ما الجديد؟ أهي المرة الأولى التي يدعوك فيها إلى اللقاء بعد زواجك؟ ليست الأولى، لقد طالما جاءت إليك أم وديدة بموعد له فرددتها، نعم إنك لم تطرديها ولكنك رفضت موعدها، لم تمنعيها من دخول البيت، لأنه كان يطيب لك أن تعرفي أنه يفكر فيك، وأنه يريد لقاءك، ولكنك كنت ترفضين اللقاء، فلماذا تريدين هذا اللقاء اليوم؟
ماذا تريدين من الذهاب؟ مكانك، لا تذهبي، مكانك؛ فكبرياؤك أعظم من هذا اللقاء، وكرامتك أغلى من هذا الحب، فهو الحب إذن؟ نعم وأدريه، فلأذهب إذن! إنه الحب يدعوني وهو كل شيء، حب أبتر لا يلاقيك فيه، حب بلا أمل، بلا أمل؟ من يعرف المستقبل؟ من هذا الذي يستطيع أن يؤكد أن لا أمل؟ وأين لي بالأمل؟ مكانك! فقد مرت السنون، وأخشى أن ينفض القلب أغلفة الأيام، ويصبو إلى هواه الأول، ويحك! إن الأيام لم تغلف قلبك، إنه ما زال إلى حبه الأول يرنو عصي الجمحات، واله الخفق، ملتهب الحنين. مكانك فلن تزيدي قلبك إلا جموحا وخفقا وحنينا، وهل ثمة زيادة للمستزيد؟ مكانك فلا أمل ثمة إلا سراب، ولا شيء هناك إلا ألم، لا، لن أذهب! ونظرت إلى الساعة، فإذا هي السادسة والنصف، فحزمت أمرها على ألا تذهب، ولكنها لم تر بأسا أن تنزل إلى الحديقة وتسير في طرقاتها تحاول ما وسعها الجهد ألا تعود إلى ذلك النقاش مع نفسها، وسارت تفكر في ألا تفكر في موعدها، وعصت الخطى تفكيرها، فإذا هي عند السلم، وإذا هي دون وعي تنفض الحديقة بعينيها، ثم تسلم إلى السلم أقدامها! - سهير.
وفي وجيب قوي قالت: وصفي.
وارتمت على المقعد الحجري، وألقت برأسها إلى راحتيها، وانطلقت في بكاء يعلو نشيجه في صدرها، حتى إذا أراد أن ينفجر كتمه حذر وكبر.
وارتمى وصفي إلى جانبها حائرا تسيل الدموع على وجهه فياضة السكب، صامتا ملقيا برأسه إلى قبضته، ناظرا إلى الأرض لم يجد غيرها يحتمل نظراته.
وطال بهما الصمت والبكاء لم يفيقا إلا على صوت يأتيهما من النيل: يا بك.
ولم يجب أحدهما، ولكن الصوت ألح: يا بك، القارب يا بك!
وقام وصفي إلى حافة المرسى، فوجد القارب وبه صاحبه، فنفحه مبلغا من المال، وطلب إليه أن يعود بعد حين آخر، وعاد إلى سهير، فوجدها ترقأ وهي تقول: لماذا؟ لماذا يا وصفي؟ - ماذا تريدين أن أقول؟! - لماذا؟ - حمق وجهل وطفولة ورعونة. - ولكنك أضعت حياتنا، ألقيت بي إلى الشقاء والبؤس والألم والحسرة، حياتي كلها أضعتها، لماذا لقيتني ما دمت كنت تنوي أن تفعل بي ما فعلت؟ - سهير، إنني أحاسب نفسي حسابا أشد عسرا، فدعيني وما بي، ولا تزيديني ألما وحسرة. - ماذا تريدني أن أقول؟ ماذا تنتظر مني أن أقول؟ - سنوات مررن لم نلتق، ألا تجدين شيئا تقولينه؟ - سنوات مررن، لا، لم تحسها أنت، لقد شغلتك الحياة عن السنوات تمر، أما أنا فقد أمضني كل يوم من هذه السنوات، بل لقد شقيت بكل لحظة في كل يوم من هذه السنوات، حرمت فرحة الزواج، بل شقيت بهذه الفرحة، وحرمت فرحة الأمومة، وأنا أم لطفلين، كلاهما جميل، أحبهما ولكني لم أفرح بمجيئهما، حرمت كل شيء جميل، وكل شيء حولي كان حريا أن يكون جميلا لولاك، لولاك الذي تجيء اليوم لتقول لي في سهولة ويسر: حمق ورعونة، ولتقول لي سنوات مررن! ماذا تدري أنت عن هذه السنوات؟ - أدري الكثير، أدري الألم كلما خلوت إلى نفسي أو إلى بيتي، أدري أنني لم أستطع أن أهوى زوجتي أو أرى فيها غير زوجة بلا حب جامح عرفته لك ولم أجده لها، ظننت الحب يأتي هونا مع الأيام، فإذا المودة هي التي تأتي لا الحب، عرفت الليالي الطويلة، تصطرع حولي الأحداث وأجاهد ما وسعني الجهد، ثم أعدم في بيتي اليد المؤاسية والعقل الذي يعي جهادي، والأحداث والصراع، أحسست السنوات بطيئة، وانية الخطو ثقيلة الليالي. - عرفت الليالي؟! لعلك عرفت ساعة من ليلة أو ساعتين، أما أنا فالأيام والليالي والدقائق واللحظات، سوداء كلها بلا صراع ولا أمل ولا حياة ولا شيء! ماذا عرفت أنت؟! - بعض هذا يا سهير، بعض هذا، كلانا شقي ببيته. - وماذا تريدنا أن نفعل؟ - أما أنا فبيدي أن أفعل، فهل تستطيعين أنت؟ - ماذا؟ إلى أي هدف ترمي؟ - أنا في حياة لا أطيق المضي فيها. - وأنا في حياة لم أطق العيش فيها. - سليمان سهل. - لا، ليس سهلا. - تعرفين ضعفه. - المال والبنون. - والبنون؟! - إذا كانوا لا يكلفون مالا. - قولي له لا أحبك. - إنه يعرف. - قولي له لا أطيق العيش معك. - أتظنني أستطيع؟ - ألا يستطيع حبك لي وكرهك له؟ - لا أدري. - اجعلي له من المال ما يريد. - يرضى. - إذن. - وأنت؟ - أطلق زوجتي! - إذن. - فالليلة تخبرين زوجك. - ادع لي أن أستطيع. - حبنا أقوى من الخوف ومن الإشفاق. - اطلبني غدا في التليفون. - فإلي الغد.
وقامت سهير إلى القصر، وظل وصفي في مكانه ينتظر القارب، وهو شارد الذهن حيران اللب، يجمع أمره على أمر ويخشى عواقبه، فيمحو عنه الخشية حب جامح وملالة من حياة يقطعها وأمل في جديد من الحياة.
ويصل وصفي إلى منزله، فيجد البيت خاليا، ماذا؟ وكأنما خشي أن تكون زوجته قد أدركت ما كان من أمره، ثم ما يلبث أن يعرف أن أم زوجته تعاني أزمة مريرة، فلم تجد زوجته بدا من السفر دون إذنه. فقد أدركت من إرساله للسيارة أنه سيطول به السهر خارج المنزل، فركبت السيارة، وسافرت لم تنتظر.
Page inconnue