وكان رئيس الهيكليين طويل القامة نحيف الجسم أسمر اللون، لابسا ثوبا أبيض. وكانت الآراء متباينة فيه وفي طغمة الهيكليين كلها. وكان البعض يرشقونهم بسهام اللوم ويقولون إنهم تواطئوا سرا مع صلاح الدين على إبقاء البلاد في يده، وإنهم ذئاب في أثواب الحملان. أما مركيز منسرات فكان كهلا شجاعا جميل المنظر سديد الرأي أنيس المحضر، وكان هو أيضا متهما بالطمع والأثرة والخيانة توسيعا لسلطته في بلاد الشام. فدخلا على الملك وسلما، ثم شرع المركيز يخبره أن مجمع الأمراء أرسلهما ليسألا عن صحته. فقال الملك: «نحن نعلم أن الأمراء مهتمون بسلامتنا، ونعلم أيضا أنهم لم يتركوا السؤال عنا هذه الأربعة عشر يوما مع ما في ذلك من الشدة عليهم إلا لكي لا تتشوش أفكارنا فنحسب أن المرض أشد مما هو.» فصمت المركيز ووقع في حيرة من هذا الجواب، فتقدم رئيس الهيكليين وجعل يخبره أن مجمع الأمراء يلتمس منه أن لا يخاطر بنفسه ولا يشرب الدواء الذي يعطيه إياه الطبيب العربي إلا بعد أن يفحص المجمع هذا الدواء ويتأكد أنه نافع غير ضار.
فقال الملك: «أيها الرئيس الأعظم رئيس طغمة الهيكليين المقدسة، وأنت أيها المركيز المعظم، تكرما بالخروج إلى الخيمة الخارجية لكي نتبصر في مشورتكما ومشورة مجمع الأمراء.» فخرجا وبعد قليل أقبل الحكيم ومعه البارون والسر وليم، ثم تأخر البارون عنهما قليلا ليكلم بعض الحراس، فدخل الطبيب وسلم على الرئيس والمركيز فردا له السلام، وقال له الرئيس: «أتجسر أن تطبب ملكا من ملوك النصارى؟» فقال: «إن الله يشرق شمسه على الأخيار والأشرار، وأنا من عبيد الله فلا يحسن بي أن أميز في النفع بينهما.»
فقال الرئيس: «أتعلم أنه إذا مات الملك بعلاجك مزقنا جسدك تمزيقا.»
فقال الحكيم: «لكل أمة أجل مسمى، فإن جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون، وما أنا إلا آلة في يد الله تعالى، فلا أستطيع أن أغير القدر المحتوم.»
فقال المركيز: «أيها الرئيس المحترم، إن هذا الحكيم لم يعلم ما أجمع عليه أمرنا، فاعلم أيها الحكيم الذي لا نرتاب في مهارته أن مجمع أمرائنا يدعوك لتبين له أمام جمهور من نخبة الأطباء ما هو الدواء الذي تعتمد عليه لشفاء هذا الملك العظيم الشأن، وهذا أسلم لك في الإقدام على هذا الأمر الخطير.»
فأجاب الحكيم: «قد فهمت مرادكما، ولكن صناعة الطب لها رؤساء كالسياسة وشهداء كالديانة، وأنا أرسلت بأمر سلطان السلاطين؛ لكي أداوي هذا الملك وأشفيه بإذن الله تعالى، فإذا عجزت عن شفائه فسيوفكم ظمآنة لدماء المؤمنين، ولكنني لا أتناظر مع أطبائكم ولا أطلعهم على الأدوية السرية التي أستعملها، فلا تؤخراني عن معالجة المريض.» ثم دخل البارون وقال: «من يريد أن يؤخرك؟! كفانا تهاملا وتأخرا.» ثم حيى الرئيس والمركيز وهم بالدخول إلى خيمة الملك، فقال له المركيز بالفرنسوية: «ألم يبلغك أننا أتينا من قبل مجمع الأمراء؛ لكي نبين للملك الخطر الشديد في اعتماده على طبيب مرسل من العدو؟»
فقال البارون: «أيها المركيز المحترم، لا أقدر أن أطيل الكلام، ولا أحب أن أسمع الكلام الطويل، وإني أركن إلى ما رأته عيني أكثر مما أركن إلى ما تسمعه أذني.»
فقال المركيز: «إن الملك نفسه أباح لنا الحضور حينما يأتي الطبيب.»
فتكلم البارون مع الحارس كأنه يستخبره عن صدق كلام المركيز، ثم قال للمركيز وللرئيس: «يا سيدي، اصبرا قليلا، فلا أعارضكما في الدخول، ولكن ليكن معلوما عندكما أنكما إذا اعترضتما الحكيم اضطررت أن أخرجكما من خيمة الملك كرها؛ لأنني واثق بمهارة هذا الحكيم وفائدة دوائه، حتى لو رفض الملك نفسه أن يشربه لأجبرته على شربه.» ثم التفت إلى الحكيم وقال له: «ادخل بنا أيها الحكيم.»
فعبس الرئيس والتفت إلى المركيز، فرآه كأنه غير مبال فهدأ روعه، ثم دخلا كلاهما وراء البارون والحكيم، ودخل السر وليم وراءهما ووقف بعيدا. ولما صاروا بين يدي الملك حياهم وقال: «إما أن أرد إليكم عن قليل أو تردوني إلى التراب الذي أخذت منه.» ثم التفت إلى البارون وقال له: «وأنت أيها البارون قد خدمت مولاك خدمة صادقة، فلك الشكر منه في الحياة والممات.» ثم التفت إلى آخر الخيمة وقال: «قد بقي واحد آخر وهو صاحبنا الاسكتلندي الذي يريد أن يصعد إلى السماء بدون سلم، أهلا به ومرحبا. هلم أيها الحكيم وأرنا مهارتك.»
Page inconnue