ومضى على هذه الحادثة المفجعة ساعة، وحبيب مطروح على الأرض، والدم يسيل من جرحه لا عين تراه، ولا أذن تسمع أنينه، ولكن الله أبى إلا أن ينقذ من ذلك العذاب الأليم نفسا لم تجترم ذنبا، ولا أتت منكرا، فأرسل إليه الناسك الذي هب إلى ذلك المكان عند استماع صوت البنادق، وأخذ يبحث من مكان إلى آخر حتى عثر على جثة ملقاة على الأرض والدم يتفجر منها، فصوب نحوها نور المصباح، فتبين له وجه حبيب وعلامات الموت بادية عليه، فانحنى فوقه والحزن ملء فؤاده، ووضع أذنه على قلبه، فشعر بحركة خفيفة دلته على وجود بقية من الحياة فيه تؤمله بالنجاة، فهرول حالا إلى منسكه بعد أن وكل الكلب بحراسته.
ولم يكن إلا القليل حتى عاد ومعه ثلاثة من الرهبان، فحملوه وذهبوا به إلى الدير حيث ألقوه على فراش وثير، وأخذوا بمعالجة الجرح، فأخرجوا الرصاصة منه، وضمدوه بالعصائب واللفائف بعد أن وضعوا عليه العقاقير الطبية؛ لالتئامه ومنع الفساد عنه، ثم نشقوه الروائح المنعشة حتى استفاق ففتح عينيه، وتمتم بعض كلمات غير مفهومة، ثم عاد إلى غيبوبته، وقد انتشر الدم في وجهه، وتصبب العرق من جبينه، واستولت عليه حمى مدة أربعة أيام لا يعي فيها على شيء، والرهبان يتناوبون خدمته ليلا ونهارا، حتى خفف وطأتها، فاستيقظ في صباح اليوم الخامس واستوى على فراشه بألم الجرح، مما نبه خاطره إلى ذكر تلك الحادثة المحزنة، فصاح بصوت يفتت الأكباد: فاتنة ... حبيبتي ... فاتنة.
فاقترب الكاهن منه وقال له بصوت ملؤه الشفقة والحنان: سكن روعك يا ولدي، فإنك مريض ومعرض للخطر الذي لا يزال واقفا لك بالمرصاد. - سأكون طوع أمرك يا أبت، إنما أتوسل إليك أن تقول لي بأن زوجتي لا تزال على قيد الحياة وأني سأراها قريبا.
فهدأ الناسك روعه، وسأله كيف وقع ذلك، فقص عليه حبيب الحادثة وهو يبكي ويتأوه ويندب زوجته ويتألم، فقال له الناسك: طب نفسا يا بني وقر عينا، فإننا سنسعى جهدنا لكشف أمرها ومعرفة مقرها، فالزم السكينة والراحة كي يتسير لك الشفاء عاجلا فشاركنا في البحث عنها، والله قادر أن يعيدها إليك سالمة، دون أن يمسها ضرر ولا أذى. - أتوسل إليك يا أبت الحنون أن تبادر الآن إلى البحث والاستقصاء؛ لأني بغير ذلك لا أجد راحة ولا صبرا.
قال ذلك وتحفز للنهوض، وهو يقول والدمع يتساقط على خديه وفؤاده يتقطع حزنا ومرارة: إنني لا أستطيع العيش ساعة واحدة بعيدا عن مصدر حياتي وسعادتي، فلا بد لي من النهوض الآن لإنقاذها وردها إلي.
فأمسكه الكاهن وأعاده إلى فراشه قائلا له: ثق يا ولدي بأننا لا ننفك عن اقتفاء أثرها، ولا نترك وسيلة إلا ونستخدمها لإنقاذها، فلا تجهد نفسك فيما لا فائدة منه، بل يعود عليك بالضرر العظيم.
فاضطجع حبيب على سريره خائر القوى، وعيناه تنظران إلى الكاهن مترجمة عن حاسات قلبه، وما يتقد فيه من نار الغيظ وحب الانتقام، ثم قال: إنني لا أرجع عن الانتقام من هؤلاء الخونة المارقين ما دام في نفس من الحياة، ولا بد من إرجاع فاتنتي إلي وإلا فالموت خير لي وأبقى.
وغاب للحال عن رشده؛ لأن الحمى هاجمته بنيرانها الوقادة، فحبست لسانه عن الكلام، واستولت بسلطتها على جميع أعصابه. أما الكاهن فأخذ يعالجه بما لديه من العقاقير الطبية حتى استفاق من غيبوبته، ثم أوصى الرهبان بخدمته والاعتناء به، وخرج يطوف المدن والقرى مستقصيا عن فاتنة، فلم يقف لها عن أثر، فرجع خائب الأمل بما كان من نتائج بحثه وتفتيشه، وأنه بث العيون والأرصاد في جميع الجهات المجاورة، فلم يسمع عنها شيئا، فشعر حبيب كأن صاعقة انقضت عليه فأفقدته عقله، وأن الأرض قد مادت تحت قدميه، فهب من مكانه كالمجنون، وأخذ يخطر في الغرفة ذهابا وإيابا، والدموع تتساقط من عينيه حزنا وكآبة، ثم انحنى أمام الكاهن وقبل يديه شاكرا له على عنايته وحسن صنيعه، طالبا إلى الله أن يجازيه عنه خيرا، وودعه وودع الرهبان، فركب جوادا قدمه له الناسك، وسار تائها في تلك الفلوات، ينشد ضالته ويبحث عن منية فؤاده غير مبال بما يتحمله من العذاب والتعب، وما يقاسيه من الخطر والنصب، وبقي يطوف المدن والقرى متنكرا، ويبث العيون والأرصاد، فلم يقف لها على خبر، فضاقت الدنيا في عينيه، وانقطع حبل رجائه، وبان لديه هول موقفه إذ وجد أن الفتنة لا تزال ثائرة بين القوم، فهجر ذلك المكان خوفا من الموت، الذي كان يتهدده كل ساعة حرصا على حياة قد وقفها لصيانة امرأته، وإنقاذها من مخالب الأعداء الثائرين، وأخذ يجول من مكان إلى آخر متوغلا في الأدغال والغابات، حتى أضناه التعب وأعياه النصب، فآوى إلى كهف ليستريح من مشقة السفر، وبات تلك الليلة والهموم والأحزان تنازعه من كل صوب ، فحرمته لذيذ النوم والراحة.
الفصل الخامس
اليأس
Page inconnue