واختلت روزه في غرفتها فأطلقت العنان لتصوراتها بقية ذلك الليل، فكان تارة يبدو لديها طيف عزيز، وقد كللت جبينه الكآبة، وأذل جفنيه الانكسار فيتقطع قلبها شفقة لحالته، وطورا يخيل لها أنه قد تردد في حبها، وندم على تقيده معها، فينفطر فؤادها جزعا، وتفكر في وجوب ابتعادها عنه وحله من عهوده السالفة، ولكنها لا تلبث أن تسخر من أفكارها وتلوم ذاتها على سوء ظنها به، وهو الذي ضحى بمستقبله، وما كان يؤمله من التقدم والإثراء في الاغتراب إذعانا لأمرها وإجابة لإشارتها.
ومر أسبوع على تلك الليلة دون أن يتقابل المحبان، فارتبكت أفكار روزه وحسبت لانقطاع عزيز عن زيارتها ألف حساب، ولما عيل صبرها وسئمت الانتظار، عزمت على الاستفهام من أبيها، ولكنها لم تجسر على السؤال خوف افتضاح أمرها، وانكشاف سرها، فتسلحت بسلاح الصبر والجلد حتى يأتي الله أمرا كان مفعولا.
الفصل الثالث عشر
خيانة
أما عن سبب غيابه، فإنه حدث أنه تقابل مع فريد، فدعاه إلى الذهاب برفقته مساء لحضور التمثيل في الأوبرا الخديوية، فأجابه إلى ذلك وسار معه، وكانت تلك أول ليلة غاب فيها عزيز عن منزل يوسف منذ اشتدت علائق الود بينه وبين روزه، فبعد أن سار هنيهة مع رفيقه فكر في حبيبته وما يكون من تأثير غيابه عليها بعد أن تعودت تمضية السهرات بقربه، فخطر له أن يعتذر إليه ويعود إلى أعقابه، ولكنه خجل أن يفعل ذلك، بعد أن وعد صديقه بالذهاب، فواصل السير معه مضطرا إلى أن انتهيا إلى قاعة التمثيل، وبعد أن استقر بهما المقام أجال عزيز نظره في الجموع، فأبصر ماري مع أبيها في إحدى المقاصير (الألواج)، وهي مزينة بأفخر الحلي واللباس حتى يخالها الناظر حورية من حور الجنان.
فاضطرب عزيز أي اضطراب، كأن سلكا كهربائيا قد مسه، ولا سيما إذ رأى ماري قد صوبت نظرها إليه باسمة، وأشارت بالسلام، وكان إشراق وجهها، واحمرار وجنتيها ينمان على خفوق فؤادها، وشدة ميلها، فحاول التشاغل عنها وعدم النظر إليها، ولكن قوة كانت تدفعه إلى مبادلتها النظر والابتسام.
ولما أسدل الستار تفرق الجميع طلبا للراحة، فدعا فريد عزيزا لمرافقته إلى حيث أبوه وأخته، فسار معه مسرورا، وقضى بقية السهرة قرب ماري لا يرفع نظره عنها، ولا يمل من استماع ألفاظها، أما هي فكانت كل نظرة وإشارة منها تنبئه بشدة تعلقها به، وهيامها بحميد أوصافه، وهكذا لم تمض السهرة حتى زال رسم روزه من مخيلته، وساد مكانها جمال ماري ورقتها.
وبعد انتهاء التمثيل خرج الناس أفواجا، وكان عزيز يسير مطرقا، وقد التهب دماغه من شدة الانفعال، إذ ما لبث أن بدا أمامه طيف روزه معنفا شاكيا بما جعله يطفر على غير هدى تخلصا من عذابه الداخلي، وكان فريد قد انفصل عن والده ورافق عزيزا مسافة لحظ من خلالها ارتباك أفكاره، فسأله عما به، فأجابه: إني مريض. وهكذا ما صدق أن وصل إلى منزله، فودعه فريد واعدا بأن يزوره في اليوم التالي.
وعاد في اليوم التالي مساء فوجده على أتم ما يكون من الصحة، فمكث معه حينا من الزمن، ثم خرجا معا في قصد النزهة في جهة الأزبكية، ولم يسيرا طويلا حتى اقتربا من منزل فريد، فدعا هذا صديقه لزيارته فلبى طلبه مسرورا، وقضى عنده ساعة تمتع فيها بمجالسة ماري ومؤانستها، ثم تعددت زياراته بعد ذلك لعائلة حبيب، واشتدت الألفة بينه وبينهم حتى كاد ينسى علاقته مع روزه ويهجر ودها.
وشعرت روزه بتغير فؤاد حبيبها وفتور حبه، فداخلها ريب في أمره، وباتت تتوقع خلوة معه تستطلع فيها حقيقة نيته وأسباب تغيبه.
Page inconnue