رب، لقد أنشأت هذه الرواية قطعة فنية، وحادثة مسرحية، فلما أن جف حبرها، قرأتها، فإذا هي رسالة إلى بني وطني.
رب، طهر بها قلوبهم، فصير شيعهم شيعة، وطوائفهم طائفة، وجماعاتهم جماعة، فيمسي عداؤهم حبا، وتنازعهم تعاونا، وشرذماتهم كتائب، وقبضاياتهم جنودا.
رب، وسع آفاق أبصارهم؛ فيروا الضيعة فوق الحي، والمقاطعة فوق الضيعة، والوطن فوق الجميع.
رب، يدك في هذا الجهد في الناحية الضعيفة من أدبنا، فليقصف التصفيق كالرعد عند نزول كل ستار، ولتدو القهقهة لنكاتها، ولينسجم الدمع في فواجعها، ولتحبس الأنفاس في مآزقها، ولتجلس النظارة على أطراف الكراسي، توقعا لحوادثها.
رب، خلدها على المسرح، خلد.
مقدمة نخب العدو
كدت أن أفتتح هذه المقدمة بهذا القول: «أطرح الرياء، وأبتعد عن الخيلاء؛ فأصارحك أنني أدفع إلى المسرح العربي برائعة، يفتخر بها أي درامائي كان، في أية لغة وأي زمان. أقول هذا وورائي في اختبار الفن المسرحي، دراسة، وملاحظة، وتأليفا؛ خمسة عشر عاما، تعرفت خلالها إلى معظم البارزين في هذا الفن، على المسرح، وفي الكتاب، وعلى الشاشة البيضاء.
ولئن دار في خلدك أنه قد تدحرجت من فمي كلمة ادعاء ضخمة، فأنا أدعوك إلى المقابلة، فأت بأية رائعة إفرنجية، وقابلها «بنخب العدو» حادثة، ومواقف، ونكات، وأشخاصا، ومفاجآت، وحركة، وتضادا، وحبكة فنية، وسلاسة؛ تجد «نخب العدو» تضاهي أجملهن في كل شيء، وقد تكون دون بعضهن في روعة المأزق، ولكني واثق من أن نهايتها هي أجمل نهاية رواية تعرفها بدون استثناء، وعلى الإطلاق». «انتهى التبجح».
غير أني وجدت مثل هذا القول بعيدا عن سلامة الذوق والكياسة، وقد يكون غير صحيح، وها أنا ذا لا أملك وأنا أراجع قراءتها بعيدا عن المسرح، من أن أسائل نفسي: أهذه هي الرائعة الأوتوبيوغرافية التي كنت أهرع إليها، كلما أصابني فشل جديد، فأعزي نفسي بقولي: لا بأس، إن «نخب العدو» ستخلد اسمك؟! أسائل نفسي بكثير من الشك: أعظيمة هذه الرواية بقدر ما كنت أتمنى؟ أم هي عادية، أم هي - ويا للعياذ بالله - جهد فاشل؟! أتعرى من عواطفي، وأقول لك ولنفسي بصدق، وبالألم الذي يلابس الحيرة: لا أدري، لا أدري، فالدرامة خارج المسرح كالسمكة خارج المياه، والرواية التمثيلية - كما يدل عليها اسمها - هي أداة تمثيل، وليست أداة مطالعة، وليس للقارئ أن يقيم نفسه قاضيا عليها. هي ذا طاولتي تحمل أربعة مجلدات ضخمة، تضم كل درامة ناجحة بين عامي 1904 و1936. أذكر أنني لم أجلس لقراءة إحداها إلا شعرت كأنني مرغم على تجرع دواء كريه.
وبعد، فأنا ألفت هذه الدرامة، وبيني وبين مسرحي خمسة آلاف ميل، وبيني وبين جمهوري اثنا عشر عاما. ثم أين هي من المختبر العظيم - المسرح - تتكيف بالتمرين، وتصاغ على التجربة، فلا يراها الناس إلا بعد أن تمرن، وتهذب، وتراض؟ إنني لا أعرف في تاريخ الدرامة رواية كذا كانت ظروف إبداعها، فإن جاءت برغم هذه المصاعب ناجحة، وكان في حيويتها عناصر الخلود، وأعياني إذ ذاك المال، لقطعت الطريق أنهب لي ثمن تمثال أقيمه لنفسي. وما دام لكل قصة قصة، فهذه قصة «نخب العدو»: ألفت في صباي مهزلتين هما: «لولا المحامي» و«قضي الأمر»، كان من سوء حظي أنهما نجحتا، وهاجرت لبنان والأدب إلى التجارة، فكان من سوء حظي أني أصبت النجاح المالي عاجلا، ووحلت طريقا كانت مغبرة، فتبخرت الثروة، وأطفأ البعد والانقطاع عن الإنتاج اسما أدبيا كاد يلمع، فإذا لا خيل عندك ولا حمير، ولا أدب ولا مال. وخلال هذه الأعوام مر بي من الحوادث والاختبارات والأشخاص ما لا تحشده الأيام في عشرات السنين، وكنت أثناء ذلك غير مواظب على شيء إلا الدرامة، وفي مخيلتي عشرات القصص ومئات المشاهد، أكثرها بخار وضباب، وحدث أن المهاجر اللبناني بحروز معضاد ماتت له همة في «البلاد»، فجاء يستكتبني مقدمة لرسالة تعزية، يسميها المهاجرون «ترجومة»، فعجز بياني عن تلك المحاولة العظمى، وجاء من أخبرني أن المواطنين المهاجرين يتضاحكون، ويقولون إنني أجهل الكتابة، حتى لا أقوى على خط «ترجومي»، وأن أحاديثي عما كتبته في صباي هي من قبيل التباهي الكاذب. «سنرى!» قلتها لنفسي صارفا بأسناني.
Page inconnue