Histoires sur un groupe d'écrivains célèbres de l'Occident
قصص عن جماعة من مشاهير كتاب الغرب
Genres
إهداء
كلمتي
بيان
قصص عن الكاتب الفرنسي الشهير ألفونس دوديه
الوزير في الريف
عنز المسيو سيكين
سر «المعلم» كورنيل
وفاة ولي العهد
الفراشة الراقصة
وجوم ...
Page inconnue
لويز
هل هي آثمة؟
هدية الزواج
زازا
غرام زائف
قصة العذراء
الروح الكورسكية
العاصفة
قصص عن الكاتبة الإنجليزية الكبيرة لويز هيلجرز
ابنتي الصغيرة
Page inconnue
عشاء اثنين
العلم
حديقة
روبيسبيير يرتد خائبا
حلم يوم من أيام الصيف
بولزلوف
هدية الموت
قصص عن الكاتب الفرنسي الكبير مارسيل بريفو
الوحم
الضيف
Page inconnue
بعد الخطيئة
إهداء
كلمتي
بيان
قصص عن الكاتب الفرنسي الشهير ألفونس دوديه
الوزير في الريف
عنز المسيو سيكين
سر «المعلم» كورنيل
وفاة ولي العهد
الفراشة الراقصة
Page inconnue
وجوم ...
لويز
هل هي آثمة؟
هدية الزواج
زازا
غرام زائف
قصة العذراء
الروح الكورسكية
العاصفة
قصص عن الكاتبة الإنجليزية الكبيرة لويز هيلجرز
Page inconnue
ابنتي الصغيرة
عشاء اثنين
العلم
حديقة
روبيسبيير يرتد خائبا
حلم يوم من أيام الصيف
بولزلوف
هدية الموت
قصص عن الكاتب الفرنسي الكبير مارسيل بريفو
الوحم
Page inconnue
الضيف
بعد الخطيئة
قصص عن جماعة من مشاهير كتاب الغرب
قصص عن جماعة من مشاهير كتاب الغرب
تأليف
فرج جبران
إهداء
إلى: روحها الطاهرة ...
في مثواها الأبدي
كلمتي
Page inconnue
إن القصص التي تحتويها هذه المجموعة هي جزء مما نشرته على صفحات الجرائد والمجلات، وأنا أميل إلى الاعتراف أنها قد لا تكون أحسن ما نشرت من القصص رغم ثناء بعض الأصدقاء عليها. فما أسعدني بعد ذلك إذا صادفها هوى من نفوس قرائها، أما إذا لم تصادف ذلك الهوى فأرجو الله أن تصادفه المجموعة الثانية التي سأعنى بها كل العناية.
وإن كان هناك مجال للاعتذار؛ فأنا أعتذر للقارئ عما قد يسوءه هنا من الأخطاء المطبعية، أو رداءة الورق أو الحروف، وإن كانت المسئولية التي أتحملها عن ذلك صغيرة لا تكاد تذكر.
وإني أختتم شاكرا: للأدباء ولمحرري الصحف الذين كان لكلمات تشجيعهم الدائم أكبر أثر دفعني للعمل والعناية.
فرج جبران
بيان
رأينا أن نكتب كلمة قصيرة عن الكتاب الذين نقلنا عنهم عددا من القصص ونشرناها في هذه المجموعة. أما الذين نقلنا عنهم قصة واحدة فقد رأينا أن ندع الحديث عنهم لفرصة أخرى.
ألفونس دوديه
ALPHONSE DAUDET (1840-1897)
لا يتعدى ما اخترناه له هنا أربع قصص أخذناها من «رسائل من طاحونتي
Letters de mon moulin »، كتبها دوديه وهو يتمتع بالوحدة والراحة في الريف الهادئ في إحدى طواحين الهواء المهجورة بوادي الرون في قلب مقاطعة بروفنس، بالقرب من جبل مغطى بأشجار السرو والصنوبر، وقد اشترى الكاتب هذه الطاحونة كي يكتب فيها، وذكر شيئا من تاريخ الطاحونة نفسها في قصته «سر المعلم كورنيل» وتجدها على «سر المعلم كورنيل» من هذا الكتاب.
Page inconnue
وألفونس دوديه ليس في حاجة إلى التعريف؛ فهو من أشهر الكتاب الفرنسيين، اشتهر بقصصه وصوره، وكلها من النوع الذي لا يكاد يقرؤه قارئ حتى يصل إلى قرارة قلبه.
ولد دوديه ببلدة نيمو، ومن أشهر أعماله إلى جانب «رسائل من طاحونتي»: الشيء الصغير - ترتران - جاك - سافو - نومارومستان.
ويمتاز بدقة الملاحظة وسهولة الإدلاء والتصوير مع سهولة التراكيب.
لويز هيلجرز
LOUISE HELIGERS
هذه كاتبة إنجليزية محدثة، تجد في قصصها الوصف الهادئ الساكن، تلقيه امرأة في حديث طبعي لا أثر للكلفة أو الصناعة فيه.
وما أسرع أن تصل قصصها القصيرة إلى القلوب، شأن كل حديث يتجلى للإنسان صدقه وإخلاصه، ويملك عليه مشاعره، وإنك لتشعر وأنت تقرأ قصصها القصيرة كأنك تسير جنبا إلى جنب مع شخصياتها وتشعر بنفس شعورهم.
وربما كان لطبيعتها النسائية أكبر أثر في ذلك وفي نعومتها أيضا.
وإذ تتحدث عن الحب في قصة من قصصها تجعلك تشعر بصدق ذلك الحديث وصدق ذلك الحب وقدسيته، ومن يصدق في وصف شعور المرأة أكثر من المرأة نفسها؟
وخير تذكية لها ما ذكره أحد كبار كتاب وعلماء إنجلترا في مقدمة كتابها الثاني
Page inconnue
More Tabloid Tales : «إن لويز هيلجرز أكبر كتاب القصص القصيرة في العالم الآن.»
ولنا أن نذكر أيضا أن قصتها «عشاء اثنين» التي نشرت في هذا الكتاب قد نشرت أخيرا بين ست قصص قصيرة أخرى جمعت في كتاب واحد، هو: «أشهر ست قصص قصيرة في العالم».
مارسيل بريفو
MARCEL PREVOST
روائي فرنسي مشهور. ولد في باريز يوم أول مايو سنة 1862، تعلم في مدارس «الجزويت»، ودخل مدرسة الهندسة سنة 1882، ولكنه ترك الهندسة بعد بضع سنوات من نهاية دراسته إلى صناعة التبغ. ونشر بعد ذلك «العقاب» (1887)، «شونشيت» (1888)، «مدموازيل جوفر» (1889)، «ابنة العم لورا» (1890)، «اعترافات عاشق» (1891)، «رسائل النساء» (1892). وفي سنة 1894 أحدث ثورة فكرية عظيمة بدراسة مبالغة ثائرة حول نتائج التعاليم الباريسية والمجتمع الباريسي على الفتيات والعذارى، وهي «إنصاف العذارى»، وقد لاقت أعظم نجاح. ويظهر فيها الفتاة وهي تتهاون بعرضها قبل الزواج وتعبث مع مختلف الشبان عبثا غير بريء، ليس هذا مقام بحث تلك الرواية، ولكننا نقول عنها إنها شبيهة برواية فكتور مرجريت «لاجرسون» أو الفتاة المسترجلة.
وظهرت «رسائل إلى فرنسواز» سنة 1902، وفي سنة 1904 نجح نجاحا باهرا برواية تمثيلية هي: «أضعفهن»، وفي سنة 1909 انتخب عضوا في مجمع العلوم الأكاديمي.
قصص عن الكاتب الفرنسي الشهير ألفونس دوديه
الوزير في الريف
الوزير يمر في المقاطعة، فسائق العربة جالس في أمامها والحجاب في خلفها. أما عربة الوزير فتدرج به نحو الاجتماع السياسي المحلي في «كومب أوفيه»، ولهذه المناسبة المهمة يلبس الوزير سترته المذهبة، وقبعته العالية، وسيفه، وقد وضع على ركبتيه حافظة أوراقه الجلدية، وكان يحدق فيها بنظره. الوزير يحدق في حافظة أوراقه الجلدية بنظر تائه، وهو يفكر في تلك الخطبة الرنانة التي سيلقيها على أهل «كومب أوفيه» ... «أيها السادة الأفاضل والإخوة العمال ...»
ثم يشتد في الضغط على شاربه الأصفر، ويكرر الجملة مرات: «أيها السادة الأفاضل والإخوة العمال ...» ولكنه لم يكن ليذكر شيئا يتبع به هذه الجملة ... وهو يشعر بالحرارة في داخل العربة، وإذ ألقى بنظره إلى الأمام رأى طريق «كومب أوفيه» وهو يمتد أمام ناظره، والهواء يهب عليلا، والطيور الصغيرة تتجاوب من فوق الأشجار.
Page inconnue
وتطلع الوزير فجأة إلى المنظر، فهناك على مسافة ليست بالبعيدة وعلى سفح التل رأى غابة صغيرة من شجر السنديان، وكأنها كانت تنحني إلى الأمام إجلالا له! كانت غابة السنديان كأنها تنحني له قائلة: «لماذا لا تأتي هنا أيها السيد الوزير؟ إنه لمن دواعي راحتك أن تحضر خطبتك تحت أشجاري.»
وكم سر الوزير للفكرة، فهو يقفز من العربة وقد أخبر المرافقين له أن ينتظروه؛ لأنه سيحضر خطبته في غابة السنديان الصغيرة، وفي الغابة الصغيرة كثير من الطيور وزهر البنفسج، ومجار مائية صافية تجري بين الحشائش الخضراء، فعندما رأت الطيور الوزير بلباسه الفاخر وحافظة أوراقه الجلدية خافت وأمسكت عن الغناء، وكذلك النهيرات الصغيرة، فقد انقطع خريرها. أما زهرات البنفسج فقد اختفت بين الحشائش، ولم يكن أحد من سكان هذا العالم الصغير قد رأى وزيرا من قبل، فبدءوا يتساءلون في همس عمن يكون هذا الرجل الفاضل الذي يخطر في هذه الثياب الجميلة؟ إنهم يتساءلون في همس - من وراء أوراق الأشجار - عمن يكون هذا الرجل الفاضل الذي يخطر في هذه الثياب الجميلة! أما الوزير فقد سحره هدوء المكان ونقاء الهواء، فهو يخلع قبعته ويضعها بجانبه على الأرض، ويسحب ذيل ردائه، ويجلس هو على العشب بجانب سنديانة صغيرة، ثم يضع حافظة الأوراق الجلدية على ركبتيه ويفتحها ويخرج ورقة بيضاء كبيرة من أوراق الحكومة.
قال الهدهد: «إنه فنان!»
فرد طير آخر: «لا، إنه ليس فنانا؛ فملابسه بيضاء، لا بد أن يكون من الأمراء!»
نعم لا بد وأن يكون من الأمراء!
فرد بلبل كهل، كان قد قضى فصلا كاملا من فصول السنة في الغناء بحديقة الوزير: «أنا أعلم ما هو، إنه لوزير!»
وبدأت الغابة الصغيرة كلها تتهامس: «إنه وزير! إنه وزير!»
وبدأت قنبرة تتحدث: «هل هو أصلع الرأس؟» وتساءلت زهرات البنفسج: «هل هو قاسي القلب؟» فأجاب البلبل الكهل: «ليس هو.»
فعندما علمت الطيور ذلك، بدأت الغناء ثانية، وعادت المياه لخريرها، وبدأت رائحة البنفسج تعبق المكان كأن ذلك الرجل الفاضل لم يكن هناك ... وكم اغتبط الوزير وسط هذا الجمال!
ولما رفع قلمه عن الورقة، نطق بلهجة الخطيب: «أيها السادة الأفاضل والإخوة العمال ...»
Page inconnue
وأعاد الوزير بلهجة الخطيب: «أيها السادة الأفاضل والإخوة العمال ...» ولكن صوتا يقطع عليه حبل حديثه فيتلفت حوله، ولكنه لا يرى إلا طائرا كبير الحجم، أخضر اللون، من طيور الغابة، فيهز الوزير كتفيه ويعود إلى خطبته، إلا أن الطائر يقاطعه وهو يصيح: «ما فائدة هذا؟»
فيرد الوزير وقد احمر وجهه: «ماذا تقول؟ ما الفائدة من ذلك؟» ثم يطرد هذا الطائر بحركة خفيفة من يده ويعود ثانيا إلى خطبته قائلا بأحسن لهجة: «أيها السادة الأفاضل، والإخوة العمال ...»
ولكن في نفس اللحظة، تميل عليه زهرات البنفسج وهي على سيقانها الرفيعة وتتمتم بسكون: «أيها السيد الوزير، ألا تتبين ما أجمل رائحتي؟!» وتلك المجاري المائية السائرة بين الأعشاب، لقد كانت أصواتها كموسيقى سماوية، وعلى فروع الأشجار فوق رأسه. كانت الطيور تغني له أبهج النغمات وأسرها لفؤاده.
إن الغابة الصغيرة بأكملها تتآمر لتمنعه من تحضير خطبته، ولما ثمل الوزير بالرائحة، وسحر بالموسيقى، حاول عبثا أن يقاوم هذا السرور غير العادي، فهو يتمدد بنفسه على الحشائش بكل دلال، ثم يفك أزرار سترته الموشاة، ثم يتمتم مرارا ... «أيها السادة الأفاضل، والإخوة العمال ... أيها السادة الأفاضل، والإخوة العمال ... أيها السادة والإ ...»
ثم هو يتمنى بعد ذلك الجحيم لإخوته العمال، ولا يرجو إلا أن تزيح عروس الزراعة عن نقابها لتكشف له عن جمالها.
ألا ارفعي النقاب عن وجهك يا عروس الزراعة!
وأخيرا بعد ساعة من الزمن، عندما قلق خدم الوزير على سيدهم، ذهبوا إلى الغابة الصغيرة، فرأوا منظرا جعلهم يتراجعون إلى الوراء مذعورين.
فلقد كان الوزير منبطحا على بطنه فوق الحشائش، مفتوح الصدر كأنه من الغجر ... وقد رمى سترته بعيدا عنه، وكان وهو يقرض إحدى زهرات البنفسج بين أسنانه ... يقرض الشعر أيضا!
عن «ألفونس دوديه»
عنز المسيو سيكين
Page inconnue
لم يكن للمسيو سيكين أي حظ في ماشيته، كان يفقدهم كلهم بطريق واحد. في يوم من الأيام كانوا يقطعون الحبل الذي كان يربطهم، ويفرون إلى الجبال حيث يفترسهم الذئب؛ فلا الدلال أو اللطف الذي كان يعاملهم به سيدهم، ولا خوف الذئب، كان ليمنعهم من الفرار إلى الجبل، والحق أنها كانت ماشية مستقلة، تطلب الحرية بأي ثمن من الأثمان!
وقد قلق المسيو سيكين - وكان لطيفا طيب القلب - قلقا عظيما؛ فإنه لم يكن قد فهم بعد نفسية هذه المخلوقات.
فكان يقول لنفسه: «لقد انتهى الأمر، إن الماشية تسأم من سجنها عندي، فلن أربيها إلى الأبد!»
ومع ذلك فقد استعاد شجاعته، فبعد أن فقد ست عنزات في هذا الطريق اشترى السابعة، ولكنه لاحظ في هذه المرة أن تكون صغيرة؛ حتى تشب وقد اعتادت أن تمكث معه بدون أن يعتريها الملل.
وكانت عنزا صغيرة لطيفة، بعيون صافية، ووجه جميل وحوافر سوداء لامعة، وقرون مستديرة، وشعر طويل أبيض.
وفوق ذلك كانت سهلة القياد، لم تخرج أبدا خارج غرفتها.
عنز ... صغيرة محبوبة!
كان للمسيو سيكين مرعى واسع كله حشائش خلف منزله، وهناك وضع عنزه الجديدة في ركن من الأركان وربطها بحبل طويل، وكان يذهب من وقت لآخر ليعمل لراحتها، وكان يظهر على العنز أنها سعيدة جدا، وكانت تأكل الحشائش بشهية سر لها المسيو سيكين كل السرور، وفكر المسكين قائلا لنفسه: «أخيرا قدر لي أن أجد العنز التي لا تتضايق بمعاشرتي.»
وكان مسيو سيكين مخطئا في حدسه.
في يوم من الأيام نظرت العنز إلى الجبل وقالت لنفسها: «كم تكون الحياة مسرة هناك في أعلى هذا الجبل! ما ألذ الحرية والعدو بلا حبل يخنق؟ ... للحمير والبهائم أن تبقى في الحقول، أما العنزات فتحتاج للحرية.» ومن تلك اللحظة فقدت حشائش المرعى نكهتها السالفة، وبدأت العنز تهزل يوما عن يوم، وقل مقدار اللبن الذين يؤخذ منها، وكان من المحزن أن ترى وهي تشد حبلها طول اليوم، ورأسها متجه لناحية الجبال، وخياشيمها مفتوحة واسعة، وهي تصيح: «ما ... ما ...!»
Page inconnue
وعرف المسيو سيكين أن شيئا حدث لعنزه، ولكن لم يمكنه أن يتصور ما هو. وفي صباح يوم من الأيام بينما كان بجانبها، أسرت إليه بلغتها: «أصغ إلي يا مسيو سيكين: لقد سئمت كل هذا، دعني أجري إلى الجبال.»
فوقعت آنية الماء من يد مسيو سيكين وصاح: «يا لله! ها هي واحدة أخرى منهن.» ثم جلس بجانبها وقال لها: «بلانكيت، أترغبين حقا أن تتركيني؟»
وأجابت بلانكيت: «نعم.» - «هل عشبك قليل؟» - «لا يا مسيو سيكين.» - «ربما كان حبلك قصيرا، هل أطيله لك؟» - «إن الأمر لا يستحق ذلك .» - «إذن فماذا حدث؟ ماذا تريدين؟» - «أريد أن أجري فوق الجبال يا مسيو سيكين.» - «ولكن يا أيتها المخلوقة الغبية، ألا تعلمين أن الذئب يعيش فوق الجبال؟ فماذا أنت صانعة إذا أتاك؟» - «سأنطحه بقروني حينذاك يا مسيو سيكين.» - «سيهزأ من قرونك هذه، فلقد افترس عنزات لها قرون أطول من قرونك!» - «ولكن على أي حال، دعني يا مسيو سيكين أجري إلى الجبال.»
فصاح مسيو سيكين: «أيتها القوات العليا، ماذا يحل بعنزاتي؟ ها هي واحدة أخرى تريد أن تؤكل! لا، سأنقذك رغما عنك أيتها الغبية! وخوفا من أن تقطعي حبلك سأسجنك في الإسطبل وستمكثين هناك.»
ثم جر المسيو سيكين عنزه إلى الإسطبل المظلم وأغلق الباب عليها بالقفل، ومن سوء حظه أن نسي الشباك، فلم يكد يبتعد قليلا حتى كانت قد خرجت منه ...
ولما وصلت إلى الجبل شمل الفرح كل أنحائه؛ فإن أشجار الصنوبر لم تر شيئا أبدع من هذه العنزة، وقد استقبلت كملكة صغيرة، أما الأشجار الأخرى فقد أحنت فروعها إجلالا لها وتحية.
والخلاصة أن الجبل كله احتفل بها ومجدها.
وكانت سعيدة لا حبل، ولا وتد، ليس هناك ما يمنعها عن القفز والعدو والرعي أنى أرادت.
وأي عشب، وأي زهر، وأي مرعى خصيب كانت ترعى فيه الآن وترتع! ... وقد كادت العنز البيضاء الصغيرة تجن فرحا وهي تنحدر من فوق الجبال، ثم تصعد إليها ثانية حتى إنه لم يكن عليك من حرج لو أقسمت أنه كانت هناك اثنتا عشرة عنزا من عنزات المسيو سيكين ترتع على الجبل.
وحدث وهي تنظر مرة من فوق القمة أن لمحت منزل المسيو سيكين في أسفل الوادي بحقله الخلفي، فضحكت حتى سالت دموعها، وقالت: «ما أصغره! ... كيف أمكنني أن أمكث فيه؟!» وفجأة بلا إنذار، بدأ الهواء يهب باردا، واكتسى الجبل بحلة حمراء، لقد حل المساء؛ فتعجبت العنز وقالت: «بهذه السرعة!» وقد انتشر الظل الأسود على المراعي السفلى فظهرت سوداء، واختفى منزل المسيو سيكين وراء الضباب، ولم يعد يظهر منه سوى السقف الذي كان يتصاعد منه الدخان. أصغت العنز إلى رنين الأجراس البعيدة للعنزات وهي تساق، قافلة إلى مضاجعها؛ فشعرت بالحزن يدب في فؤادها، ومر على ظهرها باز - وهو طائر - وكان راحبا إلى وكره فارتعدت، ثم سمعت من فوق الجبل نباح «عاو ... عاو»؛ فتذكرت الذئب، لقد نسيته هذه الحمقاء طول اليوم، وسمعت في نفس الوقت صوت نفير آت من الوادي، وكان مسيو سيكين الطيب القلب يبذل مجهودا أخيرا، عوى الذئب: «عو ... عو عاو!»
Page inconnue
وغنى النفير بنغماته «العودة، ارجعي ...!» كانت لبلانكيت رغبة في العودة، ولكنها تذكرت الإسطبل والجبل والمرعى والمحل، وشعرت كأن لا قبل لها باحتمال هذه الحياة ثانية، وأنه كان خيرا لها أن تظل حيث هي.
وسكت النفير ... وشعرت العنز الصغيرة صوت حركة خلفها بين الأغصان، وعندما أدارت رأسها رأت في الظلام أذنين مرهفتين، وعينين لامعتين ... وكان الذئب ...!
كان هو الذئب بجسمه الضخم، وهدوئه المعتاد. وقف الذئب بسكون يلاحظ هذه العنز البيضاء الصغيرة، وهو يفكر في التهامها وما فيه من لذة، ولما كان واثقا من أنها لن تفر من يده وأنه سيأكلها لا محالة، لم يسرع في عمله، وعندما رأى أنها التفتت إليه بدأ في الضحك! - «ها ... ها ... أيتها العنز الصغيرة ...» وأخرج لسانه الأحمر ولعق به شفتيه ... وشعرت بلانكيت أنها فقدت. ولكنها استعدت للدفاع، فتدلت رأسها، وحددت قرونها، وكم كان منظرها جميلا!
لم يكن لها أمل في قتل الذئب، لا؛ فإن العنزات لا تقتل الذئاب، بل على أمل أن تعيش إلى الفجر ... فقط.
وعندما خطا الوحش إلى الأمام، بدأت القرون تتحرك، يا لها من عنز صغيرة شجاعة!
فأي معركة تلك التي وقفت فيها أمام ذئب؟! لقد أرغمته أكثر من عشر مرات أن يتقهقر أمامها كي يسترد قواه ويتنفس، وكانت في إبان هذه اللحظة الصغيرة تملأ فمها بكل حرص من عشبها المحبوب، ثم تستمر في العراك وهي تمضغ عشبها ... وقد استغرق هذا الليل بطوله ...
ومن وقت لآخر كانت عنز المسيو سيكين تلقي نظرة إلى النجوم وهي تضيء في هذه السماء الصافية، وتقول في نفسها:
لو أمكنني أن أثبت إلى الفجر فقط؟
وبدأت النجوم تختفي واحدة فواحدة، وضاعفت بلانكيت طعناتها ونطحها، وضاعف الذئب مجهوده ليتغلب عليها.
وظهر ضوء ضعيف في الأفق، ورن صوت صياح ديك من إحدى المزارع السفلى، فقالت بلانكيت في نفسها: «... وأخيرا ...!» وتأوهت العنز المسكينة، التي كانت تنتظر الفجر فقط لتموت، ثم وقعت على الأرض وقد تلوث فروها الحريري الناعم بالدماء ...
Page inconnue
وثب الذئب على العنز الصغيرة وبدأ في التهامها!
عن «ألفونس دوديه»
سر «المعلم» كورنيل
فرنسيه ماماي، رجل كهل من الذين يجيدون اللعب على الصفارة، وهو يحضر من وقت لآخر لكي يمضي معي المساء في شرب الخمر. قص علي في يوم من الأيام قصة قروية صغيرة، كانت طاحونتي مسرحا لحوادثها، منذ عشرين سنة تقريبا، وقد ملكت قصة هذا الكهل علي مشاعري، وسأحاول أن أقصها عليكم كما سمعتها: تصوروا لحظة؛ أي قرائي الأعزاء، أنكم أمام زجاجة خمر، وأن هناك ذلك السيد العزيز يحدثكم: إن قريتنا يا سيدي العزيز لم تكن الحال بها على ما هي عليه الآن من موت وسكون، في تلك الأيام السالفة كان الحال ميسورا لأصحاب الطواحين، وكان الفلاحون يحضرون إلينا غلالهم لطحنها من بعد عشرة فراسخ. كانت كل التلال المحيطة بالقرية عامرة بالطواحين. لقد كان ممكنا للإنسان - إن تلفت يمنة أو يسرة - أن يرى الأجنحة وهي دائرة فوق أشجار الصنوبر، وقطعان الحمير الصغيرة وهي سائرة، صعودا ونزولا، محملة بالزكائب. ولقد كان لطيفا أن يسمع الإنسان طول الأسبوع أصوات «فرقعة» الكرابيج، وأصوات هذه الشراع الهائلة وهي دائرة.
وفي أيام الآحاد كنا نصعد إلى التلال في جماعات، وهناك كان أصحاب الطواحين يقدمون لنا النبيذ الأحمر، أما زوجاتهم فكن أشبه بالملكات في جمالهن بنقبهن وصلبانهن الذهبية. وكنت أنا أستحضر معي صفارتي هناك، فكنا نمضي الوقت إلى ساعة متأخرة من الليل وهن يرقصن رقصهن القروي؛ ومن ذلك ترى أن هذه الطواحين الهوائية كانت مفخرة مقاطعتنا، بل كل ثروتها.
ولكن من سوء الحظ أن فكر بعض الفرنسيين من أهل باريس في بناء طاحونة تدار بالآلات، عند مفترق الطريق إلى ترسكون ...
ولكل جديد طلاوة؛ فلقد فضل أهل القرية إرسال غلالهم إلى الطاحونة الجديدة، ووقفت الحركة في الطواحين الهوائية بعد أن استمرت برهة تحارب في موقعة خاسرة؛ إذ إن الآلات كانت قوية جدا، وبدأت طواحين الهواء واحدة فواحدة تغلق أبوابها.
اختفت تلك الحمير الصغيرة. أما الزوجات الجميلات فقد بعن صلبانهن الذهبية، واختفى النبيذ الأحمر، وانعدم الرقص. نعم كان الهواء يهب إلا أن شراع الطواحين بقيت ساكنة. حتى أتى وقت هدمت فيه دائرة الكنيسة هذه الطواحين، وزرعت مكانها أشجار الزيتون والكروم.
غير أنه في وسط هذا الخراب عاشت طاحونة واحدة، واستمرت دائرة بشجاعة، وكانت هي طاحونة «المعلم» كورنيل. وهي هي بذاتها هذه الطاحونة التي نجلس فيها الآن.
كان «المعلم» كورنيل يبلغ الستين من عمره، قضاها كلها في طحن الغلال. وكان فخورا بصناعته، وقد كاد يجن حين استحضرت آلات الطحن الجديدة في القرية. وقد كنا نراه مدة ثمانية أيام متوالية وهو يسرع الخطا في القرية ويجمع الناس حوله ويصيح فيهم بأعلى صوته: «إنهم يقصدون تسميم أهل المقاطعة بالدقيق المطحون على الآلات!»
Page inconnue
وكان يزيد على ذلك: «لا تذهبوا هنالك، إن هؤلاء الأشقياء يستعملون البخارة لعمل الخبز، وهذا اختراع من الشيطان. أما أنا فأشتغل بالرياح الجنوبية والشمالية، التي ما هي إلا نفس الله!»
وكان يجد بضع جمل أخرى طريفة مثل هذه في مدح طواحين الهواء، إلا أنه لم يجد من يصغي لنصائحه، وبعدئذ في ثورة غضبه سجن ذلك المسن نفسه في طاحونته، وعاش منفردا كالوحوش، حتى إنه لم يسمح لحفيدته الوحيدة «فيفيت» - وهي طفلة في الخامسة عشرة - أن تعيش معه، مع أنها منذ وفاة والديها لم يكن لها في العالم غير جدها، فكانت هذه المسكينة مضطرة أن تسعى وراء عيشها، فكانت تؤجر نفسها في المزارع للحصاد وجمع الزيتون، ومع ذلك كان يظهر أن جدها يحبها غاية الحب.
فكثر ما كان يقطع أربعة فراسخ في الشمس المحرقة كي يتزود منها بنظرة وهي تشتغل، وكان إذا وصل إليها أخذ يرقبها ساعات طويلة والدموع تجول في عينيه!
وكانت كل المقاطعة تظن أن هذا الطحان المسن قد أبعد عنه فيفيت لبخله، وأنه كان لا يهمه تنقل حفيدته من مزرعة إلى مزرعة معرضة لمعاملة العمال الفظة، ولكل الشقاء الذي تتعرض له اليد المستأجرة، وكانوا يظنون أنه من العار أيضا أن رجلا في مقام «المعلم» كورنيل - وكان إلى ذلك الوقت محترما غاية الاحترام - يمشي حافي القدمين، بقبعة ممزقة، وثياب مهلهلة ... والحق أنه عندما كان يحضر للكنيسة في أيام الآحاد كنا جميعا نخجل منه ونرثي لحاله، وعندما تبين له ذلك غير مكانه القديم، فكان يجلس في نهاية الكنيسة مع الفقراء.
أما اللغز الوحيد في حياته فقد كان استمرار دوران أجنحة طاحونته، رغم عدم إقدام أحد على إحضار غلاله إليه. ولقد كنت في المساء تقابل هذا الطحان المسن وهو يسوق حماره المحمل بأكياس الغلال، وكان الفلاحون يصيحون به: «مساء الخير يا معلم كورنيل! الطاحونة تشتغل أليس كذلك؟»
فكان يجيبهم منشرحا: «هي شغالة دائما، فلنشكر الله فالعمل كثير.»
ثم إذا تساءل أحد: من أين كان يأتي له كل هذا العمل؟ وضع الرجل أصبعه على شفتيه وأجاب: «لا تنبسوا ببنت شفة، فأنا أشتغل بالتصدير!» ولم يكن مسموحا لأحد بالمرة بالدخول إلى الطاحونة، حتى الصغيرة فيفيت لم يكن مصرحا لها، وكان المار في الطريق لا يجد الباب إلا مغلقا، والطاحونة دائرة والحمير التي بلغت من السن عتيا ترعى على الرصيف، وكانت هناك قطة تنظر شذرا للمارين وهي جالسة في الشمس على حافة الشباك.
لقد كان الأمر محوطا بالأسرار، حرك الألسنة بالحديث، وكان لكل واحد نظرية مختلفة في سر المعلم كورنيل. أما الفكرة العامة فهي أنه كان يخفي داخل طاحونته أكياسا من النقود لا الدقيق. ... وأخيرا انكشف السر بهذه الطريقة؛ بينما كنت أعزف على صفارتي للشبان عند الرقص في يوم من الأيام؛ إذ تبين لي أن ابني الأكبر قد هام غراما بفيفيت، فلم أغضب؛ فإن اسم كورنيل كان اسما شريفا، وفوق ذلك فقد كان مما يدخل السرور إلى قلبي أن أجد هذه العصفورة الصغيرة - فيفيت - وهي تمرح في منزلي، ولكن لما كانا هو وهي دائما معا؛ فقد رأيت أن أحتاط للأمر من مبدئه كي تجري المياه في مجاريها في المستقبل؛ فسرت إلى الطاحونة كي أتحدث مع جدها.
ويا للعجب! لكم كان يسرك أن ترى كيف استقبلني، لقد رفض أن يفتح الباب، ولقد شرحت الأمر مفصلا والباب مغلق في وجهي من موضع المفتاح، وفي إبان حديثي لم تنقطع القطة الملعونة عن المواء فوق رأسي!
ولم يترك لي هذا الكهل فرصة أخرى كي أنتهي من حديثي، فقد خاطبني بغلظة آمرا أن أرجع إلى صفارتي، وإذا كنت أريد أن أزوج ابني فأولى أن أبحث عن فتاة في معمل من المعامل!
Page inconnue
ويمكنك أن تتصور كيف صعد الدم إلى رأسي عندما سمعت هذه الكلمات، ومع ذلك قد هدأت ثائرتي، ورجعت تاركا هذا الأبله في طاحونته؛ كي أقص على الطفلين قصة فشلي.
ولقد كان من الصعب عليهما أن يصدقا. ولقد توسلا إلي أن أرجع معهما إلى الطاحونة كي نتحدث إلى الجد، ولكني رفضت. وما أسرع أن رأيتهما وقد ذهبا بلا ثالث.
وعندما وصلا وجدا المعلم كورنيل قد خرج وأغلق الباب، ولكنه ترك سلمه الخشبي في الخارج، وخطرت الفكرة في بالهما فجأة أن يصعدا ويدخلا عن طريق النافذة ليعرفا حقيقة ما كان داخل هذه الطاحونة المشهورة!
وياللغرابة! لقد كان المخزن خاليا، لم تكن هناك حبة واحدة، لم يكن هناك أثر للدقيق حتى على الحائط، لم تكن هناك تلك الرائحة الجميلة، رائحة الدقيق المطحون، التي تغشى عادة كل طاحونة. كان داخل الآلة فارغا مغطى بأكوام التراب، والقطة الكبيرة نائمة عليها. أما الغرف السفلى فقد كانت على نفس هذا الحال الغريب، فراش مكسر، بضع خرق بالية، وبضع كسرات من الخبز ملقاة على السلم، وفي ركن من الأركان ثلاث أو أربع أكياس ممزقة، وقد تفجر منها الملاط والطباشير! وكان هذا هو سر المعلم كورنيل، هذه هي «البضاعة» التي كان يحملها في المساء بين الوديان كي ينقذ شرف طاحونته، ويجعل الناس يصدقون أنها غلال! مسكينة أيتها الطاحونة القديمة! مسكين أي كورنيل الكهل! لقد كانت الطواحين الجديدة التي تدار بالآلات سببا في إبدال عادات، نعم كانت شراع طاحونة كورنيل دائرة إلا أن الطاحونة كانت فارغة.
ورجع الصغيران والدموع تجول في مآقيهما، وقصا علي ما رأياه، وكم تأثر قلبي بما قصاه، ولم أضيع دقيقة واحدة في الذهاب إلى الجيران، وأخبرتهم جلية الأمر في كلمات قليلة، واتفقنا جميعا على أنه يجب إرسال كل الغلال الموجودة بالقرية إلى طاحونة المعلم كورنيل، وكان التنفيذ سريعا كالاتفاق؛ فقد خرجت القرية كلها، ووصلنا كلنا بموكب حافل مع الحمير المحملة بالغلال، غلال حقيقية هذه المرة.
وكان باب الطاحونة مفتوحا على مصراعيه، وفي الخارج جلس المعلم كورنيل على كيس من الملاط وهو يبكي برأسه بين كفيه؛ فقد عرف عند رجوعه أن هناك أحدا قد دخل الطاحونة واكتشف سره، وكان يبكي: «ويل لي! لم يبق لي إلا أن أموت، لقد ذهب شرف الطاحونة!»
وكان يشهق بالبكاء وينادي طاحونته بأرق الأسماء وألطفها، كأنها كانت كائنا حيا. وعندما وصلنا إلى الرصيف بدأنا نناديه جميعا نداءات الأيام الخالية السعيدة: «هنا أيها الطحان ... هنا يا معلم كورنيل.» وتكومت الأكياس أمام الباب، وبدأت الحبات الصغيرة تتدحرج على الأرض في كل ناحية.
وقد حدق المعلم كورنيل فيها بعينيه، ثم لم يلبث أن وضع يده في كيس من الأكياس وأخرجها ملآنة، ثم نظر فيها وقال ضاحكا وصائحا: «غلال ويح نفسي! غلال طيبة! دعوني أتزود منها بنظرة!» ثم التفت إلينا وقال: «كنت أعلم أنكم سترجعون إلي، إن هؤلاء الأجانب ليسوا إلا لصوصا.» ولقد كنا نريد أن نحمله كالفائز المنتصر ونمر به في القرية. - «لا، لا، يا أصدقائي، يجب علي أولا أن أغذي الطاحونة ... فكروا، منذ عصور وعصور لم تضع شيئا بين أسنانها.»
وقد كادت عبراتنا تجري ونحن نرى هذا الكهل المسكين وهو يجري هنا وهناك مفرغا الأكياس وملاحظا الطاحونة وهي تطحن الغلال، والدقيق وهو نازل منها إلى ناحية الحائط.
ويجب أن تذكر لنا هذه الحسنة، فمنذ ذلك اليوم لم نترك الطحان الكهل بلا عمل.
Page inconnue
ولكن أخيرا، توفي المعلم كورنيل في صباح يوم من الأيام، ووقفت شراع آخر طاحونة بقيت لنا عن الدوران ... وإلى الأبد هذه المرة.
مات المعلم كورنيل، ولم يتقدم أحد ليحل محله.
نعم، نعم، لكل شيء في هذه الحياة نهاية، وأحسب أن يوم طواحين الهواء قد انتهى كما انتهى زمن قوارب الركاب على الرون، وأيام الجمعيات الوطنية في فرنسا.
عن «ألفونس دوديه»
وفاة ولي العهد
ولي العهد الصغير مريض، ولي العهد الصغير على شفا الموت، في كل كنائس المملكة تلقى الصلوات والشموع الطويلة تحترق على أمل أن يشفى الطفل الملكي، في شوارع العاصمة القديمة حزن وسكون، ولا يسمع قرع للأجراس. أما العربات فتسير ببطء متمهلة، وحول القصر اجتمعت الجماهير ترقب ما يجري باهتمام خلال القضبان، أما حراس الأبواب بملابسهم الذهبية الرسمية فقد اجتمعوا في الردهات يتكلمون باهتمام.
إن القصر كله في قلق، فالوصيفات ومديرو القصر يسارعون هنا وهناك على الأدراج الرخامية، أما الأروقة فمملوءة بالخدم والحجاب بملابسهم الحريرية وهم ينتقلون من جماعة إلى جماعة لكي يتسمعوا الأخبار الأخيرة بأصوات ضعيفة. أما على السطح الواسع فإن حاجبات الشرف ينحنين لبعضهن في التحية وهن يجففن أعينهن بمناديلهن المزخرفة الجميلة.
وعند حديقة البرتقال مجمع مزدحم من الأطباء، ومربي ولي العهد ونائب الملك يروحان جيئة وذهابا خارج باب الحديقة في انتظار قرار المجمع، ويمر من أمامهما الخدم بدون أن يحيوهما. أما نائب الملك فهو يقسم ويجدف بالله كالكفرة، والمربي فهو يتلو شيئا من «هوراس»، وفي كل آونة تأتي من ناحية الإسطبلات صهلة عالية، هذا حصان ولي العهد الكستنائي وقد نسيه الخدم، فهو يشكو بغضب عندما يواجه مذوده الفارغ.
والملك؟! أين جلالة الملك؟ لقد أغلق الملك غرفته على نفسه منفردا في الجانب الآخر من القصر، إن الملكية تأبى أن يراها أحد وهي تبكي! أما الملكة فشأنها شأن آخر؛ فهي جالسة بجانب سرير ولي العهد، ووجهها مندي بالدموع، وهي تشهق بالبكاء بصوت عال قبل أي شخص آخر، وما كان أشبهها حينئذ بزوجة تاجر أقمشة بسيط! وفي وسط سريره المغطى بالشرائط، يجلس ولي العهد بوجه أبيض من فرش سريره ووساداته، وبعينيه المغلقتين، وهم يظنون أنه نائم، ولكن لا إن ولي العهد الصغير ليس بنائم، فهو يدير رأسه إلى ناحية أمه، وعندما يراها باكية يقول لها: لماذا تبكين جلالتك؟ هل تظنين حقا أنني سأموت؟
تحاول الملكة الكلام، غير أن شهقاتها تمنعها. - لا تصرخي يا صاحبة الجلالة، إنك تنسين أنني ولي العهد، وأن ولي العهد لن يموت هكذا!
Page inconnue
أما شهقات الملكة فيزداد صوتها في الارتفاع، حتى إن الرعب يبدأ يدب في قلب ولي العهد وهو يقول: لا أريد أن يأتي الموت ويأخذني، وأنا أعرف كيف أمنعه من الدخول إلى هنا.
مروهم أن يرسلوا إلي في الحال أربعين من طوال الفرسان لكي يتولوا الحراسة هنا حول سريري، وليستعدوا بمائة مدفع عظيم، ليل نهار، بنار متأججة تحت شبابيكي.
وبعدئذ إذا أتى الموت فليأت مخاطرا بنفسه!
ولكي تسكن الطفل الملكي، تشير الملكة، وفي الحال، كان يمكن للإنسان أن يسمع المدافع العظيمة وهي تتدحرج في الردهة، وأن يرى أربعين من طوال الفرسان وقد احتملوا رماحهم الطويلة، أحاطوا بالغرفة.
وقد عرف ولي العهد أحدهم فهو يناديه: «لورين ... لورين.»
ويتقدم الجندي المسن خطوة نحو السرير: «إني أحبك يا عجوزي لورين، أرني سيفك الطويل، إذا حاول الموت أن يأخذني فستقتله، أليس كذلك؟» ويجيب لورين: «نعم يا أميري.» وتنحدر دمعتان كبيرتان على خده المجعد.
وفي هذه اللحظة يتقدم القس إلى ولي العهد، ويحدثه مدة طويلة بصوت منخفض مظهرا له الصليب، ويصغي إليه الطفل ولي العهد بنظرة عجب، ثم يقاطعه فجأة: «إني أفهم ما تقول يا سيدي الأب، ولكن ألا يمكن أن يموت صديقي بيبو بدلا مني إذا أعطي نقودا؟!»
ولكن القس يستمر في حديثه بصوت منخفض، ويزداد الطفل ولي العهد استغرابا، وإذا انتهى القس يقول ولي العهد بأنة عميقة: «إن كل ما ذكرته لي محزن جدا يا سيدي الأب، ولكن شيئا واحدا يعزيني، وهو أن هناك في جنة النعيم سأظل ولي عهد أيضا ... إني أعلم أن الله ابن عمي، ولن يغفل أن يعاملني حسب مركزي!»
ثم يضيف ملتفتا إلى والدته: «أريد أن يستحضروا لي أجمل ملابسي، أريد سترتي البيضاء المزينة بالفرو، وحذائي المصنوع من المخمل، أريد أن أتأنق لأجل الملائكة ولكي أدخل الجنة لابسا اللباس اللائق بولي العهد!»
وينحني القس للمرة الثالثة على الطفل ولي العهد ويحدثه بصوت منخفض، وعندما يستمر في الحديث يقاطعه الطفل الملكي معارضا: «ولكن في هذه الحالة ما هي الفائدة من أن يكون الإنسان ولي عهد؟»
Page inconnue