إهداء
كلمتي
بيان
قصص عن الكاتب الفرنسي الشهير ألفونس دوديه
الوزير في الريف
عنز المسيو سيكين
سر «المعلم» كورنيل
وفاة ولي العهد
الفراشة الراقصة
وجوم ...
لويز
هل هي آثمة؟
هدية الزواج
زازا
غرام زائف
قصة العذراء
الروح الكورسكية
العاصفة
قصص عن الكاتبة الإنجليزية الكبيرة لويز هيلجرز
ابنتي الصغيرة
عشاء اثنين
العلم
حديقة
روبيسبيير يرتد خائبا
حلم يوم من أيام الصيف
بولزلوف
هدية الموت
قصص عن الكاتب الفرنسي الكبير مارسيل بريفو
الوحم
الضيف
بعد الخطيئة
إهداء
كلمتي
بيان
قصص عن الكاتب الفرنسي الشهير ألفونس دوديه
الوزير في الريف
عنز المسيو سيكين
سر «المعلم» كورنيل
وفاة ولي العهد
الفراشة الراقصة
وجوم ...
لويز
هل هي آثمة؟
هدية الزواج
زازا
غرام زائف
قصة العذراء
الروح الكورسكية
العاصفة
قصص عن الكاتبة الإنجليزية الكبيرة لويز هيلجرز
ابنتي الصغيرة
عشاء اثنين
العلم
حديقة
روبيسبيير يرتد خائبا
حلم يوم من أيام الصيف
بولزلوف
هدية الموت
قصص عن الكاتب الفرنسي الكبير مارسيل بريفو
الوحم
الضيف
بعد الخطيئة
قصص عن جماعة من مشاهير كتاب الغرب
قصص عن جماعة من مشاهير كتاب الغرب
تأليف
فرج جبران
إهداء
إلى: روحها الطاهرة ...
في مثواها الأبدي
كلمتي
إن القصص التي تحتويها هذه المجموعة هي جزء مما نشرته على صفحات الجرائد والمجلات، وأنا أميل إلى الاعتراف أنها قد لا تكون أحسن ما نشرت من القصص رغم ثناء بعض الأصدقاء عليها. فما أسعدني بعد ذلك إذا صادفها هوى من نفوس قرائها، أما إذا لم تصادف ذلك الهوى فأرجو الله أن تصادفه المجموعة الثانية التي سأعنى بها كل العناية.
وإن كان هناك مجال للاعتذار؛ فأنا أعتذر للقارئ عما قد يسوءه هنا من الأخطاء المطبعية، أو رداءة الورق أو الحروف، وإن كانت المسئولية التي أتحملها عن ذلك صغيرة لا تكاد تذكر.
وإني أختتم شاكرا: للأدباء ولمحرري الصحف الذين كان لكلمات تشجيعهم الدائم أكبر أثر دفعني للعمل والعناية.
فرج جبران
بيان
رأينا أن نكتب كلمة قصيرة عن الكتاب الذين نقلنا عنهم عددا من القصص ونشرناها في هذه المجموعة. أما الذين نقلنا عنهم قصة واحدة فقد رأينا أن ندع الحديث عنهم لفرصة أخرى.
ألفونس دوديه
ALPHONSE DAUDET (1840-1897)
لا يتعدى ما اخترناه له هنا أربع قصص أخذناها من «رسائل من طاحونتي
Letters de mon moulin »، كتبها دوديه وهو يتمتع بالوحدة والراحة في الريف الهادئ في إحدى طواحين الهواء المهجورة بوادي الرون في قلب مقاطعة بروفنس، بالقرب من جبل مغطى بأشجار السرو والصنوبر، وقد اشترى الكاتب هذه الطاحونة كي يكتب فيها، وذكر شيئا من تاريخ الطاحونة نفسها في قصته «سر المعلم كورنيل» وتجدها على «سر المعلم كورنيل» من هذا الكتاب.
وألفونس دوديه ليس في حاجة إلى التعريف؛ فهو من أشهر الكتاب الفرنسيين، اشتهر بقصصه وصوره، وكلها من النوع الذي لا يكاد يقرؤه قارئ حتى يصل إلى قرارة قلبه.
ولد دوديه ببلدة نيمو، ومن أشهر أعماله إلى جانب «رسائل من طاحونتي»: الشيء الصغير - ترتران - جاك - سافو - نومارومستان.
ويمتاز بدقة الملاحظة وسهولة الإدلاء والتصوير مع سهولة التراكيب.
لويز هيلجرز
LOUISE HELIGERS
هذه كاتبة إنجليزية محدثة، تجد في قصصها الوصف الهادئ الساكن، تلقيه امرأة في حديث طبعي لا أثر للكلفة أو الصناعة فيه.
وما أسرع أن تصل قصصها القصيرة إلى القلوب، شأن كل حديث يتجلى للإنسان صدقه وإخلاصه، ويملك عليه مشاعره، وإنك لتشعر وأنت تقرأ قصصها القصيرة كأنك تسير جنبا إلى جنب مع شخصياتها وتشعر بنفس شعورهم.
وربما كان لطبيعتها النسائية أكبر أثر في ذلك وفي نعومتها أيضا.
وإذ تتحدث عن الحب في قصة من قصصها تجعلك تشعر بصدق ذلك الحديث وصدق ذلك الحب وقدسيته، ومن يصدق في وصف شعور المرأة أكثر من المرأة نفسها؟
وخير تذكية لها ما ذكره أحد كبار كتاب وعلماء إنجلترا في مقدمة كتابها الثاني
More Tabloid Tales : «إن لويز هيلجرز أكبر كتاب القصص القصيرة في العالم الآن.»
ولنا أن نذكر أيضا أن قصتها «عشاء اثنين» التي نشرت في هذا الكتاب قد نشرت أخيرا بين ست قصص قصيرة أخرى جمعت في كتاب واحد، هو: «أشهر ست قصص قصيرة في العالم».
مارسيل بريفو
MARCEL PREVOST
روائي فرنسي مشهور. ولد في باريز يوم أول مايو سنة 1862، تعلم في مدارس «الجزويت»، ودخل مدرسة الهندسة سنة 1882، ولكنه ترك الهندسة بعد بضع سنوات من نهاية دراسته إلى صناعة التبغ. ونشر بعد ذلك «العقاب» (1887)، «شونشيت» (1888)، «مدموازيل جوفر» (1889)، «ابنة العم لورا» (1890)، «اعترافات عاشق» (1891)، «رسائل النساء» (1892). وفي سنة 1894 أحدث ثورة فكرية عظيمة بدراسة مبالغة ثائرة حول نتائج التعاليم الباريسية والمجتمع الباريسي على الفتيات والعذارى، وهي «إنصاف العذارى»، وقد لاقت أعظم نجاح. ويظهر فيها الفتاة وهي تتهاون بعرضها قبل الزواج وتعبث مع مختلف الشبان عبثا غير بريء، ليس هذا مقام بحث تلك الرواية، ولكننا نقول عنها إنها شبيهة برواية فكتور مرجريت «لاجرسون» أو الفتاة المسترجلة.
وظهرت «رسائل إلى فرنسواز» سنة 1902، وفي سنة 1904 نجح نجاحا باهرا برواية تمثيلية هي: «أضعفهن»، وفي سنة 1909 انتخب عضوا في مجمع العلوم الأكاديمي.
قصص عن الكاتب الفرنسي الشهير ألفونس دوديه
الوزير في الريف
الوزير يمر في المقاطعة، فسائق العربة جالس في أمامها والحجاب في خلفها. أما عربة الوزير فتدرج به نحو الاجتماع السياسي المحلي في «كومب أوفيه»، ولهذه المناسبة المهمة يلبس الوزير سترته المذهبة، وقبعته العالية، وسيفه، وقد وضع على ركبتيه حافظة أوراقه الجلدية، وكان يحدق فيها بنظره. الوزير يحدق في حافظة أوراقه الجلدية بنظر تائه، وهو يفكر في تلك الخطبة الرنانة التي سيلقيها على أهل «كومب أوفيه» ... «أيها السادة الأفاضل والإخوة العمال ...»
ثم يشتد في الضغط على شاربه الأصفر، ويكرر الجملة مرات: «أيها السادة الأفاضل والإخوة العمال ...» ولكنه لم يكن ليذكر شيئا يتبع به هذه الجملة ... وهو يشعر بالحرارة في داخل العربة، وإذ ألقى بنظره إلى الأمام رأى طريق «كومب أوفيه» وهو يمتد أمام ناظره، والهواء يهب عليلا، والطيور الصغيرة تتجاوب من فوق الأشجار.
وتطلع الوزير فجأة إلى المنظر، فهناك على مسافة ليست بالبعيدة وعلى سفح التل رأى غابة صغيرة من شجر السنديان، وكأنها كانت تنحني إلى الأمام إجلالا له! كانت غابة السنديان كأنها تنحني له قائلة: «لماذا لا تأتي هنا أيها السيد الوزير؟ إنه لمن دواعي راحتك أن تحضر خطبتك تحت أشجاري.»
وكم سر الوزير للفكرة، فهو يقفز من العربة وقد أخبر المرافقين له أن ينتظروه؛ لأنه سيحضر خطبته في غابة السنديان الصغيرة، وفي الغابة الصغيرة كثير من الطيور وزهر البنفسج، ومجار مائية صافية تجري بين الحشائش الخضراء، فعندما رأت الطيور الوزير بلباسه الفاخر وحافظة أوراقه الجلدية خافت وأمسكت عن الغناء، وكذلك النهيرات الصغيرة، فقد انقطع خريرها. أما زهرات البنفسج فقد اختفت بين الحشائش، ولم يكن أحد من سكان هذا العالم الصغير قد رأى وزيرا من قبل، فبدءوا يتساءلون في همس عمن يكون هذا الرجل الفاضل الذي يخطر في هذه الثياب الجميلة؟ إنهم يتساءلون في همس - من وراء أوراق الأشجار - عمن يكون هذا الرجل الفاضل الذي يخطر في هذه الثياب الجميلة! أما الوزير فقد سحره هدوء المكان ونقاء الهواء، فهو يخلع قبعته ويضعها بجانبه على الأرض، ويسحب ذيل ردائه، ويجلس هو على العشب بجانب سنديانة صغيرة، ثم يضع حافظة الأوراق الجلدية على ركبتيه ويفتحها ويخرج ورقة بيضاء كبيرة من أوراق الحكومة.
قال الهدهد: «إنه فنان!»
فرد طير آخر: «لا، إنه ليس فنانا؛ فملابسه بيضاء، لا بد أن يكون من الأمراء!»
نعم لا بد وأن يكون من الأمراء!
فرد بلبل كهل، كان قد قضى فصلا كاملا من فصول السنة في الغناء بحديقة الوزير: «أنا أعلم ما هو، إنه لوزير!»
وبدأت الغابة الصغيرة كلها تتهامس: «إنه وزير! إنه وزير!»
وبدأت قنبرة تتحدث: «هل هو أصلع الرأس؟» وتساءلت زهرات البنفسج: «هل هو قاسي القلب؟» فأجاب البلبل الكهل: «ليس هو.»
فعندما علمت الطيور ذلك، بدأت الغناء ثانية، وعادت المياه لخريرها، وبدأت رائحة البنفسج تعبق المكان كأن ذلك الرجل الفاضل لم يكن هناك ... وكم اغتبط الوزير وسط هذا الجمال!
ولما رفع قلمه عن الورقة، نطق بلهجة الخطيب: «أيها السادة الأفاضل والإخوة العمال ...»
وأعاد الوزير بلهجة الخطيب: «أيها السادة الأفاضل والإخوة العمال ...» ولكن صوتا يقطع عليه حبل حديثه فيتلفت حوله، ولكنه لا يرى إلا طائرا كبير الحجم، أخضر اللون، من طيور الغابة، فيهز الوزير كتفيه ويعود إلى خطبته، إلا أن الطائر يقاطعه وهو يصيح: «ما فائدة هذا؟»
فيرد الوزير وقد احمر وجهه: «ماذا تقول؟ ما الفائدة من ذلك؟» ثم يطرد هذا الطائر بحركة خفيفة من يده ويعود ثانيا إلى خطبته قائلا بأحسن لهجة: «أيها السادة الأفاضل، والإخوة العمال ...»
ولكن في نفس اللحظة، تميل عليه زهرات البنفسج وهي على سيقانها الرفيعة وتتمتم بسكون: «أيها السيد الوزير، ألا تتبين ما أجمل رائحتي؟!» وتلك المجاري المائية السائرة بين الأعشاب، لقد كانت أصواتها كموسيقى سماوية، وعلى فروع الأشجار فوق رأسه. كانت الطيور تغني له أبهج النغمات وأسرها لفؤاده.
إن الغابة الصغيرة بأكملها تتآمر لتمنعه من تحضير خطبته، ولما ثمل الوزير بالرائحة، وسحر بالموسيقى، حاول عبثا أن يقاوم هذا السرور غير العادي، فهو يتمدد بنفسه على الحشائش بكل دلال، ثم يفك أزرار سترته الموشاة، ثم يتمتم مرارا ... «أيها السادة الأفاضل، والإخوة العمال ... أيها السادة الأفاضل، والإخوة العمال ... أيها السادة والإ ...»
ثم هو يتمنى بعد ذلك الجحيم لإخوته العمال، ولا يرجو إلا أن تزيح عروس الزراعة عن نقابها لتكشف له عن جمالها.
ألا ارفعي النقاب عن وجهك يا عروس الزراعة!
وأخيرا بعد ساعة من الزمن، عندما قلق خدم الوزير على سيدهم، ذهبوا إلى الغابة الصغيرة، فرأوا منظرا جعلهم يتراجعون إلى الوراء مذعورين.
فلقد كان الوزير منبطحا على بطنه فوق الحشائش، مفتوح الصدر كأنه من الغجر ... وقد رمى سترته بعيدا عنه، وكان وهو يقرض إحدى زهرات البنفسج بين أسنانه ... يقرض الشعر أيضا!
عن «ألفونس دوديه»
عنز المسيو سيكين
لم يكن للمسيو سيكين أي حظ في ماشيته، كان يفقدهم كلهم بطريق واحد. في يوم من الأيام كانوا يقطعون الحبل الذي كان يربطهم، ويفرون إلى الجبال حيث يفترسهم الذئب؛ فلا الدلال أو اللطف الذي كان يعاملهم به سيدهم، ولا خوف الذئب، كان ليمنعهم من الفرار إلى الجبل، والحق أنها كانت ماشية مستقلة، تطلب الحرية بأي ثمن من الأثمان!
وقد قلق المسيو سيكين - وكان لطيفا طيب القلب - قلقا عظيما؛ فإنه لم يكن قد فهم بعد نفسية هذه المخلوقات.
فكان يقول لنفسه: «لقد انتهى الأمر، إن الماشية تسأم من سجنها عندي، فلن أربيها إلى الأبد!»
ومع ذلك فقد استعاد شجاعته، فبعد أن فقد ست عنزات في هذا الطريق اشترى السابعة، ولكنه لاحظ في هذه المرة أن تكون صغيرة؛ حتى تشب وقد اعتادت أن تمكث معه بدون أن يعتريها الملل.
وكانت عنزا صغيرة لطيفة، بعيون صافية، ووجه جميل وحوافر سوداء لامعة، وقرون مستديرة، وشعر طويل أبيض.
وفوق ذلك كانت سهلة القياد، لم تخرج أبدا خارج غرفتها.
عنز ... صغيرة محبوبة!
كان للمسيو سيكين مرعى واسع كله حشائش خلف منزله، وهناك وضع عنزه الجديدة في ركن من الأركان وربطها بحبل طويل، وكان يذهب من وقت لآخر ليعمل لراحتها، وكان يظهر على العنز أنها سعيدة جدا، وكانت تأكل الحشائش بشهية سر لها المسيو سيكين كل السرور، وفكر المسكين قائلا لنفسه: «أخيرا قدر لي أن أجد العنز التي لا تتضايق بمعاشرتي.»
وكان مسيو سيكين مخطئا في حدسه.
في يوم من الأيام نظرت العنز إلى الجبل وقالت لنفسها: «كم تكون الحياة مسرة هناك في أعلى هذا الجبل! ما ألذ الحرية والعدو بلا حبل يخنق؟ ... للحمير والبهائم أن تبقى في الحقول، أما العنزات فتحتاج للحرية.» ومن تلك اللحظة فقدت حشائش المرعى نكهتها السالفة، وبدأت العنز تهزل يوما عن يوم، وقل مقدار اللبن الذين يؤخذ منها، وكان من المحزن أن ترى وهي تشد حبلها طول اليوم، ورأسها متجه لناحية الجبال، وخياشيمها مفتوحة واسعة، وهي تصيح: «ما ... ما ...!»
وعرف المسيو سيكين أن شيئا حدث لعنزه، ولكن لم يمكنه أن يتصور ما هو. وفي صباح يوم من الأيام بينما كان بجانبها، أسرت إليه بلغتها: «أصغ إلي يا مسيو سيكين: لقد سئمت كل هذا، دعني أجري إلى الجبال.»
فوقعت آنية الماء من يد مسيو سيكين وصاح: «يا لله! ها هي واحدة أخرى منهن.» ثم جلس بجانبها وقال لها: «بلانكيت، أترغبين حقا أن تتركيني؟»
وأجابت بلانكيت: «نعم.» - «هل عشبك قليل؟» - «لا يا مسيو سيكين.» - «ربما كان حبلك قصيرا، هل أطيله لك؟» - «إن الأمر لا يستحق ذلك .» - «إذن فماذا حدث؟ ماذا تريدين؟» - «أريد أن أجري فوق الجبال يا مسيو سيكين.» - «ولكن يا أيتها المخلوقة الغبية، ألا تعلمين أن الذئب يعيش فوق الجبال؟ فماذا أنت صانعة إذا أتاك؟» - «سأنطحه بقروني حينذاك يا مسيو سيكين.» - «سيهزأ من قرونك هذه، فلقد افترس عنزات لها قرون أطول من قرونك!» - «ولكن على أي حال، دعني يا مسيو سيكين أجري إلى الجبال.»
فصاح مسيو سيكين: «أيتها القوات العليا، ماذا يحل بعنزاتي؟ ها هي واحدة أخرى تريد أن تؤكل! لا، سأنقذك رغما عنك أيتها الغبية! وخوفا من أن تقطعي حبلك سأسجنك في الإسطبل وستمكثين هناك.»
ثم جر المسيو سيكين عنزه إلى الإسطبل المظلم وأغلق الباب عليها بالقفل، ومن سوء حظه أن نسي الشباك، فلم يكد يبتعد قليلا حتى كانت قد خرجت منه ...
ولما وصلت إلى الجبل شمل الفرح كل أنحائه؛ فإن أشجار الصنوبر لم تر شيئا أبدع من هذه العنزة، وقد استقبلت كملكة صغيرة، أما الأشجار الأخرى فقد أحنت فروعها إجلالا لها وتحية.
والخلاصة أن الجبل كله احتفل بها ومجدها.
وكانت سعيدة لا حبل، ولا وتد، ليس هناك ما يمنعها عن القفز والعدو والرعي أنى أرادت.
وأي عشب، وأي زهر، وأي مرعى خصيب كانت ترعى فيه الآن وترتع! ... وقد كادت العنز البيضاء الصغيرة تجن فرحا وهي تنحدر من فوق الجبال، ثم تصعد إليها ثانية حتى إنه لم يكن عليك من حرج لو أقسمت أنه كانت هناك اثنتا عشرة عنزا من عنزات المسيو سيكين ترتع على الجبل.
وحدث وهي تنظر مرة من فوق القمة أن لمحت منزل المسيو سيكين في أسفل الوادي بحقله الخلفي، فضحكت حتى سالت دموعها، وقالت: «ما أصغره! ... كيف أمكنني أن أمكث فيه؟!» وفجأة بلا إنذار، بدأ الهواء يهب باردا، واكتسى الجبل بحلة حمراء، لقد حل المساء؛ فتعجبت العنز وقالت: «بهذه السرعة!» وقد انتشر الظل الأسود على المراعي السفلى فظهرت سوداء، واختفى منزل المسيو سيكين وراء الضباب، ولم يعد يظهر منه سوى السقف الذي كان يتصاعد منه الدخان. أصغت العنز إلى رنين الأجراس البعيدة للعنزات وهي تساق، قافلة إلى مضاجعها؛ فشعرت بالحزن يدب في فؤادها، ومر على ظهرها باز - وهو طائر - وكان راحبا إلى وكره فارتعدت، ثم سمعت من فوق الجبل نباح «عاو ... عاو»؛ فتذكرت الذئب، لقد نسيته هذه الحمقاء طول اليوم، وسمعت في نفس الوقت صوت نفير آت من الوادي، وكان مسيو سيكين الطيب القلب يبذل مجهودا أخيرا، عوى الذئب: «عو ... عو عاو!»
وغنى النفير بنغماته «العودة، ارجعي ...!» كانت لبلانكيت رغبة في العودة، ولكنها تذكرت الإسطبل والجبل والمرعى والمحل، وشعرت كأن لا قبل لها باحتمال هذه الحياة ثانية، وأنه كان خيرا لها أن تظل حيث هي.
وسكت النفير ... وشعرت العنز الصغيرة صوت حركة خلفها بين الأغصان، وعندما أدارت رأسها رأت في الظلام أذنين مرهفتين، وعينين لامعتين ... وكان الذئب ...!
كان هو الذئب بجسمه الضخم، وهدوئه المعتاد. وقف الذئب بسكون يلاحظ هذه العنز البيضاء الصغيرة، وهو يفكر في التهامها وما فيه من لذة، ولما كان واثقا من أنها لن تفر من يده وأنه سيأكلها لا محالة، لم يسرع في عمله، وعندما رأى أنها التفتت إليه بدأ في الضحك! - «ها ... ها ... أيتها العنز الصغيرة ...» وأخرج لسانه الأحمر ولعق به شفتيه ... وشعرت بلانكيت أنها فقدت. ولكنها استعدت للدفاع، فتدلت رأسها، وحددت قرونها، وكم كان منظرها جميلا!
لم يكن لها أمل في قتل الذئب، لا؛ فإن العنزات لا تقتل الذئاب، بل على أمل أن تعيش إلى الفجر ... فقط.
وعندما خطا الوحش إلى الأمام، بدأت القرون تتحرك، يا لها من عنز صغيرة شجاعة!
فأي معركة تلك التي وقفت فيها أمام ذئب؟! لقد أرغمته أكثر من عشر مرات أن يتقهقر أمامها كي يسترد قواه ويتنفس، وكانت في إبان هذه اللحظة الصغيرة تملأ فمها بكل حرص من عشبها المحبوب، ثم تستمر في العراك وهي تمضغ عشبها ... وقد استغرق هذا الليل بطوله ...
ومن وقت لآخر كانت عنز المسيو سيكين تلقي نظرة إلى النجوم وهي تضيء في هذه السماء الصافية، وتقول في نفسها:
لو أمكنني أن أثبت إلى الفجر فقط؟
وبدأت النجوم تختفي واحدة فواحدة، وضاعفت بلانكيت طعناتها ونطحها، وضاعف الذئب مجهوده ليتغلب عليها.
وظهر ضوء ضعيف في الأفق، ورن صوت صياح ديك من إحدى المزارع السفلى، فقالت بلانكيت في نفسها: «... وأخيرا ...!» وتأوهت العنز المسكينة، التي كانت تنتظر الفجر فقط لتموت، ثم وقعت على الأرض وقد تلوث فروها الحريري الناعم بالدماء ...
وثب الذئب على العنز الصغيرة وبدأ في التهامها!
عن «ألفونس دوديه»
سر «المعلم» كورنيل
فرنسيه ماماي، رجل كهل من الذين يجيدون اللعب على الصفارة، وهو يحضر من وقت لآخر لكي يمضي معي المساء في شرب الخمر. قص علي في يوم من الأيام قصة قروية صغيرة، كانت طاحونتي مسرحا لحوادثها، منذ عشرين سنة تقريبا، وقد ملكت قصة هذا الكهل علي مشاعري، وسأحاول أن أقصها عليكم كما سمعتها: تصوروا لحظة؛ أي قرائي الأعزاء، أنكم أمام زجاجة خمر، وأن هناك ذلك السيد العزيز يحدثكم: إن قريتنا يا سيدي العزيز لم تكن الحال بها على ما هي عليه الآن من موت وسكون، في تلك الأيام السالفة كان الحال ميسورا لأصحاب الطواحين، وكان الفلاحون يحضرون إلينا غلالهم لطحنها من بعد عشرة فراسخ. كانت كل التلال المحيطة بالقرية عامرة بالطواحين. لقد كان ممكنا للإنسان - إن تلفت يمنة أو يسرة - أن يرى الأجنحة وهي دائرة فوق أشجار الصنوبر، وقطعان الحمير الصغيرة وهي سائرة، صعودا ونزولا، محملة بالزكائب. ولقد كان لطيفا أن يسمع الإنسان طول الأسبوع أصوات «فرقعة» الكرابيج، وأصوات هذه الشراع الهائلة وهي دائرة.
وفي أيام الآحاد كنا نصعد إلى التلال في جماعات، وهناك كان أصحاب الطواحين يقدمون لنا النبيذ الأحمر، أما زوجاتهم فكن أشبه بالملكات في جمالهن بنقبهن وصلبانهن الذهبية. وكنت أنا أستحضر معي صفارتي هناك، فكنا نمضي الوقت إلى ساعة متأخرة من الليل وهن يرقصن رقصهن القروي؛ ومن ذلك ترى أن هذه الطواحين الهوائية كانت مفخرة مقاطعتنا، بل كل ثروتها.
ولكن من سوء الحظ أن فكر بعض الفرنسيين من أهل باريس في بناء طاحونة تدار بالآلات، عند مفترق الطريق إلى ترسكون ...
ولكل جديد طلاوة؛ فلقد فضل أهل القرية إرسال غلالهم إلى الطاحونة الجديدة، ووقفت الحركة في الطواحين الهوائية بعد أن استمرت برهة تحارب في موقعة خاسرة؛ إذ إن الآلات كانت قوية جدا، وبدأت طواحين الهواء واحدة فواحدة تغلق أبوابها.
اختفت تلك الحمير الصغيرة. أما الزوجات الجميلات فقد بعن صلبانهن الذهبية، واختفى النبيذ الأحمر، وانعدم الرقص. نعم كان الهواء يهب إلا أن شراع الطواحين بقيت ساكنة. حتى أتى وقت هدمت فيه دائرة الكنيسة هذه الطواحين، وزرعت مكانها أشجار الزيتون والكروم.
غير أنه في وسط هذا الخراب عاشت طاحونة واحدة، واستمرت دائرة بشجاعة، وكانت هي طاحونة «المعلم» كورنيل. وهي هي بذاتها هذه الطاحونة التي نجلس فيها الآن.
كان «المعلم» كورنيل يبلغ الستين من عمره، قضاها كلها في طحن الغلال. وكان فخورا بصناعته، وقد كاد يجن حين استحضرت آلات الطحن الجديدة في القرية. وقد كنا نراه مدة ثمانية أيام متوالية وهو يسرع الخطا في القرية ويجمع الناس حوله ويصيح فيهم بأعلى صوته: «إنهم يقصدون تسميم أهل المقاطعة بالدقيق المطحون على الآلات!»
وكان يزيد على ذلك: «لا تذهبوا هنالك، إن هؤلاء الأشقياء يستعملون البخارة لعمل الخبز، وهذا اختراع من الشيطان. أما أنا فأشتغل بالرياح الجنوبية والشمالية، التي ما هي إلا نفس الله!»
وكان يجد بضع جمل أخرى طريفة مثل هذه في مدح طواحين الهواء، إلا أنه لم يجد من يصغي لنصائحه، وبعدئذ في ثورة غضبه سجن ذلك المسن نفسه في طاحونته، وعاش منفردا كالوحوش، حتى إنه لم يسمح لحفيدته الوحيدة «فيفيت» - وهي طفلة في الخامسة عشرة - أن تعيش معه، مع أنها منذ وفاة والديها لم يكن لها في العالم غير جدها، فكانت هذه المسكينة مضطرة أن تسعى وراء عيشها، فكانت تؤجر نفسها في المزارع للحصاد وجمع الزيتون، ومع ذلك كان يظهر أن جدها يحبها غاية الحب.
فكثر ما كان يقطع أربعة فراسخ في الشمس المحرقة كي يتزود منها بنظرة وهي تشتغل، وكان إذا وصل إليها أخذ يرقبها ساعات طويلة والدموع تجول في عينيه!
وكانت كل المقاطعة تظن أن هذا الطحان المسن قد أبعد عنه فيفيت لبخله، وأنه كان لا يهمه تنقل حفيدته من مزرعة إلى مزرعة معرضة لمعاملة العمال الفظة، ولكل الشقاء الذي تتعرض له اليد المستأجرة، وكانوا يظنون أنه من العار أيضا أن رجلا في مقام «المعلم» كورنيل - وكان إلى ذلك الوقت محترما غاية الاحترام - يمشي حافي القدمين، بقبعة ممزقة، وثياب مهلهلة ... والحق أنه عندما كان يحضر للكنيسة في أيام الآحاد كنا جميعا نخجل منه ونرثي لحاله، وعندما تبين له ذلك غير مكانه القديم، فكان يجلس في نهاية الكنيسة مع الفقراء.
أما اللغز الوحيد في حياته فقد كان استمرار دوران أجنحة طاحونته، رغم عدم إقدام أحد على إحضار غلاله إليه. ولقد كنت في المساء تقابل هذا الطحان المسن وهو يسوق حماره المحمل بأكياس الغلال، وكان الفلاحون يصيحون به: «مساء الخير يا معلم كورنيل! الطاحونة تشتغل أليس كذلك؟»
فكان يجيبهم منشرحا: «هي شغالة دائما، فلنشكر الله فالعمل كثير.»
ثم إذا تساءل أحد: من أين كان يأتي له كل هذا العمل؟ وضع الرجل أصبعه على شفتيه وأجاب: «لا تنبسوا ببنت شفة، فأنا أشتغل بالتصدير!» ولم يكن مسموحا لأحد بالمرة بالدخول إلى الطاحونة، حتى الصغيرة فيفيت لم يكن مصرحا لها، وكان المار في الطريق لا يجد الباب إلا مغلقا، والطاحونة دائرة والحمير التي بلغت من السن عتيا ترعى على الرصيف، وكانت هناك قطة تنظر شذرا للمارين وهي جالسة في الشمس على حافة الشباك.
لقد كان الأمر محوطا بالأسرار، حرك الألسنة بالحديث، وكان لكل واحد نظرية مختلفة في سر المعلم كورنيل. أما الفكرة العامة فهي أنه كان يخفي داخل طاحونته أكياسا من النقود لا الدقيق. ... وأخيرا انكشف السر بهذه الطريقة؛ بينما كنت أعزف على صفارتي للشبان عند الرقص في يوم من الأيام؛ إذ تبين لي أن ابني الأكبر قد هام غراما بفيفيت، فلم أغضب؛ فإن اسم كورنيل كان اسما شريفا، وفوق ذلك فقد كان مما يدخل السرور إلى قلبي أن أجد هذه العصفورة الصغيرة - فيفيت - وهي تمرح في منزلي، ولكن لما كانا هو وهي دائما معا؛ فقد رأيت أن أحتاط للأمر من مبدئه كي تجري المياه في مجاريها في المستقبل؛ فسرت إلى الطاحونة كي أتحدث مع جدها.
ويا للعجب! لكم كان يسرك أن ترى كيف استقبلني، لقد رفض أن يفتح الباب، ولقد شرحت الأمر مفصلا والباب مغلق في وجهي من موضع المفتاح، وفي إبان حديثي لم تنقطع القطة الملعونة عن المواء فوق رأسي!
ولم يترك لي هذا الكهل فرصة أخرى كي أنتهي من حديثي، فقد خاطبني بغلظة آمرا أن أرجع إلى صفارتي، وإذا كنت أريد أن أزوج ابني فأولى أن أبحث عن فتاة في معمل من المعامل!
ويمكنك أن تتصور كيف صعد الدم إلى رأسي عندما سمعت هذه الكلمات، ومع ذلك قد هدأت ثائرتي، ورجعت تاركا هذا الأبله في طاحونته؛ كي أقص على الطفلين قصة فشلي.
ولقد كان من الصعب عليهما أن يصدقا. ولقد توسلا إلي أن أرجع معهما إلى الطاحونة كي نتحدث إلى الجد، ولكني رفضت. وما أسرع أن رأيتهما وقد ذهبا بلا ثالث.
وعندما وصلا وجدا المعلم كورنيل قد خرج وأغلق الباب، ولكنه ترك سلمه الخشبي في الخارج، وخطرت الفكرة في بالهما فجأة أن يصعدا ويدخلا عن طريق النافذة ليعرفا حقيقة ما كان داخل هذه الطاحونة المشهورة!
وياللغرابة! لقد كان المخزن خاليا، لم تكن هناك حبة واحدة، لم يكن هناك أثر للدقيق حتى على الحائط، لم تكن هناك تلك الرائحة الجميلة، رائحة الدقيق المطحون، التي تغشى عادة كل طاحونة. كان داخل الآلة فارغا مغطى بأكوام التراب، والقطة الكبيرة نائمة عليها. أما الغرف السفلى فقد كانت على نفس هذا الحال الغريب، فراش مكسر، بضع خرق بالية، وبضع كسرات من الخبز ملقاة على السلم، وفي ركن من الأركان ثلاث أو أربع أكياس ممزقة، وقد تفجر منها الملاط والطباشير! وكان هذا هو سر المعلم كورنيل، هذه هي «البضاعة» التي كان يحملها في المساء بين الوديان كي ينقذ شرف طاحونته، ويجعل الناس يصدقون أنها غلال! مسكينة أيتها الطاحونة القديمة! مسكين أي كورنيل الكهل! لقد كانت الطواحين الجديدة التي تدار بالآلات سببا في إبدال عادات، نعم كانت شراع طاحونة كورنيل دائرة إلا أن الطاحونة كانت فارغة.
ورجع الصغيران والدموع تجول في مآقيهما، وقصا علي ما رأياه، وكم تأثر قلبي بما قصاه، ولم أضيع دقيقة واحدة في الذهاب إلى الجيران، وأخبرتهم جلية الأمر في كلمات قليلة، واتفقنا جميعا على أنه يجب إرسال كل الغلال الموجودة بالقرية إلى طاحونة المعلم كورنيل، وكان التنفيذ سريعا كالاتفاق؛ فقد خرجت القرية كلها، ووصلنا كلنا بموكب حافل مع الحمير المحملة بالغلال، غلال حقيقية هذه المرة.
وكان باب الطاحونة مفتوحا على مصراعيه، وفي الخارج جلس المعلم كورنيل على كيس من الملاط وهو يبكي برأسه بين كفيه؛ فقد عرف عند رجوعه أن هناك أحدا قد دخل الطاحونة واكتشف سره، وكان يبكي: «ويل لي! لم يبق لي إلا أن أموت، لقد ذهب شرف الطاحونة!»
وكان يشهق بالبكاء وينادي طاحونته بأرق الأسماء وألطفها، كأنها كانت كائنا حيا. وعندما وصلنا إلى الرصيف بدأنا نناديه جميعا نداءات الأيام الخالية السعيدة: «هنا أيها الطحان ... هنا يا معلم كورنيل.» وتكومت الأكياس أمام الباب، وبدأت الحبات الصغيرة تتدحرج على الأرض في كل ناحية.
وقد حدق المعلم كورنيل فيها بعينيه، ثم لم يلبث أن وضع يده في كيس من الأكياس وأخرجها ملآنة، ثم نظر فيها وقال ضاحكا وصائحا: «غلال ويح نفسي! غلال طيبة! دعوني أتزود منها بنظرة!» ثم التفت إلينا وقال: «كنت أعلم أنكم سترجعون إلي، إن هؤلاء الأجانب ليسوا إلا لصوصا.» ولقد كنا نريد أن نحمله كالفائز المنتصر ونمر به في القرية. - «لا، لا، يا أصدقائي، يجب علي أولا أن أغذي الطاحونة ... فكروا، منذ عصور وعصور لم تضع شيئا بين أسنانها.»
وقد كادت عبراتنا تجري ونحن نرى هذا الكهل المسكين وهو يجري هنا وهناك مفرغا الأكياس وملاحظا الطاحونة وهي تطحن الغلال، والدقيق وهو نازل منها إلى ناحية الحائط.
ويجب أن تذكر لنا هذه الحسنة، فمنذ ذلك اليوم لم نترك الطحان الكهل بلا عمل.
ولكن أخيرا، توفي المعلم كورنيل في صباح يوم من الأيام، ووقفت شراع آخر طاحونة بقيت لنا عن الدوران ... وإلى الأبد هذه المرة.
مات المعلم كورنيل، ولم يتقدم أحد ليحل محله.
نعم، نعم، لكل شيء في هذه الحياة نهاية، وأحسب أن يوم طواحين الهواء قد انتهى كما انتهى زمن قوارب الركاب على الرون، وأيام الجمعيات الوطنية في فرنسا.
عن «ألفونس دوديه»
وفاة ولي العهد
ولي العهد الصغير مريض، ولي العهد الصغير على شفا الموت، في كل كنائس المملكة تلقى الصلوات والشموع الطويلة تحترق على أمل أن يشفى الطفل الملكي، في شوارع العاصمة القديمة حزن وسكون، ولا يسمع قرع للأجراس. أما العربات فتسير ببطء متمهلة، وحول القصر اجتمعت الجماهير ترقب ما يجري باهتمام خلال القضبان، أما حراس الأبواب بملابسهم الذهبية الرسمية فقد اجتمعوا في الردهات يتكلمون باهتمام.
إن القصر كله في قلق، فالوصيفات ومديرو القصر يسارعون هنا وهناك على الأدراج الرخامية، أما الأروقة فمملوءة بالخدم والحجاب بملابسهم الحريرية وهم ينتقلون من جماعة إلى جماعة لكي يتسمعوا الأخبار الأخيرة بأصوات ضعيفة. أما على السطح الواسع فإن حاجبات الشرف ينحنين لبعضهن في التحية وهن يجففن أعينهن بمناديلهن المزخرفة الجميلة.
وعند حديقة البرتقال مجمع مزدحم من الأطباء، ومربي ولي العهد ونائب الملك يروحان جيئة وذهابا خارج باب الحديقة في انتظار قرار المجمع، ويمر من أمامهما الخدم بدون أن يحيوهما. أما نائب الملك فهو يقسم ويجدف بالله كالكفرة، والمربي فهو يتلو شيئا من «هوراس»، وفي كل آونة تأتي من ناحية الإسطبلات صهلة عالية، هذا حصان ولي العهد الكستنائي وقد نسيه الخدم، فهو يشكو بغضب عندما يواجه مذوده الفارغ.
والملك؟! أين جلالة الملك؟ لقد أغلق الملك غرفته على نفسه منفردا في الجانب الآخر من القصر، إن الملكية تأبى أن يراها أحد وهي تبكي! أما الملكة فشأنها شأن آخر؛ فهي جالسة بجانب سرير ولي العهد، ووجهها مندي بالدموع، وهي تشهق بالبكاء بصوت عال قبل أي شخص آخر، وما كان أشبهها حينئذ بزوجة تاجر أقمشة بسيط! وفي وسط سريره المغطى بالشرائط، يجلس ولي العهد بوجه أبيض من فرش سريره ووساداته، وبعينيه المغلقتين، وهم يظنون أنه نائم، ولكن لا إن ولي العهد الصغير ليس بنائم، فهو يدير رأسه إلى ناحية أمه، وعندما يراها باكية يقول لها: لماذا تبكين جلالتك؟ هل تظنين حقا أنني سأموت؟
تحاول الملكة الكلام، غير أن شهقاتها تمنعها. - لا تصرخي يا صاحبة الجلالة، إنك تنسين أنني ولي العهد، وأن ولي العهد لن يموت هكذا!
أما شهقات الملكة فيزداد صوتها في الارتفاع، حتى إن الرعب يبدأ يدب في قلب ولي العهد وهو يقول: لا أريد أن يأتي الموت ويأخذني، وأنا أعرف كيف أمنعه من الدخول إلى هنا.
مروهم أن يرسلوا إلي في الحال أربعين من طوال الفرسان لكي يتولوا الحراسة هنا حول سريري، وليستعدوا بمائة مدفع عظيم، ليل نهار، بنار متأججة تحت شبابيكي.
وبعدئذ إذا أتى الموت فليأت مخاطرا بنفسه!
ولكي تسكن الطفل الملكي، تشير الملكة، وفي الحال، كان يمكن للإنسان أن يسمع المدافع العظيمة وهي تتدحرج في الردهة، وأن يرى أربعين من طوال الفرسان وقد احتملوا رماحهم الطويلة، أحاطوا بالغرفة.
وقد عرف ولي العهد أحدهم فهو يناديه: «لورين ... لورين.»
ويتقدم الجندي المسن خطوة نحو السرير: «إني أحبك يا عجوزي لورين، أرني سيفك الطويل، إذا حاول الموت أن يأخذني فستقتله، أليس كذلك؟» ويجيب لورين: «نعم يا أميري.» وتنحدر دمعتان كبيرتان على خده المجعد.
وفي هذه اللحظة يتقدم القس إلى ولي العهد، ويحدثه مدة طويلة بصوت منخفض مظهرا له الصليب، ويصغي إليه الطفل ولي العهد بنظرة عجب، ثم يقاطعه فجأة: «إني أفهم ما تقول يا سيدي الأب، ولكن ألا يمكن أن يموت صديقي بيبو بدلا مني إذا أعطي نقودا؟!»
ولكن القس يستمر في حديثه بصوت منخفض، ويزداد الطفل ولي العهد استغرابا، وإذا انتهى القس يقول ولي العهد بأنة عميقة: «إن كل ما ذكرته لي محزن جدا يا سيدي الأب، ولكن شيئا واحدا يعزيني، وهو أن هناك في جنة النعيم سأظل ولي عهد أيضا ... إني أعلم أن الله ابن عمي، ولن يغفل أن يعاملني حسب مركزي!»
ثم يضيف ملتفتا إلى والدته: «أريد أن يستحضروا لي أجمل ملابسي، أريد سترتي البيضاء المزينة بالفرو، وحذائي المصنوع من المخمل، أريد أن أتأنق لأجل الملائكة ولكي أدخل الجنة لابسا اللباس اللائق بولي العهد!»
وينحني القس للمرة الثالثة على الطفل ولي العهد ويحدثه بصوت منخفض، وعندما يستمر في الحديث يقاطعه الطفل الملكي معارضا: «ولكن في هذه الحالة ما هي الفائدة من أن يكون الإنسان ولي عهد؟»
وبلا رغبة في استماع كلمة أزيد من ذلك يدير ولي العهد الصغير رأسه إلى ناحية الحائط ويبكي بمرارة!
عن «ألفونس دوديه»
الفراشة الراقصة
ابتدأت الأوركسترا في العزف، ثم ارتفع ستار المسرح بحركة لطيفة، وظهر قوام صغير ابتدأ في الرقص. وقد التفتت إحدى المتفرجات إلى رفيقها وهمست في أذنه: «الفراشة الراقصة!» وجلس أحد النظارة أمام المسرح تماما، وقد اصفر وجهه لما دارت في خلده فكرة الهرب مع هذه الغادة في يخت كان ينتظرهما، وابتدأت حماسة الرقص على المسرح؛ إذ خاصر «رامون سانشيه» روزا «الفراشة الراقصة».
أخذ الرقص طريقه، فكان حينا يسرع وحينا يبطئ، وأخيرا ... ألقت روزا بنفسها بين ذراعي مخاصرها مستقبلة الخنجر الذي طعنها به فأنهى الرقص!
وهنا ... في تلك اللحظة وضع شفتيه عند أذنها وقال: موتي! أي زهرة الإسبان اليانعة، لقد رددتك لله.
وقد أصغت الفراشة لتلك الكلمات، ثم ردت قائلة: الوداع يا رامون ... إني أموت ...
وهنا سقطت على الأرض والدم يتفجر من جرحها، وقام المتفرجون وهم يصيحون ... أما الشاب الذي كان جالسا أمام المسرح تماما فقد وضع رأسه بين يديه وأخذ يبكي كالأطفال. •••
كان رامون سانشيه طويل القامة، نحيف الجسم، أسمر الوجه، وكان أنبغ راقص في إسبانيا.
أما رفيقته - الفراشة الراقصة - فكانت تختلف عنه؛ إذ كانت صغيرة القد، ضحوكة، باسمة الثغر، زرقاء العينين، ونظرة واحدة إليهما وهما يرقصان تكفي أن تعيد إلى ذهنك المعنى الشعري للحركة، وتجعلك ترى شيئا جميلا يملك عليك عواطفك فتنتبه إليه بكل حواسك.
وقد راجت الإشاعات عن علاقاتهما، على أن الأمر كان أبسط مما تقول الناس، ولكنه غريب على كل حال ؛ فقد سرق رامون سانشيه الفراشة الراقصة من الله - وكان يعترف بذلك - إلا أنه كان يقول إنه سيرجعها لله ثانية يوما ما، وكان يؤكد أنه وعد بذلك، وأنه لن يخلف الوعد.
وجدها في حديقة دير، بينما كان يسيح منفردا في إسبانيا، وكانت ترقص بين الأزهار، وقد سقط ضوء الشمس على وجهها فأكسبه جمالا وجلالا، ولاحظ رقصها بضع دقائق، ثم قفز من الحاجز الذي كان يفصله عنها، وذهب إليها فصرخت من دهشتها؛ إذ وجدت يدين قد التفتا حول خصرها، ونظرت بذهول نحو الطارق المفاجئ، فقال لها: «انظري يا «سنيوريتا».» وابتدأ يرقص أمامها رقصا لم يرقصه أمام الملوك، وكانت الفتاة تلاحظه وعلى فمها ابتسامة إعجاب، ولما انتهى قالت له: الحق يا «سنيور» إن هذا النوع من الرقص هو الحياة بعينها.
فقال لها بهدوء: تعالي معي؛ فنرقص سويا في العالم الواسع؛ فإنك قد خلقت لهذا.
فذهبت معه والفرح يملأ قلبها وعلى فمها ابتسامة، وقد ساعدها على القفز فوق الحاجز، ثم ركبت معه على جواده، وقالت له في الطريق: آه يا «سنيور» إني قضيت كل حياتي في الدير، وكم كنت أتمنى أن أخرج منه، فإذا كنت مكثت فيه سنة أخرى لأصبحت راهبة، ولكان السيف قد سبق العذل!
فقال رامون باستغراب: راهبة؟
فقالت له ضاحكة: نعم راهبة، وأنا لا أريد أن أكون راهبة، وإنه لمن المحزن أن أكون راهبة، وأنا لم أخلق لأحزن، كما أني لا أحب الحزن!
ولكن رامون كان منشغلا بأفكاره عن مزاحها؛ فقد عرف أنه سرقها من الله، ولا ريب أن الله يغضب لسرقة هذه الفتاة الجميلة، ذات العينين الزرقاوين، وقد غلى دمه في عروقه؛ إذ فكر في غضب الله، وفي تلك اللحظة نطق رامون بوعده لله: «يا ذا الرحمة، لقد استعرت ابنتك الصغيرة، إن الدنيا لفي حاجة إلى الجمال والسرور، وهي جميلة، ولكن سأرجعها إليك في يوم من الأيام، أنا «رامون سانشيه» أعد بذلك مقسما بدم والدتي.»
نطق بهذا الوعد مرة ثانية وهما في الطريق لما عقد عليهما الكاهن، وهكذا صارت «الفراشة الراقصة» شريكة حياة «رامون سانشيه» الراقص الإسباني الكبير.
وتجولا من مملكة إلى أخرى يرقصان معا في سبيل الشهرة، وأخيرا رجعا إلى بلدهما، وكان رامون يراقب الفراشة باهتمام غريب، ويرجع هذا إلى حبه وإلى وعده، فكانت هي لا تتحمل أعباء المسئولية عن نفسها، وكانت ميالة إلى المخاطرة تعتبرها ضربا من ضروب التسلية، وكانت مغرمة بالجواهر والأحجار الكريمة، ولكم كانت تحب أن تشارك الجمهور المزدحم الذي ينتظرها على باب المسرح كل ليلة في سروره ومزاحه، إلا أن رامون لم يسمح لها بذلك.
وحدث مرة أن رأى دبوسا ماسيا على صدرها، فهجم عليها وانتزعه منها بقوة، وقال لها محذرا: هذه الأشياء ليست لك يا روزا، فإنها تهدى ليطالب بثمنها، وهو شبابك وابتساماتك.
فقالت له بحزن عميق: أوليس لي شباب وابتسام يا رامون؟
ذعر عندما أجابته بذلك، فهل استعارها من الله لذلك الغرض؟ وإذا استمر الحال على هذا، فهل يتمكن من إرجاعها؟ وهل يتقبلها الإله ثانية إذا هي فعلت ذلك؟
وفي المرة الثانية، وجدها تقبل هدية ثمينة من الحلي، فضربها ضربا مبرحا بسوطه، وأخيرا زحفت إلى رجليه، ومسحت خديها على حذائه؛ دليلا على الخضوع والطاعة، فرفعها بين يديه وقبلها وقال لها: إني أؤلم جسدك لأصلح نفسك، فقالت له: كنت أود ألا يكون من الضروري أن تصلح نفسي لهذه الدرجة، فقد أكون مستريحة يا رامون!
وهنا وضح لها لأول مرة، لماذا يجب أن تكون نفسها نقية إلى هذه الدرجة، فقالت: عندما أكبر في السن يجب أن أرجع، وأذهب بعيدا عن هذا العالم المضيء، الذي أحببته هذا الحب، حيث يقص شعري وألبس السواد، ولا آكل إلا العيش القفار، ولا أشرب غير الماء، آه يا رامون ما أقساك! فقال لها: لقد وعدت بذلك يا روزا.
فسكتت خيفة سوطه، إلا أن الزوبعة ثارت في قلبها، وقد بدأت تعرف الحقيقة من ذلك الوقت، فكانت تحذر رامون وتراقبه خيفة أن يغدر بها إذا لاحظ منها شيئا، وقد انصهر ذلك الحب الذي كانت تبادله إياه لما عرفت حقيقة أغراضه وأصبحت الرابطة الوحيدة بينهما هي رابطة الرقص.
ومر الزمن وكانت شهرتهما آخذة في الانتشار، وكانت روزا تطلب من الله أن يخلصها من رامون، فكان يظهر أثر ذلك في عينيها الزرقاوين. أما في عيني رامون السوداوين فكان يظهر الإصرار على تنفيذ ما وعد به، ولما كانت روزا صغيرة أجيبت صلاتها.
كان «فرنون سيلي» شابا جميلا، وكان يذهب كل ليلة إلى المسرح ويجلس في نفس المحل الذي تعود أن يجلس فيه، يأمل نظرة من «الفراشة»، وكان يرسل إليها كل ليلة باقة من الزهر الأحمر، وفي داخلها كلمة صغيرة، فكانت روزا تتقبلها منه بالشكر.
وكانت تخفي الورقة داخل ثوبها قبل أن تقدم لرامون الورد، وبالرغم من عناية رامون بمراقبتها، تمكنت من مقابلة «فرنون»، وتمكنت من التحدث إليه والجلوس معه مدة طويلة، حتى تجاسرت يوما، وطلبت منه أن يأخذها بعيدا عن رامون، قائلة: لقد سرقني هو فاسرقني أنت الآن!
وقد أخبرته بفرارها من حديقة الدير، ولم تخبره بزواجها من رامون، وأخيرا وافقها فرنون على الفرار مدفوعا بنزق الشباب، فقالت: ولكن يجب أن تأخذني بعيدا عن رامون، رامون القاسي.
وحددا ليلة الهرب، وعينا لها ميعادا بعد انتهاء العمل تلك الليلة، وكان على روزا في تلك الليلة أن تلبس رداء فوق رداء الرقص وتذهب توا إلى سيارة تنتظرها خارج المسرح فتركبها، غير أنها سألته: وهل يجب أن أترك جواهري الثمينة؟ آه، جواهري وردائي الذهبي ...!
فأجابها: سأشتري لك غيرها، فأنا لا أرتاح إلى نظرات ذلك الرجل، وآمن لنا أن نتركها؛ فإنه خطر، فردت روزا قائلة: ولكنه سهل الانخداع؛ فهو غبي!
وقد ابتدأت فعلا تهرب جواهرها الثمينة إلى المنزل الذي كانت تقابل فيه فرنون، وتجاسرت يوما أن تصرح أمام رامون قائلة: هل تظن أني أرجع للدير يوما ما؟ كلا ...
ولكنها تذكرت فجأة فرقعة سوطه فسكتت، واستدركت قائلة: إني في حالة رديئة اليوم، فاعذرني يا رامون.
وابتدأت ترقص؛ لعلمها أن الرقص يوقف تيار أفكاره السوداء، ولكنه قال: كان يجب علي أن أرسلك قبل الآن، يظهر أني تأخرت روزا، أين الرداء الذهبي ؟ وكانت تتوقع هذا السؤال قبل تلك اللحظة، فأجابت: لقد أرسلته لينظف. - وأين عقد الجواهر؟ أجابت: قطع خيطه فأرسلته ليصنع له خيط جديد.
فسكت. وفي تلك الليلة لما وصل إلى المسرح وكانت روزا قد سبقته، أوقفه خادم الباب وكان إسبانيا، وقال له: إني آسف «يا سنيور» رامون؛ لأن «السنيورا» ستفارقنا؛ فقد أرسلت كل أشيائها، وا أسفاه كم كانت لطيفة شفوقة ...
ذهل رامون من هذا الخبر، ورجع إلى غرفة روزا، وبحث ونقب؛ فوجد أن رداءها الذهبي وعقد اللآلئ، وكل الأشياء الثمينة الأخرى التي أهداها إياها مفقودة، فكظم غيظه وحنقه، ولما رجع قال لخادم الباب: نعم يا بدرو، ستتركنا «السنيورا».
وأسرع فرأى روزا تنتظره بفروغ صبر، فقال لها: إنك نافذة الصبر هذه الليلة يا روزا، فالتفتت إليه برعب، ورأت تغيرا في لهجته وشكله، فقالت: لقد تأخرنا ...
ثم ذكرت أنها ستكون بعد مدة وجيزة حرة من رامون وسوطه، فترى أشياء تمنت رؤيتها من زمان بعيد بعيد، وتصورت نفسها في اليخت إلى جانب «فرنون».
ولم يتكلم رامون كثيرا في تلك الليلة، ثم صدحت الموسيقى معلنة ابتداء رقصهما، والآن وقد قربت ساعة الفرار شعرت بالخوف يدب في قلبها لسبب خفي، وكادت تقع في أول الرقص، ولم يتقدم رامون لمساعدتها، بل كانت عيناه تحدقان في الفضاء، لكم كان هذا الموقف مخالفا لموقفهما في أيامهما الأولى قبل أن يصمم رامون نهائيا على منعها عن العالم! مسكين رامون؛ ربما حزن لفقدها، وربما حزنت هى الأخرى لفقده - ولو قليلا - ولن يمكن لأي إنسان أن يرقص معها مثل رقص رامون، وسيحزن «بدرو» خادم الباب المسن لفقدها، فيجب أن ترسل له هدية؛ كل هذه الخواطر كانت تدور في مخيلتها في تلك الساعة. وهنالك في «اللوج» أمامها كان «فرنون» جالسا، وستذهب إليه سريعا فترتمي بين ذراعيه، بلا معطف يخفي رداءها الأحمر.
وأرادت أن تخفي اضطرابها؛ إذ ميزت خطأها لما رأت هدوء رامون، ولكن إذا كان رامون قد عرف فهل يكون في مثل هذا الهدوء؟ ثم وجدت رامون يتبعها بنظرات كلها سخرية؛ فارتعبت لما رأت نظرته، فقد كانت نظرة قاسية سوداء، وأخيرا ... شكرت الله إذ سمعت التحويل الموسيقي الذي كان ينبئ بانتهاء الرقص؛ ستكون السيارة معدة عند باب المسرح، واليخت عند الميناء. •••
وعند انتهاء الرقص سمحت لرامون أن يمسكها؛ فطعنها بالخنجر بدلا من أن يتم الرقص.
وفي تلك اللحظة - بينما هي تستودع الحياة - تقابلت عيناهما؛ فأيقنت أنه عرف كل شيء! إذن فلم يكن لها ذلك اليخت المنتظر في الميناء! ولم يكن لها ذلك الشاب المنتظر الذي يريد أن يتمتع بالحياة والحب! لم يصبح لها الرداء الذهبي أو عقد اللآلئ! هذه هي النهاية التي رأتها في عيني رامون التي كانت تحدق فيهما؛ فاهت بأنين. - رامون!
فقال لها بصوت يفيض عطفا وحنانا: موتي، أي زهرة الإسبان اليانعة، لقد رددتك لله!
تأوهت لما سمعت لهجته التي لم تكن تعهدها؛ بكت ثم بكت، وكان المنظر محزنا، فقد قتل رامون كل ما يحبه في الحياة، قالت: الوداع يا رامون؛ إني أموت.
ثم سقطت على الأرض والدماء تتفجر من جرحها البالغ؛ فقام الحاضرون يصرخون ويصخبون، وقد صبغ وجه الفراشة الراقصة بالدماء.
وهناك جلس فرنون سيلي في «لوجه»، وقد وضع وجهه بين يديه يبكي كالأطفال!
عن «جون ميتشل»
وجوم ...
«جنيس بلابت» فتاة شقراء جميلة، جمعت كل شروط الجمال، ولم يكن ينقصها شيء من مستلزماته، ومع ذلك كانت تعترف أنها ليست جميلة للحد الذي يلزم «رالف كنج» أن يمكث معها ولا يفارقها أبدا، ورالف أحد أصحاب الملايين في نيويورك، وقد تعرف بها حديثا، فأعلن لها أنها أجمل فتاة رآها للآن، ودعاها لأن تترك مسكنها في نيويورك وترحل معه إلى الجنوب، وكم كانت الحياة جميلة في «فيلا فلاوريدا» حيث سكنا! وقد طابت لها الحياة هناك وشعرت بالسعادة.
ثم لم يلبث بعد زمن قصير أن أخبرها بعبارة جافة مقتضبة أنه قد أودع لها في المصرف ما يكاد يكفيها من المال للرجوع إلى نيويورك، وقد فهمت من عبارته المختصرة أنه في حالة عصبية وغير مستريح البال. ثم رأته وهو داخل إلى الحديقة، وتبينت على جبهته المقطبة صورة لحالته الفكرية، وعرفت أنه رغما عما قاله لها لا يزال منزعجا، بل إن انزعاجه الحقيقي يفوق الظاهر على وجهه، ولما لم تكن جنيس ماهرة لتحتال عليه حتى تعرف سبب انزعاجه أو لتجعله لا يفلت من يدها، بل وفوق ذلك كادت تفقد ثقتها في جمالها الجذاب، بدأت تتودد إليه ثانية: «لا تدعنا نفترق يا حبيبي، ربما كنت تعبا وتحتاج إلى تغيير الهواء. اذهب في رحلة قصيرة وأنا أنتظرك هنا، ولكن لا تطردني، لا تتركني يا حبيبي، إني أموت ...!» ... ثم ألقت بذراعيها حول رأسه ولامس خدها خده، أما فمها فقد طبع على فمه قبلة طويلة، ومال جسمها على جسمه! أما هو فقد تحول عنها بقسوة وابتعد عنها، وقال: «لقد انتهى شأني معك، ألا تفهمين كلامي؟ لم نتزوج من بعض، لم تكن بيننا تلك العبارة السخيفة: «لا فراق بيننا إلى الموت» لقد أخذت فرصتك بعد أن أتيت إلى هنا بمحض رغبتك.
جنيس! أولى بك أن تتركيني بسكون، وفي المصرف أجرة رجوعك إلى نيويورك وفوقها مائتا جنيه.» وقد أصغت جنيس إلى حديثه ولهجة الاستهزاء التي كان يتحدث بها، وقد برزت أسنانها وضغطت على شفتيها من الغيظ، وتهورت هي أيضا ثم قالت: «إنك لم تسأم مني بعد! إنه شخص آخر قد ملك عليك حواسك، إنها امرأة أخرى.» فهز كتفيه وقال: «لقد ذكرت الصدق، إنك مصيبة، هي امرأة أخرى.»
فصاحت جنيس: «سأجد هذه المرأة وسأحذرها، سأذكر لها أن فتنتك لا تدوم إلا ليلة واحدة، سأحذرها أن لا تثبت آمالها ومشاريعها.»
ابتسم رالف ابتسامة ألم وقال: «إنها لا تحتاج إلى رسالتك، إنها تعرف عني أكثر منك ...! إذا لم يكن قد قدر لي أن أتشاجر معها، وإذا لم أكن حزينا وقت أن رأيتك للمرة الأولى فإني أشك يا جنيس إذا كنت لاحظت شيئا من جمالك.»
وقد تأثرت جنيس من لهجة الهزء التي كان يتحدث بها، واشتعلت نيران الغضب في قلبها، وقد شعرت بالإهانة حينما عرفت أنها لم تكن إلا ألعوبة لمدة قصيرة، وأنه لم يمكث معها إلا تسلية لنفسه ريثما يزول الغضب الذي كان يشعر به نحو المرأة التي يحبها حقيقة؛ فصاحت به وصوتها يرتجف: «ستدفع الثمن غاليا! سأعرف هذه المرأة، وسيكون لي شأن معها، سأتسبب في ضررها بأي طريق ... سأفعل.»
فرد رالف: «يجب أن تعرفي من هي أولا، وعلى كل حال فلن يزعجها ما ستذكرين لها، فهي تعلم أني لست من الأنبياء.» وقد دلها هز كتفيه على مقدار ما يعلقه من الأهمية على تهديدها بالانتقام، وشعرت أنها قد ضاقت ذرعا بغضبها هذا، وبدأت عاطفة الشر والجريمة تتحرك في داخلها، ولكنها سكتت مؤقتا، وقد عرفت أنها قد غلبت على أمرها، وأنها لا يمكنها أن ترد على لسانه الحاد، ذلك الذي كان حبيبها من وقت قصير، وحتى بعد أن هدأ غضبها الحاد، بقي الشعور بوجوب الانتقام، وشعور بوجوب الأذى، أذى لهذه المرأة التي أخذت منها رالف، والتي عرفت أنها تقف حائلا بينهما.
وأخذ رالف قبعته من فوق المائدة ووضعها على رأسه، وكان مظهره واعتناؤه بملابسه ووجهه الجميل دلائل على أنه كان أصغر من سنه الحقيقي. لقد كانت تشعر بالفخر في أوائل أيامها عندما كان في صحبتها.
وقبل أن يخرج من الغرفة التفت نحوها وقد انبسطت أسارير وجهه وابتسم، فقد خشي عاقبة غضبها، ولكنه عاد فقطب جبينه عندما رأى أنها تجاهلت يده التي مدها إليها ليصافحها، وقال بخشونة: «إني آسف لأنه لا يمكنك أن تكوني مسامحة حتى نحو أصدقائك!» وخرج غاضبا بعد أن أغلق الباب بشدة.
سارت جنيس إلى الشباك، ووقفت بلا حراك تتبعه بنظراتها، ثم انفرجت شفتاها عن ابتسامة حزن وألم، لم تفكر في البكاء؛ فهي لم تدعي يوما ما أنها كانت تحبه، وقد ائتمرت حسب إرادته وأتت إلى الجنوب كما طلب منها، بعد أن حذرتها الفتيات الأخريات، وطلبن منها أن تبتعد عن رالف كنج؛ فكل مرتاد لبرودواي يعرف الشيء الكثير عن تقلبه وخلقه، أما جنيس فقد ضحكت منهن ومن حديثهن، واستولى عليها شعور أنها ستكون هي التي يمكنها أن تملك رالف إلى الأبد، ولكنها فشلت في محاولتها، وسقطت كالأخريات اللاتي لا عدد لهن، وألقى بها بعيدا كلعبة صغيرة رماها الطفل الذي كان يلعب بها بعد أن سئم منها، ولم تنجح إلا المرأة الأخرى، المرأة التي امتلكته من قبل، والتي سيرجع إليها الآن، هذه هي الفائزة رغم سقوط جنيس والأخريات.
وكانت كل دقيقة تمضي الآن تزيد في كراهية جنيس لتلك المرأة، وتناوبتها رغبات مختلفة؛ أن تشد شعر هذه المرأة وتخدش وجهها وتشوه جمالها، وأن تؤذيها بكل وسائل الأذى.
نظرت جنيس إلى المياه الزرقاء التي كانت تمتد أمام ناظرها، لم تكن ترغب أن تترك المكان، فقد كانت مستريحة فيه، شعرت بارتياح وهي ترى أغصان النخيل وهي تهتز والأزهار وهي متفتحة الأكمام، وترى جمال الطبيعة ممثلا حولها، ولكنها الآن مضطرة أن تقفل راجعة إلى نيويورك بسبب هذه المرأة المجهولة المكروهة، وليس هناك إلا مبلغ صغير من المال مودع باسمها في المصرف، وفي نيويورك يجب أن تبحث عن عمل جديد قبل أن ينفد المال كله من يدها، وعندما بدأت الشمس في الغروب وصبغت البقعة بلون أحمر، لم تكن حرارتها لتوازي حرارة نيران الحقد التي كانت تلتهب في قلب الفتاة التي هزأ منها رالف كنج.
وتمشت ببطء في الغرف التي تكون منزلها المؤقت، الذي نعمت فيه بالحياة هنيهة من الزمن، وقد خالجها أسف وحزن وخوف لمبارحتها إياه؛ فهي تريد أن تمتع فيه إلى الأبد؛ ففيه ترى ضوء الشمس وتشعر بحرارتها وترى الأزهار، أما في نيويورك فماذا ترى سوى الجليد والجو الممطر؟
وقد مكثت إلى منتصف الليل على أمل أن يغير رالف رأيه، ولما لم يفعل أمرت وصيفتها أن تعد الحقائب وعزمت على أن تبرح المنزل في الصباح التالي. •••
وفي نيويورك لم تجد ترحيبا من أحد، وحدث ما كانت تخشى؛ إذ حلت فتاة أخرى محلها في المسرح الذي كانت تشتغل فيه، ولم تكن لمديره رغبة في مساعدتها؛ لأنها كانت قد تركته فجأة في أحرج الأوقات، فكانت تعاني فوق ذلك هزء الفتيات بها ونكاتهن عليها، وكلمات الشفقة والرثاء المعسولة.
فابتعدت عنهن، ولم تجهد نفسها للحصول على عمل، وحتى لما نفد المال من يدها لم تشتغل، فقد كانت رغبتها في اكتشاف مقر المرأة التي سلبت منها رالف كنج تفوق بكثير رغبتها في الحصول على أي عمل، كانت تعرف عنوانه في نيويورك، ولكنها استبعدت هذا الخاطر من فكرها؛ فإنه رغم ما كان معروفا عن سوء سلوك رالف، فقد كان له مركز ممتاز في البيئات الشريفة العالية المنزلة، وذلك بالنسبة لماله ولاسم أسرته القديمة، ولهذا استبعدت جنيس أن يأخذ أي امرأة - حتى تلك التي كان حبها يملك عليه مشاعره - إلى منزله بنيويورك.
وفي يوم من الأيام قالت لها «فون برادلي» - وهي فتاة كانت تعيش معها في غرفة واحدة اقتصادا للنفقات: «يجب أن تعترفي أن رالف كنج الذي رحلت معه مرة شاب جسور، فلا بد أن تكون معه الآن امرأة جديدة، فمن مدة طويلة مضت كنت أرى فيها دائما الستائر مسدلة على نوافذ المنزل، ولكن البارحة فقط لاحظت أن الستائر قد رفعت، وأن نافذة قد فتحت، واليوم وأنا مارة في الطريق رأيت امرأة - امرأة بارعة الجمال - تطل من الشباك ...»
هزت جنيس كتفيها، وتظاهرت أن الأمر لا يهمها، وأنه سواء لديها، ولكن الحق أن نار الحقد بدأت تحترق بين ضلوعها، وقر قرارها النهائي على أن تذهب في اليوم التالي وترى هذه المرأة الفائزة، وتضربها وتهددها لتترك رالف إلى الأبد، والحق أنه كان شعور شر ووحشية يقع ضرره على جنيس نفسها.
غير أنه - بعد كل هذا - لم تتحقق خططها التي دبرتها، وكانت زيارتها لمنزل رالف كنج سببا في التأثير عليها ووجومها عن الانتقام، وسبب ما رأته هناك جمود عاطفة الأثرة في نفسها وتلطيف حدتها.
حدث أن مدخل البيت كان مفتوحا، وكان الخادم منهمكا في عمله، تقدمت جنيس - وهي متحلية بملابسها الجديدة - وقرعت الجرس.
وفي هذه اللحظة شعرت بازدياد ضربات قلبها، وأخيرا لما فتح الباب دخلت كأنها سيدة آمرة، وسارت إلى منتصف القاعة.
وهناك وقفت وقد ارتسمت على فمها آيات التعجب؛ فإن ما رأته لم يكن يخطر على بالها من قبل أن تراه، ولم تكن تتوقعه بالمرة؛ ففي الغرفة التي امتلأت بضوء الشمس، وقفت امرأة أكبر سنا منها بقليل وأكثر مهابة، رفعت المرأة بصرها، وكانت منهمكة في إصلاح رداء، ونظرت إلى جنيس.
لم تكن المرأة جميلة فتانة ترفل في ثياب حريرية كما كانت جنيس تتصورها دائما، ولكنها كانت صبوحة الوجه، بضة الجسم، جذابة الملامح، ترى الطيبة والشفقة مرتسمة على وجهها.
ورفع طفل صغير ذهبي الشعر بصره عن الكتاب الذي كان مشغولا بتقليب صفحاته، ونظر إلى جنيس بعينين واسعتين متسائلين.
وانزعج طفل آخر أصغر منه من دخول الطارق المفاجئ الغريب؛ فأسرع إلى أمه يحتمي تحت ذراعها.
أما جنيس فقد صعقت في موقفها؛ فقد تأثرت بمظاهر هذه السعادة الشاملة، والسكون المنزلي.
لم يحدث لجنيس طول حياتها مثل هذا التأثير، مر بفكرها أن هذه المرأة التي امتلكت قلب رالف كنج ونجحت عن الأخريات، هذه المرأة التي رجع إليها أخيرا وإلى الأبد - كما يظهر - لا بد وأن تكون زوجته!
وقد كانت تظن - عندما سارت مع كنج - أنه ليس إلا ذلك الشاب الخليع المستهتر المتنقل بين أحضان النساء، أما الآن فقد هدأ غضبها فجأة! ولم تعد تخطر في بالها الأفكار الحقيرة السابقة، وبينها خطط الانتقام. وشعرت بقلبها وقد تغير وامتلأ إخلاصا ونورا! وهذه المرأة - زوجه - لا بد أنها على بينة من أمر زوجها ورعونته وسقطاته، فإذا كانت تحبه وتريده - مع كل ما تعرفه عنه - فهي تستحقه إذن، ذلك ما حكمت به جنيس. وكانت نظرتها الصغيرة هذه - نظرتها الصغيرة إلى الحياة العائلية، إلى نمط من الحياة لا تعرف عنه إلا القليل - سببا في أن تصل عواطف المحبة إلى أعماق قلبها، حتى إن مقدار البغض الحاد الذي كانت تشعر به نحو كنج نفسه نقص؛ فإنه لم يخل من فضيلة واحدة، على الأقل هي التي جعلته يعود إلى زوجه.
لقد حضرت تحمل الكثير من كلمات السباب والغضب كي توجهها إلى المرأة التي كانت تنتظر أن تجدها في مسكن رالف، أما الآن فهي مرتبكة، تبحث في عقلها عن كلمات الاعتذار التي يجب أن ترد بها على زوجه التي تسألها بصوت لطيف عما تطلب.
دمدمت معتذرة بحدوث خطأ، ثم أسرعت وهي تتعثر في مشيتها إلى باب القاعة ومرقت منه، وقد هدأت من عواطفها الثائرة وهي تنزل السلم، ومع الحزن الذي كانت تشعر به كان هناك في نفسها شعور آخر بالراحة والرضاء؛ فقد ذهبت فكرة الانتقام - على الأقل - من بالها بعد أن كانت تقلق عليها منامها، فيمكنها الآن أن تنصرف جديا إلى البحث عن عمل. كانت واثقة من أنها ستجده على أي حال؛ فمديرها القديم وتكينز كان مستعدا أن يساعدها لو أنها تملقته أو لاطفته قليلا، وهي الآن بعد أن بعدت عواطف الشر عن قلبها سيمكنها أن تنال عطفه. •••
وإذا رجعنا إلى المنزل الذي كانت فيه جنيس من هنيهة لسمعنا أصغر الطفلين ينظر إلى أمه ويقول لها: «ألم يكن منظرها مضحكا يا أماه؟ أظن أنها لم تكن تنتظر أن تجدنا هنا.»
هزت المرأة الجميلة رأسها وقالت: من المؤكد لا يا عزيزي، وربما كانت إحدى صديقات المستر كنج، ويظهر أن الكثيرين لم يسمعوا بعد أنه أجر لنا سكنه هذا إبان غيابه في رحلته في البحر الأبيض!
عن «ماري سيرز»
لويز
رأيت لويز لأول مرة في إحدى قرى «أريزونا» على حدود المكسيك، وكانت فتاة طويلة القامة ممتلئة الجسم، سمراء اللون، جميلة الوجه. كانت لويز محط أنظار زائري مسرح «جو» المسمى بالتمثال الذهبي، ومع وجود لويز في ذلك الوسط إلا أنها احتفظت بعفتها وطهارتها.
كانت للويز قصة، وقد عرفت ذلك من أول مرة رأيتها؛ فقد كان ظاهرا عليها أنها ليست من الوسط الذي يؤم مسرح التمثال الذهبي. وبالطبع لكل إنسان قصة، غير أنه كان يخيل لي دائما أن قصة لويز قصة عميقة. وكنت كلما رأيتها مرة بعد مرة ازددت شوقا لاستماع قصتها، وأخيرا تمكنت من ذلك في ليلة كانت إلى جانبي بالمسرح، وقد شربت هي فيها أكثر من اللازم.
ويمكنك أن تقول إنه القضاء والقدر هو الذي ساق لويز إلى مسرح التمثال الذهبي، فقد وجدت نفسها في ولاية أريزونا المعدنية، وليس هناك من وسيلة للتعيش إلا الاشتغال في المناجم. ولما كانت مضطرة أن تسعى وراء رزقها، دخلت في مسرح التمثال الذهبي حيث قدم لها «جو» مركزا لائقا، وكانت لا تشرب مطلقا، وترفض كل دعوة، حتى إن جو نفسه اضطر أن يحترمها، ولكنه كان مغتاظا منها؛ إذ لم يكن متعودا من الفتيات الأخريات هذه المعاملة الشاذة وهذا التمنع، وكان يكره هذه السخافات على حد قوله! والحقيقة أنه ما كان يجرأ أن يدع لويز تفلت من بين يديه؛ إذ إنها كانت عماد مسرح التمثال الذهبي. ولولا ذلك السبب لطردها من زمان بعيد. تعاقبت الأيام على هذه الحالة، وكانت لويز تجد في العمل حتى تحتفظ بمركزها على المسرح، وقد بدأت تقتصد من مرتبها على أمل أن ترحل بعد مدة قصيرة إلى قرية أخرى أكبر من هذه تبحث فيها عن عمل أشرف من عملها وتترك مسرح التمثال يهوي إلى الحضيض ويفقد شهرته.
ولكن حدث أن وصلت القرية بعثة من الشبان المهندسين للبحث عن مكان صالح لحفر منجم. وقد كانوا موفدين لهذا الغرض من قبل إحدى الشركات، وكان العمل بسيطا في حد ذاته، ولم يكن في المدينة من وسائل اللهو والتسلية وقضاء أوقات الفراغ غير مسرح التمثال الذهبي. فكانوا يؤمونه يوميا، وقد كثر ترددهم عليه حين رأوا لويز، وكان بينهم مهندس اسمه روبي يصحبه صديق له اسمه جيمي، لم يتركا لويز لحظة واحدة من أول ليلة وقع نظرهما عليها، فكانا يذهبان للمسرح كل ليلة، ولم يمض وقت طويل حتى عرف جيمي بالعلاقات التي نشأت بين لويز وصديقه روبي؛ فتنحى عن طريقهما، ولم يشأ أن يزاحم صديقه في غرامه، وبذلك تصرف تصرف الصديق المخلص ... وازدادت العلاقات ارتباطا بين روبي ولويز ... ولكن أخيرا كم كان حزنهما شديدا حين أتى وقت الفراق؛ فقد كان على روبي أن يرجع إلى المدينة ليقدم تقريره عما رآه، ولكنه وعدها أن سيرجع للقرية ثانية لكي يأخذها معه إلى المدينة ليتزوجها، وقد سرت لويز بهذا الوعد ووثقت من صدقه؛ إذ إنها كانت على يقين من حب روبي لها.
هجرت لويز «جو» ومسرح التمثال الذهبي، وذهبت عند سيدة كبيرة السن رقيقة القلب، هي المس فلين، وسكنت عندها، وكانت تصرف من نقودها التي اقتصدتها، وكانت تمضي وقتها في الخياطة؛ إذ إنها رأت أنه يجب أن تخيط لنفسها ثوبا لا تخجل من أن يراها روبي به، وقد أتمته أخيرا رغم أنه كلفها كثيرا من المال.
وكان المال ينفد من يدها شيئا فشيئا، وليس من دخل يأتيها. ومع أن الأمر كان جديا لا معنى للهزل فيه، فمن قريب ينتهي المال، إلا أنها كانت سعيدة جدا سعادة الأمل! وكانت في بعض الأحيان تخرج من حقيبتها لباس الرقص القديم، وإذ تتأمله تضحك ضحك الاستهزاء، وهي تنظر إلى المستقبل بعين مطمئنة، وقد عزمت أن تحتفظ بهذا اللباس، ليس لقيمته بل لأنه كان واسطة تعرفها بروبي، كانت خطاباته تصلها بانتظام.
وحدث أن انقطعت مرة واحدة في يوم من الأيام، وقد تعجبت هي من ذلك، غير أنها ظنت أنه في طريقه إليها وأنه سوف يفاجئها بحضوره، وقد أملت أن يكون تعليلها هذا هو الحقيقة، فقد كانت تحبه بملء جوارحها، وقد طالت مدة فراقه عنها. ولأن المال كان قد قارب النفاد كانت تقاسي آلاما كثيرة؛ فقد استعطفت مس فلين أن تنتظر قليلا على أجرة الغرفة. وكانت مس فلين طيبة القلب فرضيت أن تنتظر، إلا أن لويز كانت تعلم حق العلم أن هذه السيدة في حاجة ماسة للدريهمات القليلة التي تأتيها من إيجار الغرفة. واحتارت لويز: أي طريق تسلك؟ وماذا تصنع؟ وزد على ذلك أنه لم تصلها أي كلمة تشجيع من روبي، ولم يرد على كل رسائلها الأخيرة، وقد خافت أن يكون مريضا أو أصابه ضر ...
وحدث في يوم وهي راجعة من البوستة أن رأت جيمي، جيمي صديق روبي! فما دام جيمي بالمدينة إذن فروبي بها أيضا! وها هو قد فاجأها بحضوره كما ظنت أولا، ويجب أن يكون الآن في طريقه إلى غرفتها، وقد كادت تلقي بنفسها بين ذراعي جيمي من سرورها، وصاحت صيحة فرح، وأخيرا سكتت وأظلمت الدنيا في عينيها، وشعرت أنها ستسقط على الأرض، عندما أخبرها جيمي: «أن روبي ليس في المدينة، وأنه لا ينوي الحضور بتاتا؛ فقد تزوج من فتاة في بلده.» وإذ خرجت هذه الكلمات من فم جيمي ظنت أنه أخرجها مرغما على أمره، ولكنها تأكدت منه أخيرا أنها الحقيقة؛ فرجعت إلى غرفتها التي حوت كل آمالها المستقبلة وكل آلامها الماضية، الغرفة التي قضت فيها ساعات جوع طويلة محتملة ذلك في سبيل روبي وحده، لكي تجعل نفسها مستحقة أن تكون له.
أخرجت لباس الرقص مرة أخرى من حقيبتها، ونظرت إليه، ثم ضحكت وضحكت، وكان ضحك اليأس في هذه المرة.
وبعد دقائق كانت ومعها حقيبتها أمام مسرح التمثال الذهبي ...
ولما أخبرتني ذلك في حديثها خيل إلي أني أراها في ذلك الوقت أمام باب المسرح بوجهها الجميل وعليه ملامح الاضطراب، ثم خيل إلي أني أرى جو والذين كانوا جالسين في المسرح وقد ذكروا ما حدث؛ فارتسمت على ثغورهم أمارات الدهشة والاستغراب.
كان المجمع القديم هو بعينه في المسرح في ذلك اليوم، وكان هناك جماعة الشبان المهندسين أنفسهم، واحدا واحدا، وبينهم جيمي، كان كل إنسان وكل شيء موجودا في موضعه، إلا روبي، روبي فقط كان ناقصا، روبي الذي تزوج بعيدا عنها هناك.
شربت لويز لأول مرة في تلك الليلة، وشربت كثيرا أيضا، ولكنها لم تشرب منفردة؛ فقد شرب معها جيمي أيضا، وأخيرا إذ ثمل الاثنان قال جيمي: «هيا بنا ...»
وهنا استراحت لويز قليلا وهي تقص علي قصتها، وشربت ما بقي في كأسها من الخمر، ثم نظرت إلي وقالت بضحكة قصيرة: «فقلت له: هيا بنا ...»
عن «م. تشيمبرز»
هل هي آثمة؟
جلس الفتى في الحانة يتناول أقداح الخمر، وكان يسرف في الشرب، وعليه ملامح التفكير العميق، كان يتناول الكأس ثم يضع رأسه بين كفيه وهو عابس الوجه، يحدق في الفضاء، لا يلتفت للذين حوله، وقد ارتسمت على وجهه صورة من صور الألم والحزن.
فإذا أصغيت إلى تلك الكلمات التي كان يتحدث بها إلى نفسه سمعته يقول: «زوجي! زوجي! تخونني! يا للمصاب؛ الزوج التي كنت أعتقد أنها ملاك هبط من السماء، الزوج التي عبدتها عبادة، وأحببتها أكثر من نفسي ... «آه» يا لها من خائنة! إذن فلم تكن نظراتها إلا نظرات غدر ... ولم تكن ابتساماتها لي إلا ابتسامات الخديعة والمكر، ثم لا تخجل تلك الشقية فتتحدث بخيانتها.»
ثم يستمر في احتساء أقداح الخمر ... حتى ثمل أو كاد ... •••
لهذا الفتى قصة، قصة فيها شيء من الغرابة، فهذه الخمر التي رأيناه يحتسيها في الحانة، لم يكن قد ذاقها منذ عام، كان قد هجر الحانات والمشارب منذ زواجه.
كان عاملا صغيرا، يعيش منفردا، ولقد تصادف أن رآها، تلك التي اختارها زوجا فيما بعد فأحبها. أما هي فكانت لا تبادله هذا الحب، بل كانت تكرهه، ولم تكن لتريده زوجا لها، ولكنه انتهز فرصة وقوع أهلها في ضائقة مالية فطلب يدها، فلم يمانعوا، وجمعتهما الأقدار. كان يحبها حبا شديدا فأخلص لها، ومن يوم زواجه بها هجر الحانات وترك أصدقاء وصديقات السوء، وابتسم له القدر، فحسن مركزه، وصار ذا ثروة تذكر.
أما هي فرغم أنها أكرهت على هذا الزواج ولم تكن راغبة فيه، إلا أنه لم يمض زمن طويل حتى راقت لها الحياة الزوجية؛ فأحبت زوجها، غير أنه كانت هناك نقطة سوداء في حياتها، فقد كان لها خليل قبل زواجها، كان له معها شأن يذكر! أما ذلك الخليل فقد كان من المستهترين الذين لا يهمهم إلا إرواء غليل شهواتهم. أخلصت لحليلها من يوم زواجها، غير أن الاعتراف بالجريمة كان عبئا ثقيلا لا قبل لها بحمله، فكم نغص عليها سعادتها وحياتها، كانت تنظر إلى زوجها فترثي له، وترى أنها غير مستحقة لعطفه وحبه.
كانت تشعر كأنها آثمة خائنة، وأنه محال أن تكفر عن جرمها هذا بغير الاعتراف لزوجها، وبعد ذلك قد لا تشوب سعادتها شائبة، فتعيش مطمئنة في أمن من وخز ضميرها. وأخيرا أخيرا، اجترأت أن تفاتح زوجها، وبدأت تستعطفه، وكأنها كانت تظن أن زوجها سيفتح لها ذراعيه فيضمها إلى صدره ويقول لها: «قد نسيت الماضي.»
إلا أن شيئا من ذلك لم يكن؛ فقد ثار الرجل عندما سمع أول حديثها، ثم هددها بالقتل، ثم أخذ يصيح كالمعتوه، وبدأ يلعنها ويلعن ساعة رآها وساعة تزوجها.
لقد دخل في روع الرجل أن زوجه لا تزال تخونه، وأن ذلك الجنين الذي في بطنها ليس ابنه، رأى آماله تنهار، ورأى أنه فقد كل شيء؛ فقد زوجه، فلمن يحيا بعد ذلك وليس له أحد في حياته؟ أما ذلك الجنين الذي لم ير نور الحياة بعد فهو ليس ابنه، وليتكفل به والده.
أما الزوج فلم تتمكن من مفاتحته ثانية أو إقناعه بخطئه. ولما هدأ شعر بحزن شديد ورأى أن يهجر المنزل؛ فهو يذكره بشبح الخيانة، فترك المنزل وفيه زوجه تبكي وتندب حظها العاثر.
هل أخطأت باعترافها؟
أما هو فإلى الحانة، فماذا يحول الآن بينه وبينها؟ لا شيء.
وهو جالس في الحانة كما رأيناه يحتسي الخمر تباعا. •••
هذه هي قصته، أما ما حدث له بعد ذلك فقد ترك الحانة في ساعة متأخرة من الليل، بعد أن ثمل بنشوة الخمر، ولم تكن هيئته لتنبئ بالخير، وظل يتجول في الشوارع إلى الصباح، فعثر به رجال البوليس وأرسل إلى المخفر كاللص، ولما بدءوا في استجوابه تبين لهم أنه معتوه، وأنه فاقد لرشده؛ فقرروا إرساله إلى المستشفى.
عن «الفرنسية»
هدية الزواج
«روز هريك» فتاة حسناء كانت في اليوم السابق ليوم زواجها تحدث صديقتها «جريس»، ونحن نفهم من الحديث أنه يدور حول زواج روز، وروز تقول لصديقتها: إنه شاب لطيف، ومن حقي أن أفخر به، ولكنك أنت الوحيدة - يا جريس - التي تعلم شقائي.
فردت جريس قائلة: إني أرى أن تعدلي عن هذا الزواج، مع أني على ثقة تامة أنه يحزن جدا إذا علم أنك لا تحبينه. - ولكن كيف أعدل الآن بعد أن تصادقنا ستة أشهر؛ أي منذ يوم خطوبتنا، ويومذاك كنت أظن أني سأكون سعيدة جدا معه مع أنه أكبر مني سنا، ولكن لم يكن يدور بخلدي أني سأقابل آرثر تنسون وأقع في شراك غرامه، ومما يزيد في ألمي وحزني أن جون - خطيبي - هو الذي قدمني إلى آرثر وعرفني به كأحد أصدقائه، فهل يمكنني أن أعدل الآن عن الزواج بعد كل هذا؟ إن ضميري لا يطاوعني، فلا ريب أن جون يموت كمدا لو حصل هذا.
فقاطعتها جريس: أنا لا أهتم لما يحدث له هو، ولكن يهمني أنت؛ فهي سعادتك، بل هي حياتك.
فقالت روز: وهي سعادته وحياته هو أيضا؛ فقد جد واشتغل سنوات عديدة حتى حصل على ثروة لا بأس بها، ومع ذلك فقد أخبرني أني أنا ... غاية آماله، هو طيب القلب يا جريس، وسأجتهد دائما أن أجعله سعيدا.
وتساءلت جريس: وما أخبار آرثر؟
فأجابتها روز: إن آرثر صغير السن وسينسى، بل إني أجسر أن أقول إني سأنسى أنا أيضا، بل لقد كنت أود لو لم أعرفه. إني عندما رأيته للمرة الأولى عرفت أني أخطأت صنعا، بل وأني تصرفت تصرفا معيبا، ولكني كنت مضطرة أن أتابع السير في هذا الطريق؛ فقلبي هو الذي كان يدفعني، بل إني استيقظت في الصباح التالي لليوم الذي عرفت فيه آرثر، فعجبت لم كنت سعيدة! ولما ساءلت نفسي عرفت أن الجواب لأن آرثر كان موجودا في هذا العالم. ولكن سحابة كثيفة كانت تحجب عني هذه السعادة، وهي جون، جون خطيبي الذي يجب أن أتزوجه.
بكت روز بعد أن أتمت عبارتها الأخيرة؛ فأخذت جريس تهدئ روعها.
وفي منزل آخر من المدينة كان آرثر تنسون يحدث صديقه جون - خطيب روز - عن معدات حفلة الزواج. قال جون لآرثر في معرض الحديث: تراني يا آرثر لا أصدق للآن أن روز تحبني حقيقة، فلو كنت أنت مثلا.
فقاطعه صديقه آرثر: أنا؟ ما هذا الهذر والسخف يا جون؟ إنك الرجل الذي يمكنه أن يقوم بواجبات الزوج حقيقة، والمرأة تعرف هذا الرجل بالفطرة.
فقال جون: كم أتمنى أن أعتقد حقيقة ما تقول؛ فإني أحبها، وأنا مستعد أن أهب حياتي إذا كانت هذه التضحية تجعلها أسعد مما هي.
لم يستطع تنسون - حبيب روز وصديق خطيبها - أن يضبط عواطفه إلا بمنتهى الصعوبة؛ فتمتم قائلا بصوت ضعيف: إنها خلقت لتصير زوجا لك، وأنت تستحق كل السعادة المقبلة يا جون.
ثم استأذن من صديقه وخرج بعد أن وعد أن يزوره في صباح اليوم التالي، يوم الزواج ...
لم ينم تنسون تلك الليلة، وأخذ يفكر وهو في فراشه في المأساة التي سيشهدها في الغد، وذكر الماضي أيضا، وشعر بنداء الحب، ولكن لم يخطر له أبدا أن يخون صديقه، ورأى أن يرضخ لحكم الأقدار، ذكر اليوم الذي عرفها فيه، وذكر كيف أنه حاول أن ينزع ذكراها من قلبه فابتعد عنها مدة، ثم ما لبث أن وجد نفسه مساقا إليها مرة أخرى، ثم تمثل لناظره شخص جون، صديقه المخلص، وعرف أن سعادة ذلك الصديق في يده.
فخجل من نفسه، وأخيرا تساءل وهو يتقلب في فراشه: هل يستطيع أن يشهد حفلة الغد بدون أن تخونه عواطفه؟ ولكنه ناشد نفسه: يجب أن أكون رجلا.
وفي الصباح خرج إلى منزل صديقه، ولم يكن على وجهه الجميل ما يدل على ما كان يعانيه من الآلام، ولما وصل وجد صديقه جون في انتظاره وعلى وجهه أمارات البشر والانشراح، ولكنه لاحظ أنه يخفي شيئا في طيات نفسه.
قال جون: لقد أصابني التعب؛ فأنا منذ ساعة متأخرة أحرر الخطابات وأرسل في طلب أشخاص حتى أديت أكثر المهام، ولكن لا يزال أمامي واجب واحد وسأكلفك أنت بأدائه، سأفاجئ روز مفاجأة حسنة، فأنا أريد أن أقدم لها هدية الزواج.
فقال آرثر: إذن فأسرع بالذهاب إليها.
فقال جون: «لا، فأنا أريد أن توصلها أنت إليها حتى نفاجئها كما أخبرتك.» «أسرع إليها قبل أن تبدأ في لبس ملابسها فلا يمكنك أن تراها، أما أنا فلا أريد أن أراها إلا في الكنيسة، أسرع يا آرثر إرضاء لي.»
تردد آرثر في الذهاب، فهل يمكن أن يقابل من يحبها مع العلم أنها ستكون زوج رجل آخر بعد ساعات؟
وما زال جون يلح عليه حتى رضي أخيرا إرضاء لصديقه وإخفاء لضعفه: أخرج جون من جيبه خطابا مغلفا وسلمه لآرثر قائلا: أؤكد لك أن روز ستريك هديتي بعد أن تراها هي.
وضع آرثر الخطاب في جيبه وقال لصديقه قبل أن يبارحه: سأرجع بعد وقت قصير يمكنك أن تلبس ملابسك في أثنائه، وصل آرثر، وإذا كانت يده قد ارتجفت وهو يقدم الخطاب لروز فإن يد هذه قد ارتجفت أيضا ارتجافا ظاهرا وبهتت؛ إذ وجدت أمامها حبيبها، فتحت الخطاب بلهفة ظاهرة، وبدأت تقرأ، وما كادت تأتي على آخره حتى كانت أمائر الدهشة والتأثر العميق ظاهرة أجلى ظهور على وجهها. ثم رفعت وجهها ونظرت في وجه آرثر، فوجدت أنه لا يعلم شيئا مما حدث؛ فقدمت إليه الخطاب بيد مرتجفة، فقرأه:
عزيزتي
أنا أعلم أنك تحبين آرثر، وأعلم أنه يبادلك الحب، فلتتزوجا إذن ولتعيشا سعيدين. أما أنا فسأرحل بعيدا قبل أن يرجع من عندك. إن الأمر يبدو غريبا، ولكنه لا يهم طالما أن آرثر هو الذي سيحل محلي في مركز الزوج.
المخلص: جون دوسن
جمد آرثر في مكانه وجالت الدموع في مآقيه، وأخيرا تقدمت روز إليه ففتح لها ذراعيه: آرثر! آرثر! حبيبي.
قال آرثر: لم أر بعد صديقا أخلص لصديق مثل ما أخلص جون لي؛ فرددت روز: إن الله قادر أن يكافئه، ويبارك في تضحيته هذه.
عن «الإنجليزية»
زازا
زازا ممثلة بارعة في مسرح الأوديون، الجمهور معجب بها، فهي تتقن فنها، ولكن إلى جانب ذلك هي عصبية المزاج، فإذا ما ثار ثائرها تراها وهي تضرب كل من حولها لا تستثني أحدا، ثم تندم بعد برهة فتبكي، ولا يمكن لأحد أن يتقدم إليها، ولا تهدأ إلا إذا وجدت نفسها بين ذراعي حبيبها ديفرين.
وديفرين هذا رجل في مقتبل العمر، على شيء من الغنى، يشغل مركزا علميا، له زوجته الشرعية، ومع ذلك وقع في غرام زازا، وهو يبادلها حبها العظيم.
عرضت وزارة الخارجية الفرنسية منصبا كبيرا على ديفرين في واشنطن، ولكنه يتردد في السفر، فهو لا يقوى على مفارقة حبيبته زازا، وزوجه تشجعه على قبول المنصب، ولكنه لا يزال يتردد. أما حبيبته زازا فهي تعرض عليه أن تسافر معه إلى أمريكا مضحية بمركزها وشهرتها في سبيل غرامها.
ويخاف «ريجول» مدير مسرح الأوديون أن تهجر زازا المسرح؛ فهي أساسه، فإن هجرته قضي عليه القضاء المبرم، وهو لذلك يرى أن يفصل بين ديفرين وزازا؛ ففي هذا الانفصال استبقاء لزازا في مسرحه.
ويعرف ريجول أن ديفرين له زوجته الشرعية، ويجد أن هذا هو السلاح الماضي، الذي يجب أن يستعمله؛ ليفصل زازا عن ديفرين، وتثور زازا إذ يقص عليها مديرها ريجول خبر وجود امرأة خاصة في منزل ديفرين، بل هي تكذبه وتطرده، وتصمم أن تنتقل في الحال إلى باريز حيث يقطن ديفرين؛ كي تتأكد من كذب الخبر.
وإذا ما وصلت إلى منزل ديفرين دخلته كامرأة حاكمة لا زائرة، ومع أن الخادمة أخبرتها أن المسيو ديفرين غير موجود في المنزل في تلك الساعة إلا أنها تدخل المنزل وتسير من غرفة إلى غرفة كما تسير في منزلها، وتصل إلى غرفة فتسمع فيها صوت «البيانو»، وتعرف من نغماته أن العازف يعزف أنشودة «لذة الحب»، وهي الأنشودة التي لا يحب ديفرين أنشودة غيرها، وكثر ما عزفتها له في خلواتهما، فهي تعجب! وتدخل الغرفة فتجد أن العازف فتاة صغيرة لا تتجاوز الثامنة من عمرها، فهي تسألها: من هي؟ والفتاة تجيب أنها «لوسيل»، وإذ تسألها اسم أبيها تجيب الفتاة أنه «فرانس ديفرين»! وتكاد زازا تصعق؛ فهي لم تكن تصدق أبدا أن حبيبها يخدعها أو أن له زوجه وابنته، وتخرج هاربة من منزله، وتقابل في طريقها الزوجة، ولكنها لا تجسر أن تحدثها، فلقد تحطم كبرياؤها مرة واحدة. •••
رجعت زازا إلى منزلها وهي في حالة حزن عظيم، وتجد أمامها صورة ديفرين حبيبها؛ فلا تملك إلا أن تقطع الصورة إربا، ويجئ الدوق دي برساك، وهو رجل مسن يتودد إليها دائما ويطرح عند قدميها ثروته الطائلة، نظير قبوله زوجا لها، ولكنها كانت تكرهه وتكره ماله، فما كان يقابل منها بغير الرفض.
أما الآن فهي تقبله زوجا بعد أن هجرت ديفرين! والرجل يكاد يجن فرحا، وبعد برهة تخرج زازا لحضور مأدبة يقيمها لها الدوق في تلك الليلة ابتهاجا بخطبتهما.
يحضر ديفرين لزيارة زازا، وهو لا يعلم شيئا مما حدث، ويدخل غرفتها توا فلا يجدها فيها، ولا يجد إلا صورة ممزقة إربا وملقاة على الأرض؛ فإذا أمسك ببعض قطعها المتناثرة علم أنها صورته هو، وتخبره الخادمة أن زازا قد قر قرارها على الزواج بالدوق دي برساك!
وإذ يعلم ديفرين الحقيقة ويرى أن حبيبته قد هجرته، وأن غرامه قد تحطم، يقرر أن يقبل المنصب الذي عرض عليه بأمريكا، ويعزم على السفر بعد يومين مصطحبا زوجه وابنته.
وفي الحفلة الساهرة التي قامها الدوق تكريما لزوجه المستقبلة زازا، نجد الكل في سرور وانشراح والدوق مسرور جدا. أما زازا فهي الوحيدة في الحفلة التي تشعر بالحزن؛ فهي لا تزال تحب ديفرين ... وإلى جانب ذلك هي تبغض الدوق دي برساك، وإذ يشرب الحاضرون نخب زازا ويسمونها: «دوقة دي برساك المقبلة» تقوم هي وتصيح بهم أن: «بل اشربوا نخب زازا الماضية التي كانت تؤمن بالحب.» ... وفجأة تثور زازا وتبكي؛ فالحب لا يزال ملتهبا في نفسها؛ فهي تحب ديفرين حقا، وهي تعدل عن الزواج بالدوق وتصارحه بذلك وتخرج غاضبة، ثم لا تلبث أن تقرر أن تعود إلى المسرح لتجد فيه العزاء عن حبها، والسلوان عن غرامها، وهكذا يتحقق أمل «ريجول» - مدير مسرح الأوديون - ولا تنفصل زازا عن مسرحه ... •••
ولكن الحب لم يخمد في قلب زازا ولا في قلب ديفرين؛ فبعد سبع سنوات رجع ديفرين من أمريكا بعد أن ماتت زوجته هناك، وتذهب زازا لزيارته وتدخل المنزل، وتسير من غرفة إلى غرفة كما تسير في منزلها، وتصل إلى غرفة فتسمع فيها صوت «البيانو»، وتعرف من نغماته أن العازف يعزف أنشودة «لذة الحب»، وهي الأنشودة التي لا يحب ديفرين أنشودة غيرها وكثر ما عزفتها له في خلواتهما، فهي تعجب وتدخل الغرفة فتجد أن العازف فتاة جميلة تبلغ السادسة عشرة من عمرها، فهي تسألها: من هي؟ والفتاة تجيب مرة واحدة: «اسمي لوسيل، وإذا سألتيني عن والدي فهو فرانس ديفرين، ولكن بربك لا تسأليني عن أمي؛ فقد ماتت، ماتت في أمريكا.»
والفتاة تطلب من زازا أن تعزف لها أنشودة «لذة الحب»، وتجيب زازا طلبها، وتخرج الفتاة متلصصة؛ فتنادي والدها ليرى هذه الزائرة الغريبة.
وهناك إذ تتقابل العيون تخفق القلوب، وتبدأ نار الحب التي كانت على وشك الخمود في الاتقاد ثانية، ويكون ثم عناق طويل.
عن «شريط السينما»
غرام زائف
نزلت الفتاة من عربة الترام، ودخلت إلى مشرب القهوة؛ فاتجهت إليها الأنظار، وتهامس الحضور عن جمالها وظرفها، وتساءلوا: من تكون؟
سارت الفتاة دون أن تلتفت إلى أحد، ودخلت إلى غرفة خاصة داخل المشرب، وجلست وحيدة تنتظر، ثم شعرت بالملل فأمسكت جريدة وبدأت تقرأ، وكانت من حين لآخر تنظر إلى الساعة، ولم تلبث قليلا حتى دخل الشاب الذي كانت تنتظره؛ فسرت لمرآه وابتسمت، أما هو فقد تكلف إظهار البشاشة رغم أنه كان مصفر الوجه، شاحبه، كأن به مرضا، وما هو إلا مرض الحب!
كان الفتى يحب الفتاة حبا عظيما ملأ عليه نفسه وقلبه، فلم يكن له شاغل بعد عمله سوى هذا الحب.
كان يحبها ولكن كان يمنعه من طلب يدها للزواج فقره، وقد طلب منها أن تنتظر حتى يجمع ثروة صغيرة يتوصل بها إليها، وقد جد لهذا الغرض وواصل الليل بالنهار ...
كان الفتى يتحين الفرص لمقابلتها. أما هي فلم تكن تحبه ولم تكرهه أيضا، بل كانت تشعر بالعطف عليه عندما يذرف الدمع السخين أمامها، ليعبر لها عن حبه وألمه، ولذا لم تكن لتمنعه عن مقابلتها، بل كانت تجد في ذلك تسلية لها هي أيضا، فهي فتاة تحب - كغيرها - العبث واللهو بقلب الرجل، ولا تحب إلا الملابس والقبعات الحديثة الأزياء، ولا يهمها من حياتها إلا ملبسها وزينتها.
قلنا إنه دخل الغرفة فارتاعت لرؤيته؛ فقد كان شاحبا أصفر الوجه، دخل فارتمى على يديها يقبلهما، وبكى بكاء مرا؛ فسألته بلطف عما به؛ فأخبرها أنه أمر في محل عمله بالسفر بعد يومين إلى اليابان لمدة ستة أشهر، وهو مضطر إلى إطاعة هذا الأمر، ولكنه لا يقوى على فراقها يوما واحدا.
فهدأت الفتاة من روعه، وشجعته على احتمال هذا الأمر.
وفيما هما كذلك دخل الغرفة عاشقان آخران انتحيا ركنا من الغرفة، وأخذت الفتاة تطيل النظر إلى المرأة الأخرى، وكانت، فنظر إليها بدقة عظيمة واهتمام زائد من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها، كانت تتمعن في كل جزء من جسمها وملابسها.
وقد فطن الشاب إلى أنها تخاف هذين العاشقين، فقال لها: لا تخافي، فهما مثلنا.
وكأن الفتاة لم تسمع هذه الجملة فاستمرت في التحديق في المرأة الأخرى، ولكنها التفتت أخيرا إلى عاشقها، فقال لها بلهجة التذلل: أود أن أطلب منك أمرا، فهل لك أن تجيبيني إليه؟ - اطلب وسنرى. - هل لك أن تصحبيني في السفر؟
فضحكت الفتاة ضحكة قصيرة وقالت بدهشة: هل جننت يا عزيزي؟ وماذا يقول والدي؟ إنك تريد أن تغير مجرى السعادة التي نترقبها من مدة طويلة، سافر أنت، وسأنتظر رجوعك.
ففكر الشاب قليلا، ورأى استحالة إجابته إلى ما طلب، فقال: إذن هل لك أن تقابليني الساعة الخامسة بعد غد على المحطة؟ - ولكني لن أخرج في ذلك اليوم من البيت؛ فستزورنا عمتي. - أرجوك، أتوسل إليك! قابليني على المحطة؛ حتى أراك قبل سفري. - لا تكثر من الإلحاح يا عزيزي؛ فإنك تسبب لي آلاما، لا يمكنني الخروج في ذلك اليوم.
فحزن الفتى حزنا شديدا، والتفت إليها فرآها تنظر للمرأة الأخرى فتعجب، ولكنها التفتت إليه وابتسمت له، ثم داعبته بكلمة وقالت: إذا أردت أن تقابلني فيمكنك الحضور لمنزلنا غدا؛ فهو يوم مقابلاتي.
وعندما انتهت من تلك الجملة حولت نظرها للمرأة الأخرى التي كانت عند الباب، وقد كادت تخرج مع عشيقها؛ فألقت عليها نظرة أخيرة ثم التفتت لعشيقها الذي قال لها: إن المدير يطلبني في هذه الساعة، فأستميحك عذرا أن تسمحي لي بالذهاب.
ولما نهضت الفتاة لتوديع عشيقها قال لها: هل تقابليني بعد غد؟ عند المحطة.
فقالت له: قلت لك إنه لا يمكنني، وتستطيع الحضور عندنا غدا. - ولكني لا أحب الضجة، وأحب أن أكون وحيدا معك، وعلى كل حال ربما حضرت.
سار الفتى في الطريق، وأخرج منديله يمسح به الدموع المتساقطة، فهو يتألم في غرامه هذا.
وبعد خروج الفتى طلبت الفتاة دواة وقلما، وأخذت تحرر خطابا، ولكنها عادت فطلبت ورقة أخرى وأعادت كتابة الخطاب، ثم وضعته في الظرف وأخذته معها وقامت. وقد أغفلت الورقة الأولى التي كتبتها، ثم خرجت إلى حال سبيلها.
لم يستطع العاشق المسكين مفارقة محبوبته على تلك الصورة؛ فقرر الرجوع إلى مشرب القهوة ليمكث معها هنيهة أخرى، ويمكنه أن يعتذر للمدير عن تأخره في الذهاب إليه. رجع مسرعا ودخل الغرفة، ولكنه لم يجد أحدا، ووجد في المحل الذي كان جالسا فيه مع الفتاة خطابا؛ فتأكد أنه - ولا ريب - خطاب قد تركته له.
أمسك بالخطاب وقرأ:
إلى رئيسة قسم تفصيل الملابس والقبعات بمحلات اللوفر
عزيزتي مدام جيني
رأيت اليوم «فستانا» جميلا جدا أعجبني جد العجب، فرجائي أن تعدلي من «فستاني» قليلا حتى يكون مماثلا لذلك الذي رأيته. اجعلي الفتحة الأمامية ضيقة من ناحية الكتفين، وضعي شريطا أحمرا بالعرض بالقرب من الوسط. أما القبعة فأرجو أن تأمري بوضع ريشة طويلة من الأمام، وسأمر عندكم بعد غد عند الساعة الخامسة، وأتمنى أن يكون كل شيء قد تم حينذاك.
ذهل الفتى وهو يقرأ، ثم تذكر كيف كانت الفتاة تنظر للمرأة الأخرى التي كانت مع عشيقها معهما في الغرفة وهي تكاد تلتهمها بنظراتها، وذكر أن قبعة المرأة كان عليها ريشة من الأمام وكذلك الفستان؛ فقد كان كالفستان الذي طلبت الفتاة في خطابها أن يكون فستانها مثله.
وعندما عرف لماذا أبت حبيبته أن تقابله على المحطة يوم سفره تملكه غضب شديد ويأس، ثم بدت الحال أمامه كأنها رواية هزلية، وذكر ما ذرفه من الدموع أمام من كان يظن أنها تحبه مثل ما يحبها؛ فشعر بالخجل، ثم ضحك، وفكر أنه كان عازما على رفض السفر، ولو كان في هذا الرفض طرده من العمل، وكل ذلك ليمكث بجانب المرأة التي لا تحبه، وأخيرا أمسك القلم وذيل الخطاب الذي وجده بهذه العبارة: «لا تنسي أن تصحبي معك عمتك في ذهابك لمحلات اللوفر لتجربة الفستان والقبعة.»
وأخذ معه الخطاب كي يرسله لها، وشعر بالسرور بعد ذلك.
وسافر بعد يومين وقد تخلص من ذلك الغرام.
عن «الفرنسية»
قصة العذراء
هي زهرة لم تمتد إليها يد.
لقد عاشت عذراء وماتت عذراء.
لقد فضلت العرض على الحياة.
الجيش في تقهقر، فما على القائد إلا أن ينادي جنوده ويخطب فيهم قائلا:
فلنتقهقر بانتظام حتى لا نخسر شيئا، ولنحافظ على ذخيرتنا، حتى نصل إلى بلدة قريبة نحتمي فيها من شر الأعداء وننظم أمورنا، وسيكون طريقنا إلى هذه البلدة طريق الصحراء، وهو طريق متعب، ولكنه خير في الواقع من الوقوع في أيدي الأعداء، وما أخالكم إلا موافقين على ما حدثتكم عنه. الطريق منتشرة فيه الأديرة التي يؤمها الرهبان والراهبات، فيجب أن نستولي في طريقنا على تلك الأديرة عسانا نجد فيها شيئا من الزاد.
وافق الجند على ما قاله قائدهم، وكان واجبا أن يوافقوا؛ فالمركز حرج.
ساروا أياما في الصحراء يعانون آلام السير، ولاح لهم في أحد الأيام بناء شاهق تظهر عليه آثار القدم، وكان بسيطا كالحصون، له باب ضخم يحسبه الناظر باب مدينة، فما رأوه حتى تشجعوا ونسوا تعبهم؛ فقد عرفوا أن البناء لم يكن إلا ديرا، ربما وجدوا فيه طعاما وراحة من وعثاء السير.
وصلوا إلى الدير ففتحوه فلم يجدوا أحدا، إلا أنه بعد برهة جاءت سيدة متمنطقة بالسواد لا يظهر إلا وجهها، وسألتهم: ماذا يريدون؟
نادى الجند رئيسهم، فلما حضر أخبرته تلك السيدة أن المكان دير للراهبات، فلا يصح أن يتعرضوا لأحد بسوء، فهن نساء عزل، فأمنها القائد على حياة الراهبات وسألها شيئا من الزاد لجنده.
اطمأنت السيدة وأتتهم بما طلبوا، فجلسوا في حديقة الدير يأكلون. •••
كان الضابط في الأربعين من عمره، وكان رجلا لئيما خسيسا شهوانيا، وأراد أن يسري عن نفسه ما بها من الضجر والتعب، وحسب أنه ربما وجد من يمكنها أن تسري عنه في راهبة من راهبات الدير! يا لله! لقد بلغت به الخسة والدناءة أنه يريد أن يدنس الدير الذي تتناجى فيه الراهبات مع ربهن، حيث انقطعن للعبادة بعيدا عن مظاهر الدنيا الزائفة.
انتهز غفلة من رئيسة الدير وصعد السلم، ومنه إلى غرفة كانت فيها راهبة، لحظها وهي تطل من الشباك.
كان على الراهبة مسحة من الجمال، هي البقية الباقية بعد تعب الصلاة والسهر وتحمل آلام تلك المعيشة البسيطة، بعد أن فرت من الدنيا إلى ذلك الدير، لما رأت الشر وقد انتشر، والخطيئة وقد عمت. •••
دخل المجرم يريد غرضه الدنيء، ورفع السيف في وجهها مهددا إياها إن نطقت كلمة واحدة فجزاؤها القتل.
سكتت تفكر، ثم ابتسمت له وتظاهرت بالرضا، عجبا! ماذا جرى؟ نظرت إليه وقالت: فلتجس لتستريح؛ فيظهر أنك متعب.
جلس وجلست بجانبه فاطمأن، واستبشر بتلك الغنيمة الباردة. قالت له: عجبي لكم يا رجال الحرب، أما تخافون الموت حتى تقذفوا بأنفسكم إلى أحضانه؟
فاسمع لذلك الجبان وهو يجيبها: إنها الظروف هي التي تضطرنا، فوالله لولا خوفي أن يقال عني جبان لهربت قبل أن يعرضوا علي تلك القيادة المشئومة.
فابتسمت وقالت: هلا علمت أن لدي دهانا لا يعرف إلا في هذا الدير، إذا طليت به جسمك لا تؤثر فيه حدة السيوف؟ - عجبا! وأين هو؟ إني لمحتاج لمثل هذا الدهان. - سآتيك به، وربما أعطيتك قليلا منه. •••
كان الرجل من أبناء ذلك العهد الذي سادت فيه الخرافات وقل من لا يؤمن بها في ذلك العهد، فلا عجب إذا صدق بأن لديها دهانا له مثل تلك الخاصة، وقد فكر في نفسه: أن ماذا يضيره لو هلك الجيش وعاش هو بفضل هذا الدهان العجيب؟
أتته بقارورة وأرته فيها مسحوقا أبيض، فتلهف شوقا عليه، ولكنه شك في حقيقته، وصرح لها بعدم تصديقه؛ فأخذت قليلا من المسحوق وطلت به رقبتها ثم قالت له: ما دمت لا تصدق فهاك الدليل: اضرب بسيفك الحاد بكل قواك على رقبتي!
تردد قليلا، ولكنها شجعته فضرب ...
لقد كاد يغمى عليه، فقد رأى رأسها وهو يتمايل، ثم رأى جسمها وهو يسقط على الأرض بلا حراك، إذن لم تكن هذه إلا خدعة، ولم يكن هناك ثم دهان سحري.
ماتت الراهبة، وقد اسودت الدنيا في وجهه، فلم ير أمامه غير شيئين: جسم الراهبة «العذراء» وقارورة الدهان المزعوم، فأخذ يجول بنظره تارة إلى الجسم وتارة إلى القارورة، ثم انتابه شبه جنون ففتح باب الغرفة الموصد وجرى بسرعة وسيفه المخضب بدماء العذراء لا يزال في يده، ثم نادى جنوده وهو يجري قائلا: هيا، هيا من هذا المكان!
وما زال يجري حتى لحق به بعض جنوده، فإذا هو يبكي كالأطفال الذين لا عقل لهم وهو يقول: قتلتها ... قتلتها! (موضوعة).
الروح الكورسكية
لما سلمت جنوه جزيرة كورسيكا لفرنسا، وجدت جيوش لويس الخامس عشر نفسها أمام أعداء لا يستهان بهم، وكان هناك رجل متفان في حب وطنه اسمه: «بسكال باولي» نظم لهذه الجزيرة حكومة أخذت على عاتقها تجنيد جميع السكان، والوقوف أمام المغتصب الجديد؛ فكانت تلك الأزمان محنا تتلوها محن، أظهر الفريقان في غضونها من ضروب البسالة ما أدهش العالم، ويجب الاعتراف بأن جيش «لويس المحبوب» النظامي وجد في باولي ومساعديه رجالا لا يعرفون للموت معنى؛ مما أثار إعجابهم. وكان من بين هؤلاء رجل يدعى كسيلا، بطل قصتنا هذه: امتنع هذا الكورسيكي الشجاع في قصر نونزا الذي كان يتحكم في منطقة الجزيرة كلها، وأبى بأنفة التسليم للأعداء، غير أن مدة الحصار طالت واشتدت الأزمة؛ فخشي القائد الفرنسي إذ ذاك وهو الكونت دي جران ميزون أن يصل المدد إلى المحاصرين، ورأى أن يعرض عليهم تسليما شريفا؛ فأرسل لهذا الغرض الكابتن فودمون ومعه ضارب على الطنبور، وسار الاثنان قاصدين الحصن، فلما وصلا إلى مسافة قريبة منه علق الكابتن شارة بيضاء في طرف حسامه ورفعها في الهواء، وما هي إلا بضع دقائق حتى رأى المندوب علما أبيض يرفع على قمة الحصن بالقرب من العلم الوطني الكورسيكي، فتقدم المفاوض مجتازا الهضبة، غير أنه وقف في مكانه عندما سمع صوتا عاليا يقول: قف حيث أنت، من أنت؟
فأجابه: أنا مفاوض من قبل صاحب الجلالة. - وماذا يريد صاحب الجلالة مني؟ - افتح باب الحصن وأنا أبلغك رسالتي. - إن ذلك غير ممكن، ولكن أخبرني أولا من أين أتيت؟ - لا يمكن الكلام لأن الهواء يهب رأسا في وجهي.
قال الكابتن هذه الجملة وتقدم قليلا إلى الأمام، فقال له كسيلا: إن تقدمت خطوة أخرى إلى الأمام فستقتل في الحال.
فتمتم الكابتن فودمون قائلا: إنه لرجل صعب المراس! ثم وضع يديه على فمه وقال: إن مولاي الكونت دي جران ميزون - قائد جيوش صاحب الجلالة - يرغب في حقن الدماء. - إنه لشعور طيب فاجأتني به أيها الكابتن، فأي ساعة تلك التي جعلتك تفكر في ذلك؟ - إن ما جعلني أفكر في ذلك هو ما نملكه من الذخيرة الوافرة، فعندنا من المدافع اثنا عشر، ومن الرجال أربعة آلاف، في حين أن رجالكم لا يتجاوزون الخمسين عدا. غير أن ذلك ليس ببيت القصيد، إنني ما جئت هنا للمفاوضة، إنما جئت لأبلغك رسالتي، فأكرر إنه حقنا للدماء نعرض عليكم تسليما شريفا. - وإذا رفضنا ذلك؟ - حينذاك نكون مجبورين على إخضاعكم بحد الحسام، ومعاملتكم معاملة قاطعي الطرق الذين يأبون الخضوع لقواعد الحرب ويصممون على الدفاع الذي لا فائدة منه. - حسنا أيها الكابتن! لكن إذا أشعلنا النار في الذخيرة ونسفنا أنفسنا والحصن سواء؟ - لا يمكنكم أن تأتوا عملا كهذا. - لا يمكنا! ولماذا؟ - لأن ذلك يكون منافيا لقواعد الحرب، ويعتبر عملا وحشيا. - حقا! لقد علمت أفكارك، وعليه يجب كي لا أعتبر متوحشا أن أسلم نفسي للذين حلوا بجزيرتنا لسلب حريتنا وهم يدعون المدنية. - أرجو عدم الخروج عن موضوعنا، فللمرة الأخيرة أتريدون ترك الحصن والخروج بالتحيات العسكرية أم لا؟ - يجب علي استشارة مجلسي أولا؛ فأرجو الانتظار قليلا حتى أعرفكم قرارنا.
غاب كسيلا وبقي الكابتن في انتظاره، وانقضت مدة طويلة، وأخيرا أطل القائد من السور وقال: ليس في وسع المجلس أن يتخذ قرارا قبل أن يعرف شروطكم. - قرروا أنتم ما شئتم؛ فإن سيدي القائد العام مستعد لمنحكم كل الشروط التي تخولها له سلطته. - حسن جدا. - مع العلم أنكم لا تطلبون المزيد. - لا بأس، فعليكم أن تحكموا. - أولا: تخرج الحامية على صوت الطنبور رافعة أعلامها مع أداء كل التحيات العسكرية لها. - أوافق على ذلك. - ثانيا: تحتفظ الحامية بأسلحتها وأمتعتها ووو ... إلخ. - أوافق على ذلك. - ثالثا: على قائدكم العام إعطاؤنا الخيل والمركبات اللازمة لنقل الأمتعة المذكورة. - لا يمكنني موافقتكم على ذلك. - إذن ونحن لن نخرج من الحصن، ولنستأنف القتال من جديد. - مهلا! اصبر قليلا، إنك لرجل نافذ الصبر، دعني أفاوض القائد العام، فربما منحكم هذا الشرط. - افعل ما بدا لك. - سأرجع بعد عشر دقائق. - حسنا ارجع متى شئت فلست مستعجلا.
فاوض الكابتن القائد العام؛ فأظهر هذا ترددا في قبول شرط كسيلا، وكان يجهل قوة الحامية، غير أنه كان يخشى وصول المدد إليهم؛ فجعلته أهمية تلك المسألة الأخيرة يتخذ قرارا. فأخبر الكابتن أنه مستعد لقبول الشرط الأخير على أن يكون التسليم في الحال؛ فرجع الكابتن إلى الحصن ولوح بمنديله، ولما جاء كسيلا قال له: منحناكم هذا الشرط على أن يكون التسليم في الحال بدون إمهال.
فقال له كسيلا: قد اتفقنا إذن تمام الاتفاق، ولكن ... هل هناك فكرة انتقام؟ - كلا. - أرجو عدم المؤاخذة إن ألححت؛ فإنك صغير السن، أما أنا فهرم، وقد علمتني التجارب أن آخذ الحيطة في كل أمر، ويقال يا كابتن إن الحساب المضبوط يوثق عرى الصداقة، فأرى أن نراجع الشروط المتفق عليها: تخرج الحامية وتحيى بالتحية العسكرية وتحتفظ بأسلحتها وأمتعتها وتعطونا العربات اللازمة للنقل، أليست هذه كل الشروط؟ - نعم هي تماما، وعلاوة على ذلك قد تعهد الكونت دي جران ميزون - قائد جيوش صاحب الجلالة - بشرفه أن يعمل بالشروط المتفق عليها بلا أي نية سيئة ولا أقل ضغينة. - حسن جدا، ولكن يجب أن تتعهد أنت أيضا بذلك. - أيها القائد، أتريد أن أعتبر قلة ثقتك إهانة لي؟ ووضع يده على حسامه. - لا يا كابتن، إني لا أقصد إهانة أحد، ويمكنك إن فكرت قليلا أن توافق على مسالكي، ويكفيني منك وعد شريف على احترام اتفاقنا، فإن أعطيتني هذا الوعد فلن ألح أكثر من ذلك. - إني أعطيك وعدا شريفا بذلك. - إذن فليحضر رجال حرسك، وسأعد أنا كل شيء استعدادا للرحيل.
وصل رجال الحرس بعد عشر دقائق سائرين على النظام العسكري الكامل، وتقدموا حتى باب الحصن الخارجي، وهناك انقسموا قسمين واصطفوا منتظرين. وما هي إلا بضع دقائق حتى فتح باب الحصن فجأة، وعندئذ صاح الكابتن آمرا بالتحية العسكرية؛ فأطاع الجند الأمر. وظهر القائد كسيلا في وسط الصفين رافعا بيده اليسرى العلم الكورسيكي وباليمنى زخمتي الطنبور، وكان يضرب عليه بإتقان عظيم، وكان مرتديا أجمل ملابسه العسكرية، وعلى رأسه قبعة ذات ريشة ذهبية، وهو يسير بتؤدة غير ملتفت لمن حوله. وكان رجال الحرس يكتمون ابتساماتهم بصعوبة والنظام العسكري يمنعهم عن إظهارها.
ولما وصل القائد أمام الكابتن فودمون الذي كان شاهرا سلاحه بالتحية العسكرية وقف أمامه ووضع زخمتي الطنبور في حمالتيهما، ورفع قبعته ردا على التحية، ثم استمر في سيره ضاربا على الطنبور بكل قواه.
سأله الكابتن: أين الحامية؟ ومتى تخرج؟
فأجابه كسيلا: الحامية؟! - نعم الحامية المدافعة عن الحصن. - أيها الكابتن: إن الحامية كلها قد خرجت. - يظهر أنك لم تفهم ما قلته؛ ولذا سأوضحه لك: ففي أي وقت يخرج جنودك؟ - لقد فهمت ما تقصد من أول لحظة وكلامك واضح، وأنا أخبرك أن الحامية كلها خرجت بخروجي من الحصن.
فدهش الكابتن أشد الدهشة وقال: هل هذا صحيح؟ - نعم صحيح كل الصحة؛ فإني كنت بمفردي في الحصن أدافع عنه. - لقد خدعتني إذن وجعلتني لعبة! آه، سيهزأ بي الجميع، وسأصبح مضغة في الأفواه! ويلاه! إني كنت أفضل الموت على ذلك، فكيف أجسر على العودة إلى باريس؟! ألم يكن هناك إلا كورسيكي واحد ليرسم لنفسه تلك الخطة الجهنمية؟! لقد قضيت بالسخرية على رجل فرنسي شريف يا سيدي. - تلك مسألة أخرى يتوقف خروجك منها على ما تظنه كفيلا بذلك، على كل منا أداء واجبه، وكان واجبي الخروج من الحصن بشرفي العسكري، وقد أفلحت في ذلك، فعليك أداء واجبك أنت أيضا.
واستمر كسيلا في سيره ضاربا بكل قواه على طنبوره.
عن «الفرنسية»
العاصفة
هدأت العاصفة في الصباح قليلا بعد أن استمرت الليل كله، لكنها بدأت الآن تجدد القوى وتتأهب للهجوم. وقد ساعدت الريح العاتية التي كانت تهب من الجنوب سفينتنا على النجاة؛ إذ زجتها داخل اليم حيث الأعماق عظيمة.
مر على ذلك ساعات قليلة هبت بعدها الرياح من مختلف الجهات، وأزبدت الأمواج، وغطت السماء طبقة كثيفة من السحاب الأدكن، ومع أن الشهر كان شهر ديسمبر فقد كان وميض البرق يقطع الفضاء، وكان دوي الصواعق يختلط بزمجرة المحيط.
اهتزت السفينة اهتزازا هائلا، فاهتزت قلوبنا وارتعدت فرائصنا، اهتزت ثانيا فثالثا؛ فخيل إلينا أن الأرض زلزلت، أخذت السفينة تهتز اهتزازا متواصلا، فحينا نرى الأمواج قد رفعتها فأوصلتها إلى الفضاء، وأخرى نراها وقد أخذت بها إلى لجة سحيقة لا قرار لها. كان الهواء يصفر صفيرا مزعجا يخترق جوانب السفينة، ولكن هناك صوت آخر سمع فجأة.
وكان صوت انكسار الصارية!
وبقيا كل منهما في مكانه ينظر للآخر نظرة عطف، بل نظرة خوف وإشفاق. لم يلفظ أحدهما ببنت شفة، فما أرهبه من موقف!
قامت «هي» يعلو وجهها الاصفرار، وفي عينيها نظرة رعب، وحاول «هو» عبثا أن يهدئ روعها.
صعد إلى ظهر السفينة ليخفي ضعفه فرأى! ويا لهول ما رأى! رأى الصارية نصفين، ورأى الدفة في غير مكانها، أما مسيرها فقد هرب إلى مكان آخر.
التفت الأمواج التي كانت في علوها كالجبال الشامخة حول السفينة، وأخذت قطرات الماء تتناثر على جباه الناس فتطفئ من حرارتها.
أيقن الجميع بالموت، واستعد النوتية للقائه بشجاعة غريبة، ولا عجب! فهم أبناء البحار لا يهتمون للموت؛ لأنهم يعرفون أنه مصير كل حي.
ورأى الربان «هو» في اضطراب زائد فقال له: «وددت لو أنقذكما، ولكن لم يبق لكما إلا الموت معي مثل الباقين.»
وكان الربان على حق فيما يقول؛ فإنه لم يبق إلا الموت للجميع، فقد ثغرت السفينة من جديد، وهجم الماء داخلها كجيش ظافر يدخل مدينة افتتحها.
أراد «هو» أن يندفع نحو الحجرة إلا أنه رآها أمامه مسدلة الشعر، مصفرة الوجه؛ فأخذها بين ذراعيه وضمها إلى صدره كأنه يودعها.
وإذ هما على تلك الحال رأيا موجة هائلة مقبلة نحو السفينة، وكانت كلما تقدمت عظم حجمها؛ فأخفت هي رأسها بين ذراعيه؛ حتى لا ترى ذلك المنظر المرعب.
انقضت الموجة على السفينة انقضاض الوحش على فريسته؛ فقلبتها رأسا على عقب وابتلعتها.
ولم يبق من آثارها إلا بضع أخشاب صغيرة عائمة.
عن «الفرنسية»
قصص عن الكاتبة الإنجليزية الكبيرة لويز هيلجرز
ابنتي الصغيرة
لقد تألمت ألم اليأس في مبدأ الأمر؛ فقد كنت أود من كل قلبي أن يكون ولدا، ولكن عندما وضعوها بين يدي ورأيت وجهها الأحمر الصغير يشبه تمام الشبه وردة مفتحة الأكمام، وصل حبها إلى أعماق قلبي وظهرت لي الدنيا بمظهر جديد، بسبب ابنتي الصغيرة هذه، وفي أشد الأيام ظلاما كانت لي ابنتي الصغيرة قوس القزح الذي يظهر في الأيام الممطرة، وإذا أشرقت الشمس كانت تظهر لي أشعتها أشد لمعانا، وإنها كالذهب الوهاج؛ لأنها كانت تسقط على شعرها الجميل. لقد كان لابنتي الصغيرة أجمل شعر، وكان يتوهج كالذهب والنرجس. أما لون عينيها فأظنك تعرف لون زهرة البنفسج، لقد كان هذا لون عينيها.
من المحال أن يوجد في العالم كله طفل أجمل من ابنتي الصغيرة، لقد كانت هبة السماء إلي، وكنت أسميها دائما: «ابنتي الصغيرة» حتى عندما كبرت وترعرعت، وشبت بعيدة عني؛ إذ جاء الوقت الذي حل فيه أصدقاء المدرسة وألعاب المدرسة محل أمها، حين امتنعت عن الحضور إلي تشكو أتعابها وتشركني أفراحها، حين أصبحت مظاهر العطف والحب تسبب لها السأم والضجر، وحين أصبحت الأم من المنغصات وهي تقول: «لا يجب أن تفعلي هذا.» ولكن لهذه الأم أيضا يدان باردتان في بعض الأوقات، حين تكون الرأس ملتهبة بالألم.
لم تكن رأسي هي التي تلتهب بالألم في بعض الليالي، بل كان قلبي حين كنت أتلصص في السير إلى غرفتها بعد نومها وأقبلها قبلة المساء، لقد كان يخيل لي لحظة أن طفلتي قد رجعت إلي، وهي نائمة، بشعرها اللامع، وقد انسدل على وسادتها، وإذا كانت تحلم في نومها إذ ذاك برفيق مدرسي، فقد كنت أميل إلى الاعتقاد بأن فكرة والدتها هي التي كانت تجعلها تبتسم بسعادة وثقة، عندما كنت أتقدم وأقبلها في جبهتها.
وعندما بلغت ابنتي الصغيرة الثامنة عشرة كانت جميلة، وكان الناس يلتفتون ويتحدثون عنها عندما كانت تمر في الشارع، وكان يسرني أن أصنع لها البسيط من الثياب البيضاء التي كانت تظهر فيها كأنها زهرة من زهرات الزنبق، وكنت أحب أن أسمع إطراء الناس لها وقولهم: كم كان يجب أن أكون فخورة بها، وكنت أتأوه حزنا عندما كانوا ينظرون إلى بناتهم، وكانت هذ الفكرة تملك علي مشاعري أحيانا حتى تجعلني أنسى وحدتي عندما تكون ابنتي الصغيرة خارج المنزل في نزهة مع الأصدقاء.
كان لابنتي الصغيرة كثير من الأصدقاء، حتى وجدت من الضروري أن تدرج أمها بينهم.
نعم، إن الشباب يميل إلى الشباب، كما تنمو زهرة الشمس إلى ناحية الشمس.
وأظن أنه من الصعب أن تعتقد ابنة ثمانية عشر ربيعا أن قلب الأم قد يكون لا يزال فتيا كقلب طالبة صغيرة، وأنها قد تكون على استعداد للاشتراك في الضحك والهذر الذي حولها.
فقد جاء وقت ابتعدت فيه عني ابنتي الصغيرة حتى ظننت أنها لن ترجع إلي ثانية، وكان هذا عندما وقعت في شباك غرام ذلك النوع من الرجال الذين تجدهم في المصيف إلى جانب البحر، لقد كان شكله كشكل الرجال الذين تراهم في صور «الكارت بوستال».
أما ابنتي الصغيرة التي كانت تظن أنها تعلم الكثير - والحق أنها لم تكن تعلم شيئا - فقد اعتقدت أنه أمير بين الرجال، لا لشيء إلا لأن له شعرا مجعدا حالك السواد ... وله سيارة، وكانت تستاء إذا تعرضت له بنقد، فكانت ترميني بأنني من دعاة القديم وأنني غير عادلة، بل وفوق ذلك أنني كنت حسودة.
وهي لا تريد أن تبقى في خزنة من زجاج، ولا تريد أن تموت وهي فتاة عجوز كي تسر أحدا، وقد امتنع عن الحضور إلى المنزل، ولكن كنت أعلم أنه كان يقابلها مرارا في الخارج، ولقد مررت عليهما مرة وهما في السيارة.
وكان هو الشاب الصغير، الجميل الشكل، الأسمر الوجه، ينظر في وجهها، وكانت ملامحها هي تدل على الاهتمام والخجل، وسقطت خصلات من شعرها الجميل على وجهها، وامتلأت عيناها بأحلام الفتاة الصغيرة ... هي أحلام متواضعة حمقاء، كنت أعارض فيها؛ لأنها كانت أحلام ابنتي الصغيرة، وكنت أخاف غاية الخوف أن تستيقظ منها، وفي يوم من الأيام حدث ما كنت أتوقع، وابتعد عنها هذا الرجل كما كان قد حل فجأة، وكان عذره ككل الأعذار، عذر العمل، ووعده كما هي العادة، أن يكتب وأن يرجع في العام القادم.
هه، لقد انتزع من حياتها كما تنتزع الروح من الإنسان، ولكن كان واجبا علي أن أحبه؛ لأنه في ليلة رحيله فقط رجعت إلي ابنتي الصغيرة، وبينما كانت تشهق بالبكاء بين ذراعي وهي تقص علي قصتها، خيل إلي أن حجرا أزيح من فوق قلبي حتى سمعت دقاته تصل إلى أذني، وذلك لأني علمت أن ابنتي الصغيرة قد عادت إلي.
عن «لويز هيلجرز»
عشاء اثنين
بعد عشر سنوات قضاها مورنيمر بليك في مركز عمدة البلد المحترم؛ إذا به يشعر الآن أنه قد ضاق ذرعا بهذا العمل الذي يسير على نمط واحد، كان راجعا إلى منزله بعد مناقشة طويلة مع القسيس حول الطريقة المثلى لتوزيع صدقات عيد الميلاد على الفقراء، وخطر بفكره فجأة أن الغضب قد أخرجه عن جادة الصواب، وأنه أصبح فظا لا يحتمل أكثر من ذلك.
وهنا خطر بباله اسم باريز السحري، وكأن شفتيه قد نادتها! لم يفكر في باريز منذ عشر سنوات عندما نفض عن نفسه غبار ذكرياتها القاتمة، بعد أن هاجر من مونمارتر.
ولكن الآن وقد أخذت الذكريات تسرع في العودة إليه وكأنها شبح هائل قد استيقظ من نومه، وبدأ يسر إليه بكل الأفكار الجنونية، طرق النزهة المضاءة ليلا بأنوار الكهرباء، وصوت الموسيقى وهي تعزف في المطاعم، والشراب المريء، والتنزه داخل العربة في غابة بولونيا عندما يطل القمر من سمائه والنجوم من عليائها، وإلى جانب المرء امرأة يلذ له أن يشم رائحة مساحيقها وسوائلها المبردة، امرأة! إيه لقد كن كثيرات، غير أن وجها واحدا هو الذي عاد إلى ذاكرته وهو مرتكز إلى الحائط يحدق في شجرة أمامه.
وجه جميل، تضيئه الحياة كما يسطع النور من خلال المصباح الياباني الورقي الملون، بفم صغير وشعر لامع حالك السواد.
وقد ظن أنه نسي اسمها، ولكن عندما حدق بقلبه في شكلها تحرك اسمها من قبور النسيان وعاد إلى الحياة ثانية.
وقد ناداه بصوت عال، حملت رياح ديسمبر الباردة صداه ورددته مصحوبا بأنة سخرية: مرجوت.
وفي اليوم الثاني وجد نفسه في باريز، وكان ذلك في مساء ليلة عيد الميلاد، وعندما درجت به السيارة من محطة الشمال وجد الحال كما كان، كانت هناك سلسلة طويلة من الأنوار الذهبية المتلألئة، والضحكات تتعالى، والبشر يعلو الوجوه، وكانت الموائد في خارج المطاعم ممتلئة كلها بالفرنسيين الملتحين السعداء، وبينهم المرأة منتثرة هنا وهناك كالزهرة، وكانت الإعلانات الكهربائية تظهر في أعلى المباني بألوانها المختلفة، وفوق كل ذلك كانت هناك رائحة باريس السحرية، تلك الرائحة التي لا يمكن تعريفها أو إدراك كنهها، وقد ملك عليه ذلك حواسه؛ فانصرمت عنه السنوات العشر التي قضاها بعيدا وحيدا، وكأنها لم تكن، وقد كاد يرقص طربا وهو في السيارة تدرج به من ناحية الإليسيه حيث يوجد الفندق.
وفي المنتزه الواسع، الذي كان ممتلئا بالنساء، وكأنهن طيور من الجنة، وكنت تسمع فيه حديث طائفة من النمسويين، وجد أنه ليس بين وسط باريس! فهذه ليست باريس التي عرفها، باريس التي كان يمكن للإنسان فيها أن يحب ويعيش كالملوك ببضع سنتيمات.
ولكن بعد أن استحم وانتعش جسمه، ظهرت له كأنها امرأة فاتنة يرغب فيها، وكأنها طوقت عنقه بذراعيها، فخرج ثانية إلى الليل، الليل وهو في باريز أكثر إشراقا من النهار، ونادى عربة سارت به إلى «الرستوران بلان» بشارع بيجال؛ فقد حدث له أنه هناك، وقد انتقى هذا المطعم من بين كل المطاعم التي كان يتناول فيها طعامه في وقت ما أو بين آونة وأخرى. كان معتادا أن يتناول طعام العشاء في ليلة عيد الميلاد، حقا إن هذا المطعم لم يكن على جانب من الأبهة، وكان يؤمه متوسطو الحال فقط، ولكن على كل حال هنا قد تناول طعام العشاء مرارا مع مرجوت، وفي ليلة عيد الميلاد - ولكم أسرعت الذكريات في العودة! - كانت تلبس رداء أحمر، وعندما خلعت عنها رداءها الخارجي تمايلت أمامه كالزهرة. ماذا حدث لمارجوت الصغيرة؟ لقد أحبته جد الحب، ولقد تفارقا على أحسن ما يتفارق الأصدقاء عندما راقت له الحياة الجديدة، لقد صاحت وبكت على كتفه، وتركت بقعة بيضاء كبيرة من مساحيق وجهها على هندامه، ولما كانت الدموع تجول في عينيه فقد وعدها ألا يغفل تناول طعام العشاء معها ليلة عيد الميلاد المقبل.
وقالت وقد رفعت وجها مندى إلى شفتيه: لن تغفل الحضور؟
فقال بهدوء وهو يرجو أن يلحق القطار: لن أغفل.
وبالطبع لم يف بوعده، فوعود الرجال الغرامية للنساء كوعودهم لتاجر الأقمشة الذي يشترون منه بالدفع؛ فهي ترضي الاثنين في حين أنها لا تكلفهم شيئا!
لم يتغير شيء في «الرستوران بلان»، حتى الزهور الصناعية التي كانت فوق رأس السيدة التي تستلم النقود كانت هي بعينها، يعلوها بعض التراب فقط، وكان هناك عدد قليل من الزبائن مبعثرين هنا وهناك على الموائد؛ ولذلك لم يجد صعوبة في أن يختص لنفسه في القاعة الطويلة نفس المائدة التي كان يجلس عليها هو ومرجوت، يشرب كل منهما نخب الآخر من زجاجة من النبيذ الأحمر الرخيص الثمن.
حسنا، أما الليلة فله أن يتناول طعام العشاء من أحسن ما يمكن أن يقدمه المطعم من الأصناف، ويمكنه أن يشرب ذكرى مرجوت من شراب غالي الثمن. ولما كان من غير الصواب أن يتناول الطعام منفردا فإنه إذا دخلت المطعم فتاة أجمل من تلك التي تشير إليه بعينيها وتبتسم له بغير انقطاع من المائدة الأخرى، فهو لن يغفل أن يدعوها لتناول الطعام معه، فباريز مدينة لحظات لا مدينة آداب! وهنا انفتح الباب الزجاجي في آخر المطعم، ودخلت وقد هبت على أثرها نسمة من الهواء البارد ارتعد بتأثيرها الذين كانوا جالسين على مقربة من الباب.
هي أيضا لم تتغير، حدق فيها بعينيه، وقد ارتسمت عليهما آثار الدهشة، حدق في كل جزء منها وهي سائرة في القاعة مقبلة نحوه، وجهها الأبيض، فمها الصغير القليل الاحمرار ...
وكانت تلبس رداء طويلا يخفي كل جسمها، عشرة أعوام مرت لم تتغير في إبانها أقل تغيير، بينما هو قد أصبح أبيض الشعر! لقد كان الأمر غريبا حقا، لقد كان حلما أو شيئا آخر بلا ريب، وكان لا يزال يحدق في الفضاء كالحمقى حين وصلت هي وجلست أمامه، ولم يظهر على وجهها أي أثر للدهشة حين قابلت عيناها عينيه، وقالت: ها قد أتيت أخيرا!
ووصل إليه صوتها كأنه أنات، وامتدت يداه إليها: أي مرجوت صغيري! إنك أجمل من أي شيء آخر، أعني أنك لم تكبري يوما واحدا، أما أنا فقد أصبحت كهلا ...
وامتدت يده إلى رأسه، وأزاحت هي الرداء عن ظهرها كما تتحرك السحابة وقالت: لقد كنت أوالي الحضور إلى هنا كل عام، وقد طالت مدة غيابك.
وظهرت أمامه وهي في ردائها الأحمر - وربما كان ذلك من أثر كهولته - كالزهرة، واعتذر هو قائلا: «إن الحياة مختلفة هناك في إنجلترا، لقد كان كاهلي مثقلا بالواجبات يا مرجوت؛ فلم يكن الحضور من السهل علي، ولكني مسرور لأني رأيتك أخيرا، هل تعلمين ...؟
وكانت الخمر قد أذكت من دمه: «إنه كان على أمل رؤيتك أن حضرت إلى باريز، وعلى أمل رؤيتك حضرت إلى هنا الليلة ...» - بعد عشر سنوات؟!
وكان لصوتها رنة غريبة مثل صوت البرق ...
وحرك يده: وبعد، فما هي عشر سنوات؟ إن عشر دقائق أقضيها معك يا مرجوت لتنمحي أمامها هذه السنوات العشر.»
ولما حضر الخادم يحمل في يده طبق طعام سقط الطبق فجأة من يده، وتناثرت شظاياه وقد أحدثت صوتا مزعجا، وظهرت الدهشة في عينيه وهو يحدق فيهما، ثم اعتذر لبليك: «فليسامحني سيدي وكذلك سيدتي؛ فلقد سمعت، بل إن كلنا قد سمعنا ...»
ودارت عيناه على كل الذين كانوا موجودين بالمطعم. - «إن سيدتي كانت قد ماتت، والآن أراها هنا ثانية، وهي أصغر منها سنا من أي وقت آخر ...!»
ثم انصرف الخادم ليحضر طعاما آخر، فضحك بليك وقال: لقد ظنك هذا الفتى شبحا من الأشباح، هل لك أن تشربي قليلا من الشمبانيا؟ إن الأشباح و«العفاريت» لا تشرب الشمبانيا.
وابتسمت في عينيه، ومست أصابعها أصابعه، ثم قالت وهي تشرب نخبه: إني أشرب نخب عشر سنين مضت!
وقال بليك بأسف: أي أيام كانت تلك؟! وقد أترعت كأسها بالحياة حتى فاضت على جوانبها، وكان الليل فيها أفضل من النهار. مرجوت! صغيرتي مرجوت! هيا بنا نرجع عشر سنوات إلى الوراء.
قال ذلك وقد اقتربت رأسه منها فوق المائدة.
أما هي فقد ابتسمت ببعض الاستغراب، ولكنها كانت جميلة جدا، وبعد فإنها قد تغيرت، وبينما كان يحدق فيها بنظره وهي تخلع قفازها من يدها لاحظ أن النور الداخلي الذي كان يشع من وجهها الجميل قد اختفى وتركها خاملة. وكانت هناك تجويفات صغيرة تحت عينيها، وكأن أفكارا كثيرة قد تجمعت فيها، واستولى عليها سكون ورصانة غريبة، وكأن أعضاء جسمها قد تأثرت أيضا، ولم يكن قد عرف أبدا أن لها مثل هذا السكون والوقار.
وعلى كل حال لقد فضل مرجوت الأولى، ولكن يظهر أنها بدأت تعود إليه ثانية إبان تناولهما الطعام، فابتدأ الضحك يتدفق من فمها كما يتدفق الماء من الينبوع، وعاد اللون إلى خديها.
والآن وجدها محبوبة حقا، وذهب بفكره إلى الوقت الذي سيكون فيه إلى جانبها داخل عربة تخترق بهما الشوارع الصاخبة، وإذ ذاك سيضمها بين ذراعيه.
ولكنه حزن جد الحزن عندما عرف أنه ليس له أن يوصلها إلى منزلها؛ إذ قالت: إنني لا أستحسن ذلك ...
ولكن عندما قرأها السلام وأخذها ظلام العربة، كما يستلب ظلام الليل لون الزهرة، سمحت له أن يزورها في الغد. ولكنها قالت: ولكن لا تلمني إذا لم تجدني!
ولكنها وقد ابتسمت إذ وضعت يدها على يده، ابتسم هو أيضا كأن فكرة مسرة قد مرت بفكره.
ولكنه عندما فكر صباح اليوم التالي في الذهاب إلى المنزل نمرة 15 بشارع باب سان جان وسأل عنها، حدقت فيه حارسة الباب باستغراق وقالت له: ولكنها قد ماتت يا سيدي!
ولكنه هز كتفيه واستند إلى الباب وقال: إن هذا محال، لقد تناولت معها البارحة طعام العشاء.
فهزت حارسة الباب كتفيها بدورها وقالت: لا ريب أنه حصل خطأ يا سيدي، لقد توفيت منذ نحو ستة أسابيع، وقد رأيتهم حين أخرجوها من هنا، وكان الجناز حقيرا أيضا، لم تكن هناك زهرة واحدة، وإذا صدقني سيدي أخبرته أنه لم يكن عندها رغيف خبز واحد أيضا. نعم، كان يزورها الكثيرون إبان حياتها، ولكن أي فائدة ترجى من امرأة ميتة؟!
فقال مورتيمر بليك وقد شحب وجهه: ولكني أخبرك أني تناولت معها البارحة طعام العشاء، وكانت ترتدي رداء أحمر، ورداء خارجيا أسود محلى بالفرو، فحدجت حارسة الباب بليك بغلظة وقد وثقت أنه معتوه أو ثمل.
لم تكن هناك وسيلة ...
وبينما كان يسير في الشارع الطويل الشائب، لامست خده ريح باردة كأنها يد امرأة ميتة.
عن «لويز هيلجرز»
العلم
لقد كان علم فرنسا هو الذي يخفق فوق حقول الحنطة، أحمر وأزرق وأبيض. وكانت الأزهار والنباتات ترقص في هواء الصباح البارد.
وظهر وسط الحقول منزل قاتم اللون، وكأنه رابض هناك. بدأت الشمس في الظهور، وأرسلت أشعتها إلى ذلك البيت، وخرجت فتاة ظهر من لباسها أنها من القرويات، وهي صبوحة الوجه، يظهر على وجهها الساذج آثار الجمال.
وحولها كانت أصوات الدجاج تعلو، وصوت صياح الديك يصل إلى مكان بعيد. إلا أن عيني الفتاة كانا يحدقان في سحابة زرقاء تسير في السماء، ثم تثبت أخيرا بين الحقول.
هزت كتفيها في اشمئزاز: «الحرب ... مرة أخرى!» وضربت الأرض برجلها وهي غضبى. لم تكن لها فائدة من استمرار تلك الحرب التي كانت تأخذ من القرية أجمل شبانها، وترسل بهم - إن لم يكن إلى الموت - فإلى الفخر والمجد.
وفي الطريقين ضياع لمستقبل فتيات القرية! كانت الحياة في القرية تمر ببطء وتمهل كسير الرجل الكهل الذي بلغ من العمر عتيا.
كانت نظارة الفتاة ثابتة على الدخان وهو يتصاعد من إحدى الجهات حتى إنها لم تسمع صوتا بين سنابل الغلال؛ ومن ثم قفز رجل وأسرع يحتمي بالباب، وصاح بحذر صيحة صغيرة، ثم انتصب واقفا أمامها.
هو رجل عليه ملابس جنود فرنسا، وهو ممزق الثياب متربها، جميل رغم هذا التراب الذي كان يعلو كل جزء من جسمه، له عينان سوداوان لامعتان: «يا إله السماء! لكم أرعبتني ...»
كان في صوت الفتاة رنة حياء، رغم أنها كانت تحدق في وجهه، وتكاد تلتهمه بنظراتها.
ثم أسندت ذراعيها إلى الباب، وقالت له وكأنها قد عادت إلى الحياة: «أظن أنك آت من المعركة؟ لقد كانت رحى الحرب دائرة هناك، أليس كذلك؟»
وأشارت بهزة من رأسها إلى الجهة التي كان الدخان لا يزل يتصاعد منها.
وقال الرجل مزمجرا: «هؤلاء الألمان الخنازير! ... هم لا يهمهم إلا القتل والقتل والقتل، إنهم لا يريدون الفتك بفرنسا، بل يريدون أرواح الناس فقط ... وقد هجموا علينا مفاجأة هناك ...»
ثم استراح قليلا وهو يستند إلى باب المنزل، وضحك ضحكة أشبه بشهقة: «أظن أنني الفرد الوحيد الذي بقي على قيد الحياة وأنا ...»
ثم سكت فعاد المكان إلى سكونه.
وتقدمت إليه الفتاة وهي مرتعبة، ومدت له يدها قائلة: «هل أنت مصاب بجرح أو شيء؟ دعني أحضر لك شيئا؛ ماء أو أي مساعدة أخرى؟ ماء أو ...»
فهز رأسه، وظهرت ابتسامة هزء وسخرية على فمه أبانتها أسنانه البيضاء، ثم ضرب الأرض بيده وقال: «لقد مضى زمني يا فتاتي، إن لدي خرقا هنا كفيلا بأن يزهق حياة قطة ذات تسع أرواح، ولكن قبل ... رحيلي ...»
وأدخل يده إلى صدره وقال: «انظري هنا أيتها الفتاة.»
ونظرت الفتاة باستغراب إلى ما قدمه إليها وقالت: «ما هذا؟»
وقد ظهر لها كأنه قطعة قماش ملونة لفت بنظام، وقال بصوت أجش: «لقد أنقذته بأي الأسعار!»
ثم فرد قطعة القماش وقال: «علم فرنسا! لم يحصلوا على هذا - على الأقل - هؤلاء الألمان الملاعين، انظري هنا أيتها الفتاة ...»
ثم أطبق يده على معصمها الذي لوحته حرارة الشمس وصاح بها: «يجب عليك أن تحافظي على هذا ...» فقالت: «دعك من العلم.»
ثم أمسكت اليد التي طوقت معصمها بشجاعة: «إنه على أي حال قطعة قماش، وأنت شاب جميل، وأنا أريد أن أساعدك، لا تذهب.»
وكان في عينيها بريق غريب بينما كانت تحدق فيه: «في إمكاني أن أخبئك.»
وقد شعرت أن يده قد انفضت عن يدها وقد صاح بها: «خبئي فرنسا بدلا مني، إيه أيتها الفتاة! إن العلم هو فرنسا، يجب ألا يصل إلى أيدي الأعداء الألمان، هل تسمعين؟»
وكان يتكلم غاضبا، ثم بدأ يلف قطعة القماش بسرعة، ونظر إليها بيأس يبحث عن مخبأ ... ثم تكلم ببطء: «إن ملابسك واسعة، خبئيه هنا، فرنسا في صدر امرأة! إنه لحصن آمن من برلين!»
ثم قال بصوت عال: «أسرعي أيتها الفتاة!»
ثم بدأ يلاحظ الفتاة باهتمام وهي تفتح صدرها بأصابعها الكبيرة، وبعد أن أقفلته ثانية.
وبينما هو ينظر إذ خارت قواه وارتمى ناحية الباب، وكاد يقع لولا أن أسندته الفتاة بذراعها، وهدأ لحظة قصيرة وهو بين ذراعيها، ثم تململ بحركة صغيرة مؤلمة، وحاول أن يقف، وسمعته الفتاة يقول لنفسه: «خير لي أن أذهب، فيظهر أنه أقرب مما أظن!»
ثم تحول إلى الفتاة وحدق فيها بعينيه السوداوين: «أصغي إلي أيتها الفتاة، إذا مر الألمان من هذه الناحية فاذكري أنك لم تريني والوقت لا يزال مبكرا، فسيصدقونك.»
ثم نظر حوله إلى هذا العالم الذي لا يحوي إلا تغريد الطيور، وصوت اهتزاز سنابل القمح وهي تتماوج في الهواء، قالت الفتاة وقد احمر وجهها خجلا: «قبلني - على الأقل - قبل رحيلك.»
نظر إليها ببرود وقد وقفت أمامه ملتهبة العاطفة، عليها كل جمال الشباب، ثم هز كتفيه وصاح: «واها! إنكن - معاشر النساء - كلكن على شاكلة واحدة، إنك تحملين فرنسا في صدرك، ثم ...»
وضحك ضحكة مغتصبة: «وأنا رجل ميت، ومع ذلك تتحدثين عن الحب؟! الحب! ... إيه! إنها الحياة هي التي أحتاجها أيتها الفتاة!»
وقد قذفها بهذه الكلمات، وإن هي إلا أحجار ثم سار في طريقه.
وانثنت هي فوق الحاجز الخشبي بسكون، وبدأت ترقبه وسنابل الغلال تنفرج عن بعضها لتسمح لجسمه بالمرور، إلى أن سكن الصوت. ولم تبق إلا الأزهار وهي ترقص والهواء يداعبها.
ضربت الفتاة صدرها بيدها وصاحت: «فرنسا! أنا أكره فرنسا!»
وقد جالت الدموع الكبيرة في عينيها.
عن «لويز هيلجرز»
حديقة
إني في غاية السرور لإعجابك بحديقتي؛ فإن كثيرين يرون أنها خالية لا تحوي شيئا، وكل أزهارها بيضاء اللون كما ترين، وهم يقولون لي إن الحديقة تحتاج إلى الألوان الزاهية كي تجعل لها منظرا، ولكنهم لا يعلمون لماذا أفضل الأزهار البيضاء.
ولكنك أظهرت كرما؛ فزرت امرأة عليلة تسكن في غرفة مظلمة عدة مرات، مع أن الشمس مشرقة في خارجها؛ ولذلك سأخبرك بما لم أخبره لأحد قط، وهو: لماذا كل حديقتي بيضاء اللون؟
إنها منظمة على نسق حديقة رأيتها منذ مدة في حلم، ولم يكن هذا بعد مدة طويلة من تاريخ خطبتي إلى كرستوفر، نعم كنت مخطوبة في يوم من الأيام. لقد كان شعري جميلا إذ ذاك، مثل شعرك، وخداي موردين مثل خديك!
حقا كنت يا عزيزتي - ويمكنني أن أقول ذلك بغير غرور ولا خيلاء كاذب - فتاة أجمل منك. لقد كان كرستوفر يقول دائما إني أجمل فتاة رآها! وقد كان يعرف كثيرات.
لا يمكنني أن أظن أنه كان لفتاة حبيب أحسن من ذاك، في مثل هذا اللطف وهذا الذكاء وهذا الحرص. إني عندما أقارنه إلى هؤلاء الشبان الذين أسمع عنهم الآن، وهم في عجلتهم الدائمة حتى عند مطارحة الغرام، لا أملك إلا أن أشفق على الفتيات اللاتي سيعشن معهم.
لم يكن هناك غير أمر واحد، كنا دائما على خلاف بشأنه، من يوم أن تعرفت به، وذلك كان شجاعته الجنونية أو جسارته الحمقاء، كما أسميها، فبعد أن اشترى سيارة لم أعرف دقيقة راحة واحدة، وقد صمم على أن يقودها بنفسه، ولم يكن يقنعه إلا سرعة فائقة عن الحد المقرر، وكان يصطحبني معه في بعض الأحيان، وإذ ذاك كانت روحي تكاد تزهق، وكنت أتوسل إليه والدموع في عيني ألا يخاطر بحياته، فكان يقول: «المخاطرة، إن الحياة لا تساوي شيئا بدون مخاطرة، إني أفضل حياة قصيرة بشرط أن تكون سعيدة.»
ثم يستمر في سيره وهو يصفر، وإني لأذكر أنه نطق بنفس هذه الكلمات مرة أخرى ليلة أن حلمت حلمي الخاص بالحديقة.
لقد نمت مبكرة وأنا أفكر في كرستوفر، وقبلة المساء التي طبعها على فمي وهو يودعني، وأنا لا أذكر ما حدث عقب نومي، ولكن فجأة رأيت حديقة؛ لقد كانت أجمل مكان رأيته في حياتي، وخيل إلي أني واقفة فوق تل، وتحتي الحديقة كأنها زهرة في ضوء القمر، وكانت كلها بيضاء. وكان شكلها وأنا في موقفي كشكل حقل من زهر الزنبق، ولما كساها القمر بضوئه ظهرت كأنها قد اكتست بحلة فضية، ثم بدأت أنزل من فوق التل لا لسبب إلا لأني شعرت أنه يجب أن أدخل هذه الحديقة، ولكن يظهر أن الطريق كان طويلا، وكان الممر في أسفل التل ضيقا وكثير التعاريج، وكان يظهر دائما أن هناك شخصا يسير أمامي في الطريق، ولم يمكني أن أراه؛ لأن المنحنيات التي كانت في الطريق كانت تخفيه، ولكني كنت أسمع وقع أقدامه، وقد وصل إلى الحديقة قبلي؛ فإني لم أكد أصل إلى آخر الطريق حيث ظهر ممتدا أمام ناظري وهو ناصع البياض في ضوء القمر، حتى سمعت الباب يغلق وراء شخص، وتلاشى صوت قدم بين الزهور، حتى إذا وصلت أنا إلى المدخل لم يظهر أثر لأي كان، وعرتني رعشة فجائية، وشعرت بالخوف من هذه الحديقة المنبسطة البيضاء في ضوء القمر.
وقد كانت حديقة الموت، وكانت زهرات الزنبق التي فيها هي القبور ...
وكان الباب محكم الغلق؛ فلم أتمكن من الدخول، واستيقظت في الصباح التالي على صوت طرق على باب غرفتي وصوت يقول: «أسرعي! ... مستر كرس ... مستر كرست ...»
وتلاشى الصوت بسكون ...
ولكني علمت إذ ذاك من هو الذي سبقني في الدخول إلى الحديقة؟!
ولهذا كل حديقتي بيضاء.
عن «لويز هيلجرز»
روبيسبيير يرتد خائبا
قصة من الثورة الفرنسية
هز روبيسبيير كتفيه وقال: كما تريدين، طبعا، ولكني أذكرك - أيتها المواطنة - أن الحياة غالية، وأن القبر بارد، ولو كنت في مركزك ...
ولكن دنيزدي فرانكورت ابتسمت بدورها وهي تقاطعه: إن الموت لأفضل من الحياة معك.
وعرتها رعشة شديدة وهزت كتفيها، أما روبيسبيير فقد نفض بعض الغبار عن ردائه وقال ملاطفا: «إنك لتخطئين أيتها المواطنة، إنني لا أقدم لك الموت، فستعيشين على كلا الحالين، إنه حبيبك فقط الذي إن أخطأت الحكم والاختيار سيموت. إنك تقولين إنك تحبينه - أيتها المواطنة - فلا ريب إذن أنك تكرهين رؤيته وهو يصعد الدرجات درجات المقصلة، وهو يقع في طريقه جملة مرات؛ فإن الدرجات تكون زلقة في كثير من الأحيان لكثرة الدماء التي أريقت عليها، فإن دماءهم - أولئك الأرستقراطيين - لتشبه دماء الخنازير في غزارتها، إن قبلاتها - هذه المقصلة - لهي قبلات حمراء نارية، أيتها المواطنة، وإني أراهن أنه ليفضل عليها شفتيك أنت ...»
ثم اقترب منها خطوة، وأردف: «وعلى كل حال، فهذا ما سيحدث غدا ... إلا إذا ...»
ولكن دنيز ألقت بيده التي مدها إليها بعيدا عنها، وقالت وهي تنظر إليه نظرة كلها احتقار: «أوتظن أنني أبيع شرف حبيبي كي أشتري حياته؟ أوتظن أنه يقبل الحياة بهذا الثمن الذي تطلب؟ حقا إنه ليفضل أن يموت ألف ميتة على أن يعرف أنني بين ذراعيك، وأنا ...»
وهنا احمر وجهها خجلا وهي تقول: «إنني لأموت خجلا إذا كنت لأخبره بما تطلب!»
وقد حدق روبيسبيير فيها وقال: آه! إن الكبرياء كانت دائما عيبك الوحيد، أيتها المواطنة، ثم أخذ يفكر وهو يفتح علبة عطوسه ويغلقها: «إنك تذكرين يوما من أيام الصيف منذ بضع سنين، حينما رفضت إحدى الأرستقراطيات الجميلات، وكانت تلبس الحرير بخديها الموردين كلون الشرائط التي كانت تحلي شعرها - ولاحظي أيتها المواطنة أن لي ذاكرة حسنة - مساعدة غريب رث الثياب مد لها يده لتستند إليها وهي تنزل من عربتها كي تلجأ إلى فندق صغير في الطريق. لقد كانت يدك فقط هي التي أردت لمسها حينذاك، ولكن الآن ...»
ثم قال وقد لمعت عيناه تحت حاجبيه: «... الآن أطلب أكثر من يدك!»
وحاول مرة أخرى أن يقترب منها، ولكن دنيز ردته ثانية، ثم قالت وقد أصابها عناء شديد، وتدلت رأسها على عنقها الأبيض: «إني أفضل الموت سريعا مع جاستون؛ فالفترة التي يموت الإنسان فيها قصيرة، أما الحياة فطويلة جدا، ألا دعني أموت معه ...»
وهنا علت وجه روبيسبيير ابتسامة شر، وقال وكأنه يزمجر: أهذه كلمتك الأخيرة، أيتها المواطنة ...؟
فقالت دنيز بثبات وقد حدقت بكل شجاعة في عينيه بعينيها الزرقاوين: نعم!
فصفق روبيسبيير بحدة وقال بخشونة: أيها الحرس، خذوا سجينكم ...
وقد خرج حبيب دنيز من الغرفة مسرعا، ولما وصل إلى الباب انحنى لها تحية كما كان معتادا أن يفعل في الماضي، ثم صاح: الوداع يا دنيز!
وقد التقت نظراته بنظراتها لحظة.
ثم مدت يديها كأنها تريد أن تمسك بجسمه أيضا؟ ثم قالت: إن هي إلا فترة قصيرة ثم نلتقي أي جاستون.
وكانت لا تزال تبتسم حينما أغلق الباب والتفت إليها روبيسبيير قائلا: «له القبر، أيتها المواطنة، سرير زواج مؤلم مقبض ولا شك.»
ثم قال وقد احتد صوته: «أما أنت فإلى الكونسيير جيري
1
تسمعين كل يوم النداءات إلى عربات النقل
2
المنتظرة للجميع، كل بدوره إلا أنت ...»
فقالت دنيز محتدة: لا؛ فلي أنا هذا ...
ثم وضعت يدها في صدرها، ولمع في يدها شيء وهي تخرجه إلى الضوء ...
قفز روبيسبيير وهو يقسم، ويلعن ...
ولكنه كان متأخرا.
فقد سبقت دنيز لكي تنتظر حبيبها!
عن «لويز هيلجرز»
حلم يوم من أيام الصيف
عن الكاتب الأمريكي الكبير «كيت ريتشاردز»
من مذكراته 7 يوليو
وها أنا ذا في مصيف صديق المدرسة «جاك رينولدز»، والحق أنه قصر حديث البناء محاط ببضع مئات الفدادين، تعلوها جبال المين. وقد ودعتني والدتي وفي نفسها بعض الشك وقالت: «بوب، إني أسمع أن لجاك رينولدز أختا ساحرة الجمال. وستكونون بلا ريب كثيري العدد، وأمامكم أنواع كثيرة من الملاهي، ولكن يجب أن تذكر أن أمامك عملا شاقا يجب أن تؤديه، وأن ليس لك من الزمن ما يسمح لك باللهو.»
والدتي تعلم أني سريع التأثر، ولكن لا يجب أن تقلق؛ فإن لدي فكرة رواية سأكتبها، وسيكون هذا أنسب مكان لكتابتها. وقد جعلني والد جاك ووالدته أشعر في الحال كأني في منزلي، وأخبراني أن لدي حرية العمل والدرس، وكذلك حرية اللعب وقت الفراغ.
من مذكراته 8 يوليو
أخت جاك، واسمها «هيلين»، ساحرة الجمال، لها عينان رماديتان وشعر ذهبي مموج، ولها طريقة خاصة أيضا حين يحمر وجهها خجلا، تغر الشاب يغير أن يعرف السبب، وإنه عزاء أن يجد الإنسان في هذه الأيام فتاة يمكن أن يحمر وجهها خجلا؛ فكلهن يستعملن «الأحمر» بدرجة هائلة بحيث لا يظهر عليهن أثر للخجل حتى ولو خجلن حقا! هيلين لا تستعمله، ويظهر أنها مهتمة بعملي.
من مذكراتها 8 يوليو
حضر صديق جاك واسمه «بوب هرتلي» ليلة أمس، وهو ممتلئ الجسم حسن الهيئة جميل العينين أسودهما، وهو يعرف أيضا كيف يستعملهما، وقد كتب رواية لا شك أنها ستنجح، جاك يقول إن المستر هرتلي فنان واسع الآمال، جم الأدب. وقد حذرني أن بوب من الشبان الذين يصل حبهم سريعا إلى القلوب، ولكنه متفرغ لعمله، لا يجب أن يقلق جاك؛ فإن هذا الصنف من الرجال يكون دائما محبا لنفسه كثير الغرور، وإذا قدر لي أن أحب أحدا فسيكون من أحبه من غير هؤلاء الذين وقعوا في غرام أنفسهم! وقد غنى ليلة البارحة: «هيا اشربي معي!» له صوت جميل أعجبني، ولكن كان يجب ألا يهتم بعينيه هذا الاهتمام.
من مذكراته 10 يوليو
هنا رهط من الرجال والنساء، لم أكتب كلمة من روايتي؛ إذ يجب على الإنسان أن يستريح بعض الراحة: هنا فتيات جميلات كثيرات، ولكن ليس فيهن من هي أجمل من هيلين أو أكثر رزانة منها.
يمر اليوم في ركوب الخيل ولعب «الجولف» و«التنس»، وبالليل نرقص في «الفراندا» الكبيرة على ضوء القمر. إن هيلين فتاة رياضية عجيبة، لا يصيبها التعب أبدا، ومع ذلك فهي قلما تتزين أو تتبرج، وشعرها طبيعي التجعد، وجسمها مرن كأجسام الأطفال، ولها لون بهيج.
من مذكراته 11 يوليو
رقصت مع هيلين ليلة أمس أربع مرات، وفي الصباح طلبت منها أن تخرج معي على جوادها فأجابتني: «سنركب جميعنا معا ونذهب للنزهة، وأنت تعلم أنه لا يمكنني أن أهمل ضيوفي.»
إن هذا من المضايقات! قد أنهيت ملخصا لروايتي فقط، وإني أعجب إذا كانت توافق على أن تكون إحدى شخصياتها.
من مذكراتها 12 يوليو
ركب كل منا - أنا والمستر هرتلي - جواده اليوم؛ فكانت النتيجة أن وقعنا في ورطة، فبينما كنا جميعا على ظهور الخيل بعد ظهر اليوم تأخرت أنا صدفة قليلا عن الآخرين، فرجع هو إلي وأخبرني أنه اكتشف في الصباح منظرا طبيعيا بديعا جدا، وأنه يود أن يفرجني عليه الآن.
فناديت رفاقي: «تعالوا! إن المستر هرتلي يريد أن يفرجنا على منظر بديع.» فأظهروا كلهم اشمئزازا من الطريق الذي كنا سنسلكه، ولكنهم سمحوا لنا عن طيب خاطر أن نذهب منفردين؛ فلوينا عناني جوادينا ونحن نودعهم ضاحكين، وكان طريقنا جبليا وضيقا، وصاح بنا جاك: «تذكرا أن هذه الطرق غادرة، ولم يبق غير ساعات قليلة على غروب الشمس.»
ولما انفردنا مر الوقت سريعا، ولكني لاحظت المستر هرتلي بعد برهة وهو ينظر بقلق في ساعته، وظهر لي أن كل ما يحيط بنا كان مناظر لم آلف رؤيتها بالمرة. لقد فقدنا الطريق وضللنا، واقترب الغروب، وحينذاك فقط عثر جوادي ووقع، وقد ارتعبت حين رأيت أنه قد عرج عرجا شديدا، وأنه كان من الصعب أن أجبره على التقدم، خصوصا وأن الطريق كان يزداد وعورة، وسرنا في الممر وقد أمسك كل منا بعنان جواده، إلى أن وصلنا إلى كوخ صياد، وكان فيه فراشان من القش وبعض أغطية وبعض علب معدنية فيها كبريت، وصحت به: «ألسنا سعداء الحظ؟»
فنظر إلي وهو ساه كأنه قد فقد ذاكرته، فشعرت بالعطف عليه وقلت له: «أظن أن مسدسك معك، فهل لك أن تسرع لتصطاد شيئا، فإني جائعة؟!»
ولكي تكون مغامرتنا تامة من جميع الوجوه جمعنا أخشابا وأوقدنا نارا كبيرة. ثم اختفى المستر هرتلي برهة وعاد إلي ومعه سنجاب معد للطهي وقبعته ملأى بالطيور الصغيرة، وقد أتقنا من طهي الصيد قدر استطاعتنا، وكان الظلام قد أرخى سدوله فأوقد بعض الشموع داخل الكوخ، وأخرج لنفسه فراشا من الفراشين، وترك لي كل الأغطية، ولم يختص نفسه بغير واحد منها. وقد صمم على إيقاد نار بالقرب من الكوخ.
إن الغابة في غاية الهدوء، أسمع صوت حركة الخيل وهي تصهل وكأنها لا تشعر براحة، وصوت النار، وكذا كل ما هناك.
إنني مسرورة لأن لي عادة حمل دفتر المذكرات الصغير في جيبي وكذلك القلم، وإني مسرورة كذلك لوجود هذه الشموع.
من مذكراته 13 يوليو
لقد أوقعت هذه الفتاة الصغيرة في مأزق حرج؛ كنت أريد أن أتنزه معها منفردا ونحن على ظهور الخيل، ولذا اصطحبتها إلى أعماق الغابة بحجة أن أفرجها على منظر جميل، وها نحن قد ضللنا الطريق ولا أمل لنا في النجاة، وقد وفقنا إلى كوخ صياد، ولا ريب أن الله هو الذي أرسل إلينا هذا الكوخ؛ إذ يمكننا أن نقضي فيه ليلة مريحة، وسأظل مستيقظا أكثر الليل وسأوقد نارا، لا ريب أني سعيد الحظ لوجود علبة سجائري معي وأنا مسرور لاعتيادي كتابة المذكرات.
من مذكراتها 14 يوليو
إذا لم تكن قد انتابتني فكرة والدتي ووالدي، وقلقهم لغيابي؛ لكنت قد نمت ليلتي على أحسن حال، وقد أوقدنا نارا كبيرة على أمل أن يراها أحد أو يشم رائحة دخانها على الأقل. إن جوادي المسكين لا يمكنه أن يسير خطوة واحدة. مستر هرتلي يريد أن يذهب منفردا لاكتشاف الطريق، ولكنني صممت على أن «نثبت معا» إلى أن يكشف مقرنا. إنه أعز شاب لدي؛ فهو كثير العطف وكثير الاهتمام بي. وجدنا اليوم ينبوع ماء وحصلنا على صيد كثير. كنت أتمنى أن توجد معي مرآة وبعض المساحيق ...
من مذكراته 14 يوليو
لم يحضر أحد لتخليصها بعد، لا ريب أن أهلها سيجنون قلقا، هي أكثر الفتيات صبرا، بل وأحبهن لدي، سأضعها في روايتي كما هي ...
من مذكراتها 15 يوليو
جمعنا البارحة خشبا كثيرا، وجلسنا لنستريح وقد قص علي بوب الكثير عن والدته وحياته من عهد الطفولة، وهو كثير الرغبة في النجاح، وأنا على ثقة من أنه سينجح.
وقد راقبنا القمر وهو يصعد فوق الأشجار، وعندما تذكرت المنزل ومن فيه من الأشخاص الأعزاء بدأت في البكاء؛ فأمسك بوب بيدي، وظلت معه مدة طويلة، ومع أنه لم يتكلم أي كلمة غرام، غير أني أظن أن كلامنا قد فهم!
من مذكراته 15 يوليو
جلسنا البارحة قرب النار، ويظهر أن هيلين كانت حزينة فبكت، وقد أمسكت بيدها وحاولت أن أخفف عنها ألمها، كنت أود أن تكون في منزلها تنعم بالراحة حتى يمكنني أن أخبرها كل ما يكنه قلبي من نحوها، ولكني على ثقة من أن كلامنا قد فهم.
من مذكراتها 16 يوليو
تجولنا اليوم قليلا في هذه الغابة السحرية، وقد جمعنا بعض الأخشاب، وأمسكنا بعض الطيور، وتمتعنا بالراحة في كل ساعة من ساعات النهار. إذا لم يكن من أجل أهل المنزل لأمكنني أن أمكث هنا دائما. كيف أمكنني أن أظن في وقت ما أن بوب شخص محب لنفسه كثير الغرور؟ إنه أكثر الناس تفكيرا.
من مذكراته 16 يوليو
هذه هي حديقة «أردن». كان الخيام محقا فيما يقول:
مقامي غصن مظل بقفر
ورغيفان مع زجاجة خمر
كل زادي والأهل ديوان شعر
وحبيب يهواه قلبي المعنى
بشجى يذيبني يتغنى
هكذا أسكن القفار نعيما
وأرى هذه القصور خرابا
وأنا أوافقه كل الموافقة، ولكن لأجلها هي أرجو أن يجدوا مقرنا اليوم.
من مذكراتها 17 يوليو
هل هناك أمل في حضورهم؟ بالطبع عندما يكون الشخص عاشقا لا يهمه أي شيء آخر: الملابس، الأصدقاء، المأكل؛ كل هذه الأشياء لا تهم، كنت أود أن يكون معي ما يمكنني من وضع المساحيق. إنه من حسن حظي أن أجد هذا الدفتر الصغير في جيبي أدون فيه مذكراتي بدلا من علبة «بودرة» أو أصبع «أحمر». لقد اختل نظام شعري من الهواء، وفقدت كل دبابيس الشعر في بحثي عن الخشب، لو كان بوب معه آلة حلاقته فقط! فإنه مخيف المنظر بهذه الذقن الطويلة الكثة الشعر! ولكن لا بأس بمنظره في ضوء القمر! لقد كرهت أكل الطيور.
من مذكراته 17 يوليو
إن عمر كان رياضيا قديما ولا شك! ولكن بعد قضاء أيام قليلة في هذه «القفار» تراني أعجب إذا لم يكن يفضل ال «رغيفان مع زجاجة خمر» على «حبيب يهواه قلبي المعنى ... بشجى يذيبني يتغنى» أظن أنني لا أفضل شيئا عن رغيف واحد مع زجاجة فيها أي شيء ! هذا إذا أغفلت الحديث عن لفافات التبغ التي لا شك أن عمر قد نسي أن يذكرها، فإنني لا أتغذى ألبتة في هذه القفار. أما عن الغناء، إيه! آمل أن لا تجرب أن تغني كي تدخل السرور إلى قلبي مرة أخرى، فهي كل مرة تحاول ذلك تشذ عن النغم.
لم يتبق لنا غير عودين أو ثلاثة من الثقاب، وقد أساءت استعمال النار اليوم، ولما طلبت منها أن تكون أشد حرصا من ذلك، قالت: إني غير لطيف المعشر، فأخبرتها أن اللطف لا يطهي الطيور. فبكت ودعتني بفظ غليظ القلب، ثم تبع ذلك أن قالت لي: إني مدين لها باعتذار.
هي فتاة عزيزة، وكنت أود أن ترتب شعرها بطريق ما؛ ففي المنزل كان يظهر أن شعرها أغزر من هذا بكثير، وكنت أظن أنه طبيعي التجعد، وكنت أظن أنها لا تتبرج أو تتزين ألبتة، ولكن الآن أود لو تجد وسيلة كي تصنع كل ذلك!
من مذكراتها 17 يوليو
لماذا لا يحضر والدي؟ إني لا أجد سببا، ولن يعلم بوب إلى الأبد أي مجهود أصنع كي أحافظ على ثباتي؟ لقد سئمت من كل شيء، والبارحة أضعت النار كلها هباء، فقال: «يا لله! ألا تعلمين أنه لم يتبق لنا غير ثلاث عيدان من الثقاب؟»
وكان فظا كأحد سكان الكهوف في العصر المتوسط؛ إن له بعض فضائل، ولكنه يسرف في الحديث عن نفسه، وإني لأعجب إذا كان قد حدث أي حادث في حياته لم يقم بوب هرتلي فيه بدور البطل! وقد عملت كل ما في إمكاني كي أدخل السرور إلى قلبه، فالبارحة بعد أن قمت بطهي هذه الطيور الأبدية اجتهدت أن أحفظها في حرارتها إلى أن يحضر؛ إذ كان قد ذهب لإحضار ماء، ولكنه عندما حضر نظر إليها وقال: «أنا لا أحبها!»
وسأموت جوعا قبل أن أطهي طيرا آخر من هذه الطيور، إن له هيئة رجال الفطرة الأولى بهذه الذقن الكثيفة الشعر، كيف يمكن للنساء المتزوجات أن يحتملن أزواجهن إذا كان عليهن أن ينظرن إليهم وهم بذقونهم الطويلة هذه؟! أو وهم غير مرتبي الملابس كذلك، لا يمكنني أن أفكر في شيء تشمئز منه نفسي أكثر من هذا الأمر.
من مذكراته 18 يوليو
لا تظهر المرأة على حالتها الطبيعية إلا إذا حصل شجار بينها وبين الرجل تحاول على أثره إصلاح ذات البين. إني آسف لأني أحببتها سابقا؛ فقد كانت تظهر صغيرة لا معين لها. وهذا هو ما حداني إلى ذلك، ولم تكن نظراتها بالمرة، كيف أمكنني أن أظن في وقت ما، إن لونها كان طبيعيا؟! وأنا آمل أن لا أرى مرة أخرى فتاة في لباس ركوب الخيل، كنت أظن أني أحب اسم «هيلين»، ولكني أفضل الآن اسم «جان» البسيط. وعلى كل حال فأنا لا يمكنني ألبتة أن آكل هذه الطيور التي لم يتم نضجها على النار. «يمكننا أن نعيش بغير الحب ...» «ولكن أين الرجل الذي يمكنه أن يعيش بغير طعام ...؟»
وسمعا بعد الظهر نباح كلاب وصوت طلقات نارية، وقد رد بوب على هذه الطلقات بآخر ما بقي لديه من البارود، وظهر جاك رينولدز ووالده والقلق باد على وجهيهما يتبعهما نحو ست رفقاء، وقد أسرعوا جميعا إليهما وسط مظاهر الفرح: «خمسة أيام في هذه القفار؟! علام عشتما؟!»
فقالت الفتاة الملوثة الملابس: «على لحوم الطير التي ليس عليها ذرة صغيرة من الملح.»
واستعد الجميع للرحيل، وتقدم مصور وهو يخرج آلة التصوير من جيبه: «هل ترغبان أن آخذ لكما منظرا في هذا المكان؟»
فقال الشاب الكث اللحية: «لا! لا! إنني لا أرغب في شيء ما سوى ملابس نظيفة وطعام مناسب!»
وقالت الفتاة وقد حولت نظرها: «وأنا لا أريد أيضا، أنا لا أريد إلا أن أنسى كل ما كان.»
بولزلوف
عن مكسيم جوركي
قص علي صديق ما يأتي: بينما كنت أدرس في موسكو كنت أعيش في منزل صغير، وكانت جارتي فتاة غريبة، بولندية تدعى تريزا، وكانت طويلة القامة قوية الجسم شقراء اللون، رموش عينيها كثة الشعر، ولها ملامح خشنة كأن الفأس قد عمل فيها، وكانت زائغة البصر عميقة الصوت، لها أطوار المصارع الذي يسعى لنيل جائزة، وكانت ثقيلة وزن الجسم مفتولة العضلات، وكان منظرها العام بشعا جدا، ولما كانت غرفنا مقابلة لبعضها في الطبقة العليا من المنزل كنت أمتنع بتاتا عن فتح بابي طالما أعرف أنها موجودة في منزلها، وكنت أقابلها أحيانا على السلم أو في الردهة؛ فكانت تبتسم لي ابتسامة استخفاف وهزء، وكثيرا ما رأيتها عائدة إلى المنزل وهي حمراء العينين غير مرتبة الشعر، وإذ ذاك كانت تقابل تحديقي في وجهها بنظرة وقحة، ثم تقول بصوتها العميق: ها أنت! أيها الطالب ...
وكنت أشمئز من ضحكتها الغبية، وكنت أفضل أن أنتقل من غرفتي إلى مكان آخر؛ كي لا أقابلها، ولكن المكان كان جميلا، وكان يشرف إشرافا تاما على المدينة، وكان الشارع هادئا جدا؛ ولذلك فضلت البقاء.
وفي صباح يوم من الأيام بعد أن لبست ملابسي، وتمددت على فراشي، فتح الباب فجأة، وظهرت تريزا على عتبته، وقالت بصوتها العتيق: ها أنت! أيها الطالب ...
فسألتها: ماذا تريدين؟
ونظرت إليها، وكان على وجهها أثر ارتباك وخجل، وهي أشياء لم ألحظها عليها من قبل. فقالت: أيها الطالب! إنني أريد أن أسألك معروفا، وأرجوك ألا تخيب رجائي.
وفكرت وأنا على فراشي: إن هذه إلا حجة!
ولكني لم أقل شيئا، واستمرت: إنني أريد أن أرسل خطابا إلى البلدة.
وفكرت: يا للشيطان! إلى أين ينتهي الحال؟
ثم قفزت من السرير، وسحبت مقعدا إلى ناحية المكتب، واستحضرت ورقا وحبرا، وقلت: هيا اجلسي وأمليني.
فدخلت وجلست بحذر بعد أن ألقت نظرة حادة إلى عيني، سألتها: والآن لمن أكتب؟ - «إلى بولزلوف كاشبوت الذي يعيش في سوينزيانا في طريق سكة حديد وارسو.» - «ماذا تريدين أن تكتبي له؟ تكلمي.» - «أي عزيزي بولز: حبيبي، حبي، روحي، فلتحفظك العذراء المباركة! أي عزيزي! لماذا لم تكتب من مدة طويلة كهذه إلى حمامتك الصغيرة تريزا، التي تشعر بحزن عظيم من جراء ذلك؟»
ولم أتمالك نفسي عن الضحك إلا بصعوبة؛ إذ فكرت في هذه «الحمامة الصغيرة الحزينة» التي تبلغ من الطول ستة أقدام، وهي قوية الجسم، لها عضلات الرجل الرياضي المدرب ، ووجه أسود مجهم، كأن «الحمامة» ليس لها من عمل سوى تنظيف المداخن.
ولكني حافظت على ثبات وجهي، وسألتها: من هو بولزلوف؟
فأجابت وقد علت وجهها آثار الدهشة، كأنها لا تتصور أن هناك أحدا لا يعرف بولزلوف. - بولز، يا سيدي ... بولز هو خطيبي. - خطيبك؟!
فقالت: لماذا تعجب أيها الطالب؟! ألا يجوز أن يكون لفتاة صغيرة مثلي حبيب؟
فتاة صغيرة، أي فكاهة تلك؟!
فقلت: من الجائز، كل شيء جائز الوقوع، كم مضى من الوقت منذ خطبتك؟ - عشر سنوات.
حسنا، كتبت لها الخطاب، وكان ممتلئا بالحب والعاطفة، حتى إني كنت أحب أن أكون مكان بولزلوف، إذا كان الخطاب يصلني من أحد غير تريزا.
وقالت تريزا وقد ظهر أنها قد تأثرت تأثرا كبيرا: شكرا لك من كل قلبي، أيها الطالب، هل يمكن أن أؤدي لك أي خدمة؟ - لا شكرا. - يمكنني أن أصلح لك قمصانك وملابسك، أيها الطالب.
وقد اغتظت من كلامها، وأكدت لها باختصار أنني لا أحتاج لخدماتها، ولذلك تركتني وخرجت.
ومر أسبوعان، وبينما كنت جالسا إلى الشباك ذات مساء وأنا أصفر وأبحث عما يمكنني عمله كي أسلي نفسي؛ إذ كان الجو رديئا في الخارج، ولم أكن ميالا للخروج؛ فتح الباب فجأة وفكرت: يا للسماء! يظهر أن زائرا قد حضر ... - أيها الطالب، هل أنت مشغول جدا الآن؟
وكانت تريزا! حسنا، لقد كنت أفضل أن يكون شخصا آخر. - لا، ولماذا؟ - أريد أن تكتب لي خطابا آخر. - حسنا! لبولز. - لا، أنا أريد رده.
فتساءلت مندهشا: ماذا تقولين؟! - عذرا أيها الطالب، إني حمقاء ... لم أوضح لك نفسي، إن الخطاب ليس لي، ولكنه لأحد أصدقائي، بل معارفي فقط، وهو لا يعرف الكتابة ... وله خطيبة مثلي أنا.
نظرت إليها فخجلت، وارتجفت يداها وظهر عليها الارتباك، وظننت أني فهمت فقلت: أصغي إلي يا فتاتي، إن كل ما تذكرين لي عن نفسك وعن بولزلوف ... إلى آخره، كل هذا ليس إلا خيالا محضا، إنك تكذبين، إن هو إلا عذر تختلقينه كي تحضري إلى هنا، إنني لا أريد أن أتصل بك بعد الآن ، هل تفهمين؟
ورأيت أنها قد ارتعبت واحمر وجهها خجلا، وجاهدت كي تقول شيئا، وبدأت أشعر أنني قد ظلمتها؛ فهي بعد كل هذا لم تأت بفكرة أن تجعلني أحيد عن طريق الفضيلة، إن هناك شيئا وراء هذا، فما هو؟
وبدأت: أيها الطالب ...
ولكنها تحولت بحركة فجائية، وخرجت من الغرفة.
وبقيت وفي قلبي شعور بعدم الراحة، وسمعتها تغلق بابها بحدة، وأحدثت صوتا عاليا، لقد كانت غضبى، وفكرت لحظة، ثم صممت على دعوتها ثانية، وسأكتب لها الخطاب، لقد شعرت بالشفقة عليها.
ذهبت إلى غرفتها وكانت جالسة إلى مائدتها ورأسها بين يديها، وقلت: يا فتاتي، أنت ...
وإذا وصلت إلى هذه النقطة من قصتي أشعر بتأثر عميق؛ لقد قفزت وسارت إلي توا، وكانت مضيئة العينين، وألقت بذراعيها على كتفي، وأخذت تشهق بالبكاء كأن رزحا على قلبها: أي ... أي ... فرق ... يحصل لك ... إذا ... كتبت ... هذه ... الأسطر ... القليلة؟ آه ... لقد ... كان ... يظهر ... أنك ... شاب ... كثير ... الطيبة! نعم ... ليس هناك ... بولزلوف ... ولا ... تريزا ... هناك أنا ... أنا فقط!
فقلت وأنا في منتهى الحيرة: ماذا تقولين؟ أليس هناك بولز بالمرة؟ - لا! - ولا تريزا. - لا ... ولكن، أنا تريزا!
أصابني دوار، ونظرت إليها مستغربا، لقد كان أحدنا مجنونا بلا ريب، ثم رجعت إلى المائدة، وفتشت في درجها، وأحضرت لي قطعة ورق.
وقالت وهي تعود إلي: هنا، هنا، خذ هذا الخطاب الذي كتبته لي، إنك لا تريد أن تكتب لي خطابا آخر، وسيقوم بأداء هذا أناس لهم قلوب أرق من قلبك.
وأمسكت في يدها الخطاب الذي كنت قد كتبته لها لترسله إلى بولزلوف، وماذا كانت تعني؟
وقلت: أصغي إلي يا تريزا، ما هذا؟ لماذا تريدين أن يكتب لك أشخاص آخرون خطابات مع أنك لم ترسلي هذا؟ - ولمن أرسله؟ - بالطبع إلى بولزلوف، خطيبك! - ولكن هذا الشخص غير موجود بالمرة.
وأخيرا يئست، وكل ما كان يمكنني عمله هو أن أذهب، ولكنها تابعت ثانية: «لا، إنه ليس موجودا، ليس هناك بولزلوف.»
قالت ذلك بحركة تبين أن الإيضاح كان مستحيلا ... واستمرت: ولكني أريد أن أعيش، إني أعلم أنني لست مثل الأخريات - أنا أعلم ما أنا - ولكن لا يضر أي إنسان أن يكتب لي ... - ماذا تعنين؟ يكتب لمن؟ - بالطبع، إلى بولزلوف.
فاعترضت وأنا لا أزال مرتبكا: ولكنك أخبرتني الآن أن هذا الشخص ليس موجودا. - أوه! يا والدة الإله! وماذا يهمني إذا كان غير موجود؟! ليس هناك أحد، ولكني أتخيل أن هناك «بولزلوف»، لقد كتبت إليه كما لو كان شخصا حقيقيا موجودا، وهو يرد علي، وأنا أكتب له ثانية، وهو يرد بالتالي ...
وفهمت أخيرا وشعرت أنني مجرم، وخجلت من نفسي، وأصابني ألم كأنه ألم جسمي. بجانبي، على قيد ذراع مني، توجد مخلوقة مسكينة ليس لها شخص واحد يظهر لها أقل عطف أو محبة، لا والدان، لا أصدقاء، ولا شيء! وقد اخترعت هذه المخلوقة المسكينة لنفسها حبيبا وزوجا.
واستمرت تتحدث بصوتها العميق الذي يجري على وتيرة واحدة: إن هذا الخطاب الذي كتبته لي إلى بولزلوف، طلبت من شخص آخر أن يقرأه لي بصوت عال، وأصغيت ... حتى خيل إلي أن بولزلوف كان حيا! وبعد ذلك طلبت ردا من بولز إلى تريزا ... إلي أنا. إنني أكاد أشعر شعورا صادقا أن بولزلوف حي في جهة ما، لا أعرف أين هي؟ ولذلك يمكنني أن أعيش أنا أيضا، فعلى الأقل لن تكون الحياة قاسية هائلة ومنفردة!
حسنا، من ذاك اليوم بدأت أكتب خطابين بنظام كل أسبوع، من تريزا إلى بولز، ومن بولز إلى تريزا. وإني أقسم لك أنها كانت ممتلئة بالعاطفة، وخصوصا الردود.
وهي، إنها كانت تصغي للقراءة وهي تشهق وتضحك، وكانت سعيدة، وجزاء خدمتي كانت تعنى بملابسي، وتصلح لي قمصاني وجواربي، وتنظف قبعتي.
وبعد ثلاثة أشهر قبض عليها لشبهة حامت حولها، وأودعت السجن، ولم أرها أبدا بعد ذلك.
يجب أن تكون قد ماتت!
عن «مكسيم جوركي»
هدية الموت
عن أناتول فرانس
بعد أن تجول «أندريه» مدة في الشوارع الخاوية، جلس إلى شاطئ السين يراقب الماء وهو يصادم التلال، حيث عاشت حبيبته لوسي أيام السعادة والأمل.
وجلس مدة طويلة في حالة قلق، وعند الساعة الثامنة استحم، ثم دخل إلى مطعم بالقرب من «الباليه رويال»، وبينما كان ينتظر الطعام تصفح الجرائد، قرأ في: «بريد المساواة» كشفا بأسماء الأشخاص الذين سيعدمون في: «ميدان الثورة» يوم 24 فلوريال.
وتناول الطعام بشهية، ثم قام ونظر في المرآة ليرى إذا كان مرتب الملابس ومنبسط الأسارير؛ ومن ثم سار بخطى متثاقلة ناحية النهر إلى منزل في زاوية السين وشارع مزارين. وهناك كان يعيش المواطن «لرديون» النائب العام في محكمة الثورة، وهو رجل كريم عرف بخدمة أصدقائه، عرفه أندريه في أنجرز كراهب من رهبان الكبوشان. أما الآن فهو جمهوري متطرف في باريز.
دق الجرس، وبعد بضع دقائق ظهر وجه خلف الباب، وأطل من كوة في الحائط. وبعد أن تأكد المواطن لرديون من وجه واسم ضيفه فتح الباب أخيرا. وكان له وجه سمين أحمر اللون وعينان لامعتان وفم كبير وأذنان حمراوان، وكان له وجه الرجل الضحوك ولكن هيئة الجبان. وقد أدخل أندريه إلى أولى غرف المنزل.
وكان موضوعا فوق مائدة مستديرة طعام قد أعد لشخصين، ورأى أندريه دجاجة وفطيرة وفخذة لحم وطبق (فواجرا)، وأصنافا من اللحوم الباردة. وعلى أرض الغرفة كانت هناك ست زجاجات خمر موضوعة داخل دلو كي تبرد، وعلى المدفأ كان هناك التفاح والجبن والفاكهة المحفوظة. وعلى أحد الأدراج وضعت زجاجات من المشروبات فوق أكوام الورق. وكان باب الغرفة المقابلة مفتوحا، وكان فيها سرير غير مرتب. قال أندريه: أيها المواطن لرديون، قد أتيت أسألك معروفا. - أيها المواطن، إني على استعداد لمنحه إذا لم يكن على حساب سلامة الجمهورية.
فقال أندريه بابتسامة: إن ما أطلبه من المعروف يتفق تماما مع سلامة الجمهورية، وسلامتك أيضا.
وجلس أندريه بإشارة من لرديون وقال: أيها المواطن النائب، أنت تعرف أني منذ سنين أتآمر على أصدقائك، وتعرف أنني مؤلف «مذبح الخوف»؛ ولذلك لن تخدمني إذا قبضت علي، بل إنك تؤدي واجبك فقط؛ ولذا ليس هذا هو المعروف الذي أطلبه منك، ولكن أصغ إلي: إنني أحب وحبيبتي في السجن.
وأحنى لرديون رأسه دلالة على أنه يقدر تلك العاطفة. - إنني أعرف أنك رجل عواطف، أيها المواطن لرديون، وإنني أرجوك أن تجمع شملي بمن أحب، فترسل بي إلى سجن «البورت ليبر».
فقال لرديون وقد ظهرت الابتسامة على شفتيه، ابتسامة دهاء وثبات: ها! ها! إنك تطلب ما هو أثمن من الحياة، أيها المواطن، أنت تطلب السعادة!
ثم أشار بذراعه إلى ناحية غرفة النوم ونادى: «أبيكاريس! ... أبيكاريس!»
وظهرت امرأة طويلة القامة شعرها حالك السواد، عارية الرقبة والذراعين، تلبس قميصا، وقد وضعت زهرة على رأسها، قال لرديون وهو يجذبها إلى ركبتيه: أي حوريتي! انظري إلى وجه هذا المواطن ولا تنسيه أبدا، هو مثلنا، أي أبيكاريس، له عواطف نبيلة، هو مثلنا يرى أن الفراق هو أشق أنواع العذاب والشرور، هو يرغب أن يذهب إلى السجن بل إلى المقصلة أيضا مع حبيبته، أبيكاريس! هل لنا أن لا نؤدي له هذا المعروف؟
فقالت الفتاة وهي تداعب خد قسيس الثورة: لا. - لقد أصبت الجواب يا إلهتي، يجب أن نساعد هذين المحبين المخلصين. أيها المواطن أندريه جرمان، اترك لي عنوانك، وستنام الليلة في السجن ...
فقال أندريه: لقد اتفقنا إذن؟
فأجابه لرديون وهو يمد إليه يده: نعم قد اتفقنا، اذهب وقابل حبيبتك وأخبرها أنك رأيت أبيكاريس بين يدي لرديون، ولتحدث هذه الصورة اضطراما في قلبيكما نحو أفكار براقة!
فأجاب أندريه أنهما ربما وجدا صورا أشد تأثيرا من هذه، ولكنه مبتهج على أي حال، ويأسف لأن ليس له أن يأمل بأنه سيؤدي له أية خدمة ردا على خدمته هذه.
فقال لرديون: إن الإنسانية لا تطلب جزاء ولا شكورا.
ثم قام وأردف وقد ضم أبيكاريس إلى قلبه: من يعلم متى يأتي دورنا؟ ولكن الآن فلنشرب أيها المواطن، هل لك أن تشاركنا في الطعام؟
وقد حبذت أبيكاريس الفكرة، وأمسكت أندريه من ذراعه، ولكنه مرق منها وهو يحمل وعد النائب العام.
قصص عن الكاتب الفرنسي الكبير مارسيل بريفو
الوحم
تزوج المسيو شربونيل - وكيل باريز لمحلات شوفيه تجار الشمبانيا - وهو في سن الخمسين، فتاة من بنات أحد زبائنه تدعى «كليمنس روبير»، وكانت غضة الشباب، موردة الوجنتين، شقراء الشعر، وكان كل ذلك مما جذب إليها المسيو شربونيل، وأصبح عقب زواجه توا سعيدا جدا، إذ إن كليمنس ملأت المسكن الموحش لهذا العازب ضوءا وحياة بخفتها ورشاقتها وحبورها. وقد أظهرت لزوجها - رغم أنه كان يكبرها سنا - أعظم الحب وكل الميل، وكانا يشتركان في كثير، فمن مزاج متوحد، إلى طباع متوافقة، كانا يحبان أكل اللحم ولعب الورق منفردين، وحضور التمثيل والذهاب إلى الملاعب.
وكان من عاداتهما أنهما إذا بدآ قراءة أجمل الروايات المسلسلة التي تنشرها الجرائد السيارة، غلب عليهما النعاس. وقصارى القول أنه رغما عن تفاوت عمريهما كان يظهر على كليمنس أنها على استعداد تام لأن تؤدي واجباتها، بل كانت تؤديها بسرور تام. ولم تكن من اللاتي يطالبن أزواجهن بكماليات مفاجئة. ربما ضايقت المسيو شربونيل، وما مر على زواجهما أكثر من سنة حتى فاجأت كليمنس زوجها بأن أسرت إليه أمرا، ذكرته وعلى وجنتيها حمرة الخجل، فإذ ظهرت عليها آثار توجهت منفردة إلى صديق قديم لأبيها هو «الدكتور تييرسلين»، وكان يدير مصحا في شارع سان جورج، وبعد أن فحصها الدكتور قال لها وهو يداعبها بوضع يده على خدها: ارجعي إلى منزلك يا صغيرتي كليمنس، وبشري زوجك بخبر سار، وهو أنك حبلى في الشهر الثاني.
وإن السمنة التي ظهرت على جسمها ملأت قلب شربونيل سرورا وفخرا، ولكن تلك السمنة عينها أقلقت معيشة الزوجين؛ ففي الشهر الرابع حين بدأ الجنين يتحرك في بطن كليمنس، بدأ خلقهما في الاختلاف وعاداتهما في التباين؛ فأصبحت كليمنس كثيرة السأم، ذات مزاج غريب، ففي ساعات ضحكها تنقلب فجأة باكية، ومن الإغراق في المحادثة إلى السكوت المطلق، وكرهت أنواع الطعام التي كانت تفضلها على غيرها، وأصبحت تصاب بنوبات فتلازم غرفتها مدة أسبوع، وبينما كنت تراها ساكنة إذا بها تنقلب فجأة؛ فتصبح كثيرة الحركة والحديث تريد الخروج للذهاب إلى الملاهي!
وكان المسيو شربونيل متأثرا في خضوع وخنوع، وهو يجيب كل ما يطلبه مزاجها، وكان يحدث نفسه: «إن ذلك إلا أمر مؤقت، بعد قليل يمر ... ومع ذلك فأنا أتحمل كل ذلك من أجل فرنسوا!» وكان هذا هو الاسم الذي اتفق عليه الزوجان للجنين الذي ستلده كليمنس، ورجع المسيو شربونيل ذات مساء في شهر ديسمبر وخاطب زوجه: «ارتدي ملابسك بعد العشاء كي نتوجه إلى «السرك» للتفرج على جمز جمز مرود الببغاء؛ إذ يظهر أن ذلك الرجل غير عادي.» فصفقت كليمنس لهذا الخبر، وكانت هادئة الخلق تلك الليلة في رزانتها وسكونها قبل سمنتها، وكانت شديدة الرغبة في رؤية جمز جمز هذا؛ إذ كانت قد رأت صورته الملونة وهو جالس على «العقلة» في لباس أسود ملتصق بجسمه كلباس البحر، وعلى ذراعه الممدود إلى الأمام عدد كبير من طير الببغاء، وكانت هناك إشاعة أنه غني، وأن سيدة إنكليزية عظيمة تنفق عليه، وقد رافقته إلى باريز.
وفي تلك الليلة - كما كان في الليالي السالفة - نال جمز جمز نجاحا عظيما كنجاح مرود الثيران الإسبانية، وكان وجهه جميلا جدا، يتدلى شعره على جبهته، ويكشف لباسه الأسود الملتصق بجسمه عن جسم قوي، وذراعين مفتولين أشبه بأذرع التماثيل. أما النساء فكن يعجبن بمنظره ويصفقن تصفيقا حادا عندما يقوم بإحدى حركاته!
ولما أن رجعا إلى منزلهما سأل شربونيل زوجه في تؤدة: لا ريب أنك سررت من ذلك يا كليمنس؟
فردت عليه ببرود: نعم، قليلا ...
ولم يفز منها بأكثر من ذلك، وقد تغيرت من السرور إلى الغضب، وعادت إلى الخلق الثائرة، ولما أراد زوجها أن يداعبها قليلا رفضت غاضبة، فنام حزين القلب في خضوع أيضا، وفكر أن الصبر أفضل؛ إذ يجب الصبر من أجل فرنسوا!
وفي اليوم التالي قامت كليمنس هادئة الخلق، مسرورة، وغنت وهي تلبس ملابسها، وقبلت زوجها في عنقه وهي تضع له ياقته، ونظفت له الحذاء بنفسها، وأعدت له طعاما يحبه.
ولما تركها نحو الساعة الواحدة بعد الظهر للذهاب إلى محل عمله وضعت له على ملابسه رداء من الصوف وهي تعلن أن البرد شديد جدا وهي لا تريد أن يصاب زوجها الصغير بزكام!
وفي الشارع لحظها وهي في الشرفة، وهي ترسل له قبلات في الهواء، واستمر الجو حسنا طول اليوم، وطول المساء إلى اللحظة التي وجد فيها الزوجان جنبا إلى جنب في سريرهما، وهنا أمسكت كليمنس برأس زوجها الكبير في يديها الصغيرتين، وامتدت بفمها إلى أن وصلت إلى أذنه ودمدمت: لي حاجة أطلبها منك يا عزيزي ...
فامتلأ قلب شربونيل سرورا وأجابها: اطلبي كل ما تريدين، يا قطتي الصغيرة! - إنها حاجة لا يسهل الإفضاء بها! - اذكريها ... تشجعي ... - دعني أطفئ الشمعة؛ فأنا لا أجسر مطلقا على طلب حاجتي هذه طالما كان الضوء منتشرا.
ولما أطفئت الشمعة استمرت كليمنس: أنت تعرف جمز جمز، رجل الببغاء جيدا؟ - نعم ... حسنا، هل تريدين أن تذهبي لرؤيته مرة ثانية؟ - لا ... ولكن أريد أن أقول: نعم ... ولكن ليس في الملعب ...!
وبدأ شربونيل في الضحك، وتحدثت كليمنس غاضبة: لا أريد أن تضحك ... إن المسألة جدية، إن لدي «وحم»، وهي رغبة قوية، وإذا لم تفعل ما أريد ... حسنا، إن امرأتك الصغيرة تموت والطفل أيضا بالطبع!
ضم شربونيل كليمنس بين ذراعيه وقبلها بعطف وقال لها: إني أفعل كل ما يمكنني كي أوافقك يا قطتي! وأنت تعلمين ذلك، ولكن صرحي!
وحينئذ أسرت كليمنس، وقد التصقت بزوجها في أذنه: أريد أن أرى هذا الرجل وهو عار عن الملابس.
ثم أخفت وجهها على رقبة شربونيل، وصاح شربونيل برعب: ترينه وهو عار عن ملابسه؟! لا ريب أنك قد جننت، ولكن ماذا تقصدين أولا؟ هل ترغبين في رؤيته وهو بلباس البحر كما رأيته في اليوم السابق؟
فقالت كليمنس مؤكدة: لا، بدون لباس البحر ... بدون أي شيء!
فقال شربونيل: أي عار تماما!
ولما استقر قرارها قالت: انظر إلي ... يجب أن أرى هذا الرجل بهذه الهيئة من أجل فرنسوا؛ فالبارحة عندما ظهر في الملعب وهو متشح بالسواد أثر ذلك في قلبي وصدمني صدمة قاسية ... وشعرت بالطفل يتحرك، وكأنه غير مرتاح ... ومن ذلك الوقت وأنا أرى أمامي دائما شبحا أسود يتشح بلباس أسود كلباس البحر، فإذا لم تجبني إلى ما أطلب سيكون لك ابن أسود زنجي، بل أسود من زنجي! مع أني أرى أن المسيو جمز جمز مثل الرجال الآخرين أبيض الوجه، جميل الشكل ... والآن! إن فرانسوا سيكون طفلا جميلا أبيض الوجه مثله، وهذا كل ما في الأمر!
وعبثا عارض شربونيل، وعبثا حاول أن يؤثر على امرأته ويجعلها تعتقد أنها تطلب أمرا إدا مخالفا للصواب، وأنه حتى إذا وافق هو - شربونيل - فإنه يجب الحصول فوق هذا على موافقة جمز جمز نفسه الذي سيظن أنه يحادث بعض المجانين عندما يطلب منه أن يظهر عاري الجسد أمام سيدة!
عبثا ثار شربونيل، وعبثا حاول أن يرجع كليمنس إلى صوابها، وعبثا هددها؛ فقد كانت مصرة على الوصول إلى غرضها، وكانت تكرر دائما: أريد أن أرى هذا الرجل وهو عار!
وانتهى بها الأمر أن أصابتها نوبة عصبية، فكانت تصيح وتبكي وتهذي أحيانا، ولم يجد تاجر الشمبانيا وسيلة لتهدئتها غير أن يعدها بما تطلب، وعندئذ نامت من فرط تعبها.
وكان شربونيل يأمل أن تكون رغبتها هذه قد انتهت في الغد، ولكن لم تكد كليمنس تستيقظ حتى قالت بسكون: أنت تعلم أنك وعدتني ... ستذهب عند مسيو جمز جمز في الحال، وإلا فسوف أصاب بنوبة بعد ظهر اليوم وألد طفلا ميتا. كذا!
ولم يقاوم شربونيل، فلبس ملابسه وتزين، وشيعته هي بهذه الوصية: أسرع! لن أقدم لك طعام الإفطار إذا لم تأتني معك بالجواب عند رجوعك.
ورجع بعد ساعة، وكانت كليمنس تنتظره عند الباب، فقالت له: ما وراءك؟
فقال الزوج: أصغ إلي، إني لم أذهب عند هذا المدعو جمز جمز، فإنه بلا ريب كان يطردني شر طردة، ولكني ذهبت عند الدكتور تييرسلين في عيادته التي يعالج فيها المرضى بواسطة الماء البارد، واستشرته في حالتك، وهو يعرفك حق المعرفة، وقد أخبرني حقا أنه من الخطر معارضتك في حالتك هذه.
فقالت كليمنس: ها قد رأيت صحة حديثي! - لا تقاطعيني؛ فإنه بالرغم من حسن قصدنا كان يجب أن يرفض طلبك، لولا مصادفة غريبة أرسلها الله؛ فإنك تعرفين أني لم أكن لأوافق بالمرة أن يعرف هذا الرجل جمز جمز برغبتك. أما المصادفة الربانية فهي أن جمز جمز يأخذ حماما بالماء البارد كل صباح حوالي الساعة العاشرة عند الدكتور تييرسلين، وهو الذي يعطيه هذا الحمام، وعلى ذلك سنذهب غدا أنا وأنت إلى عيادة المعالجة بالماء البارد قبل الساعة العاشرة، وسيخبئك تييرسلين بالقرب من الحمام في حجرة داخلية غير ظاهرة يخفيها ستار ويفتح أحد أبوابها إلى مكتب الدكتور، فيمكنك أن تزيحي الستار لتتفرجي على كل ما تريدين رؤيته، والآن إذا كان الأمر لا يهمك فإننا سنكف الحديث حول هذه الحماقة ...
وارتمت كليمنس على عنق زوجها تقبله بكل حرارة وهي تقول: إني أعبدك! إني أعبدك! سترى كم يكون جميلا ابنك!
وقد أظهرت طول باقي اليوم شعورا هادئا رقيقا. أما شربونيل فكانت عليه ملامح التفكير، وكان يشعر ببعض الحزن كشعور الرجل الذي يؤدي تضحية مؤلمة بدافع الحب.
وفي اليوم التالي أخذت الحوادث مجراها كما اتفق الزوج والدكتور بطريق روعي فيه الحب البريء الذي كان يشعر به الرجل نحو زوجه وواجب صيانته لها من الجهة الأخرى. وصل آل شربونيل عند الدكتور تييرسلين حوالي الساعة التاسعة والنصف بحجة زيارة البناء، وتفرجا على كل جزء من العيادة؛ ومن ثم لما أزفت الساعة العاشرة قال الطبيب: لدي مريض يأخذ حماما في الساعة العاشرة تماما، فهل لكما أن تنتظراني لحظة في مكتب عملي، وسألحق بكما بعد برهة.
ثم قادهما إلى غرفة المكتب وتركهما، وكان فيها باب يفتح على غرفة صغيرة مظلمة يفصلها عن غرفة الاستحمام ستار يمكن رؤية الحمام بكل جلاء من بين ثناياه، وبدون أن يكتشف أحد وجودهما.
وكانت كليمنس هادئة جدا وراضية، ونظرت من الركن الأيسر للستار، وأخرج شربونيل رأسه من الركن الأيمن.
وكان عنده شعور خاطئ، هو أن اهتمام امرأته بالنظر سيكون أقل تأججا حتما ما دامت تعلم أنه ينظر معها في نفس الوقت ما تنظر هي. وبعد برهة دخل رجل مؤتزر بمئزر الحمام، وكان جمز جمز، وتحادث برهة مع الدكتور ثم رمى بالمئزر للخادم وبسط يديه على جسمه العاري، وعرض بطنه للماء البارد الذي كان موجها إليه، وكان شربونيل ينظر لهذه العملية من وراء الستار وهو يشعر بالسرور رغم أنفه، وظهر له الرجل الرياضي بمظهر الرجل المتين التركيب، ظهر له أنه عريض الأكتاف أثقل وزنا في مظهره هذا منه إذا رئي وعليه لباس اللعب الخاص.
وكان غير عادي في شيء واحد هو أن كل جسمه كان مغطى بالشعر الكثيف، فكان الشعر تحت إبطيه وعلى نهديه وبطنه، واستمر الحمام عدة ثوان فقط، وعندما أدار تاجر الشمبانيا رأسه لم يجد امرأته بجانبه، وكذلك لم تكن في الغرفة، وكانت الزوجة قد فتحت الباب ودخلت إلى مكتب الدكتور، وعندما دخل زوجها وجدها جالسة على المقعد تفكر، فقال لها ببعض أسف: والآن هل أنت راضية؟ هل تفرجت على ما كنت تريدين رؤيته؟
فهزت رأسها وقالت: لا، لم أمكث إلا لحظة قصيرة، لم يكد الرجل يخلع رداءه حتى انصرفت.
فسألها شربونيل: ولماذا؟
فعبس وجهها: إنه مثل المجرمين، فجسمه مغطى كله بالشعر، له هيئة القردة، ولذا فكرت في الطفل وقلت: «ماذا أصنع إذا جاء طفلي كهذا!» ولذا أسدلت الستار وفررت بنفسي إلى هنا، بينما بقيت أنت تتفرج، وأنت تعرف أنني لا أريد أن يكون فرنسوا شبيها بقرد.
وأضافت بعد برهة بكل سكون: إنني أفضل له عن ذلك أن يكون شبيها بزنجي!
عن «مارسيل بريفو»
الضيف
(1)
إلى السيد القس بينيه، 8 شارع أزاس، باريز
أسرع بكتابة هذه الكلمة الصغيرة إليك، وأنا أسرها إليك يا عزيزي الأب، وإن قلبي - قلب الأم السعيدة - لا يرغب الانتظار مدة أربعة الأيام التي تفصلنا إلى حين رجوعنا إلى باريز؛ كي أبشرك بالأخبار السارة، وأنا لا أظن أن شيئا من هذا سيتم قبل نهاية الشتاء حين تكون ابنتي الصغيرة، قد أصبحت ربة دار بفضلكم، وفي حال تحسد عليها.
وكم أنا مدينة لك لمساعدتي، فأنا عديمة الخبرة، وفي عزلتي هذه، إن أرملة يكبر أولادها يوما عن يوم لتتبين أنه يجب، كي تسدد خطاهم الأولى خارج العائلة - أن تكون لها سلطة أكبر من سلطتي، وخبرة أوسع من خبرتي، والأبناء الذكور يمكن تقييدهم بالكليات أولا ثم بالمدارس العليا ... فمستقبل موريس لا يقلقني نصف ما يقلقني مستقبل أخته.
والآن، وقد انتهت التجربة، وانتهت بالنجاح مع حسن الحظ، لي اعتراف أسره إليك، لقد شككت لحظة في قيمة هذه الفرصة، ولولا كل الاحترام الذي أشعر به لقد استكم لما أمكن إقناعي، فلم أكن أقبل بالمرة أن نضم في سلك حياتنا بالريف، شابا لا نعرف عنه إلا القليل مثل «المسيو دي مونتيفري» لو لم تكن أنت الذي قدمته لنا، وكنت أخشى أن يحدث حضوره تأثيرا سيئا بين الجيران، فإن رابطة الجوار لا تمنع الناس من التحدث بمثالب جيرانهم، والتقول عليهم، وكنت أقول في نفسي: «محال أن يكون من السهل أن يصبح هذا الشاب - وهو في السابعة والعشرين من سنه - صديقا لموريس الصغير الذي لا تهمه غير علومه، حتى ...» وكنت قد أسررت إلي قائلا: «أنا أتحمل كل تبعة!» ولما كنت أنت الذي أحضرت مسيو مونتيفري إلى بوكور، فقد ألجم هذا ألسنة السوء ومنعها من التقول، ورأوا أنه من الطبيعي أن يأكل على مائدتي، وأن يتنزه مع ابني وابنتي ومس جكوبسون.
وقد قدر الكل قيمة هذا الشاب بعد الأسبوع الذي قضاه، وكان يظهر عليه أنه يجد في اللعب بالسيف وركوب الخيل مع موريس لذة أكبر من الجلوس مع لوسي لقراءة الموسيقى أو الجلوس مع مس جكوبسون يناقشها في شتى الشئون العلمية. أما احترامه لي فكان يذكرني باحترام زوجي العزيز المسكين، وإذا أضفت إلى كل هذه الفضائل أنه غني وليس له أب أو أم، وأنه ربي تحت رعايتكم، أجد نفسي مضطرة إلى الاعتراف يا عزيزي الأب بينيه، إني أسعد الأمهات وإنك أحكم المرشدين.
وكان قلقي العظيم، بعد أن وثقت من فضائل مسيو دي مونتيفري النادرة هو: هل يقدر له أن يحب لوسي؟ ولوسي هل تحبه هي؟ لوسي فاتنة، ولا أظنني مدفوعة بالتيه الوالدي إذا قلت «فاتنة» ... ولكنها ساذجة وبسيطة لدرجة عظيمة، لا تهتم بالتجمل الذي يهم الشبان الآن، وهي ليست أبدا من اللاتي يرضين بأول راغب في الزواج منهن تلك العزيزة.
ثم كلمة أسرها لك فقط، أظن أنها أحدثت أثرا عظيما في نفس مسيو دي مونتيفري بروحها الخفيفة فقط. آه، إنه لم يصرح لها بشيء من ذلك قط، وهو أكثر أدبا من أن يسمح لنفسه أن يأتي عملا غير لائق كهذا، ولكنه صرح بكل شيء، برزانته المعودة لمس جكوبسون التي أكسبتها سنوها الأربعون شجاعة فائقة، وكانت لا تزال تكرر لي حتى هذه اللحظة: «هل لاحظت كيف كان المسيو دي مونتيفري - وهو الذي يصيب في كل عمل - قلقا وحزينا يوم سفره؟ مع أن الحياة في بوكور تنقصها الكثير من الملاهي التي تقدمها باريز لشاب واسع الغنى، كريم المحتد، لا ريب أن السبب ذلك كان لأنه ترك قلبه في بوكور!»
والحق أنها أصابت في حدسها؛ فهي فتاة لبيبة ...
أما لوسي، فإنها لم تقل شيئا، لا لمربيتها ولا لي، وأظن أني كنت أصنع مثل ما صنعت لو كنت مكانها وفي سنها، فكل فتاة عفيفة تكتم في طيات نفسها أقل انفعال من انفعالات قلبها.
ولكني راقبتها، وكانت تتجمل إن لم تكن تتبرج كي تنال إعجاب ضيفنا، وكانت تسر بمجلسه وصحته، وقد مكثت هي الأخرى شاردة اللب بعد سفره، وفي كلمة واحدة. لقد سارت الأمور في مجرى حسن كي تنتهي حيث تمنينا.
وأنا أرجو أن تنهي باريز ما بدأته بوكور، ومن المناسب أن يأتي مسيو دي مونتيفري لزيارتنا مرارا من اليوم التالي ليوم وصولنا. وأنا أفكر في دعوته للغذاء على مائدتنا، وبهذه الطريقة يصبح المتحابان غير قادرين على الافتراق عن بعضهما، ويصل بهما الحال أخيرا أن يطلبا منا بنفسهما أن نسمح لهما بالزواج في أقرب وقت، ويمكننا برشاقة أن نقدم لهما زواجا هو زواج رغبة كانا يظنان فيه - لولا هذا الطريق الذي مهدناه لهما - أنه زواج مصالح.
أعترف يا سيدي القس بينيه أننا من صغار المخادعين! ولكنه والحق لأجل سعادة الأبناء الذين نحبهم، ولأجل تكوين عائلة مسيحية، وإني سعيدة سعادة لا يمكنني أن أعبر لكم عنها، وتراني إلى جانب تعبيري عن سروري أزف إليكم أسمى عبارات الشكر الخالص.
كونتيسة بوكور - جيفري (2)
إلى مادموازيل كلوتيلددي لسبرون - يحفظ بشباك بريد هوسمان، باريز
أرسل إليك هذه الكلمة يا عزيزتي كلو، بكل تكتم وتحفظ، حتى لا أترك فرصة لوالدتي ولمس جكوبسون وللأب بينيه وللأشخاص الذين يهتمون بشخصي الصغير، أنا التي لا يزيد سنها عن سبعة عشر عاما كي يتدخلوا في شئوننا وحديثنا الودي. وهناك حديث طويل هذه المرة فأرهفي أذنيك: كلو! «أولا» فرح! فإننا نترك بوكور يوم السبت إلى شارع الجامعة، وسأكون بالمنزل حوالي الساعة الخامسة، وأتمنى أن تجدي وسيلة للحضور مع أخيك المسيو هنري إذا كان راغبا في اجتلاء طلعتي، وسماع آخر الأخبار عن «زواجي»، فليس هناك شك في أن القرار قد استقر على تزويجي ... ب «الضيف»! نعم قرروا أن يزوجوني بتلميذ الأب بينيه المختار، ومس جكوبسون ووالدتي تتهامسان سرا من يوم سفره، وهما تدللاني وتقبلاني كأن ساعة الفراق قد دنت، وقد رحل المسيو دي مونتيفري كي يلحق بالأب بينيه.
هل يحبني؟ يا رباه! إني لا أعرف حقا، فتصرفاته غريبة، تلميذ الأب بينيه، وله رزانة طلبة المدرسة الإكليريكية، وهو ليس كثير الغباوة، خفيف الحركة، ليس أكثر دمامة في وجهه من غيره، ولكنك تعلمين؛ أي كلو الصغيرة، أنه ليس هناك غير وجه رجل واحد يعجبني، ويمكنك أن تذكري ذلك الهنري، فلا يكون هناك محل لغيرته!
ويجب أن تلاحظي جيدا أن زوجي «المقبل» لم ينتقص من احترامي أبدا، وهذا ليس بخطأ والدتي أو مس جكوبسون؛ فإنهما كانتا تفعلان كل ما يمكنهما كي تتركاه منفردا معي، يا للشاب المسكين! وكانتا تأملان - بلا شك - أن انفراده بي يثيره، ثم يجعله لا يحتمل! ومن ثم يجعله يبوح بغرامه، وبعد ذلك يجب تزويجنا توا ... توا!
وتعالي انظري والضيف منفرد معي، وهو يقرب مقعده من مقعدي، ويستمر في التحدث عن الموسيقى والدراجات والعالم، كما أن لو كان الأب بينيه أو أمي حاضرين معنا، يلاحظان مجرى الحديث.
والحق أن هذا كان يغيظني، وكنت أفكر في نفسي: «وعلى كل حال فالأب بينيه يخرجهم من مصنعه على قالب خاص. أنا أرى الصد من هذا الشاب، أنا التي لا يمكن الشبان العاديين الجلوس معي عشر دقائق بغير أن يسرفوا في حديث الحب!»
ولذلك (ولا تروي هذا لهنري) جربت أن أفتنه ... قليلا قليلا جدا؛ فاستعملت النظرات، واحتكت يدي بيده مرارا وأنا جالسة إلى البيانو، وبالتأكيد أثر عليه هذا تأثيرا معينا، وقد ظننت مرة أو مرتين أنه قد عزم على طبع قبلة احترام على شعري.
ولكن لا! فقد كان يضبط عواطفه دائما، وربما كان هذا عن قصد، أو ربما كان هذا ما يحدث عندما تكون النية معقودة على الزواج، ويجب أن تقولي لأخيك إنه يجب أن يكون في معاملته لي ابتداء من اليوم ضابطا لنفسه وعواطفه كالمسيو دي مونتيفري، وإلا فلن أتزوجه أبدا، وسأصير «مدام دي مونتيفري».
ويجب أن أعترف مع ذلك، ثناء على هذا الفارس الشاب الذي ظهر عليه القلق وهو يودعني على المحطة قبل أن يغادرنا مساء الأمس، أنه لم يتمالك نفسه، وظهرت شخصيته الحقيقية التي كان يظهر بغيرها مدة إقامته، وارتبك ارتباكا ظاهرا، حتى إنه خاطب والدتي فسماها «سيدي القس»، ونادى مس جكوبسون قائلا: ديزي فقط!
وقد قبل يدي، وسأجعله يكرر ذلك ويصنع كل ما أريد، طول فصل الشتاء ...
فأنا لا أريد أن أتخلص منه سريعا؛ فقد لاحظت أنه منذ فكروا في هذه المشروعات العظيمة أصبحوا أكثر لطفا في معاملتي، وتركوا لي الحرية لأفعل ما أريد، وجكوبسون بوجه خاص أصبحت صديقة حبيبة، هي لا تكلفني بأي عمل من الأعمال، ومع ذلك تصرح أني أشتغل حسنا جدا ...
والآن، إلى الملتقى القريب، أي كلو العزيزة، وأنا أرسل لك قبلة كبيرة لنفسك، وأخرى تتصرفين بها كما ترغبين، ولكني سأطلب استردادها من هنري عندما نتقابل في القريب العاجل.
أوه! كنت أود أن أجلس معك في غرفتي لنتسار ونتبادل الأخبار، فليس هناك شيء ألذ من ذلك في العالم.
لوسي دي بوكور
ملاحظة:
إذا كان هنري يخونني مع المومسات فلن أتزوجه، قولي له هذا جديا، وسأعرف ... (3)
إلى المسيو دي مونتيفري، 23 شارع البو، باريز
يصل إلى باريز بعد غد يا حبيبي العزيز الجميل ومعنا طائرتك الصغيرة ، دغ أمها، وأتمنى أن أجدك في ذلك اليوم نفسه بمنزلك حوالي الساعة الخامسة آه! ستحبني يا عزيزي كما كان الحال في بوكور؛ أليس كذلك؟ إني أفكر كل هذا الوقت في خلقك الفرنسية، ثم يحمر وجهي خجلا، سلاما أيها الصديق، وقبلات كثيرة، إلى الملتقى.
ديزي جكوسون
بعد الخطيئة
«الساعة العاشرة مساء.
سيدة صغيرة السن تبلغ الخامسة والعشرين، هي مدام دي روبرتييه، منفردة في غرفة نومها، وجالسة إلى مكتبها المضاء بالنور الكهربائي، وأمامها خطاب مقفل ليس على الظرف الأزرق اللون، والطويل الشكل، أي عنوان بعد.
مدام دي روبرتييه نصف عارية، وهذا يوافق مظهرها تمام الموافقة، وهي شقراء ساحرة الجمال.
ولونها عادة بهيج وصاف جدا، ولكنها في ذلك المساء بكت كثيرا، فعلى خديها وجفونها آثار الألم.»
مدام دي روبرتييه تحدث نفسها: والآن، إذا كان لدي شيء من الشجاعة، وإذا كنت لا أزل أساوي شيئا بعد فلأكتب إلى زوجي قائلة: ... ها أنا بائسة! ... لا أستحق أن أكون لك؛ لأن المهمات التي تهمني وتهمك أنت على حد سواء، قد اضطرتك أن تبقى بعيدا عني، فخنتك واتخذت لي عشيقا، وأي عشيق؟! هو رجل خليع مقامر غبي كجلمود خشب، أسود العينين جميلهما، هذا حقيقي، وكذلك يده مثل أيدي الأمراء ... ويحمل لقبا ضخما (المركيز دي هرموزو)، ولكن هذا لا يهم، أليس كذلك؟ ولم يكن سببا يدفع إلى الخيانة بعد زواج سعيد مضى عليه عامان، أنت الذي تحبني، وأنت الذي أحبك؛ لأني أحبك وا أسفاه! جان، نعم إني أحبك، وخصوصا الآن أحبك أكثر جدا من هذا الجميل الذي لا أجد طعما لجماله، هرموزو، وهو الذي كنت من آونة بين ذراعيه، وقضيت الزمن من الساعة الخامسة إلى السابعة في منزله بشارع لابوم...! (انقطاع التذكرات، مدام دي روبرتييه تسكن برهة ثم تعاود خيط تأملاتها.) - هذا ما أكتبه لزوجي إذا كان في قلبي ذرة من الرحمة، ويكون هذا من الأمانة والإخلاص ... (بعد برهة). - والخرق فإنه على كل حال ليس أشد على الزوج من معرفة شيء كهذا، واليوم من الساعة الخامسة إلى السابعة كانت مدام روبرتييه ساكنة هادئة كباقي الأيام الأخرى. وبالطبع لا يجب أن يطلب مني أن أسبب شقاء زوجي بإخلاصي الزائد عن الحد، سأكتب في الحال خطابا لجان، كله رقة وبعض غرام أيضا «هو يحب أن تصله مثل هذه الخطابات حين يكون بعيدا عني» وفي نفس البريد يصل هرموزو هذا الخطاب المقتضب الذي كتبته بعد خروجي من عنده توا.
ويصل الخطاب إلى زوجي بعد غد، أما هرموزو فيستلم خطابه غدا، ويقدم له الخطاب وهو لا يزال في فراشه حوالي الظهر ... ولا ريب أنه يكون أحسن هدية تقدم له عند استيقاظه.
يجب أن أقرأه ثانية. (تمزق الظرف وتفتح الخطاب وتقرؤه بصوت ضعيف):
سيدي
لقد أسأت بكل وقاحة، استعمال الثقة التي أولتها إياك امرأة أمينة؛ فإني عند ذهابي إليك كنت أقصد التفرج على تحفك حسب وعدك، ثم انصرف، وأنت تفهم بعدما حدث أنني لا أريد رؤيتك، ولكني أود أن أخبرك أني أحب زوجي لدرجة العبادة، وأني أشعر من نحوك بأشد الازدراء.
جاكلين (تفكر وفي يدها الورقة.) - ولكن ... ما كتبته لهذا الشاب يدل في جملته على قلة تبصر في عواقب الأمور فليس عليه إلا أن يقرأ هذا الخطاب لجمع من أصدقائه، فمعناه يدل صراحة «أني كنت عشيقتك» ثم ... (بابتسامة لا يمكن إدراك كنهها.) - وهناك جملة «التحف»، وهي ليست جيدة، لقد كنت قلقة جدا، ولكن جملة «الازدراء» موافقة جد الموافقة. (تمزق الخطاب وتبدأ خطابا آخر، وهي تجتهد في تغيير خطها):
سيدي
لم تصدق معي الحديث، لقد فعلت ما فعلت وأنا أعتقد أنك ستتصرف تصرف الرجل الشريف، ولقد خدعتني تماما، فمن الآن يجب أن تفهم أنه من المستحيل أن أقابلك، ولكني أود أن أخبرك أني أحب زوجي لدرجة العبادة، وأني أشعر من نحوك بأشد الازدراء.
ج... (تفكير). - هذا ليس خطرا، ولكن فيه بعض الحماقة، وعلى كل حال «لقد فعلت ما فعلت ...» هذه لا تعني شيئا ألبتة ... نعم! ليس هذا الخطاب حسن الأسلوب، وهرموزو كان عشيق مدام ليسكفر التي برعت في الكتابة جد البراعة، فلا ريب أن هذا ليس هو المقصود. (تمزق الخطاب وتبدأ كتابة آخر):
سيدي
أرجو أن تمسح من ذاكرتك، كما مسحت أنا من ذاكرتي ما حدث بيننا اليوم، وإنني لأخاطب شرفك شرف الرجل النبيل، لقد انتهى كل شيء ونسي، أليس كذلك؟ إنني أحب زوجي لدرجة العبادة وإني أشعر نحوك ... - لا، ما دمت قد كتبت بهذا الأسلوب لا يمكنني أن أقول له إني أشعر نحوه بأشد الازدراء؛ إذ قبل ذلك بثلاثة أسطر أعامله كرجل نبيل، سأكتب فقط: «إني أحب زوجي لدرجة العبادة.»
حسنا، ولكن: «إني أحب زوجي لدرجة العبادة.» تأتي هذه الجملة بعد اليوم الذي ... سيضحك كثيرا، ولا ريب أنه محق في ضحكه، هل لي حقا أن أؤنبه على أي شيء؟ لقد أدى وظيفته كرجل ... لقد قبلت أن أذهب عنده بحجة أن أرى تحفه، ولكن أخيرا كنت أعلم تمام العلم أنه لا يمكث هادئا كحارس متحف فقط. أوه! أكان يجب أن أدافع وأقاوم. وبعد، فإني لا أعرف كيف تم ذلك؟ (حركة سأم). - وكذلك جان مخطئ في تركي وحيدة طول هذه المدة. (تفكير). - مسكين جان، إنه يفكر بي هناك، وهو لا يشك. أوه! سأحبه كل الحب عند رجوعه. (تمزق الخطاب الذي انتهت من تحريره وتبدأ مرة أخرى):
سيدي
أرجوك أن تمسح ذكرى هذا اليوم من ذاكرتك كما أريد أن أمسحها من ذاكرتي. يجب أن ينتهي كل شيء وينسى، وبهذه المناسبة أحفظ لكم تذكارا محزنا، ولكن بدون بغضاء أو ازدراء.
ج.
هذا أحسن جدا، وقور وحزين، وهو لن يحزن الغلام المسكين كثيرا. وعلى كل حال لقد كنت لعوبة معه، والآن هل أرسله هذا المساء؟ أغلقت مكاتب البريد أبوابها، ثم إن «بتسي» ستقرأ العنوان وتتحدث هناك في المكتب العام، لا ريب أنه أفضل أن أمر بنفسي على مكتب البريد صباح الغد عند ذهابي إلى اللوفر، والآن فلأنم. (اهتمام بزينة الوجه - صلاة - نوم (ثماني ساعات نوم هنيء) - حوالي الساعة التاسعة والنصف من صباح اليوم التالي تدخل بتسي غرفة نوم سيدتها.)
مدام دي روبرتييه (وهي تستيقظ): وما هذا؟
بتسي: سيدتي ، إنها من محل فاديان، سلة ورد كبيرة.
مدام دي روبرتييه (وقد استعادت ذاكرتها): آه، ورد. إني أعلم ما هو. هذا حسن، افتحي النافذة وأحضري لي سلة الورد (بتسي تطيع السلة ملأى بالورود الجميلة الحمراء والبيضاء، بتسي تخرج).
مدام دي روبرتييه: حسنة هذه هي الفكرة هدية الصباح، في اليوم التالي، وأنا التي كتبت له بهذه القسوة. (تذهب إلى المكتب، تفتح خطاب المساء وتعيد قراءته، وتمشي بضع دقائق في غرفتها، ثم تقف أمام الخزانة ذات الثلاث مرائي، وتلاحظ بسرور أن النوم قد أعاد لها بهاء لونها. ترجع إلى المكتب وتمزق الخطاب بين يديها.) - بكل تأكيد لا يمكنني أن أرسل له هذا بعد سلة الورد (تجلس وتكتب بسرعة الكلمات التالية):
إني أشكرك، أنا حزينة جدا، كنت أريد أن أنسى البارحة، ولكني لم أتمكن، ارحمني!
ج. (تعيد قراءته). - هذا حسن وفيه وقار كالآخر، وهو أشد ظرفا، سأضع هذا في صندوق البريد عند ذهابي إلى اللوفر. (تدق الجرس لبتسي وترتدي ملابسها.)
عن «مرسيل بريفو»
Page inconnue