رحت أراقبه وهو يتنقل بين الموائد مرحبا ضاحكا مداعبا مؤانسا، يكاد يتوهج تألقا وجمالا وصحة وعافية. هي السعادة عندما تجود بنفسها بسخاء، وتجعل من الواقع حلما من أحلام اليقظة.
وقال أحدنا بحرارة: ربنا يديم عليه النعمة.
فقلنا آمين. وحل بعدها صمت مباغت كأنما لم يجئ مصادفة. وتجلى في الأعين نظرة جادة كأنها لون الصمت. هل رحنا نتذكر تقلبات الدنيا، وما حفظناه في ذلك من الشعر والنثر؟! وتذكرت زملاء كانوا مثالا للوجاهة، وكيف عصفت بهم الثورة، وحولتهم إلى صعاليك تعاف النفس منظرهم. وليست الثورة وحدها التي تعبث بالمصائر، فلأي حشرة دور، وربما لفحة هواء أو نزق النشوات. ما علينا، اللهم احفظنا، واحفظ لنا صديقنا الوفي الكريم. وإذا بصديق يعبر الصمت متسائلا: هل تتذكرون؟
نظرنا نحوه مستطلعين بقلوب خالية إلا من السرور، فابتسم مواصلا: ليلة الشطرنج في مقهى إيزيس!
وأكثر من صوت قال: عليك اللعنة، ماذا ذكرك بها؟
وندت عنا ضحكات خافتة تناسب المقام، فعاد الصديق يقول: الذكرى مقيمة في أعماق ذاكرتي.
ونحن أيضا مثله ، ولكنها لا تكاد تخطر بالبال! إلا كل حين ومين. كان صاحبنا يلاعبني شخصيا، وسط حلقة من المشاهدين. بدأت بتحريك جنديين وانتظرت أن يبدأ. لكنه لم يبدأ، بل نظر في وجوهنا نظرة غريبة وقال: سأغادر دنياكم بعد دقائق!
ظنناه يمزح، ولكن وضح لنا أن وجهه شديد الشحوب، وأن نظرة خابية تطل من عينيه. مع ذلك قلت له مازحا: العب أو سلم!
سرعان ما انطرح جذعه إلى مسند الكرسي، وشهق شهقة مخيفة ثم غاب عن الوجود. من ينسى ذلك المنظر؟ من ينسى ارتباكنا وفزعنا؟ من ينسى ضياعنا في قصر العيني، حتى صباح اليوم التالي؟ ما كان أيأسك يا صديقي في تلك الأيام! ألم نطلق عليك بحق الشاكي الباكي؟ دائما تشكي من عمك الوصي عليك، كما تبكي حبك الخائب، ولكن ماذا، هل أفلتت منا بعض التفاصيل؟ يقول أحدنا: كان الحب وراء محاولة الانتحار.
فيؤكد آخر: بل عمه، كان فظيعا حقا وصدقا.
Page inconnue