تيزة أم عزيز
ذات قامة طويلة متينة البنيان، ووجه أسمر جذاب رغم طوله وحدة تقاطيعه، وعينين سوداوين نافذتين ذاتي كحل رباني، وفي غمازة الذقن وشم. لا أذكر أني رأيتها في أي فترة من العمر إلا مقبلة في ضجة من المرح، كأنها محترفة المزاح في ليالي السمر. أما بالنسبة إلي فهي دائما تيزة أم عزيز. لم تتغير. في عيني لم تتغير أبدا. حتى بعد أن تغير كل شيء فيها وحولها. الضاحكة، المبدعة من كل لفتة أو موقف صورة كاريكاتورية حية. حتى حين لم تعد تملك إلا الجلباب المرقع الذي يسترها ولا تصيب من غذاء الدنيا إلا اللقمة والدقة. أصلا من رشيد جاءوا، بلد الاقتصاد والعمل والنكتة. بصحبة ابنها الكبير اختارت إقامتها. أما الابن الآخر المزارع هناك، فقد ضاقت بها زوجته. أليس كل مكان ينبت العز طيبا؟ ثم إنها صاحبة أرض، مستورة، إذا حلت بمكان جرت فيه البركة، وبكريها ما شاء الله موظف بالبكالوريا يسر الخاطر، يدخن ماتوسيان، ويفسر القرآن، وفي بعض ليالي السمر يشرب الويسكي، ويغني ولا يفوته فرض. من محاسن الصدف أن زوجته القاهرية كانت عاقلة مهذبة، كسول فلم يحدث ما يكدر الصفو، وحصل تكامل بين العروس المحبة للراحة، وتيزة أم عزيز المغرمة بالعمل، وسبحان من يوفق بين الأضداد بحكمته ورحمته. بدا طويلا أن الحظ سيستقر في بحيرة الطمأنينة، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولكن الابن الرشيدي ذكي وذو همة. ينظر فيما حوله فيلتقط لباب الأشياء. فكر ثم فكر، وشاور ودبر، ثم قرر أنه لم يخلق للعمل الروتيني البسيط، وأن حياته لا يمكن أن تضيع بين إشارة إلى كتابكم الرقيم، وتفضلوا بقبول وافر الاحترام. كلا .. ما عليه إلا أن يبيع أرضه، ويعمل بالتجارة، وخير التجارة البقالة. الناس قد تستغني عن السلاح، ولكن هيهات أن تستغني عن الجبن، والزبد، والعسل، والزيتون، وقد فعل. وتيزة أم عزيز لم تعترض، بل تشجع وتحرض، وإذا تأففت الزوجة قومتها بالأمثال والنكت. تيزة لا تحب المرح وحده، ولكنها تقدس العمل والربح أيضا. وتتحسن الأحوال تحسنا جميلا، فيتجدد الأثاث والمظاهر، وتدب حيوية جديدة في مجال تيزة أم عزيز. تتجلى مواهبها المأثورة في طهي الطواجن والضلمة والأسماك، وتعلو همتها في الولائم يشهدها عملاء ابنها، فيلتهمون الطعام، ويثنون على صانعته داعين لها بطول العمر والعمار. كل شيء حسن ويبشر بما هو أحسن، ولكن ماذا أغراك بالقمار يا عزيز؟ ولم تستجيب لندائه الماكر بعد أن أنجبت من الذرية ستة؟ وكيف غاب عن سكرتك أنه مغامرة لا تصلح لأهل التجارة، أليس لكل شيء ميزان؟ وتمضي الليالي الصاخبة الحمراء بين الفول آس والكاريه والبلف، والضحك والوجوم والأرق، والأحلام لا تجدي والويسكي عابث خداع، حتى وقعت الواقعة وتقوض البناء، والمكتوب على الجبين لازم تشوفه العين. يا له من موقف يستحق أن تنوح عليه الرباب! وتماسكت أم عزيز وقالت له بيقين: لا تنس أنه موجود، وأنه لا ينسى عباده.
وهو أيضا مؤمن بالرغم من معاصيه، وذو همة ونضال؛ سعي في سبل شتى حتى عمل مدرسا في مدرسة ابتدائية أهلية بمرتب بسيط يصرف تبعا للظروف والأحوال. وأقدمت تيزة على مغامرة جريئة فباعت أرضها لابنها الآخر، وأعطاها الثمن بعد أن حجز منه نصيه الشرعي، نظير إنفاق نصيبها على أبناء أخيه. ورصدت المال للإنفاق منه عند الطوارئ. وظل الحال كذلك حتى نفد المليم الأخير والأولاد لا يتوقفون عن النمو. وتتعدد المطالب والكل يعيش من أجل الأولاد والمطالب. شد ما صبروا على ضنك وحرمان! أما تيزة أم عزيز فظلت تيزة أم عزيز. أو هكذا تبدت لعيني المرحة القوية المتحدية، والله أعلم بالسرائر. اليوم يا تيزة تعلمت أن المآسي قد تحكى في كلمات، ولكنها تعاش على أنات الكدر وعذاب المعاناة، وفي غيابات القهر. ولا أنسى حديث المتحاورين والمعلقين من بعيد: الله يسامحك يا عزيز، نسي أمه وأهملها، تأكل ما يعافه الخدم، وترتدي الرث المرقع، يا خسارتك يا أم عزيز! - الرجل معذور يا أختي، طالما أنه لا توجد إلا لقمة واحدة فالأولاد أولى بها! - ألم تبع أرضها من أجله؟ - هي الدنيا، والحكم لله وحده.
كيف شقت تلك السفينة العارية المتهالكة طريقا في خضم الأمواج الكاسحة؟ كيف عانى الرجل الذي لبث حياته كلها يدفع ثمن خطئه؟ ولكن رغم كل شيء أكرمه الله، فأهدى إلى الحياة ستة من أروع الشباب المتفوق. لعلهم لا يذكرون عذاب الأب وهوان الجدة. وأشهد أنني ما رأيتك إلا باسمة حتى وجلبابك الرث يشف عن جسد جاف أعجف. وعجيب أنني لا أذكر رحيلك عن دنيانا التي تراقب الحوادث بعين واحدة. لعلك مرضت فلم يدر بمرضك أحد. ولعل الليل تلقى من شكواك ما ضننت به على البشر. أو لعل ذاكرتي أبت أن تحفظ من ذكراك إلا صورة السيدة القوية المرحة ذات العينين النافذتين والوشم المطل من غمازة الذقن. صورة الصبر الجميل والحب العميم.
حملة القماقم والمباخر
شهد شارعنا أروع جنازة في تاريخه الطويل، حينما توفيت ست بطة. انعطفت مقدمة الموكب إلى الشارع العمومي على حين لم تدب الحركة بعد في ذيول المشيعين الواقفين داخل السرادق في مؤخرة الشارع. تقدمتها فرقة موسيقي حسب الله تعزف لحن الموت التي تنقبض الصدور لوقعه، فيهرع الأحياء للفرجة، وتطل رءوس النساء من النوافذ. وتبع الفرقة صفان متوازيان من حملة القماقم والمباخر، بدلهم السوداء بوجوه مغضنة كالحة. وتهادي النعش محمولا علي الأعناق، يمشي وراءه مباشرة الأهل وعلية المعزين، يسبقهم الباشا - زوج الراحلة السابق - وأبناؤها الأربعة؛ منهما اثنان من وكلاء الوزارة، واثنان من مديري العموم، ورئي بين كبار المشيعين وزير الحربية، وكثيرون من ضباط الجيش العظام، ونفر من الشخصيات السياسية والاقتصادية المرموقة. بين هؤلاء جميعا سار علي صريمة زوج المرحومة الجديد، كاتب حسابات الفرن الإفرنجي، ببدلته العتيقة وطربوشه المتجرد، وحذائه الغليظ، وجسمه النحيل القصير، ووجهه الدميم. مشهد مثير للخواطر مفجر للذكريات، قضي بحكم واقعه أن تجمع الجنازة بين الصفوة والكادحين. تابعه المشاهدون على الصفين باهتمام، وحاروا غالبا في تفسير قراره المذهل. شاهدنا الجنازة فيمن شهدها من الخلق، ثم مضينا بعد ذلك إلى المقهى. انطلقت الضحكات من حناجرنا بغير حساب، واندفعنا نفصح عن انفعالنا. من منا لا يعرف ست بطة؟ من منا لم يعجب بفخامة سراي الباشا، ومن منا لم يطلق لسانه على السراي، وما يجري فيها من أحداث؟ وسرعان ما تدفقت التعليقات ساحبة الذكريات بلا ضابط ولا نظام. •••
برافو صريمة، تمكنت أخيرا من أن تتحرك بين الباشوات، كأنك واحد منهم. لكن اليوم يوم ست بطة؛ فهي صاحبة النصر. ما هي إلا جثة لا تميز بين الهزيمة والنصر. إنه يوم علي صريمة، ولو صفع بعد ذلك على القفا. يا سبحان الله يا إخوان! كانت يوما أجمل وأبهى امرأة في الحي. وكانت السراي تحفة لا ينقصها إلا الحرس، والحنطور الأنيق وأول فورد يسير في شارعنا. ما أحلاها وراء الياشمك! كأنها الأميرة عين الحياة. والحقيقة أن الباشا هو المذنب. مهلا، لا يخلو طريق الإنسان من أزمات، وهي امتحان يكشف عن قوته كما يعري ضعفه. وما وقع يقطع بأنها كانت امرأة مستهترة نزقة، وما أصابها إلا ما يصيب زوجات لا حصر لهن كل يوم. أنتم تطالبون المرأة بأن تكون قديسة أما الرجل فله أن يفعل ما يشاء. دعنا من آرائك الإفرنجية، وبطة لم تكن مجرد امرأة. كانت أما لصبيان وبنات. لماذا يحق للباشا وهو في الخمسين أن يتزوج من فتاة في العشرين، فيهجر أسرته وذريته، ولا يجوز للمرأة أن تخطئ؟ تقاليدنا يا رجل. الأمومة مسئولية وقداسة. طلقت في سن اليأس مهجورة وجريحة، وككل محسودة أرقها لهيب الشماتة فاجتاحها اليأس. هذا منطق قواد .. ها ها ها. دعه يدافع عن مامته ها ها ها. ووقع الانفجار وكان مفزعا. ولم يحرك الأبناء ساكنا دفاعا عن شرف أسرتهم. أليس ذلك بعجيب؟ كانت على أي حال أمهم، ولم يكونوا دونها سخطا على أبيهم المتصابي. ولا تنس سطوتها عليهم. كانوا يقفون بين يديها كالخفراء أمام الباشا المدير، بخلاف أبيهم الذي لم يكن له وزن يذكر. ما أكثر الضباط المهابين في ثكناتهم، الوديعين في بيوتهم! كاللواء حماد باشا، مثلا. وربما كانت الحكايات مجرد شائعات! شائعات! لا لا، حتى الخدم كانوا يتغامزون، وعم مجاهد بعد طرده من السراي أقسم أنه ما من رجل تردد على السراي لشأن ما إلا وكان له معها مغامرة؛ الخضري .. الجزار .. الكواء .. حتى جاء الختام على يد علي صريمة، صل على النبي ولا تقل شائعات. يا ناس، لو كانت امرأة شبقة، ألم تجد في طبقتها من يرافقها؟ خانها الزمن يا بطل، وللعمر أحكام، وفي أمثال تلك الظروف تقوم الطبقة الشعبية بالواجب . وفي الوقت المناسب شبت ثورة الأبناء. ألم تجئ متأخرة عن الوقت المناسب؟ الثورة لا تشب إلا في الوقت المناسب، إنه يعني أنهم بلغوا سن الرشد، وتشمموا رائحة كريهة، فأحكموا إغلاق الأبواب، وقالوا بلسان واحد لا مهازل بعد اليوم. وماذا كانت النتيجة؟ نشبت ثورة مضادة، وقالت الهانم أنا حرة وملعون أبوكم. وغادرت السراي مضحية بكل شيء في سبيل شهوتها، ولكن لماذا كانت من نصيب علي صريمة؟ إنه أقبح الجميع وجها وأحقرهم مظهرا؟ يوجد شيء اسمه السر الباتع ها ها ها. زواج عجيب بين امرأة تشارف الستين، ورجل في الثلاثين. سلمت له نفسها بكل ما تملك من حلي، وعاشت راضية في أصغر شقة في شارعنا تغدق عليه الحب والمال. زواج متكافئ فيما أرى. هل رأيتموها في أعوامها الأخيرة؟! منظر يثير الرثاء ويشهد للرجل بجميل الصبر. ما هو إلا ثعلب، وكان على علاقة مع شمس بنت بياعة المنزول. له عذره. كل إنسان له عذره حتى الباشا نفسه. ما شاء الله! وإذن فليحي الملك وليحي الاحتلال. ماتت فلم يصوت عليها أحد، هجرت وقوطعت كأنها لم تنجب بنتا ولا ولدا. ربنا لا يحكم عليك. أشهد أني رأيت علي صريمة دامع العينين. الثعلب! القلوب أسرار، مثل أسرار الثورة العرابية. لكنه عرف كيف ينتقم من جميع من احتقروه. كيف واتته الجرأة على نشر هذا النعي الذي أورد جميع باشوات وبكوات الأسرة؟ ضربة معلم تعلم أصولها ولا شك في الفرن، ولكنه جاملهم فوصف نفسه في النعي أحمد صريمة من رجال الأعمال ها .. ها. كفاية، واذكروا حسنات موتاكم. هل وجدنا حسنة واحدة وسكتنا؟ أقول لكم لا يعلم الحقيقة إلا الله. ترى ماذا يدور بسرائر أبنائها وبناتها اليوم؟ حلمك. سينضح كل إناء بما فيه، وتظل الحقيقة حيث هي. حكاية ست بطة تذكرني بحكاية ست أوسة! وتذكرني بامرأة العزيز. كفاية .. كفاية .. كفاية دعوها الآن بين يدي من لا يظلم.
الغد قادم أيضا
فيلا؟ لا والله إنها لسراي. تشغل حيزا هائلا فوق جبل المقطم. ويضفي عليها طرازها العربي مذاقا خاصا من الأبهة والعظمة. حديقتها زهراء مترامية، تشمل ثلثي المساحة الكلية، وحمام السباحة في الوسط علامة عز نادرة، جلسنا من حوله للعشاء، ولسماع نخبة من المغنين والمغنيات، يصبون الكلمات المصرية في أوزان إفرنجية، تحت عناقيد المصابيح الكهربائية المغروسة في الغصون. الداعي صديق قديم، هو اليوم نجم سينمائي يحظى بشهرة متطايرة ومحبة آسرة، أراد السميع العليم أن يمتعه وهو في عز الرجولة والجمال.
واختصت مائدتنا بنفر من الرجال، لا يمتون للفن بصلة، ولكنهم يمثلون صداقة الصبا والزمان الأول. جلسنا في شبه غربة نتهامس في غمار صخب الوسط الفني، ونتطلع إلى الوجوه فنقول هذا فلان، وهذه فلانة، وذاك بين بين. ولا نكف عن الأكل والسمر. الحق أن عريس الليلة الذي يحتفل بافتتاح مقامه الجديد أغدق علينا ألفة وأنسا بوفائه، وتمسكه بأصول ماضيه، رغم انهماكه في العمل المتصل ما بين السينما والمسرح والتلفزيون. وعمق من جذور الصلة القديمة أن أحدنا يعمل محاسبا لضرائبه، ومستشارا ماليا له، وآخر تزوج من عمته في الأيام الخالية.
Page inconnue