وأتم ما تكون هذه الفراسة حين تترقب الممكن، وتتجنب الشطط في الحدس والرجاء.
وهناك العصور الذهبية التي يلفقها الفكر والخيال معا من وقائع الماضي، وأمثلة الحاضر وأماني المستقبل، وقد يتوهم بعضهم أنها صفحة مطوية يعاد نشرها، أو أنها صفحة يكتبها الغيب وتستطلع منها السطور بعد السطور.
نظرات الباحثين عن المستقبل في القرن العشرين ليست في طابعها الخاص به على نموذج من هذه النماذج: ليست هي من الطوبيات، ولا من الأحلام ولا من فراسة الحدس والفطنة، ولا من صور العصور الذهبية، ولكنها أشبه ما تكون بحساب المهندس لحركات الجهاز المعروف بسرعته وطاقته، يمشي في أرض مرسومة على الورق، كما ترسم الخرائط على البيد ، وقد يكشف العيان منها عن خلل في التفاصيل، وإن لم يكن بها خلل في الأبعاد.
هي حساب: فهي تصيب كما يصيب الحساب، وتخطئ كما يخطئ، ولا يمتنع أن يكون خطؤها من وراء الحسبان أشد من خطأ الظن والفراسة.
ونحن نراجع «التقديرات» التي يبسطها لنا الباحثون في القرن العشرين كما ننظر إلى الخائض على قدميه في البحر اللجي إلى مقربة من الشاطئ، ونعلم أنه يخوض الموج على أرض ثابتة راسخة، ولكن ماذا يحدث يا ترى إذا أخذ في العوم والسباحة بعد المشي على قدميه؟ وكيف يتغير البحر اللجي عليه بين قوة الموج وقوته هو على السباحة، وبين الساحل القريب والقرار العميق؟
سيحدث الخلاف في التقدير لا محالة، ولكن التقدير مع هذا يظل لدينا تقديرا صحيحا على أصدق ما يكون في حيز الإمكان، وقد نلمحه نحن كما يلمحه الخائض السابح، وقد نجهله جميعا ولا لوم علينا أو عليه.
ومما يتسم به هذا الطابع الخاص بتقديرات القرن العشرين إلى المستقبل أنه مصحوب الحذر والتحفظ، يؤثر أن يتريث في مكانه خطوتين على أن يتقدم خطوة واحدة لا يعلمها، وتلك سمة من سمات البحوث العلمية في مختلف الدراسات، لا نريد أن نقول: إنها أصدق في العلم وأقرب إلى الأمانة العلمية، ولكنا نريد أن نقول بحق: إنها مأمونة عند الحساب قليلة الكلفة عند المطالبة بالدليل، فإذا لاحت للعالم صورة مشكوك فيها، ثم سكت عنها أمن المحاسبة، وخلص من المطالبة بأدلة الإقناع أو أدلة الترجيح، ولعله لا يناقض العلم إذا قرر ما يراه، وأبان عن شكه فيه، بل لعله لا يناقض العلم إذا قرره كما تقرره النظريات التي لا غنى عنها قبل الإثبات القاطع بالبرهان أو بالعيان.
وعلى هذا الحذر والتحفظ من المتطلعين إلى المستقبل في القرن العشرين، نرى أن التفاؤل بالغد شيء يبيحه لنا مد النظر إلى غاية مداه، فإنه تفاؤل لا يدخل بنا في عالم الطوبيات ولا في أحلام اليقظة، وليس من قبيل الحنين إلى العصور الذهبية، ولا من قبيل الفراسة التي تتأمل على البعد قبل أن تلمس البوادر مما تراه.
علم القرن العشرين فيه وعد كبير، أوشك من كبره أن ينقلب في بعض نواحيه إلى وعيد.
فمن وعده الكبير أنه يهيئ للأمم المتقدمة والمتأخرة شروط المعيشة الصحية، ويعلمها فنون العلاج والوقاية ويوفر لها أنواع المطهرات والمبيدات التي تدفع الأمراض، وتستأصل جراثيم الأوبئة، فتكثر المواليد وتقل الوفيات، ويتضاعف سكان الكرة الأرضية على نسبة لم تعهد في القرون الغابرة، وذلك كله علامة خير وبشير أمان، ولكنه - بما فيه من الخير والأمان - ينطوي على نذير بالشر غير مأمون العاقبة، بعد أجيال.
Page inconnue