وصحا السيد من غمرته ليجد النقاش لا يزال يدور حول سيارة حسام، فجعفر يقول: عجيب أنت يا أحمد، تركب سيارة فاخرة وتعيش في قصر باذخ، ثم تأخذ على الناس أن يركبوا ما تركب، ويسكنوا في مثل ما تسكن. - هذه ليست سيارتي، ولا هو بيتي. - يا أخي ... بع السيارة وتصدق بثمنها على الفقراء. - هذه مشكلة تافهة، فما ثمن سيارة وسط مستنقع الفساد، النظام جميعه فاسد، رأسمالي برجوازي، إنني بسيارتي أخدم الهدف الذي أسعى إليه، ولو أن هذا سر ما كان لي أن أبوح به. - والله إن لم تبح به لما أحسست بالمتعة التي تحسها فيه، إنك لا تمشي خلف مذهبك هذا إلا من أجل ما تتوهم أنه أسرار، تهاويل وطقوس ومراسم هي التي تغريك. - هذا كلام الانحلاليين.
وقفز حسام عن كرسيه في غضب: ليست هذه عيشة، إن واحدا منا لا ينطق بكلمة حتى تنقلب إلى مناقشة وبرجوازية وانحلالية وديمقراطية وزفتية وبعد، ألا نرتاح من هذه المصائب لحظة؟ قل لي يا حبيبي يا أحمد، قل لي يا أخي، أتعتقد أن الرفيق الأعلى، وأقصد ستالين بالطبع، أتعتقد أنه لا يضحك أبدا؟ أتعتقد أنه لا يتكلم في شيء آخر غير هذا الهذاء الذي تقوله؟ إذن فعيشته سوداء، أنا خارج يا أخي، واستمروا أنتم في نقاشكم!
وضحك جعفر، وهو يقول: اقعد، اقعد ولن نتكلم في هذا، اقعد وهرج كما تشاء. - لا يا أخي لن أقعد، أنا ذاهب يا أخي إلى أصدقاء حمير مثلي، يتكلمون عن ... النهاية ... هناء معنا، يتكلمون يا أخي كخلق الله الآخرين، نضحك يا أخي نتمتع بحياتنا ولا ننكدها، السلام عليكم، يا هناء قولي لخالتك إنني خرجت، وسأرجع متأخرا بعد السينما.
وقالت هناء: خالتي هنا!
فقال حسام وهو واقف بالباب: نعم إنها في الدور الأعلى مع خالتي ومعها نوال.
وخرج حسام، وقامت هناء وهي تقول: سأصعد إلى خالتي، فإني من زمن لم أرها.
وقال جعفر: وأنا أيضا سأصعد معك لأرى عماتي، ألا تأتي معنا يا أحمد؟
وقام أحمد متثاقلا وهو يقول: آتي.
وخلت الغرفة بالسيد، فأبقى بابها مفتوحا، واتخذ لنفسه كرسيا مواجها للباب، ليرى هناء إن هي حاولت الخروج.
صعد الثلاثة إلى الدور الأعلى وتبادلوا التحيات، وجرى الحديث بين الجميع، والتقط جعفر طرفا منه وراح يتحدث، ورأى أحمد الجميع ينصتون إلى الحديث، يضحكون أو يبدون اهتماما يرتاح إليه المتكلم، وراح يسائل نفسه ... لماذا لا يستطيع هو أن يتكلم؟ بل لماذا لا يستطيع أن يفعل شيئا على الإطلاق؟ جعفر يكتب في المجلات، وأنا أكتب ولا أستطيع أن أنشر شيئا، بل إنني لو خلصت إلى ضميري، لحكمت على ما أكتب بأنه غير صالح، ولقد لجأت إلى الكتابة بعد أن حاولت الرسم فلم أفلح فيه، ولن أنسى يوم أحضرت لي أمي هذه الكمنجة الفخمة، ثم لم أستطع أن أعزف عليها شيئا، لا شيء، أنا ... لا شيء على الإطلاق ... اللهم إلا المذاكرة والنجاح، المصيبة أن جعفر والرسامين من إخواني والموسيقيين، أغلبهم يذاكر وينجح، فبماذا أمتاز عليهم؟ إنني في هذا البيت إله، إن أحدا لا يتمتع في بيته أو في ملكه كما أتمتع أنا، إشارتي أمر، وكلمتي تقديس، وأوامري تنزيل من حكيم عليم، على حد احترامهم للحكيم العليم، ولكني إذا تركت البيت فما أنا، أنا لست شيئا إلا منذ انضممت إلى إخواني هؤلاء، أحسست أني أفكر للكون جميعه، وأرسم الخطة للعالم أن يسير عليها، أنا في ذلك المكان شيء خارج عن قطيع الناس، ولكني أريد أن أكون فيه ذا سلاح، نعم لم يبق لي إلا القلم، إنه أسهل الفنون، فما يحتاج الأمر في الكتابة إلا أن أخط على الورق، ولكن هؤلاء الصحفيين لا يعترفون بي، يقول جعفر «اقرأ»، فهل قرأ هو؟ نعم، أظنه فعل، ولكن جعفر آسن العقل، لا حرية في تفكيره، ولا في اتجاهه، مقيد بالتقاليد الآسنة، الحمد لله أنه كذلك، وإلا انضم إلى جماعتي، وحينئذ لن أكون أنا شيئا، بينما أنا الآن بينهم كاتبهم الأوحد، لأن أحدا منهم لم يحاول الكتابة، ولكن ماذا أكتب لهم؟! بحسبي أنهم يطلقون علي لقب كاتبهم، وما هو بالشيء الهزيل.
Page inconnue