وها أنا ذا في هذه الفقرة من الحديث أعرض محاولة أخرى أجريتها من زاوية أخرى هي التي عنونتها «التوفيق بين ثقافتين»، جاء فيها: ... إن الموقف الحضاري للأمة العربية اليوم يتركز في سؤالين، لو أحسنا الإجابة عنهما تبدت لنا حقيقة ذلك الموقف جلية لا يشوبها غموض، السؤال الأول هو: ما هي أهم العناصر التي نعنيها حين نتحدث عن «الشخصية العربية الأصلية»؟ وأما السؤال الثاني فهو: ما هي أهم العناصر التي تتألف منها بنية الثقافة العصرية؟ فبعد الإجابة عن هذين السؤالين تكون أمامنا صورتان، وقد يسهل علينا بعد ذلك أن نلتمس السبيل إلى خلق المركب الواحد الذي يضم ما يمكن ضمه من أجزاء الصورتين، دون أن تضيع من أيهما صفة جوهرية فينتفي بذلك وجودها.
ولنبدأ لسؤالنا الأول: من نحن على الأصالة؟ ما هي مقوماتنا التي إذا تحققت في فرد أو في مجموع قلنا عنه إنه عربي أصيل من الناحية الثقافية؟ ... وأول ما يرد إلى خاطري من الخصائص المميزة للوقفة العربية، عقيدة راسخة عند العربي بمستويين من الوجود، بحيث يستحيل عليه أن يخلط بينهما في التصور: فهنالك الذات الإلهية الخالقة، ثم هنالك عالم الكائنات المخلوقة لتلك الذات، وبين هذه الكائنات المخلوقة كائن أراد خالقه أن يتميز ليحمل إلى الدنيا أمانة اؤتمن على حملها ونشرها، وذلك هو الإنسان، وفي هذا الإطار العام تتحدد وجهة النظر العربية الأصيلة، ومن هذا الأصل الأول تتفرع فروع.
منها أن الإنسان كائن خلقي، بمعنى أنه مكلف بأن يحقق في سلوكه قيمة أخلاقية محددة معينة، أمليت عليه ولم تكن من اختياره، فليس من حقه أن ينسخ بعضها، وأن يضيف إليها ما يناقضها، ولما كان هذا التكليف الأخلاقي لا يكتمل معناه إلا إذا كان الفرد الإنساني مسئولا عما يفعل، فإن هذه المسئولية الأخلاقية بالنسبة إلى كل فرد على حدة تصبح أمرا لا مفر منه، فلا يجوز أن يحملها فرد عن فرد آخر. قد تجد من الثقافات الأخرى أنماطا أخرى، بل إن في عصرنا هذا نمطين آخرين لا يلتئمان مع الوقفة العربية التي ذكرناها، أحدهما يقول: إن القوانين الأخلاقية كغيرها من القوانين، هي وليدة الحياة الواقعة؛ فما قد ثبت على التاريخ أنه نافع جعلناه قانونا خلقيا ننظم به سلوكنا، وما قد تبين على التاريخ أنه ضار حذفناه من قائمة الأعمال المقبولة ، ولما كان النفع والضرر يتغيران بتغير الظروف؛ وجب علينا أن ننظر إلى مبادئ الأخلاق على أنها نسبية لا مطلقة، بحيث نكون على استعداد لأن نغير منها ما لا بد من تغييره؛ لئلا يقف عقبة في سبيل التقدم مع ما يقتضيه الزمن وحضارته.
ذلك أحد النمطين الآخرين، وأما النمط الآخر فيقول أصحابه: إن المسألة هنا ليست مرهونة بتقدم أو تأخر في طريق الحضارة، لكنها مسألة الإنسان وحريته المطلقة في أن يتخذ لنفسه ما شاء من قرار، بشرط أن يكون مسئولا عن قراره ذاك، فليس هنالك أحد فوقه أو إلى جانبه يملي عليه ما يجب وما يجوز، بل هو البادئ بقراره بدءا غير مسبوق بمبدأ صاغه سواه.
وواضح أن الوقفة العربية الأصيلة مختلفة عن كلا النمطين من حيث المبدأ والأساس، حتى وإن اتفقت معهما في النتيجة؛ فهي مختلفة عن النمط الأول الذي يجعل المعول في السلوك الإنساني الصحيح على التجارب، على حين أن الوقفة العربية تفرض أسبقية المبدأ الخلقي على التجارب؛ فالصواب صواب والخطأ خطأ، بغض النظر عن النجاح أو الفشل في تجارب الحياة العملية، وليست حدود الصواب والخطأ من صنع الإنسان، ولكنها حدود شاءها الله للإنسان.
والوقفة العربية مختلفة عن النمط الثاني كذلك، الذي يجعل القرار الإنساني غير مسبوق بمعيار؛ وذلك لأن وجهة النظر العربية - كما ذكرنا - تفترض أسبقية المعيار الذي يقاس به القرار في صوابه أو خطئه. وسؤالنا، في حدود هذه النقطة الأولى الخاصة بفلسفة الأخلاق من وجهة النظر العربية في مقابل وجهات النظر الأخرى القائمة في عصرنا، سؤالنا هو: هل يمكن التوفيق بين أن يكون الإنسان عربيا يحمل وجهة النظر العربية، وأن يكون في الوقت نفسه معاصرا يحمل إحدى وجهات النظر عند المعاصرين؟ لست أدعي بأن مسافة الاختلاف بين الجانبين هنة هينة بحيث يمكن رأبها في سهولة، ولكنها على كل حال مشكلة تستحق منا النظر الطويل والعميق؛ لأننا لو أمسكنا بالقيم الثابتة الموضوعة لنا؛ تعرضنا لخطر الجمود، ولو سبحنا أحرارا مع تيار الزمن وتغيراته؛ تعرضنا لزوال الشخصية وانحلالها. وغاية ما أستطيع قوله في هذا الصدد، هو أن قيمنا الأخلاقية الموروثة فيها من السعة ما يمكننا من التصرف في إطارها بدرجة من الحرية تكفي للحركة مع سرعة الإيقاع في عصرنا ...
ومن مميزات الثقافة العربية كذلك تلك الرغبة الشديدة عند الإنسان في أن يتسامى على دنيا الحوادث المتغيرة؛ لياذا بما هو ثابت ودائم. إن كل ما في الأرض والسماء فان وزائل، متغير أبدا متجول أبدا، ففيم التمسك به وهو عاجز عن التماسك بذاته؟ أليس ثمة مرفأ بمأمن من أعاصير الفناء والصيرورة والتغير الدائب من حال إلى حال؛ لنحتمي بمثل هذا المرفأ فنسلم؟ نعم، هنالك مثل هذا المرفأ الآمن فنستطيع أن نلتمسه حتى ونحن لم نزل أحياء في هذه الحياة الدنيا، ألا وهو الذات الباطنية التي بها تكون هويتنا، هو «الأنا» التي تظل قائمة صامدة مهما حدث من التحول لما حولها، وهنالك مثل هذا المرفأ بمعنى آخر، وهو مرفأ الحياة الآخرة التي هي غاية منشودة خلال كل نشاط ننشط به في هذه الحياة الدنيا.
هذا هو العربي نظرته، ينشد الخلود برغم الظواهر الزائلة، يريد أن يقهر الزمن وأن يقهر الموت، أما الزمن المتقلب بأحداثه فهو يقهره بالخروج منه إلى ما ليس زمنيا بطبيعته، فيلجأ إلى ذاته التي هي كائن لا زمني، كما يأمل في حياة آخرة لا تخضع هي الأخرى لعوامل الزمن، ولو كانت الحقيقة كل الحقيقة هي هذه المتغيرات المتبدلات الفانيات الزائلات التي نراها في الأشياء المحيطة بنا؛ لكان الكون - من وجهة نظر العربي - عبثا في عبث.
وليست هذه النظرة هي ما يأخذ به عصرنا الحاضر، فتكاد المذاهب الفلسفية المعاصرة كلها تجمع على تحليل كل شيء إلى ظواهره المتغيرة، دون أن تزعم وجودا لأي كائن ثابت وراء تلك الظواهر ... بما في ذلك الإنسان نفسه؛ فالكائن البشري بدوره ليس إلا مجموعة ظواهر يراها فيه الآخرون، أو يحسها هو في باطنه دون أن يكون وراء هذه الظواهر المتدفقة «ذات» ثابتة تدوم على الزمن، بل قل هذا نفسه في الوجود كله جملة واحدة، فما هذا الكون إلا خضم من ظواهر، ما تنفك متصلة بعضها ببعض أو منفصلة دون أن يكون وراءها شيء.
مثل هذه النظرة إلى العالم إنما تجيء ملحقة بالنظرة العلمية الصارمة التي هي من خصائص عصرنا، فسؤالنا هذه المرة هو هذا: كيف ألتزم النظرة العلمية الصارمة لأساير عصري، وأن أظل مع ذلك تواقا إلى غيب وراء الشهادة، يتحقق لي فيه الخلود والدوام؛ لأظل محتفظا بهذه السمة العربية في نظرتي ؟ ومرة أخرى أقول: إنني لا أدعي أن مشكلة التوفيق هنا هي من الهنات الهينات، بل هي - كزميلتها السابقة - مشكلة تتطلب منا التفكير الطويل والعميق، وإني لأرجح أن يكون الحل في أن نعيش في عالمين يتكاملان ولا يتعارضان، بشرط ألا نسمح لأحدهما أن يتدخل في مجال الآخر: في أحدهما نعيش حياتنا العلمية بكل ما تقتضيه، ولكننا بدل أن نقول إن هذه الحياة العلمية حسبنا في دنيانا، يجب أن نقول إن إلى جانب هذه الحياة العلمية حياة أخرى فيها الأماني وفيها المثل العليا وفيها المرفأ والملاذ، فإذا كنت في الساعات العلمية من حياتي أحصر النظر في الظواهر وحدها؛ لأستخرج قوانينها برغم تغير تلك الظواهر، أما في الساعات الوجدانية من حياتي فإني أخلع عن نفسي عباءة العلم، وأسلم نفسي للتمني والرجاء، وبغير هذا الفصل الحاد بين العالمين يستحيل علينا التوفيق بين علمية العصر وصوفية الأصل الموروث.
Page inconnue