مقدمة
1 - فاتنة لبنان
2 - شرك الحب
3 - ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
4 - غيظ العدى من تساقينا الهوى فدعوا ...
5 - اليأس
6 - حياة جديدة
7 - ابتسام الدهر
8 - وردة الحقل
9 - السفر
Page inconnue
10 - والحب اول ما يكون مجانة ...
11 - التذكار
12 - التهور
13 - خيانة
14 - شهامة المرأة
15 - ماري
16 - القلب الأثير
17 - الصديقتان
18 - السفر
19 - على فراش الموت
Page inconnue
20 - كشف الغطاء
21 - ظهور الحقيقة
مقدمة
1 - فاتنة لبنان
2 - شرك الحب
3 - ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
4 - غيظ العدى من تساقينا الهوى فدعوا ...
5 - اليأس
6 - حياة جديدة
7 - ابتسام الدهر
Page inconnue
8 - وردة الحقل
9 - السفر
10 - والحب اول ما يكون مجانة ...
11 - التذكار
12 - التهور
13 - خيانة
14 - شهامة المرأة
15 - ماري
16 - القلب الأثير
17 - الصديقتان
Page inconnue
18 - السفر
19 - على فراش الموت
20 - كشف الغطاء
21 - ظهور الحقيقة
قلب الرجل
قلب الرجل
تأليف
لبيبة ماضي هاشم
مقدمة
بسم الله وبحمده
Page inconnue
وبعد، فهذه رواية غرامية القصص، أدبية المغزى، أنشأتها وقدمتها إلى جمعية السيدات المارونيات، التي أنا إحدى المنتظمات في عضويتها؛ بقصد ضم ما يتسير من ريعها إلى دخل الجمعية، التي أخذت على نفسها تعليم البنات البائسات اللواتي يعجز أهلهن عن الإنفاق عليهن في المدارس، وحسبي عوضا عما تكلفته من التعب، وما أنفقته من الزمن؛ إقبال ذوي الغيرة على مشترى هذه الرواية تعضيدا لجمعيتنا هذه التي تجاهد في سبيل خدمة الإنسانية، ورحمة بالفتيات أن يلبثن بين أيدي الجهالة والفاقة، فيكن عالة على الهيئة الاجتماعية، والله المسئول أن يكلل سعينا بالنجاح، ويمهد لنا سبيل المبرات، وأن يتقبل منا هذه الخدمة المخلصة، إنه تعالى ولي الخيرات بمنه وكرمه.
لبيبة هاشم
الفصل الأول
فاتنة لبنان
لا تزيد المطالع علما بما كان من حوادث الفتنة الأهلية، التي جرت في لبنان سنة 1860، وما وقع في أكثر القرى من المذابح الهائلة، وسفك الدماء الزكية، بحيث اضطر معظم المسيحيين إلى الفرار من السيف والتشتت في آفاق البلاد، وكان حينئذ لأحد أمراء الدروز فتاة بارعة الجمال تدعى فاتنة، فحدث أن خرجت يوما على صهوة جوادها تقصد النزهة مع بعض أترابها من بنات الأمراء، فجمح بها الجواد، وأخذ ينهب تلك الفلوات حتى انتهى بها إلى سفح أكمة، فظهر أمامها واد بعيد العمق، تكتنفه الجبال الشاهقة والصخور والآجام، فهالها هذا المنظر وذهب برشدها، فأفلتت العنان من يدها وأطبقت أجفانها مستسلمة لرحمة القضاء، وإنها لكذلك، إذا بطلق ناري قد دوى بالقرب منها، فانتشر عنه دخان كثيف حجبها حينا عن العيان، ثم انكشف فظهر الجواد يخبط على الأرض بدمائه لرصاصة مزقت أحشاءه، والفتاة ملقاة إلى جانبه مغمى عليها.
وكان السبب في ذلك أن شابا مسيحيا يدعى حبيب، كان أهله في إحدى قرى الجبل، وكان مستخدما عند بعض التجار في بيروت، فلما انتشر خبر الفتنة خاف على أهله فأسرع إلى جواده، وتقلد سلاحه وسار إليهم، وهو يقصد الدفاع عنهم والخروج بهم من دائرة الخطر، وبينما هو سائر بصر بالفتاة على شفير الهاوية، فدعته المروءة إلى إنقاذها، ولما رأى الجواد صريعا أسرع ليرى ما حل براكبته، ولكنه لم يقترب منها حتى وقف حائرا مبهوتا لدى جمالها الباهر، وكاد يلهيه التأمل بحسنها عن الاعتناء بها وإفاقتها من إغمائها.
ولما تمالك روعه جثا أمامها، وأخذ يديها بكلتا يديه فوجدهما مثلجتين، فخفق فؤاده وزاد اضطرابه، وطفق يدلك كفيها الناعمتين، وعيناه تنظران حوله لعله يلقى معينا، فلم يجد إلا قفرا وسكوتا مخيفا، ولكن لم يلبث إلا أن شعر منها بحركة خفيفة، وبأنفاس متقطعة تخرج من فيها، فاطمأن باله على حياتها، إلا أنه لم يجسر على تنبيهها خوف إزعاجها، وطمعا في إطالة النظر إلى وجهها، الذي كان قد سرى إليه دم الحياة، فكساه لونا ورديا زادها بهاء وجمالا، فانتعش الفتى وقد أخذ حسنها بمجامع قلبه.
ثم تململت الفتاة، وفتحت جفنيها فوقع نظرها على الشاب جاثيا أمامها، والذهول قد تسلط عليه، والحنان ظاهر في نظراته، فأثر بها منظره، وراقها جمال طلعته الممزوج بالفراسة والذكاء، فابتسمت له ابتسامة شفت عما خامرها من الشكر، ثم حاولت النهوض فلم تستطع؛ لشدة ما أخذها من الضعف والتعب، فأسندت نفسها إلى ذراعه، ومالت بنظرها إلى ما حولها فرأت الجواد صريعا، فأدركت للحال ما ألم بها من الخطر، وعلمت سبب وجود الرجل إلى جانبها، وأنه هو الذي خلصها من وهدة الموت بهمته وشجاعته، فقالت له بصوت أحياه الأمل فأبعد عنه الوجل: إن حياتي من عندك أيها الشهم الكريم وإن لساني لعاجز عن إيضاح شكري لحنانك وبسالتك، ولكني أسأل الله الكريم، أن يكافئك عني خيرا.
فبهت من كلامها ولم يدر بم يجيبها؛ لأن رنات صوتها الرخيم أثرت في فؤاده، ولم تفسح له مجالا للنطق، فاستعاض عن الكلام بنظرة تعني أنه هو المدين لنعمة القدر الذي سخره لنجاتها.
وبعد حديث جرى بينهما علم أن اسمها فاتنة، وأنها ابنة حاكم البلاد، فساءه ذلك جدا، إذ تأكد أنها من غير مذهبه، وأن بينهما حاجزا منيعا من الدين الذي لا يقوى على اختراقه، ولما زال اضطرابها وعادت إليها قوتها سارت - وهو إلى جانبها - حتى اقتربت من بلدها، فافترقا وفي صدر كل منهما نار من الوجد حامية.
Page inconnue
الفصل الثاني
شرك الحب
وبعدما سكن جأش الفتنة، جعل حبيب يتردد إلى البلدة التي فيها فاتنة، وتسمى بالمختارة، وهو غير مبال بشدة الخطر الذي كان يترصده من الأعداء، فكان يتنقل من مكان إلى آخر متنكرا، حائما حول منزلها حتى يفوز منها بنظرة تلطف حر قلبه، ثم يعود من حيث أتى وقد امتلأ فؤاده بهجة وسرورا، وكثيرا ما كان هذا الحب سببا لوقوعه في يد أناس من أعدائه، فينجو منهم بقوة ساعده وشدة بأسه، إلى أن جاءه يوم لم تنفع فيه بسالة ولا جهاد، فوقع في أسر أبيها وغل في سجن مظلم، فأقام يتوقع الموت في كل آن لما كان يعلمه من قساوة الحاكم واستبداده، وحبه للانتقام وسفك الدماء.
ودام على تلك الحال بضعة أيام لم يذق في خلالها لذة الكرى؛ لشدة ما لقي من سوء المعاملة، ومن أثقال القيود والسلاسل التي لم يقدر على احتمالها.
وجلس في إحدى الليالي أمام نافذة السجن يراقب النجم في كبد السماء، ويفكر فيما آل إليه حاله، وكيف أبعد عن فاتنة لبه كل تلك المدة، وهي لم تبال بمصابه الذي سببته له، ولا سعت في إنقاذه من مخالب الموت الذي كان يتهدده، مع تيقنه أنها لا بد أن تكون قد علمت بما جرى له، فأخذ يؤنب نفسه؛ لتورطه في هواها وتعرضه للأخطار بسببها، وهي تعرض عنه في أوان الضيق، ولا تحتال لتخليصه من عذابات السجن، ولكنه مع كل هذه الأفكار لم يكن يشعر إلا بقوة سلطانها على فؤاده، وأنه سيموت سعيدا لأجلها، وعلى هذا الأمل أطبق جفنيه واستغرق في نوم عميق.
الفصل الثالث
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
ولم يمض على نومه إلا قليل من الزمن حتى شعر بأيد تحل قيوده، فاستيقظ للحال وهو يظن نفسه في حلم، ونظر فوقه فرأى شبحا أبيض منحنيا عليه، لم يتمكن من تمييز وجهه بسبب الظلام، فهم أن يتكلم مستفهما لو لم يشعر بيد لطيفة يعرفها قد وضعت على فمه، فهمس قائلا: فاتنة ...
فلم تجبه بشيء، بل أخذت بذراعه وسارت به في ذلك الظلام الدامس حتى انتهيا إلى باب السجن، فخرجا دون أن يعترضهما الحراس؛ لأنها كانت قد سبقت إليه بالأصفر الرنان الذي غل أيديهم وأخرس ألسنتهم، ولما خلا لهما الجو تنفس حبيب نفس الراحة، ومال إلى حبيبته يشكرها على حسن صنيعها، وما اقتحمت لأجله من الخطر والتعرض للوقوع بين مخالب المنية، فقالت له: إن حياة أنت سبب بقائها لحرية بأن تبذل لأجلك وتكون وقفا عليك، والله يعلم أني منذ بلغني وقوعك في هذا الأسر، لم يأخذني منام ولا غفلت ساعة عن السعي إلى أن فزت بأمنيتي، بعد أن اتخذت لذلك أعظم نصير، وهو الرشوة التي لم يكن لي بد منها في مثل هذا الحال، حتى تمكنت من إنقاذك من سجن سيكون قبرا يدفن فيه أولئك الأبرار المساكين ... فهيا بنا نرحل من هذا المكان الذي يتهددنا فيه الخطر من كل الجهات.
وعلى ذلك خرجا يجدان المسير حتى ابتعدا عن البلد، واقتربا من دير القمر ... وعندئذ ظهرت أشعة الغزالة على تلك المروج الخضراء، فجلسا على أكمة ليستريحا من مشقة الطريق، ثم خافا أن تراهما عين عدو من أتباع الحاكم، فنهضا يسيران بين تلك الأدغال، ويتستران بالأشجار الكثيفة، وبقيا يمشيان تارة ويجلسان تارة حتى قطعا مسافة طويلة، وكان التعب قد أخذ منهما كل مأخذ، وكلت قوى فاتنة عن مواصلة السير، ولكنها تجلدت ولم تبد الشكوى.
Page inconnue
وكان الوقت وقت شتاء، وقد هاجمهما بلعمان ببروقه وأصوات رعوده، فتعذر عليهما السير وضلا عن الطريق، فدخلا مغارة ليلتجئا فيها من البرد والأمطار، وكانت الشمس قد أفلت، ونشر الليل جناحه على تلك الجبال الجرداء، ثم ساد السكون المخيف، وكانت الأرض قد تغطت بالثلج الناصع البياض، ولم يكن إلا هنيهة حتى سمعا صوت زئير الوحوش الضارية تقترب منهما، كأنها تقصد المبيت في ذلك الكهف، فهرولا متسللين.
وكان حبيب قابضا على ساعد فاتنة، يساعدها على المسير فوق تلك الثلوج، ولم يسيرا طويلا حتى سقطت على الأرض خائرة القوى، وهي ترتجف من البرد والتعب، فاحتملها على ذراعيه، وسار بها يبحث عن مكان آخر يأوي إليه؛ لأن الليل اشتدت ظلمته، وتكاثف الضباب، وهبت من الغرب ريح عاصفة ضربت السحائب ضربا عنيفا، وانقضت من السماء صواعق متتابعة، يتخللها تألق البروق، وقصف الرعود، وزئير الوحوش، فداخله رعب شديد، ولا سيما أن فاتنة لم تعد قادرة على احتمال تلك الحال، فجلس بها في ذلك القفر، وأخذ يفرك يديها ورجليها؛ ليعيد إليها ما فقدت من الحرارة.
ولم يمض عليهما ساعة وهما على تلك الحال من المشقة، حتى سمعا صوت جرس عن بعد، وظهر حالا أمامهما كلب كبير يتبعه شيخ بلباس أسود، بيده سراج صغير يستنير به في أعماق تلك الظلمات، فلما رآهما الشيخ أسرع إليهما وقال: هلما إلي أيها الولدان المباركان.
فنهضا للحال، وتبعاه وهما يشكران الله الذي أرسله لنجاتهما، فقادهما إلى منسكه، ولما دخلاه واستقر بهما الجلوس أخذا يشكران الشيخ على إنقاذهما من يد الهلكة. فقال: بل اشكرا الله الذي قاد خطاكما إلى هذه الناحية، حتى اتفق لي العثور بكما، فإني مثل هذه الأيام أخرج كل ليلة؛ لتفقد من عسى أن يكون قد ضل عن الطرق، فيأوي إلينا، وقد علمت كلبي أن يطوف في ليالي البرد والثلج، ويشم رائحة المسافرين الذين يدفعهم القدر إلى هذا القفار، فإذا عثر بأحد منهم عاد إلي فقادني إليه، أو سمع المسافر صوت الجرس الذي علقته في عنقه فاهتدى به إلي.
ثم إن الناسك قدم لهما طعاما يقتاتان به، وبسطا من العشب اليابس ليناما عليه، فأكلا هنيئا ثم استغرقا في نوم عميق.
ولما أصبحا خرجا إلى باب الكهف، وكان المطر قد انقطع وانجلى وجه الأفق، وبرزت الغزالة من وراء الجبار، فرأيا أمامهما السهول الشاسعة والأودية الوعرة مكسوة بثلج يتلألأ بنور الشمس، وللحال ركع الناسك وصلى صلاة الصبح، فركعا معه، وبعد ذلك جلسوا، فأخذت فاتنة تحدثه بما لقياه من العذاب في ذلك السفر العنيف، وقصت ما كان من أمر الفتنة الجبلية، وأن أباها كان من أعظم الموقدين لنارها، وكانت في أثناء ذلك تتفرس في وجه الناسك؛ لترى ما يبدو منه متى علم أن التي صنع معها ذلك الجميل وأضافها كهفه، هي ابنة ألد أعداء قومه، ولما لم يبد منه ما تتوقع، سقطت جاثية على قدميه والدموع تترقرق في مآقيها وقالت: ما هذا الكرم يا أبت، وكيف لم تطردني بعد ما علمت من أنا، ولم تعاملني بما استحققته بخطيئة ذوي وأهلي، والآن فاعلم أيها الأب الفاضل بأني مسيحية، ولست بدرزية كما سأقص عليك من أمري.
فأجابها الراهب بصوت رزين: يا بنية، إن الله يأمرنا بمصافاة الجميع على حد سواء، وهو وحده يجزي المرء كما يستحق، فاجلسي وقصي علي خبرك. - اعلم يا أبت أني ولدت من أسرة مسيحية في مدينة دير القمر، أثناء الثورة التي حدثت سنة 1842، وقتل والدي وأنا في الأسبوع الرابع من العمر، ولم ترزق والدتي من الأولاد سواي، فربيت في مهد اليتم والهموم، واحتملتني والدتي على ذراعيها، وسارت بي هاربة من مكان إلى آخر، حتى انتهت إلى مدينة بيروت، فأقامت بها مدة أربعة أشهر، غريبة وحيدة تعيش من تعب يديها إلى أن سكنت الثورة، واستتب الأمن، فعادت بي إلى دير القمر.
إلى أن كانت سنة 1845 فعادت الثورة، وقامت رحى الحرب بين الطائفتين المتعاديتين، وعاد الناس إلى التشتت في أنحاء البلاد، وكان لوالدتي معرفة بأسرة بني جنبلاط، الذين كان زمام الأمر في تلك الأيام في أيديهم، ودار حكمهم في بلدة قريبة يقال لها المختارة، فأسرعت والدتي إلى تلك البلدة، ولجأت إلى الأسرة المذكورة، فصادفت عندها كل رعاية وصيانة.
غير أنها لكثرة ما احتملت من الخوف والشقاء مدة خمس سنين أصابها مرض عضال قضت بسببه، وبقيت وحدي في تلك الدار لا أعلم لي أبا إلا رب الأسرة، وكان يعزني إعزازا شديدا، فأحسن معاملتي وجعلني كإحدى بناته، حتى لم يكن هناك من يرتاب في كوني ابنته، وبودي لو أتيح لي أن أشكر نعمته قبل مزايلة منزله والمكان الذي ترعرعت فيه، وقضيت خمس عشرة سنة على أتم الرفاهية والهناء، ولكن قضت الأقدار بما أوجب خروجي عن هذه الحالة.
وكان حبيب كلما أوغلت في الحديث يشعر بأن حملا ثقيلا يزول عن صدره، وهو لا يتحقق هل كان في يقظة أو في منام، فلما انتهت إلى آخر عبارة من حديثها عقب عليها بقوله: لقد خرجت أيها الأب الفاضل من ذلك المنزل الذي كان ملجأها الوحيد ومقر سعادتها ونعيمها، واحتملت من المشقات والأهوال والتعرض للأخطار ما يعجز وصفه؛ لتنقذني من عذاب السجن، وتخلصني من مخالب الموت، وتشاطرني بعد ذلك أنواع الشقاء والبلاء، فليس لدي ما أقدمه لها مقابل تهورها وحبها سوى قلب لم تبق لي النوائب غيره، ويد لا تمتلك غير قبضة السيف لصيانتها، فبارك يا أبت حبنا، وكن شاهدا على صدق ودنا.
Page inconnue
فرفع الناسك يده إلى العلاء وهما جاثيان أمامه، وطلب إلى الله أن يبارك اقترانهما، وعند نهاية صلاة الإكليل تناول حبيب من داخل ثيابه ذخيرة ذهبية معلقة بسلسلة دقيقة الصنع، فطوق بها عنق عروسه.
وفي اليوم التالي اكتريا غرفة في سفح الجبل قريبة من الناسك، وأويا إليها ريثما يروق الكأس، وتهدأ الاضطرابات، وكان حبيب يخرج للصيد في النهار، ويعود مساء بما جمع من الطير والحيوان فيقتاتان به وهما ثملان بنشوة الحب.
ولبثا على تلك الحال حتى آخر شهر أبريل (نيسان)، إذ صفا الجو وانقطعت الأمطار، واكتست الأرض والأشجار بحلل الربيع البديعة الألوان، وهب عليهما النسيم عليلا، فتعانقت الأغصان بعد طول الافتراق، وانتشر شذا عبيرها فتعطرت الأرجاء.
وكان حبيب يخرج مع زوجته كل عشية بعد الفراغ من الصيد إلى سهل قريب، ويجلسان على صخرة تجري المياه بقربها صافية، فيسمع لها خريرا كأنه رنة الأوتار، والطيور تغرد فوقها على اختلاف الألحان، وقد تغلغلت بين الأغصان قصد المبيت إلى طلوع النهار.
الفصل الرابع
غيظ العدى من تساقينا الهوى فدعوا ...
غيظ العدى من تساقينا الهوى فدعوا
بأن نغص فقال الدهر آمينا
بينما كان الزوجان جالسين ذات يوم في هذا المكان على عادتهما يتبادلان أحاديث الحب والهيام، قالت له فاتنة وهي تلعب بأطراف شعرها المنسدل على كتفيها، ممثلا ظلام الليل حول بدر محياها، وقد صبغ وجهها الجلنار: إني قد صرت أما.
فضمها بين ذراعيه، وقطف من ورد وجنهما قبلة لم يدر في خلده أنها كانت قبلة الوداع، وقبل أن يجيبها بكلمة سمع عدة طلقات نارية قد دوت بالقرب منهما، فذعر لسماعها، وللحال نهض مستويا وانتضى سيفه باليد الواحدة، وغدارة بالأخرى وصاح من القادم، فأجابه صوت البنادق مكررا تلك الطلقات، فتقدم نحو الصوت بشجاعة عظيمة، وإذا بستة رجال مدججين بالسلاح قد اعترضوه وتكاثروا عليه، فأصابوه برصاصة في ظهره ألقته على الأرض صريعا، فتركوه يتمرغ بدمه وأسرعوا إلى زوجته، وكانت قد سقطت مغمى عليها فحملوها وساروا بها مجدين.
Page inconnue
ومضى على هذه الحادثة المفجعة ساعة، وحبيب مطروح على الأرض، والدم يسيل من جرحه لا عين تراه، ولا أذن تسمع أنينه، ولكن الله أبى إلا أن ينقذ من ذلك العذاب الأليم نفسا لم تجترم ذنبا، ولا أتت منكرا، فأرسل إليه الناسك الذي هب إلى ذلك المكان عند استماع صوت البنادق، وأخذ يبحث من مكان إلى آخر حتى عثر على جثة ملقاة على الأرض والدم يتفجر منها، فصوب نحوها نور المصباح، فتبين له وجه حبيب وعلامات الموت بادية عليه، فانحنى فوقه والحزن ملء فؤاده، ووضع أذنه على قلبه، فشعر بحركة خفيفة دلته على وجود بقية من الحياة فيه تؤمله بالنجاة، فهرول حالا إلى منسكه بعد أن وكل الكلب بحراسته.
ولم يكن إلا القليل حتى عاد ومعه ثلاثة من الرهبان، فحملوه وذهبوا به إلى الدير حيث ألقوه على فراش وثير، وأخذوا بمعالجة الجرح، فأخرجوا الرصاصة منه، وضمدوه بالعصائب واللفائف بعد أن وضعوا عليه العقاقير الطبية؛ لالتئامه ومنع الفساد عنه، ثم نشقوه الروائح المنعشة حتى استفاق ففتح عينيه، وتمتم بعض كلمات غير مفهومة، ثم عاد إلى غيبوبته، وقد انتشر الدم في وجهه، وتصبب العرق من جبينه، واستولت عليه حمى مدة أربعة أيام لا يعي فيها على شيء، والرهبان يتناوبون خدمته ليلا ونهارا، حتى خفف وطأتها، فاستيقظ في صباح اليوم الخامس واستوى على فراشه بألم الجرح، مما نبه خاطره إلى ذكر تلك الحادثة المحزنة، فصاح بصوت يفتت الأكباد: فاتنة ... حبيبتي ... فاتنة.
فاقترب الكاهن منه وقال له بصوت ملؤه الشفقة والحنان: سكن روعك يا ولدي، فإنك مريض ومعرض للخطر الذي لا يزال واقفا لك بالمرصاد. - سأكون طوع أمرك يا أبت، إنما أتوسل إليك أن تقول لي بأن زوجتي لا تزال على قيد الحياة وأني سأراها قريبا.
فهدأ الناسك روعه، وسأله كيف وقع ذلك، فقص عليه حبيب الحادثة وهو يبكي ويتأوه ويندب زوجته ويتألم، فقال له الناسك: طب نفسا يا بني وقر عينا، فإننا سنسعى جهدنا لكشف أمرها ومعرفة مقرها، فالزم السكينة والراحة كي يتسير لك الشفاء عاجلا فشاركنا في البحث عنها، والله قادر أن يعيدها إليك سالمة، دون أن يمسها ضرر ولا أذى. - أتوسل إليك يا أبت الحنون أن تبادر الآن إلى البحث والاستقصاء؛ لأني بغير ذلك لا أجد راحة ولا صبرا.
قال ذلك وتحفز للنهوض، وهو يقول والدمع يتساقط على خديه وفؤاده يتقطع حزنا ومرارة: إنني لا أستطيع العيش ساعة واحدة بعيدا عن مصدر حياتي وسعادتي، فلا بد لي من النهوض الآن لإنقاذها وردها إلي.
فأمسكه الكاهن وأعاده إلى فراشه قائلا له: ثق يا ولدي بأننا لا ننفك عن اقتفاء أثرها، ولا نترك وسيلة إلا ونستخدمها لإنقاذها، فلا تجهد نفسك فيما لا فائدة منه، بل يعود عليك بالضرر العظيم.
فاضطجع حبيب على سريره خائر القوى، وعيناه تنظران إلى الكاهن مترجمة عن حاسات قلبه، وما يتقد فيه من نار الغيظ وحب الانتقام، ثم قال: إنني لا أرجع عن الانتقام من هؤلاء الخونة المارقين ما دام في نفس من الحياة، ولا بد من إرجاع فاتنتي إلي وإلا فالموت خير لي وأبقى.
وغاب للحال عن رشده؛ لأن الحمى هاجمته بنيرانها الوقادة، فحبست لسانه عن الكلام، واستولت بسلطتها على جميع أعصابه. أما الكاهن فأخذ يعالجه بما لديه من العقاقير الطبية حتى استفاق من غيبوبته، ثم أوصى الرهبان بخدمته والاعتناء به، وخرج يطوف المدن والقرى مستقصيا عن فاتنة، فلم يقف لها عن أثر، فرجع خائب الأمل بما كان من نتائج بحثه وتفتيشه، وأنه بث العيون والأرصاد في جميع الجهات المجاورة، فلم يسمع عنها شيئا، فشعر حبيب كأن صاعقة انقضت عليه فأفقدته عقله، وأن الأرض قد مادت تحت قدميه، فهب من مكانه كالمجنون، وأخذ يخطر في الغرفة ذهابا وإيابا، والدموع تتساقط من عينيه حزنا وكآبة، ثم انحنى أمام الكاهن وقبل يديه شاكرا له على عنايته وحسن صنيعه، طالبا إلى الله أن يجازيه عنه خيرا، وودعه وودع الرهبان، فركب جوادا قدمه له الناسك، وسار تائها في تلك الفلوات، ينشد ضالته ويبحث عن منية فؤاده غير مبال بما يتحمله من العذاب والتعب، وما يقاسيه من الخطر والنصب، وبقي يطوف المدن والقرى متنكرا، ويبث العيون والأرصاد، فلم يقف لها على خبر، فضاقت الدنيا في عينيه، وانقطع حبل رجائه، وبان لديه هول موقفه إذ وجد أن الفتنة لا تزال ثائرة بين القوم، فهجر ذلك المكان خوفا من الموت، الذي كان يتهدده كل ساعة حرصا على حياة قد وقفها لصيانة امرأته، وإنقاذها من مخالب الأعداء الثائرين، وأخذ يجول من مكان إلى آخر متوغلا في الأدغال والغابات، حتى أضناه التعب وأعياه النصب، فآوى إلى كهف ليستريح من مشقة السفر، وبات تلك الليلة والهموم والأحزان تنازعه من كل صوب ، فحرمته لذيذ النوم والراحة.
الفصل الخامس
اليأس
Page inconnue
وبينما هو على تلك الحال، يتقلب بين النوم والأرق، سمع صوت مستغيث بالقرب من مكمنه، فهب للحال، وتقلد سلاحه، وخرج خارج الكهف، فرأى على بعد خطوات رجلا منقضا على خصمه بيده خنجر يلمع في ضوء القمر، فصوب نحوه غدارته ورماه برصاصة فأرداه صريعا على الأرض، ثم دنا من محل الحادثة فرأى الرجل الذي أنقذه، وكان من أبناء قومه قد اقترب وصافحه شاكرا حسن صنيعه.
وإنهما لكذلك إذ رأيا الخيل تعدو نحوهما، فكمنا حينا وإذا بأربعة من الفرسان شاهرين السلاح فأصلياهم بنار بنادقهما الحامية، فقتلا اثنين منهم وركن الاثنان الآخران إلى الفرار، فتقدما حينئذ إلى القتيلين وجرداهما من السلاح والذخائر، وسارا في ذلك الليل إلى مكان آخر؛ ليأمنا فيه شر المصائب والأهوال، وحذرا من رجوع ذينك الخصمين بنجدة لا يقويان على مصادمتها، فساقهما القدر إلى مكان على شاطئ نهر الصفاء على مسافة أربعة أميال من بلدة عبية، حيث تكثر الصخور والأشجار، فنزلا إلى كهف لا يهتدي العدو إليه لما في الطريق من وعورة المسلك وكثرة الأدغال.
ولما استقر بهما المقام سأل حبيب رفيقه عن اسمه، وعن السبب الذي من أجله كان يطارده أولئك الفرسان. فقال: إني رجل من أسرة مسيحية كنا نقطن دير القمر، فلما ثارت الفتنة وأحاطت بنا الأعداء من كل جانب، تركنا منازلنا وأمتعتنا ولجأنا إلى بيت الأسرة الجاويشية، التي قيض الله لها أحد الأمراء الإرسلانيين، فأنقذها من غارة الجموع التي كانت محيطة بمنزلها تهدد المستغيثين بالسيف والنار، وقد خرجت متغلغلا بين أفرادها حتى صرت على مبعدة من البلدة، فأيقنت حينئذ أني بعيد عن الموت، وجعلت أتوغل في الفلوات أتوسد الأرض وألتحف بالهواء، وأعيش على ما أتصيده من الطيور والحيوانات.
وبينما كنت اليوم ذاهبا في ذلك القفر، سمعت صوت امرأة تستغيث، وقد أحاط بها سبعة من الفرسان، فهبت الحمية في رأسي فتقدمت لإغاثتها، فانقض علي خمسة منهم بالسلاح الأبيض، وعرج الآخران عن الطريق، وذهبا بالمرأة حيث لا أدري، فاحتدمت نار القتال بيني وبينهم حتى وجدت نفسي في موقف الخطر، فأركنت إلى الفرار، فأدركني أحدهم وكاد يقضي علي لو لم تأت أنت فتخلصني؛ ولذلك أصبحت رقيق معروفك، وسأجعل حياتي وقفا على خدمتك ما دام لي روح تختلج في الصدر، ولسان لا ينطق إلا بالشكر.
ولم يأت على كلامه حتى تغيرت ألوان حبيب وأبرقت عيناه ثم قال له: دع عنك حديث الشكر - أيها العزيز - لم أكن سوى آلة دفعتها التقادير لرفعك من وهدة الموت؛ فالشكر إذن لله الذي حفظك بعين عنايته، فزدني إيضاحا عن مسألة المرأة التي سمعتها تستغيث من أسر أولئك الفرسان، لعلي أهتدي إلى أمر هو سبب تعاستي ونكد حياتي، وإن شئت أن ترافقني إلى محل الحادثة، وتساعدني على البحث والتفتيش عن ضالتي المنشودة تجعلني أسير فضلك ما حييت.
فقال له: إنني أرى في وجهك ما يدل على الارتباك والاهتمام بأمر هذه المرأة التي لم أتميز هيئتها جيدا؛ لأن الوقت كان مساء، فقص علي أمرك لعلي أتمكن بمعونة الله من خدمتك وتفريج كربك.
فأطلعه حبيب على أمره وكشف إليه شواغل فكره، فتعاهدا على الإخاء، ووطنا النفس على السعي معا واقتسام المخاطر بالسواء.
ولما أذنت شمس ذلك النهار بالأفول، وودعت أشعتها الروابي والسهول، امتطيا جواديهما وسارا على مهل حتى انتصف الليل، وهما على رابية تشرف على دير القمر، فترجلا في مكان منفرد طلبا للراحة والرقاد، وعند الصباح استيقظا من نومهما على أصوات البنادق، فربطا جواديهما إلى جذع شجرة ونزلا إلى البلد يستقصيان الخبر، فرأيا الناس خارجين منها زرافات، وأصوات العويل والبكاء ترن في سفح تلك الأكمة بما يفتت الأكباد، فدخلا بين الجميع يبحثان عن فاتنة، فلم يقفا لها على أثر، فرجعا إلى الرابية حيث مكثا نهارهما، وعند المساء ركبا قاصدين بيت الدين، فدخلا متنكرين، فوجدا البلدة قاعا صفصفا ينعق فوقها البوم، فرجعا أدراجهما، وسارا في تلك الفلوات سيرا حثيثا حتى وصلا إلى المكان الذي أنقذ فيه حبيب رفيقه من أيدي الفرسان، فرأيا جثث القتلى وقد انتشرت هناك، وشاهدا آثار حوافر الخيل متجهة نحو الشمال الشرقي، فتتبعاها بمزيد من العناية والثبات، حتى وصلا إلى مكان مقفر قد كثرت فيه آثار الحوافر والأقدام، وعلى جانبه عظام جثة متراكمة بعضها فوق بعض، وإلى جانبها ثوب امرأة قد تمزق أكثره. ولم يكد يرى حبيب ذلك الثوب حتى هلع فؤاده وارتجفت أعضاؤه، إذ وضح له أنه الثوب نفسه الذي كانت مرتدية به قرينته يوم أخذت منه، فتحقق لديه موتها، وللحال سقط إلى الأرض خائر القوى، وصاح بصوت يفتت الفؤاد والأكباد: آه يا فاتنتي ويا موضع آمالي،أيها الملاك الطاهر، لقد عرضت نفسك للمهالك والأخطار لإنقاذي من القتل فقابلك الدهر على صنيعك بالموت العاجل، فاذهبي بسلام إلى حيث لا شقاء ولا تعب، وها أنذا راحل على أثرك من هذه الدنيا، إذ إننا لم نتمكن من البقاء معا في الحياة، فلا بد أن يكون لنا نصيب باللقاء بعد الممات.
قال ذلك وقبض على خنجره وهم أن يغمده في صدره، ولكن رفيقه أسرع إليه فأمسك يده ورأس الجارحة يكاد يخترق صدره، وقال له: عد أيها الحبيب إلى حالك وتفكر فيما أنت صانع، فإنك سترى أن الانتحار لا يصدر إلا من الجبان الوكل، فإن اليأس لا يتسلط إلا على الخاملين، وذوي الهمم الضعيفة والعقول السخيفة، وعهدي بك رجلا لا تحني ظهره النوائب، ولا تثني همته المصائب، فاعتصم بالصبر، واعلم بأن لا فضل لك بهذا العمل ولا دليل فيه على حبك لامرأتك، فحافظ على حياتك وقاوم كل ما يحل بك من نكبات الدهر بالصبر والثبات، وبذلك يكون لك فضل عظيم في الدنيا وراحة وسعادة في الآخرة.
فبكى حبيب بكاء مرا على فقد حبيبته، وجمع بقاياها فدفنها على رابية صغيرة يجري من سفحها ينبوع من الماء الزلال، وفي اليوم التالي ودع ذلك الضريح بعد أن سقى ثراه بدموعه، ورجع وصديقه من حيث أتيا، وعند وصولهما إلى دير القمر رأيا أن الاضطرابات قد زالت، ورجع الهدوء والسكينة إلى البلد، فمكثا مدة لم يذق فيها حبيب لذة الكرى، فانحلت قواه، وشحب لونه، وتسلطت عليه الهموم والأحزان ، وتراكمت عليه الأكدار والأشجان، فلم ير له دواء ينقذه من شر هذا الداء سوى الرحيل من تلك الديار والتنقل في البلاد والأمصار، لعل ذلك يخفف بلواه، ويلطف حر جواه، فأطلع صديقه على عزمه فوافق على ذلك، وسافرا معا حتى وصلا إلى مدينة بيروت، فنزلا في أحد الفنادق، وناما تلك الليلة نوما ثقيلا من شدة ما أصابهما من أتعاب السفر.
Page inconnue
الفصل السادس
حياة جديدة
وعند الصباح نزلا إلى البلدة، ودخلا قهوة قامت أعمدتها في وسط البحر تلاطمها الأمواج فتردها على أعقابها، وقد انتشرت نقطها في الهواء تتلألأ بنور الشمس كقوس القزح، فجلسا بمعزل عن الناس، وكان حبيب ملازما الصمت يتأمل فيما صار إليه حاله، ويرنو بطرفه نحو تلك الأمواج، فيراها مداومة النزاع مع الصخور لا تكل ولا تمل من مهاجمتها رغما عما تلاقيه من المصادمة، فاتخذها مثلا لهذه الحياة التي هي مجمع الأتعاب ومنبعث الشدائد، فهي كبحر عجاج تتلاطم أمواجه، وكلاهما في نزاع دائم، ولكن شتان ما بينهما إذ إن المرء مهما تصلبت عضلاته وقويت بنيته فلا يثبت في ميدان تنازع البقاء، بل ينوء تحت أثقال الحياة ومصائبها، وينتهي الأمر به إلى الاضمحلال والفناء، وهذه الصخور واقفة أبد الدهر ترد هجمات الأمواج بعزم ثابت وقوة عظيمة، تحفظها في عالم الوجود والبقاء.
ولبث حبيب نحو ساعة غارقا في بحار الهواجس، وتارة تبدو على وجهه علائم الثبات والشجاعة والتغلب على طوارئ النوائب، وطورا يتقلب الحزن في أسارير وجهه، فيظهر تأثير اليأس في نظراته ويتململ من ضغط أفكاره، ثم يميل بوجهه إلى البحر كي لا يراه أحد، ويبكي بكاء الطفل غير قادر على كبح جماح الأحزان التي تسلطت عليه.
وكان لصديق حبيب شقيقة تزيده سنا، متزوجة بأحد التجار الموسرين واسمه خليل البيروتي، فحدث أن خليلا هذا كان جالسا وقتئذ بالقرب منهما يقرأ بعض الجرائد، فحانت منه التفاتة فرأى نسيبه، فنهض للحال، واقترب منه، ولما أبصره هذا أبدى السرور والانعطاف، وأكب عليه يعانقه، ثم عرفه بصديقه حبيب نصر الله، وجلس الثلاثة يتحادثون، وجرهم الحديث إلى الكلام عن بيروت وعن أحوالها التجارية، فأخذ حبيب يشرح لهما عن الوساطة التي يمكن اتخاذها للنجاح والإثراء، إذ كان عالما في ضروب التجارة علما وعملا، وبقي ساعة يطرفهم بالأحاديث المهمة، ويكشف لهم عن الأسرار التي عرفها بالمزاولة والاختبار، وهما ينظران إليه معجبين بسعة معرفته التجارية، وعند نهاية الحديث طلب خليل إليهما أن يترددا إلى مخزنه من وقت إلى آخر ففعلا، واستأنس حبيب بصحبته فأكثر من التردد عليه، وتعرف ببعض التجار الذين لهم علاقة معه، فأجلوه واحترموه لما رأوا من حسن خلاله وحميد صفاته، وما آنسوا به من رسوخ القدم في فنون التجارة.
وكان خليل يدعوه غالبا إلى منزله، فيلقى من ملاطفته ومؤانسة وحيدته سلمى ما يبرد لوعته ويلطف كثيرا من أحزانه، حتى أصبح بعد مدة من الزمن لا تطيب له الإقامة إلا بين الأب وابنته، وقد تمكنت عرى الوداد بين الصديقين، فكان حبيب يأتيه من حين إلى آخر بأحسن الآراء التي أوجدها حسن اختباره وتمرنه على الأشغال التجارية، فأحرز خليل أرباحا طائلة بفضل مشورته، فأدخله شريكا في أعماله، وقلده إدارة محله، فشمر حبيب عن ساعد الجد والنشاط، وبذل ما في وسعه لإتمام ما عهد إليه من العمل، فلم تكن إلا سنين قليلة حتى كثرت أرباحهما واتسعت دائرة أعمالهما، فزادت ثروتهما ونالا من الشهرة وحسن الصيت ما جعلهما في مقدمة التجار والأعيان.
الفصل السابع
ابتسام الدهر
ما أسرع ما يندم الدهر على ما وهب، وما أقرب ما يحرم الإنسان ما طلب، فقد أنعم على حبيب بهذه السلوى، وفتح أمامه باب الأمل والثروة، ولكنه لم يمهله طويلا حتى أصاب صديقه بمرض عضال لم تنجح فيه حيلة الأطباء، ولم يكن سوى أيام قليلة حتى أشرف على الموت، فكتب وصيته وسلمها إلى حبيب لما كان له من الثقة بأمانته وأوصاه بابنته خيرا.
وكان حبيب يشعر بميل عظيم نحو سلمى ابنة صديقه لما آنس بها من الذكاء والرقة فوق ما خصها المبدع من الجمال، وهي إذ ذاك في العشرين من عمرها، وكان لها ولع شديد بأبيها، فأثر عليها مصابه تأثيرا كاد يذهب بحياتها لولا عناية حبيب وتشجيعه إياها.
Page inconnue
ولما قضى خليل نحبه احتفل حبيب بدفنه احتفالا يليق بمقامه، وجعل همه بعد ذلك الاعتناء بسلمى، فكان يلاطفها ويواسيها ويبدي لها من الشفقة والحنو ما خفف مصابها، واستمال فؤادها إليه فوق ما كانت تضمر له من الصداقة والاحترام اللذين تأسسا في قلبها مدة وجوده بينهما، فكثيرا ما كانت حياة أبيها تستنير بمعارفه، وتتلذذ بأحاديثه الرقيقة، ثم استدعى أقاربها وفض وصية أبيها، وتلاها على مسمع منهم، فرأوا أن الفقيد خص ابنته سلمى بجميع الممتلكات والنقود، وأنه عين حبيب قيما عليها، فخرجوا من لدنها صفر اليدين مقطبي الوجوه، ولما أيقنت سلمى أنها أصبحت وحيدة لا أنيس لها يذود عنها سوى حبيب سلمت إليه مقاليد الأمور، وكاشفا بعضهما الحب، فتعاهدا على الاقتران، وبعد أن صفى الأشغال جمع ثروته وثروة خطيبته التي كانت قد بلغت قدرا عظيما، واقترن بها بحفلة بسيطة لداعي الحداد، ولبثا مدة يرتشفان فيها كئوس السعادة والهناء، ويتمتعان برغد العيش والصفاء، إلى أن أتى العام الأول على زفافهما فتمت لهما حينئذ السعادة بمولود جميل الطلعة، دعواه فريدا، فكانت آمالهما معقودة عليه، وأفكارهما منصرفة إلى الاعتناء به.
وهكذا توالت عليهما الأيام، وانقضى العام الثاني والثالث وهما مع ذلك الطفل في نعيم دائم، ورزقهما الله طفلة جميلة سمياها ماري، فتضاعفت أفراحهما وتعاظمت مسراتهما، وما كان أهنأ تلك الأم وهي على فراش النفاس ترى قرينها جالسا لديها، وقد ضم الولدين إلى صدره وهو يقبلهما تارة وينظر إليها تارة أخرى، فتبسم له وتتحد أفكارهما مع رسل العيون، فتخرج من صدريهما تنهدات تصل بتوسلاتها إلى المبدع الوهاب أن يديمهما في ذلك الفردوس النضير، ويحفظ لهما ما أعطى من الخير الكثير.
ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، فإنه لم يمض أسبوع على ولادة تلك الطفلة حتى أصيبت والدتها بحمى شديدة، أورثت زوجها الحزن، وأولادها اليتم، وألبست المنزل السواد بعد أن ملأت قلوب أهله بالحسرات.
فأثرت تلك الفاجعة على حبيب تأثيرا لم يجد معه سبيلا إلى الصبر والسلوان، ولا وسيلة لإطفاء نار لوعته إلا بمهاجرة ذلك المكان الذي قضى فيه أجمل أيامه، ودفن فيه منتهى آماله.
فصفى أشغاله وجمع ثروته، وسافر بولديه إلى الديار المصرية، حيث ابتاع مقدارا وافرا من الأطيان، فوكل بها بعض الشبان المجتهدين، ومكث مع ولديه بضع سنوات، عاملا على تربيتهما وتهذيبهما حتى بلغا السن الموافق لتعليمهما، ولم يكن في مصر إذ ذاك من المدارس ما يفي بالحاجة، فذهب بهما إلى باريز حيث أدخلهما في أشهر مدارسها، وأقام في منزل صغير قرب نهر السين لا شغل له سوى مطالعة الكتب والجرائد، والتنزه في الأماكن المنفردة، والتردد على ولديه من وقت إلى آخر.
وفي مدة العطلة كانا يأتيان إليه فيصحبهما إلى جميع الأماكن التي يلذ لهما التفرج عليها، ومشاهدة غرائبها، ولا يدع شيئا من عجائب الآثار وبدائع التحف، شارحا لهما ما يهمهما الوقوف عليه من الأحاديث والأخبار فوق ما كانا يتلقيانه في المدرسة من علم واختبار، وهكذا كانت تصرف أوقاتهما في اكتساب الآداب والمعارف، ومداركهما تتسع وتمتد لطلب المزيد منها.
وفي نهاية السنة الخامسة خرجت ابنته ماري من المدرسة، وقد أنهت دروسها فعادت إلى والدها، وقد زاد العلم جمالها إشراقا، وأعار الشباب لحاظها سحرا حلالا، فإذا تكلمت خالها السامع تنظم دررا، أو صمتت ظنها الناظر ملكا سماويا لما فطرت عليه من الحسن الرائع الممزوج بالرقة والآداب. أما أخوها فريد فلبث في المدرسة حتى نهاية السنة السادسة حيث أنهى دروسه ونال الشهادة، فخرج منها وانضم إلى والده وشقيقته، وقد شمل الجميع السرور والارتياح.
الفصل الثامن
وردة الحقل
وكان لماري صديقة في المدرسة تدعى روزه، وهي مصرية النشأة سورية الأصل، قد هاجر بها والداها الديار السورية؛ لأسباب أهمها تأخر البلاد، وتقهقر أشغالها، وكساد تجارتها، وقلة أرباحها، فاعتنيا بتهذيبها، وأرسلاها إلى تلك المدرسة حيث صادقت ماري فتحابا ولا غرو، فإن الطيور على أشكالها تقع، فقد كانتا متشابهتين بجمال الخلق والخلق، متماثلتين بالجنس والذوق، متعادلتين في المنزلة والثروة، ولم يكن من اختلاف في هيئتهما سوى أن ماري كانت سوداء العينين والشعر، وبيضاء الجبين وخفيفة الروح، وروزه كانت زرقاء العينين كستنائية الشعر ذات بشرة نقية مشربة احمرارا، وكانت هيئتها تدل على حسن الصحة، وتوفر الدم كالبنات القرويات، وكان أترابها في المدرسة يلقبنها بوردة الحقل.
Page inconnue
ولبثت روزه في المدرسة سنة أخرى بعد خروج صديقتها، كانت فيها أليفة الوحشة والانقباض، ولم تكن ماري تهمل زيارتها كلما وجدت لذلك سبيلا.
ولما انتهى العام، وأتى الذي تفارق فيه الفتيات المدرسة، ودعت روزه رفيقاتها ومعلماتها وخرجت إلى حيث ينتظرها والدها، وكان قد حضر منذ أيام لمشاهدتها والعودة بها إلى مصر، فما كادت تجتمع به حتى رأت صديقتها ماري مقبلة، وبرفقتها شاب لم تسبق معرفة به، فأسرعت نحوها، وضمتها بلهفة، وقابلت ماري مثل ذلك، فتعانقتا، بينما كان والد روزه والفتى واقفين ينظران إليهما باسمين، وقد انحنيا لبعضهما إشارة للسلام، وبعد أن ارتوى غليل شوق الحبيبتين، تقدمت ماري إلى والد صديقتها وصافحته، ثم أشارت نحو رفيقتها وقالت: أعرفكما بأخي فريد، فنظرا إليه باسمين وبادلاه التحية، وقد غلب الحياء على روزه وتوارد الدم إلى وجنتيها، فغضت أبصارها، ومالت نحو صديقتها تحدثها، وجلس الرجلان إلى جانب يتبادلان الحديث.
وبعد قليل من الزمن نهضت ماري ودعت روزه ووالدها واسمه يوسف روفائيل لزيارتها، وساعدها أخوها بالإلحاح عليهما فأجابا دعوتهما، وسار الجميع إلى منزل حبيب الذي أحسن استقبالهما، ورأى يوسف من لطف معاشرة تلك الأسرة ما قيده بمودتها.
وقد شعر فريد بجاذب يجذب فؤاده نحو روزه، فما فتئ ينظر إليها ويحادثها محاولا التقرب منها، أما هي فكانت مشغولة عنه بصديقتها، والحزن يتقسم فؤادها كلما خطر لها فكر السفر ووجوب مفارقتها، فلم تبال به ولا وجد رسول عينيه سبيلا إلى قلبها الخالي.
وكانت ماري أشجع منها قلبا في موقف الوداع، وأكثر جلدا على احتمال تأثير الفراق، فألوت عليها تقبلها وتمسح دموعها، ثم أعلمتها بأنها لا تغيب عنها طويلا، فإنهم قد صمموا على السفر إلى مصر قريبا، إذ لم يبق ما يوجب بقاءهم في باريز، فصفقت روزه طربا واقترحت عليهم السفر معا.
وبعد المفاوضة في هذا الموضوع قر رأي الأسرتين على السفر معا بعد أسبوع، ولما كان ليوسف بعض أشغاله في مارسيليا تتعلق بمحله التجاري في مصر، فقد اضطر أن يسافر مع ابنته في اليوم الثاني إلى تلك المدينة ليقضي مهمته، منتظرا وصول حبيب وولديه في نهاية الأسبوع.
الفصل التاسع
السفر
ودع الجميع بعضهم بعضا، وذهب المسافران إلى المنزل الذي كان فيه يوسف، فباتا تلك الليلة، وفي صباح اليوم التالي أخذا أمتعتهما وسارا إلى محطة السكة الحديد، فدخلا عربة، وجلسا ينتظران مسير القطار.
وإنهما لكذلك، إذ دخل عليهما شاب جميل الطلعة، وحسن البزة، يظهر من ملامحه أنه شرقي فانحنى أمامهما باحتشام، ثم أخذ لنفسه مكانا في إحدى زوايا العربة، ولما سار القطار أخرج من جيبه جريدة، وجعل يطالع فيها حتى إذا استقر به المقام وأتى على الصفحة الأولى جعل يقلبها بين يديه، وعيناه تنظران إلى رفيقيه خلسة، فآنس في الفتاة جمالا باهرا وأجفانا ساحرة أسرت لبه وجذبت أبصاره، ولكنه ما عتم أن نكس هيبة، وعاد إلى جريدته وهو ينظر إليها من طرف خفي، أما هي فنهضت وسارت نحو النافذة تسرح بصرها في تلك السهول الشاسعة والمروج الخضراء، وقد كسا غصن قامتها ثوب بسيط الزي محكم الوضع، وغطت قسما من شعرها الحريري قبعة من القش خالية من الزخرف فأتبعها بصره، وهو يتأمل ذلك الهيكل الممتلئ والأعضاء المتناسبة، فرآها وقد حاولت إقفال زجاج النافذة للريح التي كانت تمر على محياها بقوة فتؤثر في مقلتيها الجميلتين بما تحمله من ذرات الغبار، وقد عصاها إتمام مرغوبها فأسرع إليها مستأذنا وأقفل النافذة عنها، وعاد إلى مكانه بعد أن فاز منها بابتسامة شكر جزاء صنيعه، وبقي القطار سائرا والسكوت مخيما حول هؤلاء الثلاثة مدة من الزمن، وقد أخذت سيماء الملل تظهر في ملامح المسافرين.
Page inconnue
وحينئذ ابتدر والد روزه رفيقه بالحديث فقال: يظهر لي أنك شرقي الجنس أيها الرفيق الكريم. - نعم سيدي لقد أصبت، فإني سوري الأصل، ولقد أتيت إلى هذه الديار من عهد بعيد؛ لأشغال تتعلق بمحل تجاري في بيروت، وقد اضطرني الحال إلى مبارحتها الآن قاصدا مصر. - إذن فستبقى في صحبتنا، فالأجدر بنا أن نقطع هذه المسافة بالمحادثة كأصدقاء دفعا للضجر وحبا بالفائدة، وأنا سوري الأصل نظيرك، لبناني الموطن، وقد هاجرت بلادي منذ أعوام طويلة، فنفسي الآن ترتاح إلى استماع أخبارها واستطلاع حالة أفرادها.
وكانت روزه سامعة حديثهما، فلما انتهى أبوها إلى هذه النقطة عادت إلى مكانها وقالت للفتى: وأنا أيضا يسرني أن أسمع شيئا عن سوريا التي لم يتيسر لي زيارتها حتى الآن، ولا سيما جبال لبنان مسقط رأس أبي، فأرجوك أن تتم الحديث عنها. - إني رهين إشارتكما، فسوف أشرح لكما كل ما أعلمه عن بيروت، غير أني آسف لكوني جاهلا عن أحوال لبنان مع أني لبناني نظيركما، ولكن أهلي أرسلوني إلى مدرسة في قرية عبية، إذ كنت صغير السن، وبعد أن تلقيت فيها الدروس الابتدائية، أرسلت إلى المدرسة الأمريكية في بيروت حيث أقمت مدة ست سنين عاكفا على درس العلوم، وأخيرا نلت البكلوريا، وكنت إذاك في الثامنة عشرة من العمر، فخرجت من المدرسة والآمال توسع لي مجال الرزق والأماني ترتفع بي إلى ذروة المجد، ولم أشأ الرجوع إلى لبنان؛ لأني وجدت نفسي أعظم من أن تسعها تلك السهول القاحلة والروابي الجرداء.
فلبثت في بيروت أخبط في أسواقها، وأتقرب من أعيانها وتجارها، وأنا كلما طال علي الوقت تحققت كساد التجارة، وقلة وسائل الترقي، فاتخذت مهنة التعليم أرتزق منها ريثما يمن الله علي بشغل آخر يكون لي منه ما أشتهي وأروم. ولبثت على هذه الحال مدة أربع سنين، إلى أن أتاح لي الحظ معرفة أحد التجار، وكان باحتياج إلى عميل يورد له السلع والأقمشة من فرنسا وإنكلترا، فاتفقت معه وأتيت إلى هذه البلاد بعد أن جلت في إنكلترا مدة سنة تقريبا، وقمت بخدمته أحسن قيام، ولكني وجدت أخيرا أن لا تقدم لي ولا ارتقاء ما دمت على تلك الحال، فالأفضل لي أن أبحث عن عمل آخر يكون فيه تقدمي وضمانة مستقبلي.
فقالت له روزه: عساك أن تفوز بهذه الأمنية في مصر حيث التجارة بتقدم وأبواب الاستخدام في دوائر الحكومة مفتوحة لمن كان نظيرك. - هذا جل ما أقصده يا سيدتي، فقد قرأت اتفاقا في إحدى الجرائد عن احتياج الدولة الإنكليزية إلى تراجمة يصحبونهم في الحملة التي تسير بقيادة غوردون باشا إلى السودان، فانفصلت عن شغلي، وها أنذا ذاهب إلى مصر الآن؛ لأعرض نفسي في مقدمة الطالبين.
وكانت روزه محدقة إلى جليسها تسمع حديثه معجبة بحسن أسلوبه ورقة ألفاظه، فرأت في جملة هيئته وحركاته ما ترتاح إليه النفس، ويميل لاستحسانه الذوق، فلما أتى على آخر عبارته خامرها بغتة بعض الاهتمام بأمره، وتنبهت فيها شعائر القلق والخوف على حياته فقالت له: ألا تخشى الخطر في اقتحام هذا السبيل؟ - إن الأمل بالنجاح يمحو الخوف ويزيل الجزع، وإن كان لا بد من الموت فهو واحد مهما تعددت الأسباب، فعار علي أن أحيا فقيرا خاملا ما دام لي سبيل للتقدم والنجاح في معترك هذه الحياة.
وهكذا سار بهم القطار، وهم يتنقلون من حديث إلى آخر حتى وصلوا إلى مرسيليا، فنزلوا في أحد فنادقها، ولبث الشاب واسمه الأمير عزيز برفقتها متظاهرا أن عليه بعض مهمات تستدعي بقاءه أياما في تلك المدينة.
وهكذا تسهل له سبيل الاجتماع بها، وتمكن من معاشرتها وسبر غور آدابها، فرأى من باهر صفاتها ولطف مشاعرها ما أدهش عقله، وأخذ بمجامع قلبه، وشعرت هي أيضا بميل إلى مجالسته، ولذة باستماع أحاديثه التي دلت على نزاهته وكرم أخلاقه.
وما هي إلا أيام حتى انضمت إليهم أسرة حبيب، وكان يوسف قد أنهى أعماله، فسافروا جميعا على أول باخرة أقلعت إلى الإسكندرية.
الفصل العاشر
والحب اول ما يكون مجانة ...
Page inconnue
والحب أول ما يكون مجانة
فإذا تمكن صار شغلا شاغلا
في إحدى ليالي الخريف المقمرة كانت روزه جالسة في إحدى شرفات قصرها، وقد أسندت رأسها الجميل إلى ساعدها البديع التكوين، بينما كان النسيم يتلاعب بحلقات شعرها الحريري، فتميل في مجرى واحد ينتهي إلى الشاب الغريب الذي عرفته أثناء السفر، وتذكر ما توسمته فيه من حميد الأوصاف، وما عاينته من حبه، وانعطافه إليها، ثم نظرت إلى الطريق، وتمتمت قائلة: إنه لم يمر من هنا هذا المساء كالعادة، فلا يبعد أن يكون قد توجه إلى السودان ... ويلاه ... إلى الخطر ... إلى الموت، ولدى هذا التفكير تنهدت تنهيدا طويلا، وأمرت يدها على جبينها العاجي، ثم تذكرت وعده لأبيها بأن يزورهما قبيل سفره، فعادت إلى التعلل بالآمال وصممت إن هي رأته أن تفرغ جهدها في إقناعه بالعدول عن هذا السفر الشاق. ولكنها خافت أن ينم ذلك عن حبها، ويوضح مكنونات قلبها لشاب لم تعرفه إلا منذ عهد قريب، وفي ذلك من التسرع والطيش ما لا يليق بمن كانت مثلها قد ربيت في مهد الآداب والعلم، وغمرت بحنو والد كريم ليس له تعزية في الدنيا سواها.
وفيما هي على تلك الحال تتقاذفها عوامل الحب وتتنازعها علائم الشرف والأدب، سمعت قرعا خفيفا على باب حجرتها، فنهضت مسرعة وفتحت فإذا بخادمتها تقول: لقد أتى يا سيدتي رجل يدعى الأمير عزيز، وطلب أن يرى سيدي والدك، ولما كان غائبا أتيت أسألك إذا كنت ترومين مقابلته عوضا عنه.
فأبرقت أسرة روزه ورقص فؤادها طربا عند استماعها تلك البشرى، فأجابتها وهي تكاد تسقط إلى الأرض من تأثير المفاجأة: إني آتية، فدعيه ينتظرني في غرفة الاستقبال.
فذهبت الخادمة، وأعلمته بذلك وأسرعت روزه فارتدت ثوبا بسيطا، وأقبلت إلى حيث ينتظرها ذلك الضيف العزيز، وكانت تجهد عبثا في كتمان عواطفها البادية في وجنتيها الملتهبتين، وجبينها المرصع بقطرات العرق، ولما أبصرها عزيز نهض وحياها باحترام عظيم، ثم قال لها بعد قليل من السكوت: ها أنذا أتيت إجابة لدعوتكما الكريمة التي تفضلتما علي بها أثناء سفرنا من باريز، وقد كنت أرغب في زيارتكما منذ وصولي إلى مصر، ولكن حال ذلك دون اهتمامي بالحصول على إذن يرخص لي بمرافقة الحملة السائرة إلى السودان. - مرحبا بك يا سيدي، فإننا ما برحنا منذ قدومنا هذا القصر نتحدث عن لطفك، ونترقب قدومك كما وعدت، فهل أنت باق على عزمك من السفر؟ - أجل يا سيدتي ، وأنا آسف لكوني أجد نفسي مضطرا إليه، فقد كنت قبل مبارحتي فرنسا قرير العين، مسرور الفؤاد، أحسب أن السعادة والثروة والمستقبل محصورة في هذه الرحلة، ولكن لم ألبث بعد مفارقة فرنسا أن تغيرت أحوالي وانتهى بي الضعف إلى التردد والرغبة في العدول عنها، غير أني وجدت أخيرا أن لا بد لي من السفر مهما كلفني من الأتعاب والمشقات. - يتبين لي مما قدمت أنك أدركت صعوبة الإقدام على هذا العمل، وتصورت ما فيه من المشقة والخطر، فعسى أن تنتهي الحال إلى العدول عنه بتاتا. - إني لا أخشى الأخطار يا سيدتي، ولا أرهب الموت إذا كان ذلك في طلب الشرف والتقدم، ولكنني أخاف ما هو أعظم من الموت، وأرغب فيما هو أثمن من الحياة. - وهل من شيء أحب إلى الإنسان من الحياة؟ - إن الحياة لا قيمة لها عند المرء ما لم يمازجها بعض الهناء، ويظهر في سمائها نجوم الأمل، فإذا عزت عليه تلك الغاية وتسلط عليه القنوط، كانت الحياة في عينيه كالهباء المنثور، فيزج نفسه في لجج الأخطار غير متحسر ولا آسف على مبارحة الحياة. - إنك والحمد لله في مقتبل العمر، وزهرة الشباب، وفيك من الصفات الحسنة، والأخلاق الطيبة ما يكفل لك الترقي وحسن المستقبل، فما الذي حدا بك إلى هذا القنوط؟
فأجابها بنغمة رن صدى تأثيرها في فؤاد الفتاة وقال: إني شقي يا سيدتي. - لا تقل ذلك بربك، واعدل عن تحمل أخطار هذا السفر، والانخراط في تلك الخدمة التي ليست سوى ملجأ لذوي الهمم الضعيفة، الذين لا يرون من أنفسهم ميلا إلى التقدم، بل يفضلون احتمال مصاعب العبودية على متاعب الاستقلال، وهؤلاء هم في مذهبي من الجبناء الذين لا تكون آخرتهم سوى الخمول والكسل، وحياتهم سوى الذل وضياع الأمل، وعهدي بك منزها عن هذه الصفات، ميالا إلى طلب التقدم والعلا، فلك مجال واسع في ميدان التجارة، وأنت أهل لأن تكون تاجرا، ولا سيما أنك قد صرفت زمنا طويلا تتعاطى هذه المهنة، فسبرت غورها، وأحطت علما بجميع أسرارها، فصمم على الاتجار في هذه البلدة، وأنا أسعى عند والدي كي يكون لك أكبر مساعد يغنيك عن اقتحام أخطار هذه الحملة. - أشكر لطفك يا سيدتي، وإني أبقى أبد الدهر ذاكرا حميد أخلاقك، وإن مت ففي ساعة احتضاري أذكر حلاوة هذا الاجتماع، وإن عشت فرغبتي من الحياة التمتع بمثل هذه الدقائق التي أحسبها أسعد أوقات حياتي، ومع ذلك ألتمس منك أن تسمحي لي بعدم قبول ما تكرمت علي به من السعي وراء مصلحتي، إذ لا بد لي من السفر والتعرض لسيف البين في ساحات الوغى، فإما أن ألقى حتفي، وإما أن أعود رافلا بحلل النصر، ووسامات الفخر، وحينئذ أزيل بيدي ما يحول من العقبات بيني وبين منية فؤادي، فأستودعك الله يا ذات اللطف ويا معدن الكمال. ولي منة أرجوها منك، وهي أن تذكريني في أوقات الفراغ صديقا لا يلذ له سوى ذكرك، ومقداما لا يروعه الموت في سبيل الوصول إلى مقامك المنيع.
قال ذلك وتقدم نحوها مادا يده يلتمس الوداع، فخان الجلد فؤاد روزه عند مشاهدة هذا المنظر المؤثر، فبدرت من عينيها دمعتان حبستا لسانها عن الكلام، فمدت يدها المثلجة وهي تفكر فيما ستئول إليه الحال، وأنه بعد قليل سيرحل عنها وربما لن تراه فيما بعد.
أما الأمير فلما عاين منها ذلك التأثر استنار وجهه بابتسامة ممزوجة بالأمل، وجثا عند قدميها قائلا: إنني أشكرك يا سيدتي شكرا جزيلا على ما ظهر منك من الحنو والإخلاص، فقد أعدت السعادة إلى قلبي المدنف، ونزلت لآلئ دموعك بردا وسلاما على فؤادي الخافق، فسأبقى خاضعا لأمرك وأجتنب السفر إذا كان فيه ما يؤلمك، وأترك العالم وما فيه من الطمع والثروة والفخار، وألزم النسك والزهد، وإن كان ذلك يرضيك، فأنت دنياي ونعيمي، وفي يدك زمام سعادتي وشقائي، فأمريني بما شئت فأكون لك من الخاضعين.
فشعرت روزه حينئذ بالندم عما فرط منها من الضعف، الذي نم على سرائرها لدى شاب لم تعرفه إلا مدة السفر ما بين باريز ومصر، فجعلته يتمادى بحديث لم يكن قد طرق أذنيها، وخافت أن يرميها بالطيش والزيغ، ولحظ عزيز منها ذلك الارتباك، فخشي أن يكون قد كدر مشاعرها بحديثه، فأردف قائلا: إن حبي لك يا سيدتي عظيم جدا، ولكن احترامي إياك أعظم، وقد همت بحسن سجاياك، وكمال أوصافك أكثر مما ولعت بجمال طلعتك، ولطف حديثك، فثقي بأنك عندي بمنزلة الإله من الشعب، وبمقال الروح من الجسد، ولا تظني أني أقصد بحديثي أمرا أو أطمع منك بعهد، فأنت في عيني أسمى من أن تنطال إليك آمالي، وترفع إلى مقامك الرفيع أبصاري، فإني أحبك حبا لا يمكن وصفه، إذ إنه لا يرمي إلى غاية، وجل ما أشعر به لخدمتك بلا مقابل سوى أن تكوني سعيدة بعيدة عن كل ما يعكر صفاء حياتك.
Page inconnue
وكانت روزه مطرقة حياء، ووجهها يتلون بتلون شعورها، كأنه يعكس ما كان يسيطر في فؤادها من التأثر والانفعال، ويبوح بما في ضميرها من السرور والهيام، حتى إذا انتهى عزيز من حديثه، وساد السكوت حينا، رفعت رأسها، وقد ورد الخجل وجنتيها، وبعث السرور في عينيها شعاعا من النور زاد في جمالها رقة وفي نظراتها تأثيرا، وقالت له: أشكرك أيها الصديق على ما جاء في عباراتك من معاني الود، فإنها والحق يقال لأكبر دليل على شرف محتدك، وكريم أصلك.
فانحنى أمامها شاكرا، وودعها وانصرف.
أما روزه فلبثت بعد خروجه تردد في ذهنها كلماته، فيرقص فؤادها طربا، تبحث فيما انطوى عليه من حسن الشمائل وحميد الخلال، فتزداد رفعة في عينيها رغما عن قلة ذات يده.
ثم نهضت وهي تقول: إن المال لا قيمة له عندي، ولا سيما أن ثروة أبي كافية لنا، بل هنالك أمر أرمي إليه وشيء أقف فؤادي عليه، ألا وهو عزة النفس، وكمال العقل، وطهارة الحب، فهذه صفات لا يعادلها مال الأرض طرا.
الفصل الحادي عشر
التذكار
ومرت الأيام وتوالت الشهور، وعزيز لا يألو جهدا عن السعي وراء عمل يدرك منه بغيته، وساعدته روزه على ذلك بأن سهلت له سبيل الاستخدام عند والدها، وكان يتردد في أثناء ذلك إلى منزلها، ويتمتع بمشاهدة طلعتها الباهرة واستماع ألفاظها العذبة.
وكثيرا ما كان يبحث مع يوسف في وجوب توسيع دائرة أشغاله لما في ذلك من الأرباح الطائلة، فاستصوب رأيه وعزم على اتباعه، ولم تكن سوى بعض أيام حتى أنشأ مصرفا عظيما وعين الأمير مديرا له، لما كان يعهد فيه من الأمانة والاستقامة، ومن ذلك الوقت اشتدت العلاقة بينهما، فكان عزيز يدأب النهار بطوله في العمل ويقضي سهراته في منزل يوسف، حتى توثقت الألفة بينهم جميعا ولا سيما بين عزيز وروزه، فقد صفت لهما الأيام بتوفير فرص الاجتماع، فكانا يقضيان الوقت بين نقر الأوتار والتنقل في الحديقة تحت ظل الأشجار، وهما فرحان بما قسم لهما الدهر من الغبطة والسرور، قانعان لما نالا من الهناء والحبور.
وكان في الحديقة شجرة صفصاف كبيرة تتدلى أغصانها الكثيفة إلى الأرض، فتمثل غرفة طبيعية أرضها مكسوة ببساط من نسيج الربيع، وأثاثها مقعدان مصنوعان من الصخور الاصطناعية.
فجلس المحبان يوما في ظل تلك الصفصافة، وباح كل منهما للآخر بما يكنه فؤاده الولهان، وأقسما على الثبات في الحب حتى الممات، ثم تناول عزيز سلسلة ذهبية من عنقه، قد علق فيها ذخيرة صغيرة كانت التذكار الوحيد عنده من والدته، وأعطاها إلى روزه راجيا أن تقبلها منه عربونا لحبهما.
Page inconnue
فأخذتها روزه شاكرة، وجعلتها حول عنقها، فتدلت الذخيرة حتى قلبها، فأدخلتها ضمن ثوبها بعد أن قالت لعزيز والسرور يتلألأ في مقلتيها: سأحرص عليها حتى الموت.
فأجابها: أنت يا روزه شمس حياتي، وبدونك لا مطمع لي في الوجود.
وإنهما لكذلك، إذ أقبلت خادمة روزه وقالت: سيدتي، لقد حضرت صديقتك ماري وشقيقها لزيارتك.
فنهضت روزه فرحة بهذا الملتقى، ودعت عزيزا لمرافقتها فحاول الانصراف معتذرا، ولكنها ألحت عليه بالبقاء، وأسرعت أمامه للقاء ضيفيها.
أما هو فلبث واقفا هنيهة، وأفكاره متجهة نحو ماري تتجلى له بهيئتها اللطيفة، ونظراتها الرقيقة التي لم تفارق مخيلته منذ رؤيته إياها، واجتماعه بهما مسافة الطريق بين مرسيليا والإسكندرية، فارتاعت نفسه لتلك الذكرى، وشعر بشوق يدفعه إلى مشاهدتها، ولكنه رأى من الصواب عدم الانقياد إلى هواه؛ خوف أن يقهر أمام تلك القوة الخارقة، أو يبدو من ماري ما يفضح سرهما أمام من عاهدها منذ هنيهة ألا يكون لها في فؤاده شريكة، غير أنه ما لبث أن عادت إليه شجاعته ظنا بأن ذلك الانعطاف الذي شعر به نحو ماري سابقا، لم يكن حينئذ إلا لخلو قلبه من هوى من سواها، أما الآن وقد ملأ حب روزه جوارحه، فلم يعد في فؤاده مكان لغيرها.
وعليه سار إلى حيث كان الثلاثة مجتمعين، وهو واثق من قوة جنانه وصدق وداده، غير أنه لم تقع عينيه على عين ماري حتى بدا من الاثنين ارتباك وشى به خفقان القلوب، وشهد عليه ورد الجنان، فحيا عزيز الجميع وجلس يبادلهم الحديث، وماري مصغية لكلماته التي كانت تنزل بردا وسلاما على فؤادها الطاهر غبطة وحبورا، ولم تجتهد في إخفاء ما يخامرها من السرور بوجوده أو تجتنب ما ينم على ميلها إليه، إذ لم تكن تعلم بما بينه وبين صديقتها من روابط الحب، ولو علمت ذلك لما سمحت لأفكارها أن تتجه إليه، أو لقلبها أن يشتغل به؛ لأنها كانت أشرف طبعا من أن تدخل بين حبيبين متعاهدين، وتفصل بين قلبين متحابين.
ولم تخف تلك الظواهر على روزه، ولكن ثقتها التامة بعزيزها وائتمانها جانب صديقتها حال دون وصول سهام الغيرة إلى قلبها، فحملت ذلك منهما على محمل السذاجة والطهر، وسرت لما رأت من إعجاب صديقتها به، علما بأنها ستبهج لدى إطلاعها على حبهما.
وكان فريد لا ينفك عن التحبب إلى روزه منتهزا فرصة اشتغال الآخرين بالحديث، أما روزه فكانت تحدث الجميع ووجهها يطفح بشرا، وقد صممت على أن تطلع ماري على حبها لعزيز، وتأتمنها على سرها في أول فرصة؛ لأنها لم تكن حتى تلك الساعة تخفي عنها شيئا.
الفصل الثاني عشر
التهور
Page inconnue
ففي ذات يوم خرجت روزه إلى الحديقة عند غروب الشمس، وأخذت تسير الهوينى بين الأشجار والرياحين، وهي كلما وقعت عيناها على زهرة جميلة أسرعت إلى اجتنائها، حتى جمعت مقدارا وافرا، فضفرت منه إكليلا، وزينت به رأسها، وجعلت ما بقي فوق صدرها فإذا بها كآلهة الجمال، وأخذت تتثنى بين الزهور والورود فتعيرها لونا من ورد وجنتيها، وتزري بأغصان البان قدا واعتدالا، وهي سكرى بخمرة الحب ونشوة الصبا، وبعد أن خطرت نحو ساعة في تلك الروضة الغناء استولى عليها التعب، وعقد العرق لؤلؤا على جبينها الوضاح كزنبقة رصعها ندى الصباح، فاتخذت لها مكانا أمام جدول الماء الصافي، ولم يستقر بها المقام حتى رأت أباها مقبلا، فأسرعت إليه وعانقته. وكان والدها كلما طال نظره إليها يزداد شغفا بها فيعود إلى ضمها وتقبيلها، ذاهلا عن وجود شخصين كانا قادمين برفقته لأشغال لهما معه، فبعد أن أروى غليل القلب من عناق ابنته، عاد إليهما معتذرا، وسار معهما إلى غرفة قريبة من مدخل الحديقة، قد خصصت للمفاوضات في أمور الأشغال.
فعادت روزه إلى مكانها، وأخذت تسرع نظرها في الفضاء، وكان القمر قد لاح في قبة السماء، فأرسل ضوءه من خلال الأغصان مبددا جيوش الظلام المتكاثف حولها، وهب النسيم يداعب شعرها الحريري، ويلاعب عطفها المياس، فتغار الأغصان من لينه، فيسمع لحفيف أوراقها تنهدات فيها خرير المياه.
وبعد قليل سمعت وطء أقدام قريب، فمالت بنظرها نحو الحديقة فرأت عزيزا، فأسرعت إليه والسرور يتلألأ في محياها، ولم يتمالك عزيز لدى رؤيتها أن صاح: ما أجملك يا روزه! وما أعظم سلطانك على قلبي! إني كلما أطلت النظر إليك وأكثرت من معاشرتك، يظهر لي من سحر جمالك ونبل صفاتك أسرار لم أكن أدركها قبلا، فيا حبذا لو تعلمين مقدار حبي وافتتاني بك.
فابتسمت روزه وهمت أن تجيبه، ولكنها توقفت إذ رأته قد ابتعد عنها خطوة وقال لها بصوت خافت: إني أسمع صوت أناس قريبين منا. - هذا أبي وزائران في الغرفة المحاذية لنا، يتذاكرون في أمور تختص بأشغالهم.
فأصغى عزيز قليلا، وإذا بأحدهم يقول: «سأشتري خمسين ألف قنطار»، فأجابه آخر: «تلك مجازفة»، فقال يوسف: «كلا، فإن أسعار القطن لا بد أن ترتفع ارتفاعا عظيما.» فقال الثالث: «لقد جرأتماني على الاتحاد معكما.»
فأصاخ عزيز سمعا لحديث القوم، حتى إذا ما انفض مجلسهم تأكد لديه أن الأسعار ثابتة الارتفاع، فوسوس له حب الكسب ابتياع كمية وافرة من القطن على حسابه الخاص؛ لينال منها أرباحا طائلة، ولكن أنى له المال للحصول على بغيته، ذلك كان شغله الوحيد وفكره الجديد، فلحظت روزه منه بعض الارتباك فسألته عن ذلك، فلم يشأ أن يبوح لها بشيء، ثم صعدا إلى القصر حتى حان وقت العشاء، فجلسوا على المائدة، وكل منهم لاه بفكره عن غيره، فيوسف يؤمل النفس بالأرباح الطائلة، وعزيز يبحث في سره عن وسيلة تمكنه من إحراز الثروة، وروزه تجهد النفس في معرفة الأسباب التي أوجدت في عزيز بعض التغيرات؛ ولذلك كان السكون مخيما عليهم، لا يسمع بينهم سوى قعقعة الصحون، وبعض كلمات موجزة دارت على أفواههم، ثم نهضوا عن العشاء، وجعلت روزه توقع بعض الأنغام على البيانو، ووالدها وعزيز يدخنان في زاوية أخرى، وكلاهما متظاهر بالإصغاء إليها، ولم يكن إلا قليل حتى انتصب عزيز فجأة، وظهر على محياه ابتسامة الظفر لفكر مر في خاطره فأمله بالفوز العظيم، فودعهما وخرج هائما يخبط في هواجسه، فتارة يثب وثبة الفرح والابتهاج، كأنه بلغ ذروة المجد والإثراء، وطورا يقف مذعورا تتنازعه الأفكار ويصارعه الجزع.
ولما كان اليوم التالي، أقام يوسف حفلة شائقة تذكارا لمولد ابنته التي قد أتمت سنتها الثامنة عشرة، فدعا إليها بعض المقربين من أصحابه، ولما دنت الساعة المعينة وفد المدعوون تباعا، فكانت روزه تقابلهم بوجه يتلألأ بشرا وإيناسا، حتى امتلكت أفئدة القوم بباهر طلعتها وسحر بيانها، وكانت صديقتها ماري أول من حضر مع أخيها فريد، الذي اتخذ له مكانا قريبا من روزه، وجعل يراقب حركاتها ولفتاتها وفي وجهه ما يترجم عن خفوق فؤاده وشدة إعجابه بها، ثم أخذ يحادثها بمواضيع لم تخرج عن دائرة الدعوة، معجبا بكمال الزينة وسلامة الذوق، مادحا كرم الضيافة، متهللا بالأصوات الجميلة التي كانت تحرك القلوب على نغمات الأوتار، أما روزه فكانت تصغي إلى كلامه وعيناها شاخصتان إلى الباب، كأنها تنتظر قدوم واحد من الأصحاب، ولم يكن إلا قليل حتى أقبل عزيز فتهلل وجهها فرحا، وبرقت عيناها سرورا بما أوضح لجليسها أن هذه هي الضالة التي تنشدها، ثم أقبلت إليه تحدثه بعبارات ملؤها الرقة والحب، وانتقلت بعد ذلك إلى غيره فغيره فغيره، مظهرة من اللطف ورقة الجانب ما جعل الجميع مأخوذين بسحر بيانها، ولطف حركاتها، ولبثت على تلك الحالة متنقلة من مكان إلى آخر حتى انتهت إلى صديقتها ماري، وكانت جالسة على مقربة من عزيز تحدثه وعلائم الانشراح بادية على محياها، فاقتربت منهما روزه ونظرت إلى ماري نظرة تعني بقولها: «أرأيت ما أجمله؟» أما عزيز فلم يقو على الثبات أمام تلك النظرات الطاهرة فنهض هاربا من أمامها، أما روزه فسارت مع صديقتها بين صفوف المدعوين إلى أن انتهت إلى حيث كان فريد جالسا على انفراد، وأفكاره سابحة في بحور الهواجس، فلما شعر بدنوها انتعش فؤاده لما رأى من اهتمامها به، ونهض إجلالا لها، فقالت له: علام أنت منفرد هنا يا سيدي، كأنك تأبى مشاركة الجميع بأفراح هذه الليلة. - كلا يا سيدتي، بل أراني في ذروة الفرح والسرور لوجودي بينكم، وأحسب هذه الدقيقة التي شرفتني فيها سيدتي ببعض عنايتها لهي أسعد أوقات حياتي.
فشكرته روزه بابتسامة أجهزت على فؤاده الجريح، ودعته لمجالسة الجميع المتألبين حول موائد المدام، فسار وامتزج معهم، وأخذ يحدثهم في كل موضوع مستطاب، ويورد الأحاديث المفيدة، والنكات المستظرفة برقة وفصاحة لا مزيد عليهما، مما دل على سعة اختباره، وعلو مكانته في العلم والأدب، فاشرأبت إليه الأعناق وحدقت إليه الأبصار، والكل معجب بذكاء عقله وقوة جنانه، وبعد قليل صدحت الموسيقى بأنغامها اللطيفة، تلاها أصوات المغنين فكف القوم عن الحديث، وجلسوا يترنمون على نغمات المثالث والمثاني، ويرسلون أصوات الابتهاج ويبدون إشارات الاستحسان.
وفي أثناء ذلك لحظت روزه بعض التغيير في حركات عزيز وسكناته، إذ أصبح محبا للانفراد، وكثيرا ما سألته عن السبب فكان يتكلف الابتسام محاولا إخفاء ما يقلق فكره ويتنازع لبه من الأسرار، فتأثرت لحالته اعتقادا منها أنه دائم الاهتمام في إيجاد واسطة ينال بها ثروة تؤهله للاقتران بها، وهي بغنى عن كل ذلك ما دام أبوها غنيا وهي الوحيدة عنده، فأخذت تباحثه برقتها المعهودة ودلالها الفتان؛ لتسري عنه ذلك الاضطراب. أما هو فلم يزده ذلك إلا تألما وعذابا، إذ رأى نفسه دونها منزلة وإخلاصا، فإنه على شدة هيامه بها يشعر بميل عظيم نحو ماري، ويرتاح لرؤيتها واستماع حديثها، ولكن إذا غابتا كلتاهما من عينيه لا يفكر إلا بروزه، ولا يكون لماري نصيب من الذكرى والشوق اللذين يشعر بهما نحو حبيبته، وعليه فقد كان محبا لماري، عاشقا لروزه، أسيرا للهواجس والكآبة.
وبعد انقضاء الحفلة ودع القوم أصحاب المنزل وانصرفوا شاكرين.
Page inconnue
واختلت روزه في غرفتها فأطلقت العنان لتصوراتها بقية ذلك الليل، فكان تارة يبدو لديها طيف عزيز، وقد كللت جبينه الكآبة، وأذل جفنيه الانكسار فيتقطع قلبها شفقة لحالته، وطورا يخيل لها أنه قد تردد في حبها، وندم على تقيده معها، فينفطر فؤادها جزعا، وتفكر في وجوب ابتعادها عنه وحله من عهوده السالفة، ولكنها لا تلبث أن تسخر من أفكارها وتلوم ذاتها على سوء ظنها به، وهو الذي ضحى بمستقبله، وما كان يؤمله من التقدم والإثراء في الاغتراب إذعانا لأمرها وإجابة لإشارتها.
ومر أسبوع على تلك الليلة دون أن يتقابل المحبان، فارتبكت أفكار روزه وحسبت لانقطاع عزيز عن زيارتها ألف حساب، ولما عيل صبرها وسئمت الانتظار، عزمت على الاستفهام من أبيها، ولكنها لم تجسر على السؤال خوف افتضاح أمرها، وانكشاف سرها، فتسلحت بسلاح الصبر والجلد حتى يأتي الله أمرا كان مفعولا.
الفصل الثالث عشر
خيانة
أما عن سبب غيابه، فإنه حدث أنه تقابل مع فريد، فدعاه إلى الذهاب برفقته مساء لحضور التمثيل في الأوبرا الخديوية، فأجابه إلى ذلك وسار معه، وكانت تلك أول ليلة غاب فيها عزيز عن منزل يوسف منذ اشتدت علائق الود بينه وبين روزه، فبعد أن سار هنيهة مع رفيقه فكر في حبيبته وما يكون من تأثير غيابه عليها بعد أن تعودت تمضية السهرات بقربه، فخطر له أن يعتذر إليه ويعود إلى أعقابه، ولكنه خجل أن يفعل ذلك، بعد أن وعد صديقه بالذهاب، فواصل السير معه مضطرا إلى أن انتهيا إلى قاعة التمثيل، وبعد أن استقر بهما المقام أجال عزيز نظره في الجموع، فأبصر ماري مع أبيها في إحدى المقاصير (الألواج)، وهي مزينة بأفخر الحلي واللباس حتى يخالها الناظر حورية من حور الجنان.
فاضطرب عزيز أي اضطراب، كأن سلكا كهربائيا قد مسه، ولا سيما إذ رأى ماري قد صوبت نظرها إليه باسمة، وأشارت بالسلام، وكان إشراق وجهها، واحمرار وجنتيها ينمان على خفوق فؤادها، وشدة ميلها، فحاول التشاغل عنها وعدم النظر إليها، ولكن قوة كانت تدفعه إلى مبادلتها النظر والابتسام.
ولما أسدل الستار تفرق الجميع طلبا للراحة، فدعا فريد عزيزا لمرافقته إلى حيث أبوه وأخته، فسار معه مسرورا، وقضى بقية السهرة قرب ماري لا يرفع نظره عنها، ولا يمل من استماع ألفاظها، أما هي فكانت كل نظرة وإشارة منها تنبئه بشدة تعلقها به، وهيامها بحميد أوصافه، وهكذا لم تمض السهرة حتى زال رسم روزه من مخيلته، وساد مكانها جمال ماري ورقتها.
وبعد انتهاء التمثيل خرج الناس أفواجا، وكان عزيز يسير مطرقا، وقد التهب دماغه من شدة الانفعال، إذ ما لبث أن بدا أمامه طيف روزه معنفا شاكيا بما جعله يطفر على غير هدى تخلصا من عذابه الداخلي، وكان فريد قد انفصل عن والده ورافق عزيزا مسافة لحظ من خلالها ارتباك أفكاره، فسأله عما به، فأجابه: إني مريض. وهكذا ما صدق أن وصل إلى منزله، فودعه فريد واعدا بأن يزوره في اليوم التالي.
وعاد في اليوم التالي مساء فوجده على أتم ما يكون من الصحة، فمكث معه حينا من الزمن، ثم خرجا معا في قصد النزهة في جهة الأزبكية، ولم يسيرا طويلا حتى اقتربا من منزل فريد، فدعا هذا صديقه لزيارته فلبى طلبه مسرورا، وقضى عنده ساعة تمتع فيها بمجالسة ماري ومؤانستها، ثم تعددت زياراته بعد ذلك لعائلة حبيب، واشتدت الألفة بينه وبينهم حتى كاد ينسى علاقته مع روزه ويهجر ودها.
وشعرت روزه بتغير فؤاد حبيبها وفتور حبه، فداخلها ريب في أمره، وباتت تتوقع خلوة معه تستطلع فيها حقيقة نيته وأسباب تغيبه.
Page inconnue