وقال فؤاد دون أن يلتفت إلى المسئول: إن الخطر في أنفسكم، لقد جئت منذ أيام قليلة، ولا أعرف شيئا عن السلطات هنا، أيها الإخوان، من شاء منكم أن يتخلى عن إنسانيته، ومن يشأ منكم أن يصبح قطعة حقيرة من جماد، ليس فيها من مشاعر الإنسانية إلا شعور الخوف الراعد، والفزع والقلق، ومن يشأ منكم أن يصبح شيئا بلا حرية ولا شعور ولا تفكير، شيئا ليس فيه بقية من آدمية إلا أن يسمع فيطيع، وإلا أن يظل مرتعشا أن يكون قد أخطأ السمع، أو أخطأ الطاعة، من يشأ أن يفقد إنسانيته جميعا، من يشأ أن يصبح كذلك، فليظل على هذا المذهب الذي تعتنقون.
وثارت الأصوات بالقاعة، فمن قائل «مروق» ومن قائل «خيانة» ومن قائل «برجوازية» ومن قائل «انحلال» ومن قائل «رجعية».
وثار بالقاعة أيضا جو قاتم عقد ألسنة كثيرة من الخوف، وعقد ألسنة أخرى من الدهشة، حتى المسئول ظل فترة طويلة لا يملك زمام نفسه، ثم انتبه آخر الأمر إلى موقفه هذا، فدق النضد بيده، ثم قال: نعتقد أن الرفيق ... آسف أن فؤاد زين العابدين قد أصبح برجوازيا، وأنه اتصل بأصحاب المذاهب الرجعية، وبهذا أصبح خارجا عن خليتنا، وإني أعلن فصله عنا.
وأكمل فؤاد حديثه: الآدميون هناك لا قيمة لهم، لقد قال لي بعضهم: إنهم يحيون شعور الخوف ويغذونه في أنفسهم، لأنه الشعور الوحيد الذي يربطهم بالآدمية، وهم لا يريدون أن يتخلوا عن آدميتهم، لا يريدون برغم إصرار السلطات على افتقادهم لهذه الآدمية.
الإنسانية التي يتغنى بها المذهب لا وجود لها على الإطلاق، هناك كل شيء إلا الإنسانية، الإنسان قطعة من الهمل، السلطة تهتم بمسار في آلة أكثر من اهتمامها بحياة إنسان، الفقر مدقع، والحكام يعيشون في بذخ دونه بذخ القياصرة، كل ما يتغنون به من حقوق الإنسان كلام أجوف لا تطبيق له، الأفراد والأسر يعيشون عيشة الحيوانات المذعورة التي تعلم أن الصياد وراءها دائما، والصياد لا يرتاح، والحيوانات لا تستقر، الخوف والرعب هما كل الحياة، المقدسات لا وجود لها، أيها الإخوان، لو لم أر هناك إلا الخوف والرعب اللذين يحيا فيهما القوم لكان هذا كافيا لأن أعتزل مذهبهم، أيها الإخوان، سأترككم بعد أن ألقي عليكم تحية الإسلام دين المشورة، ودين الأمن والاستقرار، وأرجو أن تجيبوا تحيتي وتتبعوني إلى الهواء الطلق ... السلام عليكم ورحمة الله.
وبهذه الجملة الخطابية خرج فؤاد من القاعة في هدوء، وكأنه لم يستثر كل هذه المشاعر، وران الصمت على القوم، صمت حائر لا يدرون أيصدقون هذا الوافد عليهم من مصدر مذهبهم، أم لا يحفلون بما قال؟ تزعزعت الثقة في النفوس، ولكن المسئول سارع قائلا: لا شك أنكم تعرفون أننا نحارب بكل الوسائل والطرق، ولا شك أنكم قد سمعتم هذا الكلام قبل اليوم، فهو كلام أعدائنا، ولقد انضممنا إلى هذا المذهب بعد أن وثقنا به كل الثقة، فإذا كان لهذا الحديث الذي سمعناه الآن أي أثر في نفوسنا فمعنى ذلك أننا نستهين بعقولنا، ونستهين بكرامتنا، وبمبادئنا، ولا أظن أننا ضعاف العقيدة لدرجة أن حديثا كهذا يجعلنا نشك في المبدأ الذي ضحينا في سبيله بكل شيء.
والتمعت ابتسامة على شفتي فوزي، فهو يعلم أن المسئول لم يضح بشيء إلا بتوقيع شهري يقبض في مقابله مبلغا من المال ضخما، ولكن هذا لم يمنعه أن يقول: بطبيعة الحال أيها الرفيق، هذا كلام انحلالي، رجعي، برجوازي، وإننا نسمعه كل يوم، فنرجو منك أن تعتبر الأمر كأن لم يكن، وتدخل في جدول الأعمال.
وكالقطيع التائه راح الآخرون يرفعون ثغاءهم مؤيدين قول فوزي، وأخذ المسئول في حديث آخر، حديث متخبط، فما كان يدري ماذا يقول بعد أن أفسد عليه فؤاد برنامج الليلة.
وانتهى الاجتماع، وخرج أحمد، مسرعا متجاهلا نظرات فوزي إليه، التي كانت تدعوه لينتظره، لم يكن يريد أحدا ليسير معه، كان يريد أن يخلو لنفسه.
يبدو على فؤاد زين العابدين أنه صادق فيما قال، ولكن كيف يترك الخلية؟ ماذا يصبح إذن؟ إنها كل شيء له، كيف يترك هذا العمل الكبير؟ أهو العمل الكثير الذي يجذبه إليها، أم تلك التهاويل والطقوس؟ أهو العمل الكبير ما يجذبه إليها، أم أنه أصبح وله اسم آخر، وأنه يتخفى من العيون، وأن عيون السلطات تتابعه، وأنه ذو أهمية بالغة في دوائر الحكومة والأمن العام؟ إنه يهرب إلى هذا المذهب من الفراغ الذي يعانيه في حياته، إنه يهرب إلى الرفاق من فشله في كل شيء حاوله، وهو الذي لم يعرف في بيته الفشل أبدا، لم يسمع كلمة «لا» في بيته أبدا، ولكنه سمعها حين أراد أن يكون موسيقيا، وسمعها حين أراد أن يكون رساما، وسمعها حين أراد أن يكون كاتبا، سمع «لا» صارمة ليس فيها رقة ولا مجاملة، لقد رفضه الفن، ولم تقبله في جنبات الحياة إلا هذه الخلية التي يستخفي فيها من حقيقة فشله ، ومن حقيقة الحياة التي أبت أن تعطيه إلا مالا ضخما هو أمه، دون حتى أن تكمل هبتها بأب يستطيع أن يحترمه، ويله من أبيه! إنه هو من جر عليه كل هذا البلاء الذي يعانيه، إنه أب بلا ضمير، بلا كرامة، بلا تقدير لأي معنى كريم، لماذا تعطي الطبيعة لجعفر أبا مثل وصفي باشا، وتبخل عليه بأب شبيه ... لقد كان يريد أي أب يحترمه، لا ضرورة أن يكون باشا، ليكن مثل عمه سامي زوج خالته، إنه رجل محترم، ولكن هذا الأب الذي رماه به الزمان والذي يأبى أن يحترم نفسه في أي مكان، حتى في وظيفته حقير، إنه أوشك أن يلوث وصفي باشا، بل إن جريدة معارضة لوصفي باشا عرضت برشوة معينة، أخزاه الله، لقد كفرت بالله من أجله، لم أتصور أن يقول الله العالم بعباده إن الرجال قوامون على النساء! أمثل هذا يكون قواما على أمي؟ في أي شريعة يكون ذلك، لا، أنا كافر بهذا الدين، وكافر بهذا الله الذي يقول إن أبي قوام على أمي، والذي يقول واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، أخفضه لأمي نعم، ولكن لأبي هذا؟ كيف؟ ألا أقول له أف! أقسم ... أقسم بماذا؟ أقسم بشرفي أنني أقول أف كلما ذكرت أبي، أقولها في نفسي، ولو كانت لي بعض جرأة لواجهته بها، بل إني كثيرا ما أجيب حديثه بشيء من الكبر، لا، لا أستطيع أن أحترمه، ولا أن أحترم دينا يحترمه، كيف أترك مذهبي إذن؟ وإلى أين مصيري إن تركته؟ في أي ناحية من نواحي الحياة يكون تفوقي؟ الشهادة الجامعية في يد الآلاف، لا بد أن أكون شيئا غير هذه الشهادة، وأي شيء يمكن أن أكون؟ لا مكان لي إلا هذه الخلية، هي مجدي، وهي مجالي، وليقل فؤاد ما يشاء أن يقول، فما أستطيع أن أطيعه، لا ... لا أستطيع.
Page inconnue