أولع مؤرخو العصور الوسطى من النصارى والعرب بالإفاضة في هذه الحادثة وإمدادها بكثير من صور الخيال وضروب الإرهاص كما قيل:
كم من رؤى وأساطير مزوقة
بها وعيد وإرهاص وإنذار
فيها تلاقى خيال العرب مازجه
ما خيلته لأهل القوط أشعار
وكم قرأنا أن كلا الفريقين قبيل الموقعة كان ينشرح صدره أو ينقبض بالفأل والطيرة، وزعموا أن النبي نفسه ظهر لطارق في المعركة وحثه على الإقدام، وأمره أن يضرب ويغلب، إلى غير ذلك من أمثال هذه الروايات.
وكيفما كانت رؤى الجيشين وأحلام رجالهما، فإن نتيجة القتال حين وقف الجيشان بالقرب من وادي لكة، كان لا يشوبها شك ... نعم إن طارقا أمد بخمسة آلاف مقاتل من البربر، فبلغ جيشه الصغير اثني عشر ألفا حينما كان جيش لذريق يبلغ ستة أمثاله في العدد، لكن الفاتحين كانوا شجعانا مغاوير أشداء، مرنوا على الحروب، وكان قائدهم بطلا باسلا، بينما كان الإسبان خليطا من العبيد المستضعفين في الأرض، وكان بين قوادهم بعض الخونة من الأشراف، فإن أقرباء غيطشة - وإن أطاعوا لذريق في ظاهر الأمر وحضروا المعركة - كانوا عازمين على الانضمام إلى الأعداء عندما ينكشف لهم وجه القتال، ولم يخطر لهم ببال أن في فعلهم هذا خيانة لإسبانيا، فقد ظنوا واهمين أن الغزاة لم يقصدوا إلا إلى النهب والغنيمة، وأنهم عند انتهاء الغارة وحصولهم على الأسلاب يذهبون توا إلى إفريقية، فتعود سلالة غيطشة إلى عرشها القديم المغصوب ،
7
وبهذا الظن الخاطئ عاونوا من حيث لا يشعرون على وضع أجمل ولايات إسبانيا نحو ثمانية قرون تحت حكم العرب.
وقد سقطت قلوب المسلمين بين جنوبهم ذعرا حينما رأوا الجيش اللهام الذي أعده لذريق لنزالهم، وحينما رأوا الملك في درعه الفاخرة وفوقه المظلة الملكية، ولكن طارقا صاح في رجاله: «أيها الناس؛ العدو أمامكم والبحر وراءكم، وليس لكم والله إلا الجلد والصبر.» فاستنجد المسلمون بشجاعتهم وصاحوا: «إنا وراءك يا طارق.» ثم هجموا خلف قائدهم يقذفون بأنفسهم في وطيس الحرب وأتونها، واستمرت المعركة أسبوعا، أظهر فيه الفريقان كثيرا من ضروب الشجاعة والإقدام، وكان لذريق يستحث قومه مرة بعد أخرى، ولكن فرار أتباع غيطشة رجح كفة الميزان، فصار الميدان صورة محزنة للدمار والهزيمة.
Page inconnue