وكان موقف سميحة من هذا الزواج هو موقف أختها سهير، وقد حز في نفسها الألم الذي ترى آثاره على ابنها بياض النهار إذا رأته بياض النهار، والذي ترى آثاره في غياب ابنها عن البيت إلى أعماق الليل، أو هامات الصباح، دون أن تدري أين يغيب، الأمر الذي كانت تجهد نفسها أشد الجهد في إخفائه عن زوجها وتمويه حقيقته عليه.
وكان الخدم في القصر جميعهم يشعرون بالتعاسة التي ترزح على القصر وساكنيه، وكانوا يدرون مبعثها، وكان حزنهم لها عميقا، فقد كانوا يتمنون أن يفرحوا بستهم هناء، وقد كانوا يتمنون أن تتزوج من رجل يستطيعون أن يحترموه، فما كان زوجها أمامهم إلا شخصا يتسقط على مائدة أحمد بك، ثم لا شيء بعد ذلك.
هكذا كان القصر جميعه، واقعا تحت هم واصب ثقيل، فلم يضم بين جدرانه إلا شخصا واحدا لم يحفل هذا الأعراض وهذا الحزن، هو هناء نفسها، فقد اندفعت في حمأة زواجها كشيء ألقى بنفسه إلى منحدر يصب في هاوية، فما يفكر لأنه لم يعد يملك التفكير، وما يرتد، لأنه لم يرغب في هذا الارتداد، لم يكن حبها لفوزي حبا جارفا يقتلع العوارض والعراقيل، ولكنها استطاعت مع ذلك أن تحطم كل ما وقف في سبيلها، وهي نفسها عاجبة لماذا تبذل كل هذا الجهد! إنها تعلم أنه ليس حبها لفوزي ما يثير في نفسها كل هذه القوة، كانت تظن أن كرهها لأبيها ولما أنزله بأمها هو ما يبعثها إلى العنف والإصرار، ولكنها كانت تعود فتفكر أنها هي نفسها بما تعمله تنزل بأمها أقسى ألوان العذاب، وهي تعلم أنها مفئودة، وأنها تتعرض بهذا العذاب إلى نوبة قد تودي بها، وتترقرق في عيني هناء الدموع إذا جرى بها التفكير إلى هذا المتجه، ولكنها تعود إلى دموعها فتحبسها، وإلى النسمة الهادئة التي تراوح قلبها فتعصف بها في قسوة، إن كل هذا أهون من أن تتزوج شخصا لم تختره هي، ولم تصل بينها وبينه أوشاج من الهوى، مهما تكن أوشاجا هينة، كهذه التي تربطها إلى فوزي، إن هذا جميعه أهون من أن تختار أمها لها أو يختار أبوها، لقد كانت خليقة أن تقبل حسام لو لم يكن ابن خالتها، ولو لم يكن أبوها وأمها راغبين في تزويجها منه أشد الرغبة، ولو لم يكن غنيا، لقد كرهت الغنى كما قالت لأمها، كرهته حين رأت أباها ولا هم له إلا أن يصبح غنيا مهما يجنح به هذا العزم إلى انتهاب أموال أمها وخالتها التي لجأت آخر الأمر إلى زوجها أن يحميها، ولن تنسى هناء يوم تمت القسمة بين أمها وبين خالتها، ولن تنسى تلك الدموع التي سفحتها أمها، مع أنها هي التي ألحت في تنفيذ هذه القسمة، حتى تنقذ أختها من يد زوجها الغائلة، وحتى تنقذ أولادها مما قد يكون بين سامي وسليمان من فضائح، فقد كانت تعرف زوجها.
وتجمعت البواعث في نفس هناء، ولم يكن أقواها حبها لزوجها، ولكنها بواعث قد تعبرها عين الناظر إذا عرضت عليه متفرقة، فإن تجمعت جعلت من هناء هذا الإعصار الذي يدور في القصر فينفذ ما يشاء في تبجح هادئ، فما كانت تحتاج إلى ثورة.
لم تكن لهناء من مطالب بعد أن تم عقد القران، وحين فكرت أمها في جهازها، سكبت دموعا غزيرة، إن الله لم يشأ أن تفرح بجهاز عروس أبدا، إن جهازها هي اختير لها، ولم يكن لها فيه رأي، وحين أنجبت هناء، كانت تمني نفسها أن تعوض في جهازها ما فوتته على نفسها أيام عرسها، ولكن ها هي ذي ابنتها تخذل آمالها، كما خذلت هي آمال نفسها حين تزوجت، وكانت سهير تحاول أن تخفف من ألمها بعض الشيء، حين تهمس إلى نفسها أن لعل ابنتها تسعد في ظل زوج أحبته، ولكنها حين تذكر قسمات ابنتها وهي تفضي إليها بإصرارها على الزواج، وحين ترى ابنتها رائحة في البيت غادية، جامدة النأمات، صلبة الوجه، وحين تراها مستسلمة لمصيرها هذا الذي اختارته، وحين ترى فوزي وترى مقدار تبجحه على البيت، وإقباله على قوم يعلم أنهم عازفون عنه، حين تذكر وترى هذا جميعه، ما تلبث أن تذوب الهمسة المتفائلة في طوفان من هم كبير، فما هذه تصرفات فتاة في قلبها هوى، وما هذا الفتى بمستطيع أن يثير في فؤاد فتاة حبا.
ولكن هذه الأفكار جميعها لم تمنعها من أن تسأل ابنتها عما تريده في جهازها، وقالت الفتاة: لا أريد إلا أشياء بسيطة فسنعيش في شقة صغيرة.
وارتاحت الأم أنها تنتوي أن تبتعد عنها بزوجها هذا الكريه، ولكنها رأت أن تقول لها على سبيل المجاملة: ولم لا تعيشان معنا هنا؟
وقالت هناء في حزم، شأنها منذ أعلنت عن رغبتها في هذا الزواج: لا.
ولم تجد الأم وسيلة تقطع بها الحديث أن يطول، إلا أن تعطي ابنتها ألفي جنيه تفعل بهما ما تشاء، وقبلت هناء المال، ووضعته في صوانها، وضمت إليه مائة جنيه، دفعها زوجها مهرا، وانتظرت أن تسأل زوجها عما يفعلان.
وفي يوم جاء فوزي وطلب إلى هناء أن يخرجا للنزهة، وخرجت معه في سيارة أبيها، وما إن تركا البيت، حتى استوقف فوزي السائق، وأمره في ثبات أن يترك السيارة ليقودها هو، ودهشت هناء بعض الشيء من طريقته في إصدار الأوامر، ومن إعطاء نفسه الحق في قيادة سيارة لا يملكها، ولكن دهشتها لم تزد على غصة في نفسها، وسألت فوزي: أتعرف كيف تسوقها؟
Page inconnue