأن صلته بالملك المعزول - أو المقتول على الأرجح - صدته عن الميل إلى الغاصب، ثم جاء العبث بشرف ابنته فزاد نار حقده اشتعالا، وأغراه بالكيد والانتقام، وقد استطاع أول الأمر أن يقف في وجه غارات العرب، ولكنه عزم الآن على ألا يدفع عن مملكة أثيم ثلب عرض ابنته، وصمم على أن يترك العرب يملكون إسبانيا إذا أرادوا، ثم زاد فقرر في قرارة نفسه أن يرشدهم إلى الطريق، فأسرع وحب الانتقام يملأ صدره، إلى لذريق - بعد أن أسكت غضبه وأخفى ما في نفسه - فأحس الملك بشيء من الندم، ووثق في نفسه من أن فلورندا كتمت سره وسرها، وأخذ يغمر يوليان بصنوف من الإجلال والتكريم، ويستشيره في كل ما يتصل بحماية المملكة، ويصيخ إلى ما يزوق له من الخديعة والختل، حتى إنه أرسل أكرم خيوله وخير عتاده إلى الجنوب؛ لتكون تحت إمرة يوليان إذا هجم الفاتحون.
وغادر الكونت طليطلة ومعه ابنته، محفوفا بعطف الملك ورضاه، وطلب لذريق منه عند افتراقهما أن يرسل إليه نوعا خاصا من البزاة المعلمة، فأجاب يوليان بأنه سيرسل إليه بزاة لا عهد له بها، وبهذه الإشارة الخفية إلى قدوم العرب عاد أدراجه إلى سبتة.
وما كاد يصل إليها حتى زار موسى بن نصير، الوالي من قبل الخليفة على شمال إفريقية، الذي طالما اشتبكت سيوفه بسيوفه في حروب مشتعلة الأوار، فأخبره أن الحرب بينهما قد وضعت أوزارها، وأنهما منذ اليوم صديقان حميمان، ثم أخذ يملأ أذني القائد العربي بأحسن القصص عما في إسبانيا من الجمال والثروة، ويحكي عن أنهارها ومروجها، وأعنابها، وزيتونها، وعظمة مدنها وقصورها، وما فيها للقوط من كنوز، ثم قال إنها أرض تموج باللبن والشهد، وليس على موسى إلا أن يخطو فينالها بقبضته، وأخذ يوليان على نفسه أن يرشده إلى الطريق، ويعد له السفن، وكان القائد العربي داهية شديد الحذر، فخشي أن تكون هذه الدعوة خديعة واستهواء إلى الوقوع في شرك أو كمين؛ لذلك أرسل إلى الخليفة بدمشق رسلا ليرى رأيه في الأمر، واكتفى فيما بين ذلك سنة 710م/91ه بإرسال خمسمائة رجل بقيادة (طريف) أبحروا في أربع سفن ليوليان للإغارة على شاطئ الأندلس، ولم يرض موسى أن يعرض من رجاله للخطر أكثر من هذا العدد؛ لأن العرب لم يكونوا قد اعتادوا بعد الإبحار في بحر الروم.
عاد طريف في شهر يوليه بعد أن نجح في الغرض الذي أرسل من أجله، فقد أرسى سفنه في المكان الذي لا يزال يسمى باسمه، ونزل الجزيرة الخضراء وانتهبها، ورأى بعينه ما كفى لاقتناعه بصدق ما قاله الكونت يوليان من فقدان وسائل الدفاع بإسبانيا، وبأن إخلاصه للفاتحين لا يقبل الشك.
ولكن موسى على الرغم من هذا لم تمل نفسه إلى المخاطرة في سبيل فتح جديد، وجاء كتاب من الخليفة بدمشق يأمره بألا يقذف بجيش المسلمين في أخطار مجهولة العاقبة، وعهد إليه أن يكتفي بإرسال فرق قليلة من آن لآن للإغارة المفاجئة.
ولكنه بعد أن ملأه نجاح طريف ثقة بالنصر والتغلب، عزم على أن يوسع نطاق غزوه.
فحين علم في سنة 711م/92ه أن لذريق مقيم بشمال مملكته لقمع ثورة البشكنس، أرسل أحد قواده، وهو طارق البربري، ومعه سبعة آلاف رجل جلهم من البربر للإغارة على الأندلس، فنال من هذه الإغارة فوق ما كان يتوقع؛ فإنه أرسى سفنه عند صخرة الأسد التي حملت اسمه منذ ذلك الحين، فدعيت جبل طارق، وبعد أن ملك كارتية توغل في داخل البلاد، ولم يسر بعيدا حتى رأى جيوش القوط بقيادة لذريق تقترب لنزاله، فالتقى الجيشان على شاطئ نهير سماه المسلمون وادي بكة، بالقرب من نهر وادي لكة الذي يصب في المضيق عند رأس الأغر.
5
وتقص علينا الأساطير أن الملك لذريق قبل هذه الموقعة كان جالسا على سرير ملكه بمدينة طليطلة، فدخل عليه رجلان جلل الشيب رأسيهما، وهما في ثياب بيض من نسج قديم، وكان حزاماهما مزينين بصور مواقع النجوم وما لها من شأن في تصاريف القدر، وقد علق بهما كثير من المفاتيح، فلما مثلا بين يدي الملك قالا له: اعلم أيها الملك أن هرقل منذ الزمن القديم، وحين نصب صنمه عند مضيق البحر أنشأ حصنا قويا بالقرب من طليطلة القديمة، وأخفى فيه طلسما جعل عليه بابا من الحديد ثقيلا، له أقفال من الصلب توكيدا لحفظه، ثم إنه أمر أن يقوم كل ملك جديد بإضافة قفل جديد لهذا الباب، وأنذر بالويل والثبور كل من يهم بكشف هذا الطلسم، وقد قمنا وقام أسلافنا بحراسة باب الحصن منذ أيام هرقل إلى هذه الساعة، وعلمنا أن بعض الملوك حاول كشف هذا الطلسم فكانت عاقبة أمرهم الموت أو الجنون، ولم يصل واحد منهم إلى أبعد من عتبة بابه، وقد جئنا الآن أيها الملك لنرجوك أن تضع قفلك على باب الحصن كما فعل جميع الملوك قبلك، ثم انصرف الشيخان.
Page inconnue
وحينما فكر لذريق فيما قالاه ثارت في نفسه الرغبة في دخول هذا الحصن المسحور، على الرغم من تحذير بطارقته ووزرائه الذين قالوا له: إن كنت تظن أن فيه مالا فقدره ونحن نجمع لك من أموالنا نظيره، ولا تحدث علينا بفتحه حادثا لا نعرف عاقبته، وقد علمت أن قيصرا الأكبر على جرأته لم يحاول دخوله ...
ولن يفتح الحصن إلا لمن
قضى الله في ملكه بالزوال
ممالكه زال سلطانها
بنشر الفساد وكيد الرجال
فنالت من الله شر انتقام
وآب بنوها بشر المآل
ولكن الملك أصر وصمم على الرغم من هذه النصيحة، فركب يوما مع فرسانه إلى الحصن، وكان فوق صخرة عالية تحيط به مهاو سحيقة، وكانت حيطانه من المرمر الذي إذا واجهته الشمس كاد شعاعه يذهب بالأبصار، وكان مدخله في طريق منحوت في الصخر، وقد أغلق عليه باب عظيم من الحديد، غطي بالأقفال الصدئة من عهد هرقل إلى أيام غيطشة.
ووقف الحارسان إلى جانبي الباب، وحاول فرسان الملك وبعض الحراس فتحه، فاستطاعوا بعد لأي فك أغلاقه قبيل الغروب، ودخل الملك وحاشيته من الباب إلى بهو في نهايته باب آخر، وقف أمامه تمثال من البرنز ضخم هائل المنظر، بيده رمح عظيم أخذ يحركه ويضرب به ما حوله من الأرض.
ولما رأى لذريق هذا التمثال هاله منظره، وأخذه البهر، وتملكته الدهشة والعجب، ولكنه حينما قرأ ما كتب على صدره وهو: «إني أقوم بواجبي» استرد شجاعته، وأمر التمثال أن يفسح له الطريق زاعما أنه لم يأت لاستباحة حرمة المكان، وإنما جاء ليعرف سر ما فيه، فهدأت عندئذ ثائرة التمثال ورفع رمحه، فمر الملك ومرت حاشيته من تحته إلى حجرة ثانية، فوجدوا جدرانها مغطاة بكريم الأحجار، ورأوا في وسطها مائدة عظيمة من ذهب وفضة مكللة بالجواهر، وعليها تابوت من الفولاذ به قفل علق به مفتاحه، وقد كتب عليه: «في هذا التابوت طلسم الحصن، ولن تفتحه إلا يد ملك، ولكن ليحذر هذا الملك، فإن أشياء عجيبة ستصور له ما يحصل له قبل موته».
Page inconnue
وحين فتح الملك التابوت لم يجد به سوى رق به صور فرسان عابسي الوجوه مسلحين بالقسي والخناجر، وقد كتب فوق هذه الصور: «انظر أيها الطائش الأرعن إلى هؤلاء، فإنهم سيثلون عرشك ويخضعون مملكتك»، وبينما كان الملك وأصحابه يحدقون في الصور إذ سمعوا زمازم الحرب ولجبها، ورأوا أن الصور طفقت تتحرك كأنها في غمام حتى أخذت هيئة حرب في ميدان.
6
رأى لذريق في هول وحزن
بهذا المنظر السحري حربا
عواقبها تراها العين جهرا
وإن كانت من القدر المخبا
ثم أبصروا ميدانا عظيما يتفانى فيه المسيحيون والمسلمون في موقعة طاحنة، وسمعوا أصوات جري الخيل ووقع حوافرها، وزعق الأبواق والصنوج، وما يصم الآذان من ضرب آلاف من الطبول بين بريق السيوف والقضب وحفيف السهام وصليل الرماح، ورأوا أن النصارى يتضاءلون أمام أعدائهم الذين تدفقوا عليهم كما يتدفق السيل، فتبدد شملهم، وسقط إلى الأرض بيرق الصليب، وديس علم إسبانيا تحت الأقدام، وامتلأ الجو بصيحات الانتصار يخالطها صراخ الغضب وأنين المحتضرين.
ورأى الملك لذريق بين هذه الفرق الفارة من الميدان فارسا متوجا، كان ظهره إليه، ولحظ أن سلاح هذا الفارس وعدته تشبه سلاحه وعدته، وأنه كان يركب جوادا أشهب يشبه جواده «أوريليا».
ثم رأى أن الفارس بعد قليل سقط عن جواده في هرج الحرب ومرجها فلم يعد يرى، وأن أوريليا أخذ يعدو في الميدان بغير راكب.
وحينما خرج الملك وحاشيته من الحصن دهشين خائفين اختفى التمثال من الوجود، وسقط الشيخان الحارسان ميتين عند مدخل الحصن، وكان من إرهاص الطبيعة الغاضبة أن التهمت النار الحصن، فتأجج كل حجر فيه وآض رمادا تذروه الرياح، ويقول القصاصون إنه كلما سقط رماد من هذه الأحجار في مكان، وجد بجانبه نقطة من الدم المسفوك.
Page inconnue
أولع مؤرخو العصور الوسطى من النصارى والعرب بالإفاضة في هذه الحادثة وإمدادها بكثير من صور الخيال وضروب الإرهاص كما قيل:
كم من رؤى وأساطير مزوقة
بها وعيد وإرهاص وإنذار
فيها تلاقى خيال العرب مازجه
ما خيلته لأهل القوط أشعار
وكم قرأنا أن كلا الفريقين قبيل الموقعة كان ينشرح صدره أو ينقبض بالفأل والطيرة، وزعموا أن النبي نفسه ظهر لطارق في المعركة وحثه على الإقدام، وأمره أن يضرب ويغلب، إلى غير ذلك من أمثال هذه الروايات.
وكيفما كانت رؤى الجيشين وأحلام رجالهما، فإن نتيجة القتال حين وقف الجيشان بالقرب من وادي لكة، كان لا يشوبها شك ... نعم إن طارقا أمد بخمسة آلاف مقاتل من البربر، فبلغ جيشه الصغير اثني عشر ألفا حينما كان جيش لذريق يبلغ ستة أمثاله في العدد، لكن الفاتحين كانوا شجعانا مغاوير أشداء، مرنوا على الحروب، وكان قائدهم بطلا باسلا، بينما كان الإسبان خليطا من العبيد المستضعفين في الأرض، وكان بين قوادهم بعض الخونة من الأشراف، فإن أقرباء غيطشة - وإن أطاعوا لذريق في ظاهر الأمر وحضروا المعركة - كانوا عازمين على الانضمام إلى الأعداء عندما ينكشف لهم وجه القتال، ولم يخطر لهم ببال أن في فعلهم هذا خيانة لإسبانيا، فقد ظنوا واهمين أن الغزاة لم يقصدوا إلا إلى النهب والغنيمة، وأنهم عند انتهاء الغارة وحصولهم على الأسلاب يذهبون توا إلى إفريقية، فتعود سلالة غيطشة إلى عرشها القديم المغصوب ،
7
وبهذا الظن الخاطئ عاونوا من حيث لا يشعرون على وضع أجمل ولايات إسبانيا نحو ثمانية قرون تحت حكم العرب.
وقد سقطت قلوب المسلمين بين جنوبهم ذعرا حينما رأوا الجيش اللهام الذي أعده لذريق لنزالهم، وحينما رأوا الملك في درعه الفاخرة وفوقه المظلة الملكية، ولكن طارقا صاح في رجاله: «أيها الناس؛ العدو أمامكم والبحر وراءكم، وليس لكم والله إلا الجلد والصبر.» فاستنجد المسلمون بشجاعتهم وصاحوا: «إنا وراءك يا طارق.» ثم هجموا خلف قائدهم يقذفون بأنفسهم في وطيس الحرب وأتونها، واستمرت المعركة أسبوعا، أظهر فيه الفريقان كثيرا من ضروب الشجاعة والإقدام، وكان لذريق يستحث قومه مرة بعد أخرى، ولكن فرار أتباع غيطشة رجح كفة الميزان، فصار الميدان صورة محزنة للدمار والهزيمة.
Page inconnue
ومزق جيش لذريق وخارت
بمن فيه العزائم والقلوب
وحين رأى الهزيمة فر يعدو
وحيدا مستكينا لا يؤوب
عليه من غبار الحرب ثوب
ومن لون الدماء به لهيب
وتحمل كفه سيفا خضيبا
كمنشار أفلته الحروب
فلامة صدره فيها شقوق
وخوذة رأسه فيها ثقوب
Page inconnue
أطل بقمة فرأى دمارا
له كادت حشاشته تذوب
وأعلاما ممزقة تبدت
وكل بالدم القاني خضيب
وجال بسمعه للعرب صوت
بنصر الله ردده السهوب
رأى قواده فروا وأبقوا
جريحا أو قتيلا لا يجيب
وأنى عينه لمحت مكانا
بدا للعين فيه دم صبيب
Page inconnue
فقال وقد بكى: قد كنت ملكا
وماذا ينفع الآن النحيب؟
ونمت الأمس فوق فراش عز
وفرشي اليوم تجفوه الجنوب
جثا الخدام أمس أمام عرشي
وليس اليوم لي منهم عريب
فيوم ولادتي يوم عبوس
ويوم ولايتي يوم عصيب
فما أشقى نهاري حين أرنو
لشمس الأفق يحجبها المغيب!
Page inconnue
فعجل أيها الموت المرجى
فما لي اليوم في الدنيا حبيب
هكذا تقول الأنشودة الإسبانية، ولكن نهاية لذريق بقيت سرا خفيا إلى اليوم؛ فقد وجد فرسه وخفاه عند شاطئ النهر بعد يوم من المعركة ولم يظهر له أثر، ومن المحقق أنه غرق، وأن النهر حمل جثته إلى المحيط، ولكن الإسبان يأبون أن يصدقوا هذا، فقد ألبسوا الملك الراحل حللا قدسية خفية الأسرار لم يخلعوها عليه في حياته، وجعلوا منه معينا فياضا لكثير من القصص والروايات، وخلعوا عليه صفات المنقذ المخلص، كما فعل الإنجليز بالملك آرثر، فاعتقدوا أنه سيعود مرة أخرى من مقره في بعض جزائر المحيط بريئا من جراحه ليقود المسيحيين لقتال الملحدين.
وجاء في أساطيرهم أنه قضى بقية حياته في أعمال الخير والإنابة، وأن ثعابين أخذت تبتلعه شيئا فشيئا عقابا لما كان يقترف من إثم حتى محيت ذنوبه «فإن عقاب البدن ينقذ الروح من الآلام»، ثم إنه حمل إلى الجزيرة الهادئة المطمئنة، ولا يزال رجاله منذ ذلك الحين ينتظرون أوبته إليهم كما يؤوب الظافر المنتصر.
هوامش
موجة الفتح
لم يكن هذا فتحا كغيره من الفتوح يا أمير المؤمنين، فإن الوقعة كانت أشبه باجتماع الحشر يوم القيامة ...
هكذا كتب موسى بن نصير أمير إفريقية إلى الخليفة الوليد في وصف انتصاره بموقعة وادي لكة.
وليس عجيبا أن يدهش المسلمون لنصرهم المؤزر الحاسم، أو أن يتملكهم الزهو بهذا الفتح المبين؛ لأننا إذا ألقينا جانبا الأساطير والأوهام التي لفقها مؤرخو الإسبان حول سقوط لذريق، ورجعنا إلى التاريخ المتئد غير المتحيز، رأينا أن انتصار المسلمين في وادي لكة ألقى بإسبانيا كلها في أيدي العرب؛ فقد ربح طارق ومن معه من الاثني عشر ألف بربري الجزيرة جميعها، ولم يكن في حاجة إلا إلى قليل من الجهد ليقضي على المقاومة الخائرة في بعض المدن.
ولم يضع طارق وقتا في متابعة انتصاره؛ فقد تقدم هذا القائد المجدود بلا تردد متحديا أمر موسى الذي كان يتحرق حسدا لما ناله جنديه البربري من المجد الذي لم يكن يخطر له ببال، وقسم طارق قوته ثلاث فرق أو كتائب وبثها جميعا في شبه الجزيرة، فأخضع مدينة إثر مدينة بعد مقاومة لا تكاد تذكر.
Page inconnue
وأرسل مغيث بن الحارث على سبعمائة فارس لامتلاك قرطبة، فأخفى جنوده حتى إذا جاء الليل تقدم نحو المدينة، واتفق في ذلك الحين أن سقط هاطل من البرد أخفى وقع سنابك الخيل، فعد المسلمون ذلك عناية من الرحمن ، والتقوا براعي غنم أرشدهم إلى ثغرة في سور المدينة، فعزموا أن يجعلوا منها منفذا لهجومهم، وتسلق رجل منهم كان أكثرهم نشاطا وأشدهم حمية شجرة تين كانت تحت الثغرة، ثم وثب منها إلى السور حتى إذا استقر به خلع عمامته، وأرسل بطرفها إلى بعض أصحابه، ثم جذبهم إليه واحدا واحدا، حتى إذا نزلوا من السور إلى داخل المدينة دهموا حراس الأبواب ففتحوها للفاتحين، وتم الاستيلاء عليها دون عناء.
وعندما دخل المسلمون قرطبة التجأ حاكمها وحرسها إلى دير يعصمهم من العدو، ولزموه ثلاثة أشهر محاصرين، حتى إذا انتهى أمرهم إلى التسليم بقيت المدينة بأيدي اليهود الذين أثبتوا صدق إخلاصهم للمسلمين فنالوا عطفهم ورعايتهم، ونظر العرب إليهم نظرتهم إلى الصديق، فلم يضطهدوهم كما اضطهدهم قساوسة القوط إلا في العهد الأخير، فحيثما اتجه سلاح المسلمين سار اليهود من ورائه متابعين متزاحمين، فالعرب يحاربون واليهود يتجرون، حتى إذا ألقت الحرب سلاحها رأيت اليهود والعرب والفرس وقد اجتمعوا على إنماء التعليم، والفلسفة، والآداب، والعلوم، إلى غير ذلك مما ميز حكم العرب، وأرسل شعاعه في العصور الوسطى منيرا وهاجا.
وجرت فتوح طارق شوطا بعيدا بمعاونة اليهود وشدة فزع الإسبان، فاستولى على أرشذونة دون أن يلقى مقاومة، وفر سكانها إلى التلال، وألقت القياد مالقة، وعصفت الحرب بإلبيرة (بالقرب من مكان غرناطة الآن).
ودافع تدمير
Theodemir
حينا عن شعاب جبل مرسية بشجاعة وصبر، ولكنه دفع إلى ترك معقله والاشتباك مع العرب في موقعة طاحنة حطم فيها جيشه تحطيما، وفر مع خادم له إلى مدينة أوريولة، وهناك فكر في أن يلقى مطارديه بخديعة بارعة، فإنه حينما رأى أن الحرب لم تكد تبقي على رجل بالمدينة لسقوط شبان مرسية في المعركة جميعا، جمع النساء وألبسهن ثياب الرجال ووضع الخوذ على رءوسهن وسلحهن بقصب يشبه الرماح، وأمرهن أن يضعن شعورهن فوق الذقون كاللحى، ثم وزعهن على أسوار المدينة، فلما اقترب المسلمون في دغش الشفق، سقط في أيديهم لما رأوا من قوة الدفاع عن المدينة، وبعدئذ حمل «تدمير» بيده راية الهدنة، وألبس خادمه عباءة يلبسها السفراء، وذهبا لمفاوضة القائد المسلم الذي لم يعرف الأمير الإسباني فأحسن استقبالهما، ثم قال له تدمير: «لقد قدمت نائبا عن حاكم المدينة لأفاوض في شروط تليق بعظيم تسامحك وشرف منزلته، فأنت ترى أن المدينة جديرة بأن تثبت أمام حصار طويل، ولكن الحاكم شديد الرغبة في الإبقاء على حياة جنوده، فعدني بأن يغادروا المدينة أحرارا دون أن يمسهم سوء أسلمها إليك غدا بغير حرب، وإلا فقد وطدنا العزم على القتال إلى آخر رجل.» فقبل القائد ما عرضه عليه.
ثم وضعت شروط التسليم كما أحب، وبعد أن ختمها القائد وأمضاها تدمير، التفت إلى القائد قائلا: «انظر إلي فأنا حاكم المدينة.»
وعند الفجر فتحت أبواب المدينة، واتجه المسلمون ليروا الحامية القوية خارجة منها، ولكنهم لم يروا إلا تدمير وخادمه في درع محطمة، وخلفها جمع من الشيوخ والنساء والأطفال، فسأله القائد العربي: «أين الجنود ورجال الحامية الذين رأيتهم حول الأسوار البارحة؟» فأجابه: «ليس لدي من الجند أحد، أما رجال الحامية فها هم أولاء أمامك فانظر إليهم، فبهؤلاء النسوة حصنت أسواري، أما هذا الخادم فهو سفيري وحارسي وحاشيتي.» فأخذ القائد العجب من جرأته، وسر من براعة حيلته فعينه حاكما لمقاطعة مرسية التي سماها العرب بعد ذلك باسمه.
وتدل هذه القصة على كرم العرب ورقة طباعهم، ولا ريب فقد كانوا مثلا عالية للفروسية الحقة التي طالما ازدانت بها أعمالهم، وكانوا يمتازون بالعفو عند المقدرة وبكثير من صفات البطولة والنجدة التي حملت الإسبان بعد تغلبهم عليهم على أن يلقبوهم «بفوارس غرناطة وبالغطارفة، وإن كانوا عربا».
وفي هذه الأثناء كان يضغط طارق على طليطلة قصبة القوط؛ لأنه كان يجد في طلب أشراف القوط، فقد بحث عنهم في قرطبة ففروا قبل جيئته، ولما دخل طليطلة التي أسلمها إليه اليهود لم يجد بها للأشراف أثرا، فقد غادروا المدينة قبل دخوله والتجئوا إلى صخرة أشتورش (أستورياس) ولم يبق بطليطلة إلا الخونة من أسرتي غيطشة ويوليان الذين كوفئوا بمناصب في الدولة، أما سراة المملكة فقد هجروها وأسلموها للعرب فصارت ولاية تابعة للدولة الأموية التي جعلت مقر حكمها بدمشق ووسعت رقعة مملكتها من جبال الهند إلى أعمدة هرقل.
Page inconnue
وترك لموسى بن نصير إخضاع ما بقي من الأندلس، فإنه حينما سمع بفوز طارق المطرد عبر المضيق على عجل بجيش من العرب في صيف سنة 93ه/712م لينال نصيبه كاملا من المجد، وكان عدد رجاله ثمانية عشر ألفا، فاتصل بطارق في طليطلة بعد أن أخضع قرمونة وإشبيلية وماردة، ولم تكن مقابلة القائد الأعلى الفاتح مقابلة ود وصداقة، فإن طارقا حينما سارع إلى لقاء موسى في حفاوة وتكرمة عاجله هذا بالسوط، وأخذ يقرعه ويعنفه على مجاوزة أوامره معلنا أنه لن يستطيع أن يضمن سلامة المسلمين في يد قائد مخاطر مثله، ثم زج به في غيابة السجن.
1
ولما علم الخليفة الوليد بما وقع لطارق وما أصابه من الظلم الذي أثارته الغيرة وصبه الحسد استدعى موسى إلى دمشق، وأعاد طارقا إلى القيادة بإسبانيا.
وقبل أن يعود موسى إلى الشام، كان قد بلغ جبال البرت (البرانس)
2
وأطل منها، فجالت بخياله صورة لفتح أوربا كلها، ولكن دعوة الخليفة عاقته عن الاستمرار في تقدمه، فقام بهذا الأمر غيره.
3
ذلك أن حاكما
4
عربيا تملك في سنة 719م/101ه القسم الجنوبي من الغال المسمى «سبتمانيا» بما فيه من مدينة قرقشونة، وأربونة ... وأخذ من هذين المركزين يغير بجيشه على برغاندي، وأقيتانية، غير أن يوديس دوق أقيتانية استطاع قهر العرب عند أسوار طلوشة (تولوز) سنة 721م/103ه، فلم يفت هذا الغلب في عضدهم، بل حفزهم إلى الاتجاه نحو الغرب، فنهبوا بونة وفرضوا الضرائب والإتاوات على سان، واستولوا على أفينون سنة 730م/112ه وتوالت غاراتهم على الولايات المجاورة.
Page inconnue