ولو كانت النظرة العقلية التي جعلنا إضافتها إلى الحياة الوجدانية شرطا ليكون العربي أصيلا ومعاصرا معا، أقول: لو أن تلك النظرة العقلية في كل مجال يتطلب رؤية موضوعية، شيئا غريبا على الفكر العربي، لكان مطلب الأصالة والمعاصرة عسير التحقيق؛ لأنه مطلب مضاد للعربي وطريقة تكوينه الثقافي، لكن ماذا نقول والنظرة العقلية هذه هي في صميم الرؤية العربية بصفة عامة والعربية الإسلامية بصفة خاصة؟
لقد كانت للشاعر الفيلسوف محمد إقبال ملاحظة جديرة بالنظر، أوردها في كتابه «التجديد في الفكر الإسلامي»، مؤداها أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان لا بد أن يكون خاتم الأنبياء، وأن تكون رسالته آخر الرسالات؛ لأنه جاء ليدعو إلى تحكيم «العقل» فيما يعرض للناس من مشكلات، وما دمت قد ركنت إلى العقل، فلم تعد بحاجة إلى هداية سوى ما يمليه عليك من أحكام، أليس العقل - كما يقول الجاحظ - هو وكيل الله عند الإنسان؟ (راجع للجاحظ رسالة «المعاش والمعاد»)، وإنما سمي العقل «عقلا» - كما يقول الجاحظ أيضا - (في رسالة «كتمان السر وحفظ اللسان»)؛ «لأنه يزم اللسان ويحظر ... عن أن يمضي فرطا في سبيل الجهل والخطأ والمضرة كما يعقل البعير ...»
إنه إذا كان من أهم السمات التي تميز الوقفة العقلية من سواها، تلك الحركة الاستدلالية التي ينتقل بها الإنسان من المعلوم إلى معرفة ما كان مجهولا، وذلك التعميم الذي يجمع الجزئيات المتناثرة والمتشابهة في الوقت نفسه، يجمعها معا في حكم واحد يوحد بينها، فذلك هو ما تميز به العربي القديم كلما تأمل أو نظر، وكان من شأن تلك الوقفة أن استطاع ذلك العربي رد الأشتات المتفرقة في جنبات الكون الفسيح إلى وحدة تضمها ضمة الفكر الواحد لفروعها، أو ضمة العلة الواحدة لمعلولاتها، إنه وقد رأى العالم من حوله كثرة كثيرة من كائنات، لم يهدأ حتى التمس لها الرباط الذي يوحد بينها، وحين رأى اللغة تجري على قواعد أقلقه ألا يجد لهذه القواعد نفسها ما يعللها (واقرأ في هذا لابن جني كتاب «الخصائص»). ولما رأى أحكام الشرع قد تشعبت، اجتهد في أن يقع لها على أسس عامة تجمعها في أصول قليلة مشتركة. وهكذا طفق العربي يرد الكثرة إلى وحدة تبرز ما فيها من تجانس، وتميز المؤتلف بين وحداتها من المختلف؛ وبذلك استطاع أن يهيئ لنفسه سبيل «الفهم» - وما «فهم» شيء إلا رده إلى أصله ومبدئه الذي يفسره - فوقف من العالم ومن حياته وقفة بصيرة واعية. وهكذا أيضا ينبغي للعربي المعاصر أن يقف من عالمه ومن حياته إذا شاء أن يصل حاضره بماضيه وصلا حيا نابضا (راجع فصل «قيم باقية من تراثنا» في كتاب «تجديد الفكر العربي»).
لقد عرضت في كتاب «تجديد الفكر العربي» تحت عنوان: «ياقوتة العقد للعلم والعلماء» بعض ما أورده صاحب العقد الفريد - ابن عبد ربه - عن تصوره للعلم ومكانة العالم؛ لأنه يقدم لنا - في أجلى بيان - برهانا على أن العربي المعاصر إذا ما أراد أن يضيف إلى حياته الوجدانية علوم العقل كذلك لكي يستطيع بهذه الإضافة أن يندمج مع عصره في أهم اهتماماته، فلن يجد نفسه غريبا على الروح العلمية، وكل ما يطلب منه هو أن يستفيد في نفسه روح آياته، وهاك بعض ما ورد في الفصل المذكور من كتاب «تجديد الفكر العربي»: «... قضيت ساعة مع كتاب الياقوتة (وهو أحد فصول «العقد الفريد») الذي خصص للمختارات التي قيلت في العلم والأدب، وقد قصدت إلى هذا الاختيار عامدا في أيام نروج فيها للعلم وللنظرة العلمية، وللحياة العلمية، وللتخطيط العلمي، وللإشادة بالقائمين على الحياة العلمية. أقول: إني قد قصدت إلى هذا الاختيار عامدا؛ لأعيش مع السلف ساعة، أستمع إليهم في موضوع هو مشغلة اليوم، لا من حيث مادة الموضوع نفسها، ولكن من حيث القيم التي كانت تضبط عمل العاملين به؛ فنحن إذ نقول ونعيد - في إصرار وإلحاح، وفي إيمان وعقيدة: إن جهودنا الثقافية اليوم ينبغي أن تسير بنا نحو ثقافة «عربية معاصرة» تحمل موضوعات العصر واهتماماته، مصوغة في قيم موروثة عن السلف؛ لنحقق بها معاصرة وطابعا قوميا في آن معا، ونجمع خصوصية تاريخنا إلى عمومية الحياة العصرية المشتركة بين سائر الأقوام في نتاج واحد. نحن إذ نقول هذا ونعيده، لا يجدر بنا أن نترك القول عند هذا الحد من التجريد والشيوع، بل لا بد أن نضيف إليه محاولات في التطبيق، وها هنا يتبين متى تكون تلك المبادئ معقولة ومقبولة، ومتى لا تكون ...» ... أما بعد، فإلى القارئ صورة عشتها مع كتاب الياقوتة من العقد الفريد، وهو الكتاب (أي الياقوتة) الذي خصص - كما قلنا - للحديث في العلم والأدب. على أنني قصرت اهتمامي هذه المرة على العلم وحده، ومع ذلك لم أتجاوز بضع صفحات، تفاعلت بها مع المادة المقروءة أخذا وردا وقبولا ورفضا.
يبدأ المؤلف - ابن عبد ربه - كتاب الياقوتة هذا، يبدأ كما يبدأ سائر الكتب بما يسمه «فرشا» أي مقدمة يمهد بها لموضوعه، وفي «الفرش» للياقوتة - وهو لا يزيد على صفحة ونصف صفحة - لمحات هي أنفذ اللمحات، وقفت إزاءها متسائلا في عجب وإعجاب: أتكون هذه هي الأصول والمبادئ عند أسلافنا، ثم تجد بيننا اليوم من يعد مثل هذا الحديث خروجا يكاد يبلغ عندهم حد الإلحاد والكفر؟ وأعني هنا بصفة خاصة ذلك المبدأ الذي يوجزه ابن عبد ربه ليكون أساسا لكل معرفة علمية، ألا وهو أن تبدأ المعرفة بالحواس، ثم تتدرج من هذه البداية الضرورية بحيث تنتقل من المحسوس إلى التصور الذهني، ومن التصورات الذهنية وما يربط بينها يكون ما نسميه فكرا، فإذا ما ترويت في مضمون هذا الفكر وجدته مثيرا للإرادة، وما دامت الإرادة استثيرت فلا بد عندئذ من الأخذ بأسباب العمل.
إنني أوجه الدعوة إلى قارئي ألا يتعجل وأن يقف هنا لحظة؛ ليشبع وليرتوي بهذا المبدأ المنهجي، وها أنا ذا أعيد أمامه أركانه الأساسية: لا معرفة مما يصح أن يسمى علما إلا إذا بدأت بتجربة الحواس؛ أي بضرورة أن ترى بالعين شيئا، وأن تسمع بالأذن شيئا، وبعبارة أخرى: فإن العلم لا ينبثق من باطن الإنسان كما تندفع حمم البركان من جوف الأرض، بل هو يجيء إلى الإنسان من خارجه من الدنيا التي حوله عن طريق الحواس، وإذا أنت قد شبعت من هذا المبدأ وارتويت، رفضت بعد ذلك القبوع في عقر الدار تستنزل رحمة العلم من السماء، وأخذت تسعى في دنيا الشهادة وفي معامل التجربة والاختبار .
هذه واحدة، والأخرى أنك بعد أن تبني لنفسك بناء فكريا من حصيلة المحسوسات هذه، كان المقياس الذي تقاس به سلامة البناء هو مدى استطاعتك تحويله إلى إرادة تريد وإلى عمل يعمل. وأكررها مرة أخرى: «المعرفة العلمية هي في صميمها مخططات لأعمال، وليست هي بناءات تبنى في الذهن ليتأملها الإنسان، ثم يأوي إلى مخدعه ليستريح ...» (راجع الفصل كاملا في كتاب «تجديد الفكر العربي»).
5
لست أشك لحظة في أن أولى المشكلات في حياتنا الثقافية، والتي من تلك الحياة بمثابة قطب الرحى، هي محاولة الكشف عن صيغة لحياتنا الفكرية والعملية، تجمع لنا في طيها طرفين؛ إذ تحافظ لنا على خصائصنا العربية الأصيلة، وفي الوقت نفسه تفتح لنا الأبواب على مصاريعها؛ لتستقبل - في رحابة صدر - أسس الحضارة العصرية، كما يحياها اليوم روادها.
وفي فصل عنوانه «التوفيق بين ثقافتين» (في كتاب ثقافتنا في مواجهة العصر) عرضت محاولة على شيء من التفصيل للطريقة التي يمكن أن نخرج بها صيغة تؤدي لنا ما يوجد حلا للمشكلة كما عرضناها لتونا. ولقد أسلفت القول في الفقرة السالفة بأنني خلال الأعوام التي شغلت فيها بتلك المشكلة - مشكلة الأصالة والمعاصرة - قد تناولت الموضوع من زوايا مختلفة لعلني أقع على الاتجاه الصحيح، كمن ضل طريقه في مدينة مجهولة؛ فأخذ يجرب أحد الطرق مرة، وسواه من الطرق مرة ثانية فمرة ثالثة. وفي الفقرة السابقة عرضت إحدى تلك المحاولات، وهي محاولة المعالجة من زاوية العلاقة في الرؤية الثقافية بين الارتكاز على ما هو «واقع» والارتكاز على «ما وراء الواقع» وإمكان الجمع بين الركيزتين في نظرتنا الجديدة؛ فنجمع بذلك في لوحة واحدة نشاط العقل في ميدان العلوم، وفاعلية الوجدان في ميادين الدين والفن والأدب؛ وبهذا يمكن الجمع بين ما هو أصيل في تراثنا وما هو معاصر.
Page inconnue