وشمل الصمت أربعتهم بعض الحين، ثم ما لبثت سهير أن رأت السيد عبد البديع يدخل من باب المحكمة مضطربا بادي الألم، ورآهم السيد، فأقبل إليهم مسرعا، وحياهم جميعا في أدب حزين، ثم أراد أن ينتحي ناحية، ولكنه رأى جعفر وحسام يدخلان الساحة، فوقف حيث هو ينتظرهما، وقصد الشابان إلى حيث كان الجميع يجلسون، وقالت سهير: كيف أنت يا حسام، متى جئت من البلد؟ - أمس مساء، طلبتني أمي.
ثم التفتت سهير إلى جعفر: كيف حالك يا جعفر؟ - بخير يا عمتي، الحمد لله.
ثم انتحى جعفر وحسام بالسيد ناحية مستترة، وراحوا يدخنون في صمت، وأنظارهم إلى الباب تنتظر مجيء أحمد.
ولم يطل بهم الانتظار، فسرعان ما جاء أحمد مرتديا ملابسه العادية، لم يزد عليها إلا القيد الذي يكبل يديه، ونظرت سهير إليه، وزأرت في صدرها صرخة مجنونة، لم يمنعها من الانطلاق إلا أنها في صدر سهير تمور، ولم تجد الصرخة سبيلا إلى الهواء إلا في كلمة واحدة، قالتها الأم في صوت خفيض كسير، ملتهب النغمات، واله الرنين: أحمد.
ونظر سليمان إلى ابنه يقترب منه والقيد في يديه، ابنه المتكبر الذي لم يره في القصر إلا عالي الرأس، حاسم الأوامر، شديد الترفع، قليل الحنين لأبيه، قليل الاحتفاء به، أحمد الذي لم يستطع رغم علمه بما يدور في نفسه نحوه إلا أن يحبه أشد الحب ... حبا يستخفي، لأنه لا يجد فرصة للظهور، أحمد المتكبر الحبيب، يقاد وفي يديه القيد، وكالنبع تسده الصخور عن الجريان، فيحطمها ويسيل، سالت الدموع من عيني سليمان.
واقترب أحمد، وراع القوم المنتظريه إشراقة في وجهه، لا تتدفق إلا عن نفس مطمئنة هادئة، ونظرت الأم إلى ابنها، وحاولت أن تبتسم، وجاهدت لتفرج فمها عن ابتسامة تصحب ابنها إلى التحقيق، ويسر لها الأمر ابتسامة عريضة طالعتها من ولدها، فلاقتها بابتسامتها هي المخضلة بالدموع، ثم لم تزد.
والتفت أحمد إلى أبيه في إشفاق وحب واهتمام: لا ترع يا أبي، لن يكون إلا ما يسرك، أقسم لك يا أبي، أقسم بحياتك أنه لن يكون إلا الخير كل الخير.
وخفق فؤاد سليمان في وجيب متدافع، بحياتي أنا؟ أبحياتي أقسمت يا ولدي؟ أحياتي عندك قسم؟ ألي حياة عندك يا ولدي؟ حذار يا ولدي أن يختطفك مني السجن! في رعاية الله يا ولدي، دعاء تردد في قلب الأب في كل خلجة من خلجات قلبه، ولكن لسانه ظل مذهولا بالمفاجأة، معقودا بالدموع، لا يطيق أن يصل بهذا الدعاء إلى أذن ابنه، ولكنه كان واثقا أن الدعاء قد بلغ آذان السماء.
ونظر أحمد إلى عمه وصفي باشا، ومد له يده، فوجد يده الأخرى تصاحبها ، فأطبق بيديه كلتيهما على يد عمه، وقال ودمعة متألقة تموج في عينه تظل بها لا تسيل: يا عمي، أنا مقدر مجيئك، ومقدر كل ما تبذله من جهد لأجلي، أشكرك لا تكفي، ولكني لا أجد غيرها، أشكرك.
وقال وصفي باشا في ثبات: أي شكر يا أحمد؟ أنت ابني، أريدك أن تثبت، بل لا أريد منك شيئا، فهذا الذي أراه في وجهك فوق ما كنت أنتظر.
Page inconnue