ولما رآها قد تمادت بالأحزان، عرض عليها أن يستدعي عزيزا، ويصرح له عن رضاه به صهرا، إذ ظن أن اجتنابه زيارتهم ناتج عن خجله وخزيه، فرفضت روزه ذلك بأنفة شاكرة والدها على اهتمامه بأمرها.
وكان فريد يتردد إلى منزل يوسف من وقت لآخر، وقد تشبع فؤاده من حب روزه، وتملك هواها قيد رشده، فجعل يتحبب إليها ويتقرب منها بما يشف عن نية صالحة وصداقة طاهرة، فلم تبال به أو ترحم فؤاده؛ لأن هوى عزيز كان قد استوطن قلبها، وملأ جوارحها، فلم يترك مكانا لمن سواه.
ولم يفت فريدا شيء من حركاتها وتماديها بالغم منذ افتراقها عن عزيز، فثبت لديه أنها مولعة به، ولا تزال تؤمل عودته، ولكن علمه بزيغ عزيز عن هواها وارتباطه بشقيقته ماري رجح لديه أنها سوف تعتزل ذكره يوما، وتنسى سابق وده متى اتضحت لها خيانته، وثبت لديها اقترانه بمن سواها، وعلى ذلك بات:
يعلل النفس بالآمال يرقبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
بينما كانت روزه تتقلب على فراش الأحزان، وتتململ تململ الملدوغ، وتئن أنين الثكلان، كان عزيز يمرح مع حبيبته ماري في بحبوحة الصفاء والهناء، وقد تعاهدا على الحب، وختم والدها بخاتم رضاه على عهد الولاء، فماد بعطفها السرور، وذهبا يجران أذيال الغبطة والحبور، وتعين يوم الخطبة بعد قليل من الزمن، فوزعت رقاع الدعوة على الأصحاب، ومن جملتهم أسرة يوسف.
وما أن اطلعت روزه على هذا الخبر حتى تقطعت أحشاؤها حزنا ولهفا، وتساقطت نفسها حسرة ويأسا؛ لأن المصاب لم يكن يحتمله قلبها أو يتسع له نطاق صبرها، فأصيبت على أثر ذلك بحمى شديدة ذهبت بورد خديها، وأودت بنضارة جمالها، وتركتها رازحة تحت أثقال الداء، وهيئتها أشبه بالأموات منها بالأحياء.
فهلع قلب والدها خوفا على حياتها، ولم يدخر شيئا من وسائل المداواة والتمريض لدفع العلة عنها، وإعادة الطمأنينة والسعادة إلى فؤادها، وقد كرهت نفسه عزيزا وقبح ساعة عرفه فيها؛ لأنه مصدر تلك الويلات، فجزاه بأن فصله من خدمته، وكان قد مضى زمن على السرقة، فلم يكن من يذكرها، ولا علم السبب في طرده إياه.
ولازم فريد منزل يوسف مدة مرض ابنته، فكان يتنسم أخبارها من الأطباء والممرضات، ولوائح الغم والقلق بادية على وجهه، تترجم عما في فؤاده من عواطف الحب والهيام.
ولحظ منه يوسف ذلك، فحاول أن ينهاه عن التمادي في الحزن رحمة بحياته أن تعبث به أيدي القضاء، فما كان ذلك إلا ليزيد نيران فؤاده اضطراما، بحيث لم يعد قادرا على الصبر والكتمان، فكاشف يوسف بأمره، وتوسل إليه أن يسمح له بابنته زوجة، فلم ير الأب في الفتى ما يمنع من قبوله صهرا، فوعده بأن يجيب سؤاله إن هي شاءت ولم يسبقه إليها رسول البين.
Page inconnue