تقدمة
ابتهال
مقدمة نخب العدو
سيرة المؤلف
أشخاص نخب العدو
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
تقدمة
ابتهال
مقدمة نخب العدو
سيرة المؤلف
أشخاص نخب العدو
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
نخب العدو
نخب العدو
تأليف
سعيد تقي الدين
تم تأليف هذه المسرحية في مانيلا - عاصمة جزائر الفلبين - في العام 1937.
وتم طبعها على مطابع الكشاف في بيروت في أول شهر أيلول من العام 1946.
المؤلف.
ما ترى حدثت رواتي بعدي
إن رماني التاريخ في ميزانه؟!
تقدمة
إلى الذي نهض بي حين كبا الدهر - شبابي، أقدم هذا الكتاب.
To the Holy, wise and fair “B. J. D.”
This deferred effort is dedicated
and
to thee my alma mater
The American University of Beyrouth
with the fervent wish that you may never
lengthen the breadlines of world
with another campus hero.
Said Taky Deen
دور «الدكتور نجيب» أكرسه إلى رجل العلم النابغة، والإنساني العظيم، الذي عطر الاسم اللبناني السوري في الشرق الأقصى المرحوم الدكتور «نجيب متري الصليبي».
ابتهال
رب، يسر لهذه الرواية مخرجا يفهم الفن، وممثلين يحذقون الدرامة، ومسرحا غنيا، وجمهورا حشدا.
رب، أدخل على قلوب النساء من بني قومي الجرأة، فيمثلن أدوار النساء في «نخب العدو».
رب، لقد أنشأت هذه الرواية قطعة فنية، وحادثة مسرحية، فلما أن جف حبرها، قرأتها، فإذا هي رسالة إلى بني وطني.
رب، طهر بها قلوبهم، فصير شيعهم شيعة، وطوائفهم طائفة، وجماعاتهم جماعة، فيمسي عداؤهم حبا، وتنازعهم تعاونا، وشرذماتهم كتائب، وقبضاياتهم جنودا.
رب، وسع آفاق أبصارهم؛ فيروا الضيعة فوق الحي، والمقاطعة فوق الضيعة، والوطن فوق الجميع.
رب، يدك في هذا الجهد في الناحية الضعيفة من أدبنا، فليقصف التصفيق كالرعد عند نزول كل ستار، ولتدو القهقهة لنكاتها، ولينسجم الدمع في فواجعها، ولتحبس الأنفاس في مآزقها، ولتجلس النظارة على أطراف الكراسي، توقعا لحوادثها.
رب، خلدها على المسرح، خلد.
مقدمة نخب العدو
كدت أن أفتتح هذه المقدمة بهذا القول: «أطرح الرياء، وأبتعد عن الخيلاء؛ فأصارحك أنني أدفع إلى المسرح العربي برائعة، يفتخر بها أي درامائي كان، في أية لغة وأي زمان. أقول هذا وورائي في اختبار الفن المسرحي، دراسة، وملاحظة، وتأليفا؛ خمسة عشر عاما، تعرفت خلالها إلى معظم البارزين في هذا الفن، على المسرح، وفي الكتاب، وعلى الشاشة البيضاء.
ولئن دار في خلدك أنه قد تدحرجت من فمي كلمة ادعاء ضخمة، فأنا أدعوك إلى المقابلة، فأت بأية رائعة إفرنجية، وقابلها «بنخب العدو» حادثة، ومواقف، ونكات، وأشخاصا، ومفاجآت، وحركة، وتضادا، وحبكة فنية، وسلاسة؛ تجد «نخب العدو» تضاهي أجملهن في كل شيء، وقد تكون دون بعضهن في روعة المأزق، ولكني واثق من أن نهايتها هي أجمل نهاية رواية تعرفها بدون استثناء، وعلى الإطلاق». «انتهى التبجح».
غير أني وجدت مثل هذا القول بعيدا عن سلامة الذوق والكياسة، وقد يكون غير صحيح، وها أنا ذا لا أملك وأنا أراجع قراءتها بعيدا عن المسرح، من أن أسائل نفسي: أهذه هي الرائعة الأوتوبيوغرافية التي كنت أهرع إليها، كلما أصابني فشل جديد، فأعزي نفسي بقولي: لا بأس، إن «نخب العدو» ستخلد اسمك؟! أسائل نفسي بكثير من الشك: أعظيمة هذه الرواية بقدر ما كنت أتمنى؟ أم هي عادية، أم هي - ويا للعياذ بالله - جهد فاشل؟! أتعرى من عواطفي، وأقول لك ولنفسي بصدق، وبالألم الذي يلابس الحيرة: لا أدري، لا أدري، فالدرامة خارج المسرح كالسمكة خارج المياه، والرواية التمثيلية - كما يدل عليها اسمها - هي أداة تمثيل، وليست أداة مطالعة، وليس للقارئ أن يقيم نفسه قاضيا عليها. هي ذا طاولتي تحمل أربعة مجلدات ضخمة، تضم كل درامة ناجحة بين عامي 1904 و1936. أذكر أنني لم أجلس لقراءة إحداها إلا شعرت كأنني مرغم على تجرع دواء كريه.
وبعد، فأنا ألفت هذه الدرامة، وبيني وبين مسرحي خمسة آلاف ميل، وبيني وبين جمهوري اثنا عشر عاما. ثم أين هي من المختبر العظيم - المسرح - تتكيف بالتمرين، وتصاغ على التجربة، فلا يراها الناس إلا بعد أن تمرن، وتهذب، وتراض؟ إنني لا أعرف في تاريخ الدرامة رواية كذا كانت ظروف إبداعها، فإن جاءت برغم هذه المصاعب ناجحة، وكان في حيويتها عناصر الخلود، وأعياني إذ ذاك المال، لقطعت الطريق أنهب لي ثمن تمثال أقيمه لنفسي. وما دام لكل قصة قصة، فهذه قصة «نخب العدو»: ألفت في صباي مهزلتين هما: «لولا المحامي» و«قضي الأمر»، كان من سوء حظي أنهما نجحتا، وهاجرت لبنان والأدب إلى التجارة، فكان من سوء حظي أني أصبت النجاح المالي عاجلا، ووحلت طريقا كانت مغبرة، فتبخرت الثروة، وأطفأ البعد والانقطاع عن الإنتاج اسما أدبيا كاد يلمع، فإذا لا خيل عندك ولا حمير، ولا أدب ولا مال. وخلال هذه الأعوام مر بي من الحوادث والاختبارات والأشخاص ما لا تحشده الأيام في عشرات السنين، وكنت أثناء ذلك غير مواظب على شيء إلا الدرامة، وفي مخيلتي عشرات القصص ومئات المشاهد، أكثرها بخار وضباب، وحدث أن المهاجر اللبناني بحروز معضاد ماتت له همة في «البلاد»، فجاء يستكتبني مقدمة لرسالة تعزية، يسميها المهاجرون «ترجومة»، فعجز بياني عن تلك المحاولة العظمى، وجاء من أخبرني أن المواطنين المهاجرين يتضاحكون، ويقولون إنني أجهل الكتابة، حتى لا أقوى على خط «ترجومي»، وأن أحاديثي عما كتبته في صباي هي من قبيل التباهي الكاذب. «سنرى!» قلتها لنفسي صارفا بأسناني.
في تلك الساعة، عاهدت نفسي على أن أنتشلها من هوة الخمول. في تلك الليلة عقد دخان سكائري غيوما في غرفتي، وتذمر الجيران من رائحة البن في مطبخي، وتمخضت ب «نخب العدو». وجدت في تلك الليلة أن بين يدي ثروة من مذكرات دونتها في أحلامي النهارية، وفي أسفاري، ورجعت إلى أوراق صباي، أستوحيها ثقة بنفسي كادت تتلاشى، وكحلت عيني برؤية صورتي، يطرز إطارها في الصحف عبارات التقريظ، وناديت نفسي مشجعا: «إلى الأمام! تقدر أن تؤلف. تقدر أن تؤلف.» والله لأؤلفنها هذه الليلة! هذه حوادثها واضحة في رأسي، ومواقفها لا ينقص إلا أن أضعها على الورق. ها هي العبارات تثور، والمكالمات تتسابق إلى الجلوس على القرطاس. «لأؤلفنها هذه الليلة!» قلتها لنفسي وأنا أجتر انتصارات غابرة، ومشى بي بصري في مقالة مدح من قلم توفيق قربان إلي: «ونرجو أن يماشي سعيد تقي الدين في تآليفه المستقبلة مبدأ النشوء والارتقاء.» «النشوء والارتقاء» - ها! تلك العبارة كبحت جنوني، وردت المنطق إلى تفكيري. النشوء والارتقاء. تقدم على مهل. كن أمينا للذين تفاءلوا بك. درامة، لا تكتب في ليلة. إلى فراشك يا غلام! اذكر أن أحب خلانك إليك يقول لك إنك مجازف متهور. لولا هاتان الخصلتان لكنت اليوم غنيا. لا تجازف بأدبك كما جازفت بمالك. الرواية لا تكتب بليلة. كن صادقا لفنك، وتوجه إلى الناس بنهاية النهاية من مقدرتك. إن هذه المواد التي بين يديك قد تظهر لأول وهلة وافرة، فاقتطف منها أطيبها، وارم الحامض والمهترئ. قد تكون هذه آخر قفزاتك في الحياة، فتطلع قبل أن تقفز - حذار المهاوي.
وما زلت أحذف، وأكتب وأمزق، وأزيد وأنقص، إلى أن تجهزت هذه الدرامة.
فن مبذر مقامر
قد يكون ولعي بتأليف الدرامة أنه وقع مني على طبع مجازف. فالشاعر مثلا ينظم أبياته في لحظات أو ساعات، فإن جاءت شعرا، شعرا، رددها الناس عاما فعاما، وجيلا فجيلا. أما المؤلف المسرحي فيصب فنه وروحه وخبرته، ويقوس ظهره ناحتا حجارة قصر يشيده - لماذا؟ ليبيت فيه جمهوره ليلة، بل ساعتين أو ثلاث ساعات من ليلة. يا له من فن مسرف! القصاص يؤلف له نوفلة أو قصة قصيرة في وسعك أن تقرأها في فراشك، أو في القطار، أو حيث تستطيب، وحين تكون نفسيتك في شوق إلى قراءتها. أما الدرامائي فيشتغل، ويستشغل جيشا من مخرجين وممثلين ودهانين و، و، و... ويقول للناس: تعالوا إلي في الليلة الفلانية، واسمعوا إلى ما أحدثكم به، وانظروا ما أعرضه عليكم. أنتم القضاة، وليس لحكمكم استئناف، ولا تمييز. لا أبالي في أية حالة نفسية أنتم. أريدكم في الساعة كذا أن تجتمعوا، والساعة كذا أن تنصرفوا. أنتم لكم ذهنيات متباينة أفرادا، ولكم نفسية خاصة مجتمعين، ومن المحتم علي أن أفهمكم أفرادا وجماعة، وهو فرض لا يعترض طريق فنان سواي.
الدرامائي رجل الشارع
هو بحكم الحال فنان غير اختصاصي. فالمصور مثلا يقدر أن ينصرف إلى التصوير فقط، بل في وسعه أن يجنح إلى فرع من فروع التصوير، وله أن لا يفهم شيئا سواه، وليس في ذلك ما يعيبه، بل إن نوابغ الفن المجازي جاءوا فقراء في دراسة الدنيا وشئونها. أما الدرامائي، فتتنوع أشخاص روايته، واختلاف مشاكلها ومواقفها؛ يحتم عليه أن يفهم كل شيء من العلوم والناس والتجارب، إن لم يكن من الألف إلى الياء، فعلى الأقل من الألف إلى الباء، فلا تتخيلن الدرامائي فنانا كلاسيكيا تهدل شعره، وتاهت إلى ما وراء الأفق نظراته، بل هو ابن الأرصفة، يسحب الأرانب من القبعات، ومن حصافة الرأي إذا صافحته أن تعد أصابع يدك، لتتأكد أنها لا تزال في مكانها.
كنت في «نخب العدو» أسائل نفسي، وأسائل الشهيرين من الأطباء، هل العلم يضحك من نظريتي التي وضعتها على فم «الدكتور نجيب» من أن المفاجأة العظمى تشفي العمى العصبي؟ هي نظرية ولدها خيالي، أيمكن أن تكون أو تصير حقيقة علمية؟ ابتسم الأطباء، وقالوا: من حظ المرضى أنك لم تمتهن الطب. إلى أن وقعت بين يدي مجلة أميركية، فإذا بعض أنواع العمى الذي يسببه الغضب يشفيه الخداع، أو اليقين. وعقبها بحث آخر في مجلة ثانية، تذيع أن الموسيقى تشفي بعض العميان. ومن تبسط في درس تينك المقالتين يجد أن حادثة عمى «وسيم الحموي» في «نخب العدو» وشفائه ليست من الغرابة بقدر ما تبدو لأول وهلة، بل إنها ربما كانت أو صارت حقيقة علمية. اتركها في «نخب العدو» يا غلام، واسبح في أحلامك النهارية، وادع أنك أصبت في الطب فتحا جديدا. بل انظر إلى نفسك في مرآة مقعرة، وقل لقد تنبأ «جون فرن» بالغواصات والطيارات. أنا جول فرن الطب! وليس على الادعاء ضريبة.
ولماذا لم تنشأ عندنا الدرامة؟
أقول: إن في شعبنا مواهب أدبية وإلهاما صافيا. أقول: إن ما ينتجه اليوم بعض شعرائنا هو من أصفى الشعر وأبدعه. أقول لجماعة بيروت - وفيهم كل قريب وحبيب: لقد أصبحتم ولا يعجبكم العجب، فلا تقتلوا بمرارة نقدكم شاعرية إخوانكم. وبعد، فالنقد فن زائف ومهنة طفيلية. فاصرفوا همكم إلى الإنتاج، وشيدوا لنا القصور والجسور، نتعلم منها فن البناء أكثر من تعلمنا إياه في خرائطكم الزرقاء، ولماذا لا تتأكدون من وجود الغلال على البيادر قبل أن تقيموا فبارك الغرابيل؟!
أما طوفان النقد في سوريا ولبنان، فراجع إلى أسباب عدة، أترك منها ما هو معروف وشائع، وأذكر ما أعتقد أنه على القراء جديد. فالنقد يوهم صاحبه - ولو ضمنا - بالتفوق على المنقود. أنا أنقدك إذن أنا أفضل منك، وما دام حب التسود غريزة إنسانية، فلا عجب إذا تفشى داء النقد. ثم إن في قرارة النفس الإنسانية في كل شعب وقطر - ولا احتكار في الموبقات - حثالة لؤم يفسح النقد عنه؛ فلا عجب إذن إذا شاع. زد على ذلك أن النقد يضع بيني يدي الأديب أو المتأدب موضوعا جاهزا، فلا حاجة إلى حك الرأس والتنقيب عن موضوع يبحثه الكاتب. كذلك ليس من إنتاج - مهما عظم - إلا وفيه نواح ضعيفة، يسهل اكتشافها، فتسري نشوة الظفر في عروق الناقد مكتشفها. كذلك التطرف يولد التطرف. القياصرة خلقوا البلاشفة، والمديح بلا وزن سبب النقد الأعمى، وسيأتي يوم تتزن فيه خطواتنا، في الطريق الوسط السوي، ولكننا أغربنا عن الموضوع، وكان «لماذا لم يكن عندنا درامة؟»
من معائب إرثنا الأدبي خلوه من الدرامة، ومن معائب حالتنا القومية أنه ليس عندنا جمهور، فشعبنا ليس موحد التاريخ، انظر إلى بعضنا يقول بالإسلام والعروبة، وآخرين بالمسيحية والفينيقية. هذه قريتنا فيها الفلاح الصلب الفطري، وفيها المتأمرك، والمتبرزل، والمتفرنس، إلخ ... عندنا ألف حزب وحزب، وألف دين ودين، وألف معبد ومعبد، وفي آخر الزمان فشت الروابط العائلية، «كالرابطة الشرندعية» لعائلة شرندع، والرابطة العلوشية لبني علوش، كأننا بدلا من أن نسير في نشوئنا وارتقائنا إلى صهر العائلات والطوائف في قالب الوطن، أخذنا نتقهقر في تهذيبنا القومي إلى فك سلسلة الوطن إلى حلقاتها الصغرى.
ثقافتنا ليست موحدة، فهي علمانية، لاهوتية، عربية، إفرنسية، أميركية، أو خليط من بعضها أو كلها. أثوابنا تتراوح بين العمامة والقبعة، وبين البنطلون والسروال. أعيادنا، وأيام الراحة عندنا ليست موحدة، كذلك لهجاتنا، وأساليب معيشتنا، وطرق تفكيرنا. تاريخنا يرشح بالحروب الأهلية، ونحن في بيروت - مدينة العلم والنور - تلك الشرفة التي نطل منها على الدنيا، والتي زيناها للدنيا، وفي عام 1936 «يلي ب.م، وليس قبله» تذابحنا مسلمين ونصارى - ويا للعار! - ونهبنا أموال بعضنا بعضا. أفي مثل هذا الشعب «جمهور» بمعناه المسرحي، الجمهور الموحد التهذيب والشعور والعاطفة، المتشابه الأذواق؟ المتحاكي العقليات؟! الجمهور الذي يضحك لنكتة، ويستفزه تلميح إلى حادثة؟! سل لي أربعة أو خمسة من عشرائك أن ينشدوا نشيدا، تسمعهم يبدأون موحدي النغمة والكلمات، فإذا انتهوا من المقطع الأول من الأغنية اختلط عليهم النغم، واختلفت الكلمات، وأصبح «كل يغني على ليلاه.» هل في القوم الذي يعجز أي أربعة منهم على الاتفاق ولو على إنشاد أغنية «جمهور»؟ تقول لي إن الدرامائي يجب أن يخلق الوحدة في جمهوره، بحيث يبدع له شيئا يستطيبه المعمم، والمطربش، والمبرنط، والسافرة، والمحجبة. أجيب: إن هذا التنافر بالأذواق والتربية والعواطف يجعل الأمور المشتركة بين جمهورنا ضئيلة، إلى حد أن توقع المؤلف في خطرين؛ فإما أن يرضي الجميع فيأتي بالسخيف، أو أن يرضي شيعة دينية، أو سياسية، أو طبقة فكرية دون أخرى، وفي ذلك هلاكه. وهذه المشكلة لا تواجه أي درامائي كان في أي بلد من بلدان الدنيا، وهذا أحد أسباب انعدام الدرامائيين عندنا، إذ إن خالق الرواية التمثيلية - بسبب عسر جمهورنا - يجب أن يخلق عبقريا لا عاديا، يتدرج هو أو من بعده إلى الإبداع؛ أي إنه يجب أن نظفر من لادرامائي بالمرة، إلى درامائي نابغة. أرجعت تتطلع إلى المرآة المقعرة يا مغرور؟!
والسبب الآخر الكسل. أين يقضي أدباؤنا أوقاتهم؟ أفي محترفاتهم ومكاتبهم؟ أغلب ظني أنهم في المقاهي والملاهي منغمسون، فهل تعجب إن جاء مجموع إنتاجهم - بقطع النظر عن نوعه - يوضع بين دفتي كتاب واحد أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة؟
الأدب لا يطعم خبزا
جملة يقولها من حملة الأقلام، حتى من تعرف أنت أنه بغير الخبز يملأ معلفه. «الأدب لا يطعم خبزا»، ولكنه يطعم ما هو أشهى من الخبز؛ فهو يشبع كبرياءك ويذيع أمرك بين الناس، ويروي عطشك من الشهرة، وهذان الجوع والعطش هما مهمازا الإنتاج الأدبي. بلى، لو أن للإنتاج الأدبي ربحا ماليا عندنا، لوفرت محاصيلنا القلمية، وكذلك لو لم تتبذل وسائل الإذاعة الصحفية، إلى حديث يشتهر الكاتب بمقالة واحدة؛ لما وقف أدباؤنا في إنتاجهم عند هذه الدرجة الدنيا، بحجة أن الأدب لا يطعم خبزا، وإننا لن نستغل عقولنا وهممنا في نهاية مواهبها إلا إذا ابتعدنا عن الصحف، وابتعدت الصحف عنا.
قلت لك إن تأليف الدرامة فن مقامر مسرف، وأزيد: إنه ليس بالفن الذي يدر على صاحبه الربح الأدبي من صيت وشهرة. أنت تنظر إلى هذه الرواية، وتقول: أقرأها بساعة، وأشهد تمثيلها بساعتين، فمن المنطق أن تستنتج أن تأليفها سهل غير مجهد، ولكن صغر الساعة لا يعني أن صنعها هين. أقسم لك، إنني طرحت من مواد هذه الرواية ما يؤلف 17 رواية، وقرأت لها مجلدات تملأ مكتبة، وأفنيت في ميكانيكية صوغها الشهور. القصاص مثلا له أن يسرد حكايته في ألف صفحة أو مائة، وله أن يملأ أوراق المطابع إذا أراد. يقدر أن يقفز بك من مشهد تحت سنديانة الضيعة إلى غرفة على ظهر الباخرة. أما الدرامائي، فيجب أن يزحم في ساعتين أو ثلاث قصته ومشاهده، بحيث يجيء اختزالها واضحا وطبيعيا، وعليه أن لا ينسى أنه يكتب لمسرح فقير، ولمخرج وممثلين يجهلهم، ويجهل مكانهم، ومتى يجتمعون، وفي أي محفل. عليه أن يعرف كيف وأين يزرع الحادثة، وكيف وأين يستغلها، وعليه أن يحيك شبكة حوادثها، بحيث تأتي شبكة غير مشتبكة، والنكتة؟ والحركة؟ والفاجعة؟ والحوار؟ والأشخاص - وهؤلاء من هم؟ وما هي مظاهرهم الجسدية، وقواهم الروحية؟ وبماذا يفكرون، وكيف يتكلمون؟ وعليه أولا وفوق كل شيء أن يستوثق من نفسه أنه ملهم، موهوب تلك المنحة النادرة - النكتة.
الدرامائي يجب أن تكون له حنكة السياسي ودهاؤه. فإن كنت تبشر بنظرية جديدة، أو تدعو لعقيدة غير عادية، أو أحببت أن تصدم الناس بنتاج عقلي غير مألوف، فكن شاعرا يطير في طيات وحل الأثير، منشدا «تتهادى الرياح في مهجتيا.» أو فيلسوفا ينطق بمثل الحكمة «الحياة أغاريد الخنازير، وأغاريد الخنازير هي الحياة»، أو مصورا يصور قطيع فيلة، تتدلى خراطيمها من شعر الأقرع، وذيل الصورة ب «غمار الهرم»، أو فكن عالما يؤلف 14 مجلدا في «الدعوة إلى الزواج المختلط بين الإنسان والحيوان؛ لتحسين نسل السوبرمان»، ولكن لا تقترب من المسرح؛ فالدرامائي رجل الغوغاء ، ورجل العامة، ورجل النخبة من الناس معا، وهو كالصحافي رجل يومه، قد يلقي نظرة سريعة إلى خلفه فيلمح الماضي، وربما يمشي وراء أنفه قليلا، فيبصر من المستقبل ومضة، ولكن أفقه دائرة قطرها يداه، يقول: هذا عالمي أؤلفه اليوم؛ ليمتع به اليوم. بالطبع أستثني العبقري الذي يؤلف لليوم، فيتمسك بإنتاجه للغد، ويدفعه هذا إلى ما بعده، وهكذا دواليك، حتى يخلد.
اللغة
من الأبحاث ما تلوكه الألسنة، فتتقزز النفس لتبذله. من هذه الأبحاث هي اللغة، التي صارت في العالم العربي «فوتبول» الجدل في السنين الأخيرة، ولكن هذه المقدمة تستوجب أن ألبط هذه الطلبة ولو مرة واحدة بالرغم مني. فكلمتي في هذا البحث شطران؛ أولا: من الحمق مضغ الكلام، وسن الشرائع، والدعاية لهذه النظرية أو تلك. أنت تقول: يجب أن نؤلف بالعامية. الحق معك تفضل، وألف بالعامية، فإن راج مؤلفك، وثبت على الدهر وشاع؛ كانت العامية هي اللغة التأليفية المثلى. أنت تستنكر العامية، وتنتفض لذكر كلمة إفرنجية تسربت إلى الفصحى. هات قوانينك وجنودك تمنع الناس عن استعمال كلمة «الأفلام» و«الترامواي». لماذا التشاحن النظري، وعلام هذا الحرب بالنظارات إذن؟! في رأيي - وليس أسهل على المرء من إبداء الآراء - أنه من الجريمة أن نؤلف باللغة العامية؛ لسبب بسيط، هو أنه ليس عندنا لغة عامية شاملة. في الأقطار العربية مئات اللهجات واللغات، فأيها تعتمد؟! وأين الحكمة في طرح تراث مئات السنين، والتعلق بوراثة عامية معدمة! إذ ليس فيها كتاب واحد، وكيف تريد أن ننصرف عن عالم ثقافة عربي عدده ملايين إلى لغة شيعة قد لا تتجاوز الألوف؟! على أن الدفاع عن الفصحى في التأليف لا يعني منع التفاعل بين الفصحى والعامية. خذ مثلا في الفصحى:
قالوا اللقاء غدا بمنعرج اللوى
وا طول شوق المستهام إلى غد
هذا ليس أفخم في ميكانيكية تركيبه من:
قالوا الكردي فز الحيط
هذا الكردي وهذا الحيط «خذ حذرك»، كنت أعتقد أنها عامية، حتى قرأتها في القرآن الكريم. في ظني أن أفعل عبارة سمعتها في حياتي تلفظ بها رجل حط به الدهر ؛ فاضطر إلى التعامل مع بعض سقط الناس، فالتفت إليهم في ساعة حنق، وصاح «لما كنت مكاري ما عاشرت هيك بغال.» ماذا عليك لو فصحت مثلا مثل هذه العبارة الجميلة، تناولتها من اللغة العامية بأصابعك من غير ملعقة، وأنا أكفل لك أنك لا تحتاج إلى غسل يديك.
في لغتي المسرحية تعمدت، وربما لم أتعمد لغة طبيعية سهلة، لها صدى موسيقى الأدب العالي، ولكن فيها جلبة الشارع وضجيج ساحة القرية. اللغة هي من المشاكل الكبرى في التأليف المسرحي عندنا، وهذه المعضلة لا تواجه فيما أعلم أي مؤلف مثلما تواجه المؤلف العربي؛ لسعة الخليج الذي يفرق العامية عن الفصحى، ولتعدد لهجات العامية. ولكننا سنتغلب على هذه المصاعب، نقهرها بالتأليف والإنتاج، وليس بعلم النظريات، ومضغ الكلام، ومط البديعيات، وبالتحذلق في كيف يجب أن نكتب، أو لا نكتب.
اللصوصية في الأدب
نلخص أجوبة الأدباء حتى الساعة، إذ يتهمون بالانتحال، أو الاقتباس؛ بكلمة واحدة هي: «بيكذبوا»، عساي أختط للكتبة طريقا جديدة، إذ «أعترف» بكيف آخذ عن الغربيين ما قد تكتشفه في هذا المؤلف.
أمامي كتاب ميخائيل نعيمة في «جبران خليل جبران». إن المتضلع من الإنكليزية، المنغمس في معاشرة الأميركان، المعجب بقوة إفصاح لغتهم العامية؛ يشعر إذ يقرأ كتاب نعيم، بصدى بعيد في نفسه يسائله: «أين قرأت هذه العبارة؟ متى مررت بتلك الاستعارة؟ من أسمعني هذا الرأي؟» أسمعه في صفحة 3 يقول:
أنا أستعد للانصراف من محل، أنحر فيه كل يوم ساعات بكارى من حياتي لعدد محدود من مومسات الريالات.
لا ريب أن المؤلف كان يسمع شتائم الدمغيين
1
في الحملات الانتخابية في أميركا، يقولون في أخصامهم
You have prostituted the government
تعبير جديد قوي الإفصاح تاق نعيمة إلى تعريبه، فلما أن جلس يقص علينا آلام زمن أفناه في بيت تجاري، صرف بأسنانه وشتم: آ - شتيمة - عاهر - مومس - جاءت «مومسات الريالات.» ونعيمة ككل فنان، يدين بمذهب التضاد، ويحذق استغلال المعاكسات. ركضت إليه لفظة بكارى، وهي ضد مومسات، فجاء ظافرا في العبارة كلها. غير أنه فشل في صفحة 85 في قضية «عضاض»، فالجملة الإنكليزية الشائعة التي تقابل «برد قارس» هي
Biling Cold . قال نعيمة لنفسه لأدخلن على العربية تعبيرا جديدا «برد عضاض» ها! كلمة «عض» قادته إلى «ناب»؛ طبعا الناب للعض، والناب عضو من أعضاء الجسم، فزلق إلى «رجل»، فأتت الجملة «يوم برده عضاض ... أنيابه من ذهب ... رجلاه من زجاج ...» فشل على طول الخط؛ يبدأ ب «عض»؛ لأن الضاد حرف دافئ، ولفظة قارس أفعل في أداء معنى البرد من «عضاض». وأصغ إليه في صفحة 32، يقول:
كأنه محمول على سحابة.
فهذا التشبيه الجميل في العربية هو من عاديات الاصطلاحات الإنكليزية
Soiling on a Cloud .
وفي صفحة 48 يقول:
نجوت من الصرف، والنحو، والمعاني، والعروض والقوافي.
فكأنه اختزل بسبع كلمات مقالة شهيرة لهزال أميركي نسيت اسمه، ولم أنس عنوان مقاله
You will get me your education ، والكتاب حافل بمثل هذه الاقتباسات، بعضها ناجح، والبعض - كما ينتظر - فاشل، فهل نتهم نعيمة بأنه نشال إذا حاول عمدا أو بغير عمد أن يغني العربية بهذه التعابير، والأفكار الوهاجة؟ بل هل في وسع نعيمة - أو أي من الناس - تثقف بالإفرنجية، ولعله عاش ودرس وفكر إفرنجيا، أن يجلس إلى ورقة فيتعرى من ثقافته ودراسته، ويخترع كل كلمة وعبارة وفكر؟! وهل من الحكمة أن يفعل كذلك إذا هو قدر؟ وهل من العار أن جاءت الاقتباسات وهي تكاد تكون من مبتذلات اللغة الإفرنجية؟ إن ابن القاهرة لا ينقص من شهيته للعنب كون العنب فاكهة مبتذلة في لبنان.
أريد أن أهمس إليك: إنك إذا كنت تحسب مثل هذا التعريب أو الاقتباس، أو الأصح التفاعل سرقة، فأنا في «نخب العدو»«حرامي».
تسألني: ولماذا اخترت كتاب نعيمة في جبران، واقتطفت منه الأمثال، فهل سندشت
2
اسمك بين كوكبين؛ ليستضيء بلمعان جاريه فيراه الناس، أم لتتحدى المقابلة، فيذكر اسمك وجبران ونعيمة في نفس واحد؟ أجيب - ولك أن لا تصدقني - أن «جبران خليل جبران» هو الكتاب العربي الوحيد الذي قرأته خلال ما يزيد عن عقد من السنين، فكان من الطبيعي أن تجيء منه استشهاداتي، وأنا لا يقتصر تكسبي على الكتب بل أتعداه، فإني مولع بمطالعة المؤلف الذي له قدمان وعينان وأذنان، والذي اسمه إنسان . لم أجئ بهذا الاعتراف اعتذارا عن جريمة اقترفتها، بل لأوضح ما يجب أن يكون أشيع من البديهيات، وهو أن الاختراع الصرف الطاهر، يكاد يكون مستحيلا. ذكر دوماس - وقانا الله شر الاستشهادات - وقد عيروه بتهمة الاقتباس أن أول المقتبسين هو الله، إذ خلق الإنسان على شاكلته، ولم يبتدع رجلا جديدا. فلا يقومن غدا لئيم يتهمني باللصوصية، إذ حتم الصدق علي هذا الاعتراف، و«نخب العدو» بالمعنى الشائع هو مبتكرة حوادثها وحوارها، وكل شيء فيها. ولئن مررت بعبارة تلبس الثوب الإفرنجي، فتأكد أن روحها عربية مثل «لو أمطرت الدنيا دولارات، للبس وسيم مشمعا»، هذه عبارة لي، بعتها لمجلة بثلاثة دولارات. بل إني أندب الكثير من الأفكار والعبارات التي تتسرب إلي بالإفرنجية، ولا يمكنني تعريبها، إما لتلاعب لفظي، أو لفقدان بعض الكلمات والاصطلاحات في العربية، يحضرني من هذه العبارات قولي:
History is libre money, it sometimes spoils people to inherit too much of it ، فهذه عبارة عن تعريبها؛ لعدم وجود ما يقابل
Too
بالإنكليزية.
لم أذكر كل هذا لأدل باضطلاعي من الإنكليزية، أو لأوهمك أنني في تلك اللغة كاتب؛ بل لأني أشعر، وبعض العبارات تتبرقع بالإفرنجية، بظنك أن هذه العبارت منهوبة، وما حيلتي في تعريبها، وقد ولدتها إفرنجية؟
يلعن دين
هل أنا أول من وضع هذه الشتيمة على الورق؟! إن كنت ذلك الكاتب فأنا لست بخجول، لا أريد أن أبرئ نفسي أو فعلتي هذه بالقول: إن كبريات مجلات أميركا وصحفها بدأت في السنوات الأخيرة تطبع العبارات السفيهة، ولكني أقول: إن «يلعن دين» هي شتيمة، غير أنها ليست بالشتيمة القذرة، ومن منا لا يستعملها؟ وأنا إذا استعملت «يلعن دين الورق»، لم أشتم شخصا ولا دينا. فلماذا لا أذكر عبارة بليغة في تأدية المعنى، وأرجع إلى مثل «لحاك الله» بدلا منها؟! ألا لحاني الله حتى لأتعثر بلحيتي إن أمكنني استعمال «يلعن دين»، واعتضت عنها ب «لحى الله». أما كلمة «قحبة» فهي قاموسية، وهي «العاهرة» بعينها، ولكني آثرت الأولى؛ لأنها فصيحة وعامية معا؛ ولأن أنين القاف الصلبة إذا جاورت فحيح الحاء أقرب إلى أداء معنى الفحش والزنا من «عاهرة»، وهذه كلمة موسيقية عذراء، مثل «طاهرة، وشاعرة، وساهرة.»
والسبب الآخر في فشل الدرامة عندنا
هو أن هذا الفن يقتضي التعاون في أبلغ درجاته، فالنحات والشاعر والمصور والموسيقي لا يحتاج إلى رفاق. أما الدرامائي، فهو حين يفرغ من حبك درامته، ينتهي من بناء أول درجة من سلم ينطح الجوء، المخرج والممثلون والأوركسترا والخياطون، حتى والجمهور هم الرفقة المتممون لكل درامة. فالسبب الذي من أجله لم نتعاون ولم نصر أمة حتى اليوم، هو السبب الذي من أجله لم يثبت أمام جمهورنا مسرح ولا درامة. متى أردنا إخراج درامة، فالكل يريد دور البطل، ثم نتنافر، ثم لا نتمرن كفاية اعتدادا بأنفسنا، والاعتداد هو «سبور» قومي عندنا، ثم لا يتعاون الممثل ورفيقه الممثل، ثم لا نجتمع في ساعة الاجتماع، ثم - وكم ثم تطلب حتى تهدم رواية، وواحدة تكفي للهدم؟! لهذا لا يستغرب أن معظم الروايات يمثلها التلامذة؛ إذ إن الحسد والتباغض والكسل تكون على أقلها في عذارى نفوسهم. أما من الوجهة التجارية، فإن سوق الدرامة موجودة عندنا إذا قام عندنا مؤلف، وتعاونت معه فرقة، إذ إن شعبنا شعب متعطش للهو، متعشق للأدب، وهذه دور السينما والفرق الأجنبية تستغل شعبنا رابحة. الدرامة لا تشيع إلا بالتعاون، ونحن شعب متخاذل. خذ حملة الأقلام عندنا. لقد قردوا الأدب بحرب أهلية، أثاروها بينهم، وانصرفوا عن الإنتاج إلى التشاتم والانتقاص، وتهديم بعضهم بعضا. تسألني: وكيف تكتب؟ بل أنت لم تسألني، ولا تريد أن تسمع، ولكن صبرك لحظة، فلن أقول لك: إنني أكثر التدخين والقهوة، وإنني يجب أن أكون في حالة جسدية تامة، وأنني أروض ذهني بسماع الموسيقى، أو التطلع إلى حسناء، أو قراءة أدب عال، أو أستعيد ذكرى مفرحة أو ظفرا غابرا، أو أنغمس بحلم جميل. هذا كله ليس بالجديد عليك، ولكنك لعلك لم تسمع أن أجمل ما كتبته كان بعد لعبة بوكر خاسرة. فإن أعظم مثير لهمتي، وجامع لأفكاري، ودافع بي إلى العمل، هو توبيخ الضمير إذ أقترف موبقة، أو أقصر في تنفيذ واجب، فيصيبني من الندم والتحسر ما يهيجني إلى التكفير عن إثمي بإنتاج شيء أعتقده ثمينا. لا بأس عليك إذا سكرت مرة، بشرط أن لا تصبح سكيرا، وبشرط أن يبقى ضميرك حيا، فتتطلع بالمرآة في صباح اليقظة بعد مساء السكر، فتخاطب الوجه في المرآة: «هذا شحوب الضعة في اصفرارك، وهذه الحياة تتناثر من زئبق عينيك. هيا يا مجرم، كفر عن معاصيك بعمل مجيد.» أنا لا أجد من دافع إلى العمل مثل ضمير حي يشعر بالندم. فإن أنت أمنت من وجدانك بالصلابة، فليس أنفع لك من اقتراف الخفيف من الإثم حينا بعد حين.
غير أنني لا «أجلس لأكتب»، فكل ما أضعه على الورق أنقله من مذكرات في دفتري أو خاطري جاهزة أفكارا وعبارات وكلمات، ولست أقعد إلا لأؤلف بينها، وقد أزيد أو أنقص، ولكن الفكرة الرئيسية جاهزة بكل معداتها. أما «نخب العدو» فقد ولدت أشخاصها أجنة، وكبروا، وكبرت معهم، وعايشتهم هاتين السنتين، ففي مقدرتي أن أقص عليك سيرهم، ولو أني رسام لصورتهم لك. لا أنسى منذ أيام إذ لقيت في الشارع مواطنا، فهرعت إليه أسلم عليه سلام الأحباب. قال: «يا أفندي، أشكر لك بهجتك بلقائي، ولكنني أنا من جبال القدس، فيها قضيت كل حياتي، ولم أصل هذا المهجر إلا البارحة، ولا أعتقد أن الله أنعم علي بلقائك قبل اليوم»، فانصرفت أسائل نفسي: من هذا الرجل؟ يستحيل أن لا أكون أعرفه، إلى أن انبثق النور أمام عيني - بلى «هذا شمدص جهجاه»، كما تخيلته في «نخب العدو». حتى أحلام الليل صارت تهبط علي في شكل درامة - على مسرح وأمام نظارة، يرتفع الستار عن حادثة، وينزل على حادثة.
تسألني، وهل أنت تخلق أشخاصك خلقا، أم هم أحياء منقولون؟ أجيب: إن كلا الأمرين ميسور وموافق، فرب صورة فوتوغرافية لغادة يقصر عن استيحاء نظيرها من خياله أعظم الرسامين، ورب دون كيشوت تعرفه أشد إضحاكا في مهازئ مغامراته الحقيقية من دون كيشوت الأصلي، وما دام في وسعي أن أمسخ، وأشوه، وأن أكون من شخصيتين أو أكثر شخصية تلائم قصتي، فلماذا أسمر نفسي إلى طريقة واحدة ؟! ولعل أقرب أشخاص الرواية إلى الأشخاص الحقيقيين هو دور «الدكتور نجيب»، الذي كرسته لذكرى الرجل العظيم المرحوم الدكتور نجيب الصليبي.
أما الدرامة، فتنشب في رأسي غوغاء من مشاهد وأشخاص وحوادث، فقد يخلق المشهد شخصية، أو الشخصية حادثة، أو الحادثة عبارة، أو العبارة قصة. أي مؤلف يدري كيف يؤلف؟ أنا كثير الاستنجاد بعقلي الباطن، فكل ما صعب علي، لا أيأس منه، بل أودعه عقلي الباطن، وأقول: «المروءة يا هذا، أخوك الواعي عجز، وأنا في حاجة ماسة إلى تلك اللفظة أو الحادثة، فاشتغل بها، ومتى ظفرت نادني.» وفي هدأة الليل، أو في التاكسي، أو في أي مكان وزمان تفاجئني اللفظة أو الحادثة. أطلق لمخيلتي العنان، فتزخر أمامي مشاهد وأصوات ومواكب غريبة شتى؛ نابليون أمام الأهرام، لندبرغ يقطع الأتلانتيك، نعش حبيب حي، باخرة تغرق، حرب أهلية في السودان، معركة في حانة، سكير في مدرسة، طفلة بين عجلات الترامواي، مدرسة تحترق، أبيات من الشعر، حسن الزيلعي على المنبر، والمحامي صياح العبود مضرب عن الطعام في السجن. ومن هذه المشاهد الجنونية المتناثرة، تنبت جرثومة، فغرسة، فشجرة. أطلق لحصان فكرك العنان فقد يفر، ويكر، ويعرض، ولكنه في نهاية الأمر يركض بك إلى هدف معلوم.
ولئن تركت هذه الرواية في نفسي من حسرة، فهي أنني أرغمت على خلقها قزماء، ولم أتركها تنشأ هيفاء، ممشوقة القوام. ليت جمهورنا واسع الصدر، بعيد عن التعصب، إذن لجعلت «الحموي والحمصي» بيت «الخوري وعبد النبي»، مسلمين ونصارى، وحملتهم الأسلحة وتركتهم يتقاتلون ويتناحرون ويتشاتمون، ثم ألفت بين قلوبهم، فإذا هم عصبة دفنت الأحفاد، ولكنني أؤلف لمسرح، ولا أريد أن ألعب بالقذائف، فأي أحمق يجسر أن يضع على أفواه أشخاص روايته كلمة، قد يفسرها جاهل أنها تحقير لجماعة، أو مدح لمذهب على حساب مذهب؟ هذه الرواية - على ما أعلم - هي المحاولة الأولى في العربية لبث دعاية الألفة في مؤلف أدبي، ولا عجب إن جاءت المحاولة مبتورة بحكم الفن، مغمغمة بسبب توتر الأعصاب. «الحذر هو ثلثا البأس.»
تستفهمني سرا عن مذاهب أشخاص «نخب العدو ». أجيب : لو أني أعرف أنا دين أحدهم لعرفته أنت، وما اضطررت إلى سؤال. حينما شرعت أدون مذكراتي كان «الحموي والحمصي»، «الحداد والنجار»، وهما اسمان مشتركان بين جميع الطوائف، غير أني خشيت، وكل معارفي الحدادين مسيحيون، أن يأتي بنو الحداد في «نخب العدو» - ولو على الرغم مني - نصارى. فاستبدلت الاسمين، إذ أنا لا أعرف في الدنيا لا «حموي» ولا «حمصي». إن من بحث الأديان في لبنان وسوريا، وجب عليه أن يمشي على الأخمصين، ويضع المخمل في الكفين، ويطلي بالعسل الشفتين، فأين التسامح عندنا أين؟
هل هذه الدرامة محلية؟ أصيح بك بشراسة جبلية: لا! ففكرتها الرئيسية هي إنسانية شاملة طرقها قبلي - عفوك يا قارئ - شكسبير في روميو وجولييت، وعالجها الإغريق قبل شكسبير في روايات عدة، ولئن جاءت حوادثها في «وادي الأرز»، وفي مهجر من مهاجر بني وادي الأرز، فلا يعني أنها «أرزية»؛ إذ إن الحوادث تتطلب مكانا ما تقع فيه، والحكم على محليتها أو على شامليتها يكون بموضوعها وحوادثها وأفكارها، وليس بمكانها. غير أني لا أنكر أني لو أبحت لنفسي أن أشرد عن الفن قليلا، وأغراني من كثرة السذج تملقهم فخامة العبارة الجوفاء، ومواقف البطولة الفارغة، ونعتهم «بالولدنة» المجبون، وهو في نظري أرقى أنواع الأدب وأعسره؛ إذ فيه دراسة وعظة وترويح للنفس، لعريتها من حلاوة نكات، ونزعت عنها الكثير من مألوف الكلام، وأرسلتها في الناس طنطانة، وألبست كلا من أشخاصها حلة ذات لون واحدة، وحقا لقد نظرت في أن أفعل هذا، وقلت: لماذا أصور نفسي في عيون الكثيرين روائيا لبنانيا، أو سوريا، وفي أسهل ميسوري أن أحذف القليل، وأنقخ القليل، وأملح المشاهد بشيء من بديهيات القول، فيرضى الذين يحسبون الشحم عضلا - وهم كثرة - ويقولون: هذا درامائي عربي بل عالمي! وهممت أن أزين «نخب العدو» على النحو الذي ذكرت، فأبصرت حبري قد اصفر جبنا، ويدي بدم الإثم ترشح، وهتف بي ذلك الخفير القابع في زاوية نفسي: «ستأتي طنطنتك مزيفة، وللصدق حيلة على الظفر لا نفهمها، ولكنها فائزة في نهاية الأمر، فالزم النزاهة، وإن كان الإبداع نصيبك، فسيأتيك متفجرا من إلهام نفسك، لا حلة عارية منسوجة من خيوط تفكير سواك.»
إلى المخرج
ليس أدعى إلى التفاهم من الصراحة، فأخبرك فيما يقرب الوقاحة أنني أمقتك. إن بيني وبينك من البغضاء الغريزية ما بين الأم وصهرها. تحدث الأم نفسها فتقول: هو ذا النفس التي انبثقت من نفسي، والتي ربيتها بدموعي وتنهداتي، وغمرتها بحنوي؛ يقصيها عني غريب. ويقول الصهر: هذه حبيبتي التي اخترتها من بين فتيات الدنيا، تحاول امرأة أنانية خرقاء أن تحتفظ بها دوني. هكذا أنا ألد هذه الدرامة، وأنت تتمتع بإخراجها، وهي طوع يديك، وليس لي بعد طبعها أمر ولا نهي.
أفهمت لماذا أبغضك؟
ولكن هذه القرابة بيننا قد فرضتها الطبيعة علينا، فلنحاول إذن أن نكون صديقين.
لك أن تتمدد باسمك على برنامج الحفلة قرب اسمي، وليكن بطوله وعرضه. فأنت شريكي في هذا الجهد الأدبي، لك قسمة النجاح، وعلى رأسك نصف عاقبة الفشل. لا أحسدك على مكانك؛ إذ إنك في مأزق أصعب من مأزقي. أنت تواجه قضاتك، وسيقرأون حكمهم عليه بحيث تسمعه. أما أنا، فأتلقى الحكم غيابيا، فهكذا يتضاعف عليك ألم الفشل، أو حلاوة الفوز، ولقد بعتك نصف الأمل بالفوز، بنصف الخشية من الخذلان. ارفع الستار عن سريرتك، واعترف أنك في باطن قلبك تكرهني، وتستخف بإنتاجي، وتعتقد بتفوقك علي. أنا من رأيك، فلا ريب أنك أخبر بالدرامة مني، وأن قلمك أكتب من قلمي. رجوتك إذن أن تتفضل وتخلق لنفسك درامة، من غير أن تشوه كتابي، فكل حرف في روايتي هو قطعة من روحي، فلا تعذبني ببتر حرف منها، وارفق بي، فلا تغير ولا تبدل فيها شيئا. لا تحاول تطبيبها، فهي صحيحة في عيني. أنا ولوع بالأحباء أولادك - حفظك الله وحفظهم - غير أني لا أود أن أتبناهم، فارحمني ولا تسندش أيتام أفكارك بين أبناء فكري وبناته. إن جمعية «الرفق بالأبالسة» هي جمعية نبيلة الغاية، من المروءة أن تتبرع لها بريع حفلة التمثيل، ولكن افعل ذلك سرا، ولا تذعه، فإني أريد من القوم أن يدفعوا ثمن تذكرة الحضور عن شوق؛ لمشاهدة «نخب العدو»، وثقة منهم أن أجرة الدخول تساوي لذة مشاهدتها، فلا أريدك أن تقول للناس: تبرعوا بمالكم للمشروع الفلاني، وهذه «نخب العدو»، تنكة، أجمع بها إحسانكم.
كذلك، أنا معجب بالآنسة مرتا - مدموازيل مارغو - البولاقي، وأتشنج نشوة إذ أسمع صوتها الملائكي، وأذوب طربا لعود الأستاذ جاد الله البحناوي، ويغمى علي ضحكا لطقطوقة صديقينا «حويشان وزيدي»، فأرجوك أن تقيم لهؤلاء الفنانين النابغين حفلة خاصة، يعرضون بها بضائعهم، واترك ليلة «نخب العدو» ل «نخب العدو».
تمنطق بمتراليوز، وتأبط رشاشة النار، فإذا نهض شاعر المدينة، وبلبل المغردين «صديقنا» سلوم الأندبوري، وارتجل بضعة أبيات تناسب المقام، فلقمه النار، وازرع بالرصاص جسده، ودمه في عنقي. زين المحفل بالألوية والأزهار، ولتشع في جوانبه الأنوار، وليكن مستقبلوك فتيانا عتاليت
3
بسامين، ولتعزف الأوركسترا حينا بعد حين، واخلق في القاعة جوا فرحا، كأن القوم في مهرجان، إذ لو قطب الجمهور لكان في عبوسهم مأتمك ومأتمي.
لا تضرب بالعصا على المسرح قبل رفع الستار، بل اخترع لحنا عسكريا هزليا، ينفخ من بوق قبل أن يسفر برفع المسرح عن مشاهدك. حذار القنابل حذار! فلا تنطق ممثليك بلهجات خاصة؛ إذ إن «نخب العدو» هي سلسلة عقد كفاح بين أشخاص، وفئات، ومبادئ، ومواقف، فلا تفسحن للئيم أو جاهل يقول: لقد أردتني، أو أردتنا بذلك الشخص أو تلك الكلمة.
بقي أن تذكر أن البغضاء لون من ألوان المحبة، فاغسل بالعطر شاربيك، وهات منهما قبلة! ...
سيرة المؤلف
بقلم المعجب به حتى العبادة
سعيد تقي الدين
قلت للمؤلف، وقد ربض بما يزيد عن المائة وعشرة كيلو من جسده على كرسي، يهتز من تحته، ويصيح: حدثني عن حياتك من يوم أن بكيت لأول مرة إلى هذه الثانية، التي أراك بها باسما ب «نخب العدو» فخورا. أجاب: يؤلمني أن تكون الأيام قد اضطهدتني إلى حد أنني أحتاج أن أحدث الناس عن نفسي، بدلا من أن يتولى ذلك عني المؤرخون. قلت: خل عنك المرارة، ولا تصقعن قرائي بخيلائك، فأنا محسن إليك إذ أسألك أن تتحدث عن نفسك ، فليس في الدنيا من لا يجيد التحدث عن نفسه ويستطيبه، وعد بي إلى الخامس عشر من أيار سنة 1904، وأعلمني ما الذي حدا في ذلك الأحد بأهل «بعقلين» إلى الحداء؟ وما بال دوي البارود يهين القانون؟ ولأي جليل أمر هزجت الرجال، وزغردت النساء في فجر ذلك اليوم؟ قال: نبذت سائر الدنيا، وتخيرت بعقلين، الشوف، لبنان، بلدة أسقط بها رأسي، ولو أعطي لي أن أتقمص ألف مرة، لما نزلت إلا بعقلين دار مولد.
أما الهرج لقدومي فخطل ألفه الناس، إذ يفرحون بالطفل حين يولد، قبل أن يتثبتوا أنابغة سيكون أم أبله. على أننا بدأنا نفهم الأمور، فأنت اليوم لا تجد أن بني بعقلين أقاموا لي التماثيل في شوارعها، ولا علقوا صوري في متاحفهم، ولئن غيبني الموت في غدي، فقد تسمعهم يندبون مني الأسد والنابغة، ولكنك تحس في أجوف ندبهم مرارة الخيبة في طفل مرد نجيبا، وشب شبه نابغة، وجاء في موسم القطاف كأشجار زيتونهم في سنوات الجدب، تزهر ولا تثمر.
قلت: أنا طالب سيرتك لا فلسفتك.
فاطرد محدثا: ولدت من أبوين ينتميان إلى عائلتين طيبتين من عائلات لبنان. إن لم تكونا من ذروة الجبل، فهما بدون ريب من أعالي سفحه، ولكن تلك الرفعة ما أيدتها أموال ولا ممتلكات. فجاءت ألقابنا أكثر من نقودنا، فقد دعيت بال «بيك» و«الشيخ» منذ طفولتي، ولا ينفك أصدقائي عن اتهامي أني في تجارتي أهاود من يدعوني «مستر» و«سنيور»، وأسلخ بالسعر من يناديني باسمي عاريا.
قلت: لقد استقبلني رجال الضيعة بدوي البارود، فنشأت ولوعا بالدوي، ولو أنه قرقعة تنك فارغ، ولئن بدأت أحس مرارة الفشل المالي تستقر في نفسي، وتحرق جوانبها، فليس لما يجلبه المال من راحة وبذخ، بل لما يصحبه من «دوي».
شب أبي - وأبوه من قبله قاض - على حب الوظائف، شأن أبناء «العيال» من لبنان، وإذا أنا أغفلت ذكر بعض مزايا أبي من مثل إباء وشدة بأس وفروسية - شأن أكثر أبناء قومه - وأردت أن أذكر الصفة الغامرة نفسه لقلت: إنها الطموح، ولكن ضغط أبناء القمة سمر ساكن أعلى السفح إلى أعلى السفح حينا، ودحرجه إلى الوادي أحيانا، وأبي اليوم وقد بلغ من العمر مرحلته الهادئة، لا يزال يتطلع إلى القمة، ويهز قبضة جبارة، ويصرف بصفين من أسنان اصطناعية، ويقول: إن لم أكن قد بلغت الذروة أنا، فساري أحد أبنائي يدق بيرقنا هناك. فيجيبه صدى صامت: يمكن!
جلس أبي على الكثير من كراسي الحكومة، فما علق بأثوابه شيء من أقذارها، وخرج طاهر اليد، ومن طهرت في وظائف الحكومة يده نظفت جيبه، فما ارتشى، ولا هاود متزعما، ولا حالف مجرما، وما اشترك بتهريب؛ لهذا لا أذكر أنه مر بنا يوم لم نكن به في حاجة قصوى إلى المال وما نزال، وإني لأذكر قولا سمعته من أمي - وهي الأمومة مجسدة: بني، إن الله ربط على باب دارنا ذئب الفاقة، وأكبر همنا في الحياة أن نطرده عن الباب. بلى، لم ينهشنا ذلك الذئب، ولكن لهاثه أبدا يحر سنا الوجوه، وعواءه يملأ منا القلوب، وفي أيام الحرب كاد يقبلنا بأنياب حداد. - ولماذا أشرق وجهك، إذ ذكرت أيام الحرب؟!
قال: لقد ذكرت عمنا أمين تقي الدين، وقد أشرف في ذلك الحين على تهذيبنا، حين نبت العشب في ملاعب المدارس الأجنبية، فإن جريمة اتجاه ميولي إلى الأدب تلقى عليه، إذ كان يملأ البيت شعرا وأحاديث أدباء، ويغرينا على ارتكاب الشعر، واقتراف النثر، وكم من ليلة أعوزنا الطعام، فأولم لنا عمنا أمين من «مختارات الزهور»، و«كليلة ودمنة» عشاء فاخرا، تجتره ترويقة في الصباح، وعنه أخذت وجهة نظري المالية، فهو يحسب أن المال قنينة ديناميت، إذا اشتبكت عليها أصابعك فارم بها إلى أقصى ما تقدر، مخافة أن تنفجر في يديك. وأغلب ظني، أنه اليوم في بيروت، ما برح يرى في المال سلعة يملكها سواه، ولا يغبطه عليها.
أما المدارس، فقد نزلت منها في بحور مشتبكة التيارات، متدافعة الأمواج، فمن رهبان يحفرون العلم حفرا وترتيلا، إلى شيوخ يهذبون بالفلق والعصا، إلى مدارس تبشيرية إفرنجية، تزيد بالرقة حتى التأنث، إلى راهبات يسألنني في صمت : لماذا لا تتنصر يا كافر؟ وقد حملت من هذه الجنائن الزهور ويابس العشب والتبر والتراب، ودفعتها إلى تلك المطحنة الكبرى في رأس بيروت، فصهرتها وصهرتني، إلى فتى صلب، براق، بالحياة فوار، يحاول الركض إلى كل الجهات في آن واحد، فيجد نفسه بعد العناء أنه لم يبرح مكانه. كثير الأصدقاء، كثير الأعداء، لا أعلم بلدا نزلته، وليس فيه من لا يفتديني حتى بروح حماته، أو من لا يود مصرعي، ولو شنقا بحبل يحيكه من شعر أسنانه، وفي، ودود، حقود، شديد الثقة بنفسي إلى درجة الاعتداد، مسرف حتى التبذير، كثير المطالعة والاطلاع، حتى لتكاد تضايقك وفرة معلوماتي. فكه الحديث، ولكني مبتور العبارة، فما أنا بالمتحدث القصاص. مغامر في التجارة، حتى أكاد أن أسمى فيها مقامرا. كثير الحركة ولو لغير فائدة. حشري من أعلى طبقة، أفضل أن أفك العقدة بأسناني من أن أفكها بيدي. متفائل، كثير أحلام اليقظة، عقلي كقطيع من الماعز منتشر على الهضاب والأودية، ولا يجتمع إلا ساعة المغيب، حين يقبل حبري ورقي. يقال لي لو أني لملمت قواه، وشددته إلى بئر في حقل مسيج؛ لجنيت من ثمار الحياة أكثر مما جنيت حتى الآن. سريع التنفيذ إلى درجة الهوس. عاطفي، كثيرا ما ترى الدمع في عيني لذكرى حادثة طمسها الزمن، أو شخص غاب.
قلت للمؤلف: لقد أعياني تتبع خطواتك يا أستاذ، فهلا بدأت الحروف الأبجدية بالألف بدلا من الياء، وهلا سرت في حديثك سيرا متسقا، فبدأت الطريق من أولها، فإني أراك تقفز من نصف الطريق إلى آخرها، ثم ترجع القهقري، ثم تدور على نفسك. أشفق عليك أن تصاب بدواخ. فسر في طريقك كما يسير الناس.
قال: أشكرك لتذكيري، فقد فاتني أنني لا أسلك طريقا ما كما يسلكها الناس.
قلت: إنك مصيب، فأنت أفضل من الناس جميعا، ولكن بربك تابع حديثك، وقلل من حكمياتك، وخفف من مضمن مباهاتك.
أجاب متابعا سيرته: «كنت في القرية بسبب مقام أهلي فوق معظم صبيان القرية، فحرمت من الاشتباك بقتالهم وألعابهم، فأنا في طفولتي «محمي». لم أكن بالغلام الصلب الذي تتوقعه ممن ربي في جبل لبنان، وفي الشوف من جبل لبنان، ونشأت بفضل هذه الحماية وديعا، وزادت وداعتي حتى الجبن؛ إذ كنت بعد ذلك التلميذ الدرزي الوحيد في مدرسة ساحلية، كل تلاميذها مسيحيون، وفي زمن كان الدين فيها الماركة المسجلة الوحيدة، التي بها تعرف الهوية. فلقيت من ضروب الاضطهاد قبل الحرب من تلامذة تلك المدرسة ما لا أزال أرجف لذكراه. لذلك شببت وأكبر طموحي أن أخضب يدي بدماء المسيحيين، وكنت أؤثر أن تكون ضحاياي من الموارنة، فإذا اعتبرتني اليوم وزوجتي مسيحية، وخلص خلاني يحملون أسماء مثل ميشال، مارون، عازار، جورج؛ علمت أي فشل لقيته في الحياة.
وكر ثالث صيف علي المجزرة العالمية، وأنا عن المدارس منقطع، وأبي منفي في الأناضول، وليس في سوريا ولبنان مدرسة مفتوحة أبوابها إلا الجامعة الأميركية، وليس عندنا مال، والجامعة عن بعقلين بعيدة، وحدث أنني كنت أسرع المشي في البيت، فعثرت قدمي بعتبة الباب، فوقعت، وطارت من شفتي شتيمة تجديف سمعتها أمي، فأكبرت أن يزلق كبير صبيانها إلى آداب صبيان الأزقة، وأن يشب على السفه والجهل، فصاحت: «لأرسلنك إلى المدرسة، ولو بعت سقف البيت.»
الخروف الذي سمناه تقدمت ساعة إعدامه، فكان لي من صوفه «سوتر (جرزي)»، وأهوت على سجف البيت فصيرت لي منها قميصين وستة مناديل، وذهبت ببعض ألبسة أبي وأعمامي إلى الخياط فقلبها، وقلصها إلى بدلات لي، وزرت الكندرجي، فدكتر بعض الأحذية إلى أن استقامت على قدمي، واقتطعنا قيراطين من أهرام طربوش خالي، فإذا الطربوش يتوج رأسي متقلقلا، كتاج ملك بعد ثورة، وبطنت بالورق بعض القماش، فصيرت منها محفظة دراهم، وإن لم يكن هناك من دراهم، على أنها محفظة على كل حال، هكذا تهيأت في خريف 1917 إلى الرجوع إلى الدراسة، متوهما أنني سأبهر بيروت بأناقة ثيابي.
حين يفخر اللبنانيون بتاريخهم، وينشدون الأغاني في أبطالهم، تراهم لا ينشرون صفحة مجيدة، يجب أن تكون من ألمع صفحاتها، تلك أسطورة لم يكن أبطالها أمراء ولا مشايخ ولا بكوات، لا عمقت جذورها في ظلام ماض بعيد ، ولا نفخها الغلو، وزركشتها الأكاذيب، بل هي بنت الأمس؛ أبطالها أكارون، أطعموا جياع جنوبي لبنان في زمن الحرب، حين سور الأتراك والألمان جبلنا بسياج من حراب وجنود، يمنعون الغلال والقوت عن أفواهنا، ويصدون ما قد يتسرب إلينا من مدن سوريا الداخلية وقراها. إذ ذاك شخص في جنوبي لبنان فتيان وكهول تزنروا بالرصاص، وشدوا على الدواب، وراحوا يتسلقون الجبال، ويقطعون السهول، لا يصدهم ثلج ولا حر، ولا عواصف ولا أوبئة، يتسترون بالليل عن عيون الجند وغزاة البدو، يتثعلبون اتقاء للخطر، ويستأسدون إذا الخطر واجههم، إذا بلغوا حوران بعد جهاد أربع ليال رجعوا إلى جنوبي لبنان بالحنطة، وزغردت أجراس بغالهم منشدة: «لا جوع في جنوبي لبنان، ونحن صبيانه»، ولا يزال بين أحيائهم من يحمل في صدره رصاصة بدوي، أو جرحا من جنود الأتراك، أو يغص بدمعة ذكرى لرفيق تخلف عن القافلة مجندلا برصاصة، وكانت «بريطانية» تلك القوافل قافلة بعقلين، ولست أدري كيف ندعي الأدب، ولا تستفزنا مغامرات تلك القافلة إلى ملحمة، أو رواية، أو قصة. من أشاوس تلك القافلة شيخ معمم، لنسمه «أبا سلمان»، خدع الهرم بصلابة جسد خفيف، وموه على الناس عمره بأن حلق شعر رأسه ووجهه فلم يبق لهم حجة بأن يقولوا له: لا تنضم إلى القافلة، فأنت شيخ مسن. كنا في ثالث أعوام الحرب، حين حزم «أبو سلمان» ضرفي زيت من نتاج أملاكنا، وبوأني بينهما أريكة بغلته «ذئبة»، وانحدر بي إلى بيروت؛ ليبيع الزيت، ويشتري لي به ثقافة سنة في جامعة بيروت الأميركية، رحم الله من قال لي حين رجعت إلى الضيعة في آخر تلك السنة المدرسية: «يا غبن الزيت.»
حين ودعني «أبو سلمان» على بوابة الجامعة، وكنت أبري قلم رصاص بسكين صغيرة جزينية، قال مشوقا: «كن الأول في صفك، تحصل على وظيفة كبرى متى كبرت.» ثم هدد، فزاد: «إن لم تكن الأول في صفك، شمت بنا وبك أعداؤنا بنو ...» ولمح زمرة من أشقياء التلامذة البيروتيين يتغامزون علينا، ويتضاحكون، فصاح بصوت مخيف: «من لا تقوى عليه بالكف عاجله بالعصا ، وإذا تكاثروا عليك، فالسكين الذي تبري به القلم في وسعك أن تقطع به الوريد»، وغابت عني «الحماية» حين غيب منعطف الطريق تلك العمامة البيضاء، وهدأت تلك الزمرة حتى تلاشت أصوات أجراس «ذئبة»، فمشي إلي منهم فتى في يمينه سوط، وهو اليوم صديق لي حميم، وطرح علي ذلك السؤال العظيم، الذي يتلجلج على لسان البيروتيين متى أرادوا التهكم من جسمي: حضرة الشيخ، من أي ضيعة؟ ... تملقني تأدب ذلك الفتى، فأجبته: إني الشيخ فلان من بعقلين - أمير الضياع. قال: ولماذا لا ينبت للخنازير أجنحة؟ أجبت: لا أدري. فشتمني، فضربت سوطه برأسي ضربة خضبت يده بدمي، ففر الجبان، وثبت في ساعة العراك صريعا على الأرض.
ما أمر ذلك العام الأول في كلية بيروت، وما كان أوجع التحقير في ندائهم: «يا جبلي»، وما آلم ضروب الذل والقساوة التي سحقت نفسي. «يا جبلي!» عبارة تهز حتى اليوم كياني؛ لما رافقها من الهزء والتهكم والسخرية. فكم من مرة - وأنا منذ طفولتي كثير أحلام اليقظة - فررت إلى عالم الخيالات المؤنس المخدر من مظالم الحياة الواعية، فأقنعت نفسي أن هزة زلزلت جبل صنين، فقلبته على بيروت فطمس كل من فيها. أجلس اليوم ونفسي كئيبة، أتحسر في غربتي، إني بعيد عن الكثير من بهجات الحياة، وأزهى ما في الحياة من بهجة في نظري اليوم «بيروت». حقا، إن الحياة تسير على سنة لا تتغير، وهذه السنة هي التغير.
وفجأة، تفجر في صدري بركان لم أدر بوجوده، وانبثقت من جسدي شجاعة لا أعلم مصدرها، فانقلبت من فتى خجول، جبان، معتزل، إلى شرس، خشن، بطاش، حتى لقد دعيت لبدغنتي
1 «سعيد الانكشاري».»
قاطعت المؤلف متبرما قائلا: قص علي شيئا من حياتك الأدبية، وعفا الله عن بطولتك المدرسية. قال - بل اندفع، بل انقض علي - محدثا: كانت حياتي الأدبية في قصرها وجمالها شبه غمزة حسناء، وكان صامت وعدي بالاستمرار والإجادة كاذبا، كأكثر وعود الحسان. فأول كلماتي التي سحرتني رؤيتها مطبوعة، مقالة كتبت في السادسة عشرة من عمري، عنوانها «رياضياتنا ورياضياتهم»، أرسلتها إلى «البرق» ذات يوم خميس بتوقيع مستعار «حماد»، وقد كاد يغمى علي إذ جاء يوم الإثنين، فإذا بالمقالة افتتاحية بصدر «البرق»، ومنذ ذلك الحين، كثرت مقالاتي في صحف بيروت ودمشق، وفي بعض مجلات مصر، وأكثرها موقع ب «حماد» و«بشار»، ويسرني أنه قام في بيروت من يستعمل هذين التوقيعين. لذلك يسهل علي أن ألصق بهم جريمة مقالات ذلك العهد.
إلى أن كانت «لولا المحامي» - «رواية تمثيلية عصرية»، كما أعلنت عنها برامج الحفلات في عشرات المدن والقرى، إذ مثلت في العراق وسورية ولبنان وأميركا الجنوبية، وربما تكون قد مثلت في أميركا الشمالية. ولقد مدحتها الجرائد بمقالات ضافية، كتبتها أو استكتبتها، وبيننا وبين الصحافة صداقة قديمة، فنستعلنهم ولا ندفع، ويستكتبوننا ولا يدفعون، وربما مات من بني تقي الدين من لا يملك ذراع أرض يتمدد فيها، ولكن لم يمت منهم بعد من لم يملك حقلا في جريدة، يتمدد فيه مغمورا بعبارات مديح مزهرة.
ليس لي أن أبحث في «لولا المحامي»، وهي - ولك أن تقول فيها ما تريد - جهد مدرسي لتلميذ عمره 22 سنة، ولكنني أريد أن أتساءل أي جهد في سوريا ولبنان خلال عام 1923، بقي على هذه ال 14 سنة، إلا «لولا المحامي» التي لا تزال تمثل، وأريد أن أستدل من بقائها حية حتى اليوم أنها - على كثرة مواطن الضعف فيها - عاشت بسبب أنها جهد رئيسي، وأن الجهود الضعيفة المبعثرة هي جهود صحفية لا تعمر - يا أيها المتأدب، عن «المقالة» فاجنحن، إنها لإسفنجة معصورة. - وما الذي أوحى «لولا المحامي» يا أستاذ؟ - الذي أوحى «لولا المحامي»، هو الذي أوحى «نخب العدو». - يعني؟ - حب الظهور. وإن كانت الأولى إذا قيست بالثانية ... - فأرة إزاء جبل؟! - بل كوخ إزاء قصر. في وسعي أن أقول لك إنني درامائي بالفطرة، تغرد المشاهد أمام عيني، وتغمس المكالمات في أذني على غير علم مني، وفي مقدرتي أيضا أن أدعي وأتدلل بكثرة معلوماتي، وسعة دراستي في الفن التمثيلي، وأزركش عباراتي بالاستشهادات البراقة، ولكنني أصارحك - ولا يهمني ما تستنتج - أن السبب العاجل الذي أوحى «لولا المحامي» و«نخب العدو » هو حب الظهور. أستدرك فأقول: الحاجة، وحب الظهور. أما الحاجة؛ فلأنه أعوزتنا الروايات التمثيلية في أيام التلمذة، فاضطررت إلى تأليف «لولا المحامي»، وشجعني نجاحها الغريب على إتباعها بأختها «قضي الأمر»، وقد فاقتها نجاحا،
2
وها أنا أجد نفسي بعد اثني عشر عاما من غيابي عن لبنان، أكاد أن أصبح نكرة، فإن ذكرت صحيفة نبأ تمثيل «لولا المحامي»، شفعت كلامها بأن مؤلفها هو ابن فلان، أو أخو فلان. أرجو أن لا تتهمني بالقحة إذا أنا آثرت الصدق، وتنعتني بأني لست بالروائي الملهم، فلئن كنت ممن يحبون المقالات تتبرج بالاستشهادات الإفرنجية ...
قلت مقاطعا: وما الخطأ بالاستشهادات الإفرنجية؟ - أقوال الناس كشهود الزور، يمكنك أن تستنطقهم القول الذي تريد؛ فإذا أحببت مثلا أن تثبت أن السياسة هي موضوع شعري، لجاء في متناولك عشرة أعلام يقولون إن السياسة توحي الشعر، وعشرة في أهمية منزلة الأول ينكرون أن السياسة توحي الشعر، إذن فما الفائدة من الاستشهاد؟ ثم إن في كثرة دلف أقوال الغربيين إلى كتاباتنا اعترافا منا بضعفنا، كأن الحقيقة لا تكون مقنعة إلا إذا نطق بها ألكسندر طلبنوخسكي الروسي أو جون ج. م. ز. جونسون الإنكليزي، بل كأن الكاتب يقول للقارئ: «أنا رجع وضيع، وربما أكون كاذبا، فلا تصدقني، بل صدق فلانا، وهذا قوله.» وهل من الواجب أن أزيد أن الاستشهاد صار «تدللا من الكاتب بسعة اطلاعه.»
قلت: كنت على همة أن تستشهد، فافعل ذلك على شرط أن تكون الأخيرة. قال: كدت أن أعلمك أن «جون ديوي» أعظم فلاسفة أميركا يقول: «إن أقوى محرك في طبيعة الإنسان هو حب الظهور»، أما الذي أحببت أن أخلص إليه، فهو أنه إذا سهلت وسائل الظهور انطفأت نار الإنتاج، فكم من ضحية أردتها صحفنا قتلا بالمديح.
أعرف مهاجرا في أزمة 1930، كان يفرح إذا انكسر مديون، وله عليه مبلغ ضخم؛ كي يظهر في مأتم المكسور، وهو أرفع الدائنين صوتا، وأعرف فتى تظاهر بالجنون استلفاتا للأنظار، وكان كلما عطف عليه أصدقاؤه وأقرباؤه بأنظارهم وآسوه، تنعم بالتفات الناس، وازداد تظاهرا بالجنون، حتى كاد يصبح التظاهر حقيقة، إلى أن أشار طبيب اختصاصي على ذوي «المجنون» أن لا تأبهوا له، فلما أعرضوا عنه «شفي» الفتى من جنونه. هذان مثلان عن الغلو في حب الظهور، وإنني أعزو قلة إنتاج أدبائنا إلى سهولة وسائل الإذاعة في بلادنا، فقصيدة واحدة، أو خطاب، أو ديوان، يكفي لأن تنشر ذكرى أحدنا بين الناس، وتظهر صورته في الصحف. فترتخي أنانيته، وتتخدر أعصابه، وتقعد به مظاهر النجاح عن الجد إلى الوصول إلى النجاح الحقيقي. إن قليلا من التشجيع ضروري، ولكني أراهن أنه لو اتفق الصحافيون على الإغضاء عن ذكر الأدباء سنة واحدة، لتضاعفت جهود مؤلفينا واغتنت مكاتبنا.
كنت بعد «لولا المحامي»، وبعد مئات الخطب والمقالات، أجهز المواد لرواية تمثيلية ثانية، إذ اتفق لي أن دخلت في عام 1924 مخزن أمين أبي ياغي في بيروت، وقبل أن تتعود عيناني ظلمة المخزن، بعد وهج الشمس، إذا بشخص فتان المظهر، يقفز من مقعده في زاوية المحل، ويمشي إلي ب «أهلا بالنابغة»، ويهز يدي بحرارة. فركت عيني - لا ما أنا بالحالم - هذا أمين الريحاني بعينه. خرجت من المخزن «مبنجا» ب «أهلا بالنابغة»، مورفين أنامني سنة كاملة من غير إنتاج أدبي؛ إذ رجعت عن خطة تأليف الرواية الثانية. ما تبقى بعد من الأدب يا سعيد، وقد دعاك أمين الريحاني «نابغة»؟! سنة من العمر أضاعتها عبارة مديح!
قلت: إن في نفسي لعجبا منك. أسمعك كثير التحدث عن الدكتور فيليب حتي، فما لك أغفلت الآن ذكره؟
قال: بلى، تلك زوبعة عقلية نزلت بي، فاقتلعت وزرعت، وقد تهذبت عليه ثلاثة أعوام، فعليه قوي تفكيري حتى كنت برهة من الزمن ببغاء من سرب ببغاواته، بعضها لا يزال في سماء بيروت، يطير ناصل الأجنحة، وأسطوانة من أسطواناته التي تردد ألحانه العديدة، ومنها من لا يزال يدور على نفسه منشدا أغاني حتي، غير أني ارتددت عليه، وها أنا أسجل تمردي على تعاليمه، فقد أفهمنا - في جملة ما أفهم - أن التاريخ لا يعيد نفسه، وها أنا شططت في هذه الديار منذ اثني عشر عاما ، خالي الوفاض مفلسا، وأرى التاريخ أعاد نفسه بي مرتين منذ ذلك العهد. •••
قال المؤلف: ينزل الستار على حياتي الأدبية بعد «لولا المحامي»، و«قضي الأمر»، ويرتفع فجأة، فإذا بطلنا - أي أنا - على مسرح أعددت نفسي لكل مسرح إلاه؛ التجارة، في جزائر الفلبين من الشرق الأقصى، يريد أن ينقص القوت من أفواه الأسود، ولو لم يكن هناك أسود. كان سلاحي في كفاحي الشباب والجد والطموح والذكاء - أي نعم الذكاء، وسأقص عليه أخباره - وكانت أعدائي الذكاء والجد والطموح متحالفة مع غدر الأيام وغدر الناس، وهوس الشباب وغلو التفاؤل، والإسراف، وائتمان الناس من غير روية، والإغراق في الطموح إلى تطلب المليون بالمجازفة بالألوف، فصعدت في عالم التجارة كأني راكب منطادا، وأهويت كأني قافز من طائرة، وأنا اليوم أصعد الجبل ألف ذراع في اليوم، وأزلقه ألف ذراع في لحظة. عيناي في الذروة وقدماي في الوادي - مهشم الجسد، سليم الروح، أعتاض عن نشوة الظفر بلذة الجهاد والأماني. أهل التجارة يعتقدون أني أديب كبير، وبنو الأدب يتوهمون أني تاجر ماهر، وأنا واثق أن الاثنين على خطأ وصواب.
صحت بصاحبنا: مهلا يا حضرة المؤلف، أهمزك بسؤال لتمشي خطوة، فإذا أنت ترمح ميلا. فهلا حدثت قراءك - إذا أوقع الله بين يديك من قراء - بشيء عن بركات الحياة. قال: لا أجيد الكلام عن البركات، وأعاف كلمة ب. ر. ك؛ لأنها تفكرني بشيء مستكن، ونفسي قلقة مشدودة إلى رفاص، ولكني أقص عليك أنباء اللعنات الأربع، التي غشيت روحي، ونشرت العشرات في سبيلي. - وما هي؟ - أولها لعنة «الذكاء».
قلت: تضايقني يا محترم؟! ألا تخاف أن يرمي قارئك بكتابك، إذ يراك تنعت نفسك بالذكي؟
أجاب: أصارحك أن قارئي ذكي، يعرف أن في رياء التواضع المصطنع من الخيلاء والتدلل ما هو أبشع من المصارحة، وإن كانت مباهاة، وأنا جاد إذ أقول لك إن الذكاء لعنة، والإنسان يفخر بما يكسب، وليس بما يوهب، والذكاء أحبه موهبة. أقول لك: إن الذكاء لعنة. ألا تسمعهم في لبنان أسبق ما ينعتون بالمديح أحدهم بقولهم: «فلان ذكي»، كأنهم قالوا إنه كامل بكل معاني الكلمة. إن الذكاء لعنة؛ لأنه أقل المزايا أهمية. فالمثابرة، والجد، والاقتصاد، والحرص، والحذر، والتوفير؛ هي أهم من الذكاء بكثير، ولكن الذكاء صفة وهاجة تبهر العيون، وأخصها عيني حاملها، عن التطلع إلى غيرها، وتوهمه أنه لا يحتاج إلى سواها، وبهذا كانت لعنتها.
كنت أماشي أحد ماليي مهاجرينا، ممن أصابوا النجاح المزدوج من ثروة واحترام الناس، فسألته في ساعة تشتاق فيها النفس إلى البوح إلى النفس بأسرارها، عما هو سر نجاحه، قال: يا بني، إن في سؤالك جوابي. فلو كنت شخصا غير عادي، ذا ذكاء ونبوغ خاص، لما سألتني هذا السؤال، بل لعرفت من ذكائي جوهر نفسي. أما وأنا رجل عادي بدماغه، فقد جئت متوازن الجهود، متسق التفكير، وحالفني شيء من الحظ إلى الوصول بي إلى النجاح الذي أنا فيه. انظر إلى فلان وفلان - وهنا كر علي مسبحة أسماء - كلهم أذكى مني، وأوفر علما. أين هم الآن؟ إن ذكاءهم ولد بهم ثقة نفس، صرفتهم عن تطلب الخصال الأخرى، التي هي في النجاح أكبر شأنا.
قلت: اقفز بي إلى موضوع آخر، أو فاختصر.
أجاب المؤلف: حبا وكرامة، فأنا للاختصار محب، ولكني ككل درامائي، يفهم أن كتابه خليق ليمثل لا ليقرأ، ويجب عليه أن يعوض على شاري الكتاب بشيء يقرأ، فصبرك، إن وجدتني أمط هذه المقدمة، وها أنا أذكر تلك اللعنات الباقية، التي كبلتني؛ فثانيها: لعنة الطموح، ولا تنس أن هذا الحديث هو أوتوبيوغرافي؛ لذلك لا أقول شيئا في كيف أن الطموح قد يتعجل ضحيته إلى اختصار طريق النجاح، فيسبب أحيانا السرقة، والجريمة أو الاحتيال، ومرارة النفس، ويغمس عواطفك في سيال التحرق من الفشل. - يعني أن روحك تسكنها العذارى من بنات الطموح، لا بغايا فتياته؟ - اخرس ... - عفوك، أنا واثق من كذبك، ولكن سر في حديثك. قال: إن الطموح يتعجل خطى المرء، فيسبب في كثير من الأحيان هلاكه، وهذه أودية الحياة ملأى بالمهشمين من الطموحين الذين أرادوا أعمارهم أن تكون قفزا من قمة إلى قمة، وما فطنوا إلى أن معظم الذين يصلون القمة يتسلقونها مشيا على الأقدام. - وزحفا على البطون. - بل دبيبا على الذقون. وإن دودة الأرض في مثابرة دبيبها لأقرب إلى مرماها من الجندب في قلق قفزاته.
صحت: بربك! عجل مخافة أن تفلس من التشابه، فترجع بي إلى مثل الأرنب والسلحفاة.
والطموح - تابع صاحبنا - يشوش على الإنسان تفكيره، فهو بكل شيء غير راض، على الحياة ناقم، مجازف بالقليل والكثير.
قلت: عجل، واغسل يدك من اللعنتين الأخيرتين. قال: «لعنة الثقافة». - يا غبن الزيت؟! - ربما، فالمثقف اثنان؛ رجل مثقف نصف ثقافة، فهو بنفسه مغرور، يعتقد أنه فوق الناس، وهو دونهم بدرجات، غير أنه بعيد عنهم في كل حال، ورجل مثقف ثقافة صحيحة، فهو بذوقه، وأطباعه، ومطالعاته، وتفكيره، فوق الجمهور، أي عنهم قصي، والناس يتبرمون بالاثنين. ولا تنس أن الحسد - على الرغم من كتب علم النفس - غريزة شاملة، والمثقف محسود فهو مناوأ. بل إن حساد الثقافة أشد اندفاعا في مقاومتهم المثقف من حساد المال. يقاومون الغني؛ لأن الغنى ميسور، ولو نظريا عن طريق اليانصيب، أما الثقافة، فمن حرمها شابا فقدها على الإجمال كهلا وشيخا، وسلاح الغني يذل العدو، أما سلاح الثقافة فلا يقهر إلا حامله. قلت: لعنت ساعة تحدثنا بهذه اللعنات، فهات لعنتك الأخيرة، واختصر يا أستاذ، إن الاختصار هو روح الحكمة.
قال: بل سأختصر، ففي البحث في هذه المصائب ألم فرك الجراح، وها أنا ذا أذكر اللعنة الأخيرة عارية؛ لعنة النجاح الباكر.
ويمينا، لقد أخذت ببلاغة محدثي، وكدت أنصرف من بين يديه مشدوها بمظاهر عمق تفكيره، لولا فورة من النور غلبت على ناظري، فإذا بجليسي يظهر أمام بصري بحلة جديدة، فقلت: يا صاحب «نخب العدو»، من الناس من أوتي براعة تنسيق السفسطة، وإلباسها ثوب الحكمة، وحاشاك الله أن تكون منهم، ولكن هلا ذكرت الذكاء يقترن بسائر الفضائل، وهلا عرفت الطموح يذكي مزايا النفس، وينهض بها، وكيف غاب عنك أن الثقافة وحملتها ملايين، هم من قادة الدنيا، وكيف تفسر أن ألمع أسماء الدنيا من أحياء وأموات أصابوا النجاح الباكر، فشجعهم على الاسترسال والإنتاج ؟
أجاب - وقد بلع بريقه وحدجني بنظرة عداء: مكانك، فأنت تبحث في النابغين، ونحن نتكلم عن سعيد تقي الدين. - سؤال أخير يا أستاذ، هل أفهم منك أنك في الحياة ترفع العلم الأبيض، وتعترف بالانكسار؟ أنسيت لأعوام خلت كيف كنت تتطلع في الحائط، وتصيح بي: «بيني وبين الفوز هذه الروزنامة»؟ - ولا زلت أعيد هذا القول. - ولكن عبارتك هذه ترهلت، فأين هي اليوم تتدلى من فمك غثة منها بالأمس تندفع من شفتيك لاذعة بنار الاقتناع، مصقولة ببريق من عينيك؟! بل أين أنت اليوم، وقد برز بطنك، وهدأت خطواتك، وصارت كلمة «الحظ» تتسرب إلى حديثك، فهل أوفيت على مرحلة العمر، إذ يعترف المرء بفشله، بأن يلوم «الحظ» من دنياه؟ وهذه الذكريات التي أصبحت تلهج بها، أليست هي الدليل القاطع على هرمك؟! فمن شاخ أكثر التحدث عن ماضيه، أما الفتى، فحديثه أبدا عن غده. هذا مقياس العمر الوحيد. قال: غريب أمرك يا هذا! تشهد غماري في الجبال عن الذهب مفتشا، وتتهمني بالهدوء؟ أما رأيتني أقضي الأسابيع في الغابات، أخوض أنهارها، وألتحف سماءها، مقتاتا بقشر جوز الهند، أجر 110 كيلو من جسدي؟! إذا كان هذا هدوءا، فما هي الحركة؟!
قلت: يا محترم، أمندفع أنت في هذا الغمار، بذلك الإقدام الذي رافق فتوتك، أم أنت فاعل هذا تبرئة لضميرك أمام نفسك، كي لا تتهم همتك بالخمول؟
قال: أنت جائر، وأوقح من مخبري جرائد أميركا.
وقد انتهت المحادثة.
فصافحت يمين المؤلف بيساري، وانصرفت تاركا محدثي ينعم بأوهامه - وما أرفق الجهل بأصحابه! - حاسبا أنه تمخض هذه السنين الطوال، فولد رائعة، وأنه نام عام 1924 قزما، ونهض سنة 1937 عملاقا، وهو لا يدري أنه: «ناخ نوخة جمل، وقام قومة هر.»
أشخاص نخب العدو
ليسوا وحدات مستقلة، ولكنهم أفراد من مجموع. كل واحد منهم له مزاياه الجسدية، والعقلية، والنفسية، وله تاريخ حياة حافل بالحوادث، فتعرف إليهم كما يظهرون لك. خذ.
أم وسيم
تعبد بعد الله - وربما قبله - ولدها وسيم، وتبغض قبل الشيطان «بني الحمصي» - قتلة أبي وسيم. شديدة العزم، شديدة الذكاء والإرادة، قوية الشكيمة ، جريئة، ورعة، تخاف الله وتستنجده، وتصلي له، وتأتمه، كأنه صديق قديم، والصديق يبغض عدو صديقه، فالله فاتك في نهاية الأمر ببيت الحمصي، حام لوسيم. تبغض كل من ليس من دينها، أو حزبها أو ضيعتها. عبثا تحاول تحويل اقتناعها، إذ إن قوة النفس قد أرهفته، فلا مساومة في معتقداتها، حريصة، حذرة، يقظة، كثيرة الجد، ذات أنفة وكبرياء، طاهرة من العجرفة، ضربة السيف لا تؤلمها، ولا تفهم كيف تؤلم سواها.
حلفت أن تخنق «هدى الحمصي» بغدائرها، ولو رجعت «هدى» غير مقصوصة الغدائر لماتت على وصفة «أم وسيم»، ثيابها جبلية، نظيفة، وكذلك أثاث بيتها، أمارة بحديثها، أبدا تصيح، مدمدمة، محتجة، كثيرة التحدث مع نفسها بصوت عال منذ الصغر، زادت بها هذه العادة بعد ذهاب «أبي وسيم»، فأي أرملة أحبت رجلها لا تشعر بالوحدة بعد فقده، وأي علامة للوحدة مثل تحدث الإنسان لنفسه بصوت عال؟!
خفيفة الخطى على شيخوختها، نحيلة الجسم، صلبته. أبغض الأمور إليها الأكل والنوم. أقامت لأبي وسيم تمثالا في عيني وسيم. فليس من مزية مستحبة في الدنيا لم يتحل بها «أبو وسيم». أما كيف كان أبو وسيم يضربها، فأمر لا تحدث به الناس.
ربما مثل «أم وسيم» أمهات قيصر، ووشنطن، ونابليون.
زليخة
هيفاء كمحدلة الطريق، صوت كأنه زمور، بهيمة بشرية، ضخمة الصدر، هائلة الخدين، منبوشة الشعر، حولاء، متدلية الشفتين، عبدة النفس بلهاء، احتل أنفها زكام أبدي، فهي أبدا تمخط بتنوريتها، ولكن في قبحها وخشونة سلوكها تناسب يهم بأن يكون جمالا. قل عن زليخة ما شئت، ولكنها خفيفة الدم مهضومة.
أبو مرعي
يقول لك فتيان «وادي الأرز»، ويبتسمون: «أبو مرعي»، عمي أبو مرعي، بطل غير مجرب. قذيفة ديناميت لا تدري إذا كان بارودها مبللا، هائلة الجثة، أما الهمة فلا نعلمها. لماذا لا يأخذ بثأر أخيه أبي وسيم؟ وإن كانت الظروف غير مناسبة، فما باله أبدا يبصق كلمات من نار كلها توعد، ويدمدم كلمات من دمدم؟ من الذي شهد بطش أبي مرعي؟ أين كان حين «وقعة العين»، و«معركة السنديانة»، وحين تنادى الشبان في آخر الحرب، وقاتلوا مفرزة من جنود الأتراك مهزومة، أين كان أبو مرعي؟ وما هذه الواقعة في بيروت بينه وبين أربعة من «بني البترون»؟ من شهدها، وشهد البطش الذي يدعيه؟
وقد يكون شكاته على خطأ أو على صواب، ولكن إذا لم يشهد الناس منه بطولة، فمن هذا الذي عرف عنه جبنا؟ أبو مرعي - ككل رجل عظيم - فيه الكثير من اللغز والتناقض، غير أن المعترف به عن أبي مرعي هو أنه لبق في معاملة أبناء الحكومة. كل دعوى له أو عليه أبو مرعي يربحها، نبيل تجاه عائلته، يمونها، ويقوم بحاجاتها. يحمل عصا الناطور شهرا، وينتزعها منه أبناء الحمصي شهرا، والحرب بينه وبينهم سجال.
نار البغض لا تلتهب في نفس وسيم، وهذا نقص لا يسامحه عليه أبو مرعي. ليس فيه من عيب جسدي، إلا أنه ثقيل السمع.
الدكتور نجيب
تمشط الدنيا فلا تجد له مثيلا.
صعب على الناس أن يفهموا الدكتور نجيب؛ لأنه عاش تلك الخمس والستين من حياته، وانصرف عن الدنيا، ولم تظهر نفسه عارية أمام أحد. فنحن نستنتج خصاله بما نرى من أعماله. محاولة صعبة، وقد تكون غير مضبوطة، ولكن ما الحيلة، وفي الناس مئات يدعون صداقته، وليس فيهم واحد آخاه؟ نراه في آخر مراحل العمر، تطغى إرادته القوية على الجسم المتهدم، فيسير بمشية عسكرية مغصوبة توهمك القوة، حتى تلمح كتفين تهدلا، وفكا يتراخى في غير إبان الحذر، فتعلم أن الرجل يقترب من مرقده الأخير. يحدثك عن مستقبله، وعما سيقوم به من الأعمال، فهو سيزيد على المستشفى الكبير الذي يرأسه جناحا في السنة القادمة، وجناحا بعد خمس سنوات، وعلى المختبر أشعة إكس بعد شهرين، و... و... بعد عشر سنين، وعلى ألوف الكتب التي يقتنيها ألوفا أخرى. فتسائل نفسك، ترى، أيعتقد هذا الإنسان أنه سيعيش إلى الأبد؟ وتحاول أن ترمي عليه هذا السؤال، فتصطدم بنظرتين من عينين تصيحان «قف».
تحسبه مبشرا حتى يتكلم، فتسمع من صوته نبرة أمر طبيعية، كأنه خلق ليأمر، وشددت هذه النبرة سنوات قضاها أستاذا في جامعة ، وسنوات كان خلالها ضابطا في جيش.
لعل أعظم ما قام به عجيبتان؛ الأولى: أن الجرائد العربية دعته نابغة وعبقريا، وكان بحق نابغة وعبقريا، إذ إنه كان بدون ريب أعظم طبيب، وأمهر جراح عرفته بلاد سكانها 18 مليونا.
والعجيبة الثانية، أن ألسنة مواطنيه لم تنله بهجو، فقد تعالى عنهم إلى حيث لا يطاله لبيطهم. يعمل الخير بدون مباهاة، كأنما فعل المروءة كتنظيف الأسنان شيء ضروري مألوف. يعاشر سكان الذروة من المجتمع، ويجلس إلى موائد العوام، ويفعل هذا غير متصنع.
ولكانت سيرة حياته ناقصة لو جاءت فوزا مستمرا لم يتخلله فشل. فالذي لا يعرفه الكثيرون أنه انقطع عن ممارسة الطب سنوات خمسا، وانزوى إلى منجم، كانت نتيجته المالية فاجعة. في برهة تلك السنوات، ابتدأ الناس يتحدثون عنه ك «رجل كان». لم تعد الأيدي ترتفع للسلام عليه بالعشرات حين يسير في الشارع، ومن عرف عنه كيف كان يزدري المال، وكيف كان ينفقه بأسرع مما يكسبه - وكان يكسبه بالألوف - تصور كم كانت أليمة عليه تلك السنوات. إنما هل شكا؟ هل تأوه؟ هل انزلق إلى عالم الذكريات؟ هل كان في لبسه وسخاء يده، ونظراته، شيء يدل على فشل؟ جاءته تلك السنون في غسق العمر، وفي غسق العمر قام الدكتور بأعظم أعماله، واسترد مكانته العلمية والاجتماعية، وقفز في سلم الحياة إلى أرفع درجاته، وقد ساعدته على ذلك - ولا عار - الأقدار؛ إذ إنه في الساعة التي كان الدكتور بها يفكر كيف يسترجع مكانه، كان مواطن يحمل المسدس لينتحر، فلما أن وصل الدكتور نجيب وجد ... قد أطلق الرصاص على رأسه، فاخترقت الرصاصة الصدغ الأيمن، وطارت من الصدغ الأيسر، وراح الدماغ يرشح من الجانبين. الدكتور نجيب شفاه، وشفى اسمه من صدأ بدأ يعلق عليه في هيكل الشهرة، وابتنى مستشفى، كان محجة كبار الأغنياء، الذين يبغون شراء أثمن ما في الدنيا، والمعدمين من الفقراء، الذين لا يدفعون إلا الشكر أجرة، وكان الدكتور يبهظ الأجرة على الغني، ولا يكتنز منها - على خطأ الناس في تقدير ثروته - إلا شكر الفقير. فلم يخلف من المال إرثا إلا مكتبته وأدوات طبه، وضمانة حياته. أرزانة تلك التي قطبت جبينه أم هي كآبة؟ ما هذا الذي يجلل شيخنا، كأنه حزن عميق؟ أي فاجعة مرت به لم يأت خبرها الناس؟ هو لم يقصر على الطب أعماله، بل ألف كتبا علمية، ونظم صفوف مواطنيه المهاجرين في جيش تفرق قبل أن يحتشد، ورجع إلى بلاده في محاولة سياسية لم يكللها النجاح. فهل استصغر ذلك العظيم محيطه، والحقل الذي اشتغل به؟ لقد احتك بشخصيات عالمية، فهل قايسها بصمت، بشخصيته فوجد في نفسه تفوقا، فتأوه وقال: لماذا أخذت زاوية أنيرها، وكان في وسعي أن أملأ الساحة شعاعا؟ أنا لا أدري الجواب، ولا أعرف أن في الدنيا من يدريه، ولكن استنتاجي يقودني إلى الاعتقاد أن قد كان في الرجل طموح إلى الظهور بمظهر عالمي كبحته الأيام، وأن هذا الحزن الذي غاص إلى أعماق نفسه هو نتيجة اقتناعه أن حياته - على شمول اعتقاد الناس بأهميتها - كانت فاشلة باقتصارها على ميدان صغير جال فيه.
تحدثه عن لبنان وسوريا، فيستسيغ الكلمات عنهما، كنهم يبطش بطبق حلوى، فإذا ما وصلت من تاريخهما إلى بعد الحرب، أجفل وصمت، شأن من فقد عزيزا لم يمض على وفاته وقت كاف، حتى يبيح لنفسه التحدث عنه. فهل كان بسبب حبه لوطنه وشدة مباهاته ذا أحلام سياسية عظمى، نكبته بها الأيام؟ اجتهاد في الاستنتاج، ولكنه محتمل.
أما المظاهر التي تطفو على نفسه، والتي يبصرها العميان، فهي ما شاع عنه: من لطف، وأنس، ولمعات غضب، وديمقراطية، وبذخ، وحب للتفاصيل متناه، ونهم في المطالعة، وغرام بقهوة «سوداء كالشيطان، ملتهبة كجهنم».
بالطبع كان يكثر من محاولة تنظيف نظارتيه بمنديله.
الآغا وابنه
يتقدم العصر، كما يتقدم البقرة ذنب البقرة. ليس من أحد يدري كم أردت «الزائدة المعوية» من نفس خفية! حتى اكتشفها الأطباء، وعلموا أنها بقية مصران، كان ذا نفع في الأجيال السالفة، وأنها اليوم مصدر كثير من الآلام، والالتهاب، والفساد، والاضطراب، وأن الوسيلة الوحيدة لمنع أذاها هو قطعها.
كذلك، لن يتسنى لبني الشرق الأدنى أن يعرفوا كم أنزل بهم البكوات والباشوات، والمشايخ، والمقدمون، والأغوات، والأمراء؛ من مكروه! ولن يقدروا أن يعدوا قتلاهم، حتى يفقهوا أن هذه الطبقة من الناس هي «زوائد»، كان لها نفع في الماضي، وأنها اليوم لا تقوم بعمل ما إلا المضرة، وأن الوسيلة الوحيدة لمنع أذاها، هو قطع نفوذها.
على أن بني الشرق الأدنى سائرون نحو التفلت من أذى هؤلاء الطفيليين سيرا هادئا، سيطول زمنه؛ لأن العنف لا يرافقه، ولكن نتيجته واحدة محتومة. «فالآغا» في هذه الحكاية طفيلي، يغزو موائد الشعب ويتصدرها؛ لأنهم لا يتفقون على من يتصدرها، وهو يعتقد أن تفوق مكانة عائلته على الناس أمر مسلم به، هكذا كانت الأمور، وهكذا يجب أن تكون. يتعلق بمكانته التي تدر عليه عيشه تعلقا غريزيا كأطفال الحيوانات بأثداء أمهاتها، ويتوسل إلى ذلك بتفرقة القوم وتضخيم أحقادهم، ولا يؤلمه ضميره، فهو يلعب لعبة هذه قوانينها المشروعة. أراد أن يعد للمستقبل وطوارئه، فأرسل ابنه إلى المدارس ليتثقف؛ حتى إذا تطال إلى مراكز الدولة رجل من العامة، كان ابن الآغا أحق بالوظيفة، ولكن ابن الآغا استهوته حياة المدينة وفسقها، فطير البقية من أراضي أبيه، ولم يتثقف بغير آداب المواخير، وكان خلال ذلك «العوام» من «وادي الأرز» أصابوا المال في المهجر، والثقافة في الوطن، فأين هو الآغا الآن؟
هو حيث يجب أن يكون ورفاقه «الباشوات»، و«المشايخ»، و«البكوات»، و«الأمراء»، و«المقدمون»، والطفيليون جميعا؛ في «لا مكان».
وماذا تنتظر أن يقلب أبدا بين يديه إلا مسبحته الصفراء؟
راجي البيروتي
الفتى النحيل، المنرفز، القلق، الضجر؛ راجي البيروتي، هو ابن «أبي راجي»، ولا أقول «أبو راجي البيروتي»؛ إذ إن بيروت منذ فتحها العرب إلى أن أقفلها الأرمن، لم ينشأ بها إلا «أبو راجي» واحد؛ هو رئيس البحارة، ورئيس المينا، وهادي البواخر إلى أمين مراسيها. ويظهر أن «أبو راجي» هذا نبت من نفسه، فليس في بيروت عائلة تدعى البيروتي، سوى عائلته، وعائلته هذه هي هو وابنه، وما عاب أبا راجي أنه قصير القامة، نحيلها، فأبو راجي «قبضاي» صبوح الوجه ، سموح الكف، قاضي البحارة إذا اختلفوا، دائنهم إذا أفلسوا، قائدهم إذا مشوا في أمر، محاميهم إذا نشأ بينهم وبين القانون سوء تفاهم، وهو بلا ريب أمهر بحار عرفته بيروت. أما كيف شيد أبو راجي قصره ذا الأربعة طوابق؟ وكيف ملك عدة مراكب شراعية؟ وكيف عاش باذخا كالأمراء؟ فليس من الصعب تفهمه، فبنو لبنان وسوريا يعشقون الأسلحة، وفي مصر حشاشون، ورجال الأمن بعضهم متساهل، وبعضهم يغمض عينيه إذا امتلأت يده، وفي المآزق «هم رجال ونحن رجال، ولعينيك يا أبو راجي.»
وراجي طبعا لم يخلق من أبي راجي وحده، فأين هي أم راجي؟ سؤال إذا ألقيته على حلقة بحارة يدخنون النراجيل في مقهى «الأنيلوتي» صمتوا، فإذا ألححت، قالوا: «الموت غير نقاد، ولكنه في بعض الأحيان عادل، والمدعي العام لم يثبت أن جثة المرأة كانت جثة أم راجي، ولا أن جثة الفتى كانت جثة «خرطبيل الأقتمي»، ولعن الله كل من عابت - ويبصقون - ولعن الله النساء أجمعين - ويبصقون ثانية. وأبو راجي رجل شريف، وبخاطرك يا أفندي.»
كان راجي في الثالثة من عمره، حين فقد أمه، وأعاضه أبوه عنها بممرضة، ولكن شديد عناية الممرضة، وكثرة الدمى التي أعطته إياها المرأة اليونانية «طمارة»، تلك التي تسكن الطابق الأعلى مع أبيه، لم تعوض عن حنان الأم، خصوصا وقد نبا عن راجي «أبو راجي»، ومن يدري إن لم يكن في أعماق نفس الأب شك عظيم، مع أن راجي صورة أبيه المصغرة، ولكن يكفي أن يكون الطفل من دم تلك التي عابت، «ابصق معي» حتى يكرهه أبوه، وهنالك «طمارة» الفتاة اليونانية، تشغله لياليه، وفي المرفأ بواخر، وفي عرض البحر عاصفة، وفي مخدعه عواصف، غير أن أبا راجي جواد، ولعله أراد رشوة الخفير في نفسه، حين أغدق على راجي المال، فشب أنيقا يلبس على الكاتلوك كثير السيارات، والعشراء، مسرفا، خليعا، يقال أن ليس في مواخر بيروت مومس تجهل ألوان بيجاماته، وهو ربيب المدارس بالطبع. كان في المدرسة كغريب يساهم في مأتم شخص لا يعرفه، غير أن راجي ذكي الفؤاد، فكان يماشي دروسه، فما وبخه أستاذ، ولا أعجب به أستاذ. أما اندفاعه في ملذاته، فكان تهربا من بيت فقد الروح العائلية، ولإشباع عطش في نفسه، ولكل شيء نهاية؛ فقد تبرم بعيش البذخ والترف، والخنا، ومل عشراءه، وحياته، ومومساته، وسياراته، وحجر عواطفه، وطوح به إلى الاستخفاف بفواجع الحياة ومهازلها فاجعة أبيه؛ «فطمارة» هربت مع ظابط في الجيش فتي، وماذا تريد «طمارة» - ابصق معي - بعد من أبي راجي، وقد كنزت ثروة من نقوده وجواهره؟ وشاء تهكم الدهر أن يهربا على باخرة يقودها «أبو راجي» من المرفأ إلى عرض البحر، ولأبي راجي عيون على البواخر، فما أفاد الحبيبين تسترهما في غرفة منعزلة. أما كيف انفجر صندوق الديناميت؟ وكيف غرقت الباخرة بطمارة وبحبيبها، وبأبي راجي؟ فلغز ما حله البوليس البحري، وفي بيروت اليوم بحري شيخ يدخن الأراكيل، ويعرف الكثير، ويقول لك: من هتك العرض وفاته السكين، يناله الطوربيل.
وكان بيت أبي راجي من تلك الصروح التي تنهار مع بناتها، وكأنما قيل لراجي إن سعر المشمش ارتفع، أو إن الأمطار هطلت في الزنجبار، حين قيل له إن أباه هلك؛ فالدنيا ما عادت تخبئ لراجي دهشة أو انذعالا، كذلك لم يبغته حجز «إسحق إبراهيم السلطي» على أملاكه؛ تسديدا لسند ضخم ادعى أن أباه وقعه، فحينما دخل مأمور الحجز من الباب، قفز راجي من النافذة، ففي بيروت غرف كثيرة، يستطاب النوم فيها.
وطبعا، لم يسكت رجال أبي راجي على تسلطن إسحق إبراهيم السلطي، فكثرت الأحاجي حول ذلك المالي. من أرسل له تلك الجمجمة في البريد؟ من سمم لكلبيه الشهيرين؟ لماذا كثر دوي الديناميت - وبيته على البحر - قرب بيته؟ لماذا يكويه البحارة بنظراتهم، ويبصقون؟
إلى أن نادى إسحق راجي، وقال له: لك مني 100 ليرة شهرية، تستلمها ما حييت، فأذع الخبر بين الناس، فأنا لأبيك وفي.
هكذا كان راجي، حين عانقت نفسه نفس وسيم الحموي. فوسيم - كما سترى - هو نقيض راجي في كل شيء، وللنفس انعطاف على النفس، إذ تحس أن فيها تماثلا، ولكنها تندمج، وتتلاشى في النفس النقيضة، إذ تستشعر أنها وقعت على ما ينقصها من خصال، فتنجذب النفس إلى النفس ولا تنفصلان، كأنهما أوكسجين الماء وهيدروجينه، فلا عجب، إذا رأيت راجي ووسيم بلغا في الألفة ذروة الأخوة، إذ يصبح حديث الصديق للصديق شتيمة، وسخرية، وتهكما، ودعابة، وقد يكون راجي أشد اندفاعا في صداقته من وسيم، إذ إنه حرم حب الأم، وما وقع في حب امرأة، وطافت عليه العطايا، فما هو بطموح؛ أي إن كل منازع نفسه مكبوحة، فلما جاءت أخوة وسيم، طفت عواطف نفسه في مسالكها، وانصبت في أخوته لوسيم. وراجي هذا ليس من المرح كما يريد أن يظهر، فهو يتستر بالمزاح؛ كي لا يظهر أثر جرح عميق، وهو في جوهر نفسه دهري،
1
لا يثق بالناس، ذو سليقة صادقة في بني الإنسان. غير أنه وجد في «وسيم» صديقه وزعيمه، فرضي أن يقاد من غير أن يشترك بسوق سيارة الحياة، بأكثر مما يشترك الجالس إلى جانب الشوفير: «أخطأت. عجل. تمهل. كنت قتلتنا.» لم يرث عن أبيه بأسا، ولا طيشا، عيناه إبرتان من نار.
إذا تزوج راجي فتاة تحسن سرجه، وتجيد ترويضه، ركض، وخلف جمهور الناس بعده بأميال، ولكن راجي أعقل من أن ينهز نفسه، وصعب عليك أن تجره، فسيموت رجلا «كان في وسعه أن يكون ...»
وسيم الحموي
أصحيح أن بني لبنان بأنفسهم مغرورون؟ العجب لو أنهم كانوا غير مغرورين. يخلق طفلهم على صوت الأهازيج، والبارود، يتزوج على ألحان الدبكة، يدفن على موسيقى الندب. يمرض فيعوده المئات، فهو أبدا مدار اهتمام الناس. خراج الضيعة اللبنانية هو الحد الذي يفصلها عن الدنيا. الدنيا ليست مهمة. الضيعة هي كل شيء، وفي الضيعة مدفن الجدود، وفي الضيعة ملك اللبناني، بل كما بحق يدعونه «رزقه». قد لا تكون أرزاق الواحد منهم واسعة، أو غنية، ولكن فيها أبدا شيء غير عادي، يفوق أعظم شيء في الدنيا. قد يكون فيها أشهى عنقود، أو أطول حية، أو أكبر صخر، أو مطار أكبر سرب حجال، وإذا ندر فحرم شيئا من هذا، فلا يعدم أن يكون بين أجداده رجل عظيم . حدث أي لبناني عن عائلته، يبادرك: «جدي كان ذراع الأمير بشير. جدي قتل الضبع. جدي يحفن الجمر بيدين عاريتين. جدي قاض، قائد ... إلخ»، فهذا التراث الحقيقي، أو الموهوم، أو المزيج من الاثنين يخلق في اللبناني مركب تفوق،
2
يتهرأ إلى الغرور والخيلاء في البعض، ويصهر إلى اتزان في الآخرين، ولا تنس أن للبناني دائما أعداء. ابن المدينة في وسعه أن يعيش كأنه ثقب في حائط. أما ابن الضيعة، فهو من الأهمية بحيث يكون له أعداء أبدا، والعداء يثير - فيما يثير - التهالك على التفوق. عار عليه أن يفشل؛ لا لأن الفشل عار بنفسه؛ بل لأن أولاد العائلة الفلانية أو الحي الفلاني يشمتون.
فوسيم الحموي إذن حين طلب العلم في مدينة بيروت كان على شيء من الخيلاء، بررته انتصاراته المدرسية، وخففت من غلوه أنه كان في نظر رفاقه أبناء المدينة «جبلي» فقط لا غير. فابن الضيعة، في المدينة، عليه أن يفوز بالكثير قبل أن يتخطى ذلك الحاجز، الذي يقفصه في عيون أبناء المدن، إلى ذلك المستنقع الوخم، الذي يسمى «الضيعة»، ووسيم كان طفلا حين قتل أبوه، فجعلت له أمه من أبيه مثلا أعلى يباريه. أبو وسيم كان أشجع، وأذكى، وأشرف خلق الله؛ إذن فعلى وسيم أن يكون كأبيه. حينما سمعت أم وسيم أن ابن الحموي أجريت له عملية «البحصة» في بيروت - «بحصة، هاه!» صارت أم وسيم، وانتزعت من صندوقها حجرا كالليمونة، وقالت: «هذا الحجر أخرجه الدكتور من مبولة أبي وسيم، وهو أكبر من أكبر رأس في بيت الحمصي.»
لهذا نشأ وسيم - وأمامه أبوه المقتول، مثل أعلى يتحداه - شديد الثقة بنفسه، فوار الطموح. تأدب، فانصرف إلى النوع الخطر من الأدب، ذلك الأدب الذي يغوي صاحبه إلى أن «يعيش» أدبه، بدلا من أن يقتصر على أن يكتبه فقط. هادئ، فإذا ثار انقلب إلى زوبعة، كثير التخيل والأحلام، لو جاءت مشاريعه الأدبية والتجارية سلسلة، لوصلت جهنم بالجنة، ودارت حول الأرض 471 مرة، وفي، يحب راجي حب الصديق، ممزوجا بعاطفة أبوة، فراجي بنظر وسيم طفل قوي الجسم ، رزين ، غلا في ساعات الدعاب، نوره ليس بمصباح دائم الشعاع، بل هو أسهم نارية، تنفجر بدوي عظيم، وتلمع في السماء لمعات جميلة متقطعة، وبين اللمعة واللمعة ظلام كثيف. فهو جواد، فتي، جموح، صبوح، ينقصه الكثير من الترويض؛ ليصلح للنزول إلى ميدان الحياة، وإنهائه الشوط في طليعة الجياد، ورث عن أمه التحدث لنفسه بصوت عال.
إذا بلغ الهرم فقد يتزن إلى نابغة. غير أنه من أولئك الفتيان المتوهمين، الذين لا أقول يموتون باكرا، بل يصرعون باكرا.
فرج الله
ذلك الخاتم الألماسي، الذي تلاعبه أصابعه، والذي يضرب فصه الكبير الطاولة، حينما يحتد فرج الله؛ هو الدليل المنظور على غنى هذا الرجل، وتبذل نفسه. سمين كثير الشحم، ناعم الحديث والعضلات. في كلامه نزق الجبن. له شاربان مخضرمان، إذ هما همزة الوصل بين الشوارب العنترية العتيقة، والهتلرية الحديثة. لا أذكر جيدا إذا كان له لحية إسطنبولية تنبسط على وجهه كأنها حصيرة، أو أن على ذقنه عشرات من الشعرات، غير أني طالما تمنيت أن أغزل منها ومن شاربيه خيطا أشده على عنقه. عيناه مرحتان زائغتان. ليس في الدنيا شيء لا يعرفه، وهو في صيده الدولار خاض مستنقعا من دم، وحرائق، ودمر بيوتا كانت عامرة بالثروة والسكان. على أنه على ساديته
3
أو تعذلبه لا يوقع المضرة بأحد، إلا إذا كان له منها فائدة، وهذه القهقهة الميكانيكية المسعولة
4
هي صدى الفرح في نفسه، فقد غالب الحياة وحيدا، وانتصر على الحياة، فهو يستخف بالناس والدنيا، وبكل شيء، ولكان يستخف بنفسه لو جهل قوتها، ولكن فرج الله لا يجهل شيئا.
تملعن فملين.
5
قد يبيض شعره، وتسقط أسنانه، فتلقاه ولا تحلم بأن تناديه «عمي فرج الله، أو: خواجة فرج الله»، ومن قال لك إنه يطلب الاحترام من الناس؟
طعان
طعان الحمصي، يعجب باثنين: عنترة العبسي، والضبع. وكأن إعجابه بهذين المخلوقين أنبت في طعان الكثير من خصالهما، فله مشية عنترية، وبأسه، وله قوة الضبع «وأناقته». كان طعان يوم مقتله دون العشرين، وهي السن التي بها يثبت الجبلي بأسه، وينشر أطروحة الرجولة على الناس، بأن يبطش برجل ما. فطعان تراه إما قاصدا إلى معركة، أو راجعا من معركة، ولكن قل من قوي أن يقف في وجهه. كان طعان «قبضاي» «وادي الأرز» غير منازع. لم يدخل المدرسة، ويحتقر كل من دخلها؛ فهي في نظره مؤنثة الرجال. بليغ الخطاب، ويعرف من نفسه البلاغة، ويعجب بها. كان طعان يفلح أرضه ويزرعها، حتى صارت أمه ترسل له البوليصة الشهرية من المهجر؛ إذ ذاك انقطع عن العمل. لا تصدق ادعاء اللبنانيين بشغفهم بالعمل. الشرقيون كلهم ما عدا اليابانيين لهم أمنية واحدة في الحياة؛ البطالة والراحة، ومع البطالة ينبت القال والقيل، وتزداد أقداح المسكر. وقد تضافرت هذه العناصر الثلاثة، فساقت طعان إلى حتفه. أبق هذا الخبر بسرك، فطعان كان سمجا - رحمه الله.
رشيد
طفل في الخامسة والثلاثين من عمره. ربته «الماما»، وقد تتخيله في الثمانين، يلاعب صبيان الحي بالكلل، ويستنجد «بالماما» إذا خطفوا له كلته الزرقاء. عقل عصفور في جسم عجل. مغصوص الصوت، أهم أعماله اليومية ثلاث «وقعات» هائلة، يأكلها في اليوم الواحد.
بالطبع، يضيف إلى أفأفته محاولة تقليم أظافره بأسنانه. يقال إن شعره يقص مرة بالشهر. ولكنها إشاعة، تنفيها المظاهر.
هدى الحمصي
أم طعان وسارة، هاجرت «وادي الأرز» مع زوجها بعد واقعة «السنديانة» الشهيرة، التي قتل بها أبو وسيم، إذ نضبت الأموال في الضيعة، لكثرة مصاريف المحاكمات، وصارت العيشة جهنما، وهدى خائفة أبدا من أم وسيم، تخنق هدى بغدائرها، فلما وصلت «غرانبلا»، ووجدت أن النساء هناك مقصوصات الشعر، رمت بغدائرها فرحة، كأنما هي رمت بحبال مشنقتها. قوية الجسم نحيلته، ليس فيها من الذكاء شيء. متقلبة الآراء، مدهوسة الثياب، معدومة الأنوثة. الظاهر أنها لم تحسن رباط بعض ألبستها الحميمة، فهي دائما تنهض تنورتها.
بغضها لبيت الحموي عظيم، ولكن الهجرة لطفته، فهو جمرة صغيرة، تكاد تنطفئ تحت كومة رماد. ضعيفة قوى النفس في كل جهاتها، إذن فلا تعجبن من ميعان مقاصدها، وتناقض أفعالها.
المهاجرون: (1-6)
البشر أرقام وأصفار، وماذا تنتظر من مستعمرة لبنانية في المهجر، فيها أرقام ضخمة؛ كالدكتور نجيب ، وفرج الله، وسارة، وراجي، ووسيم، وشمدص؟! أن يبقى فيها إذا استعرضتها إلا الأصفار، يشبه الواحد الآخر، كما تشبه حبة الفول حبة الفول! تراهم في ليلة العيد يتعمدون اللهو، وأين المرح الطلق الصافي من نفوس تتكالب على الرزق سبعة أيام في الأسبوع، وست عشرة ساعة في النهار! ولا تنس أنهم مضاربون، بعضهم لبعض أعداء كار. يتوهمون أن كل ريال يربحه الآخر مختطف من يد مواطنه، يعرفون أنهم أغراب عن موطنهم إذا عادوا إليه، أغراب عن مهجرهم، وهم مقيمون فيه، وليس لهم من وطن صحيح إلا هذه الوحدة في الأذواق، التي تلتقي في أمور سطحية من مأكل ومشرب، ومغنى. ولا تزد على هذا، فقد يتمزق الكيس، وتتذرى حبوب الفول، وتتباعد إلى حيث يستحيل جمعها ثانية.
شمدص جهجاه
يغطس في الماء فلا يبتل. شمدص ليس له في الدنيا عدو، ومن ليس له عدو ففي الغالب ليس له صديق. شمدص صديق الناس أجمعين، ولكن لنفس شمدص حدودا لا يتخطاها بشر، صاحب مروءة إذا كانت المروءة لا تكلف عملة. لا يقرض ولا يستدين. يصل إلى الأمور بدون أن يتخيلها. عدته تجارب اكتسبها في لبنان يوم كان يكاري على بغل شموس اسمه «زهران»، في بلدة ساحلية، يحمله الجرار والأباريق الفارغة من معمل الفخار في «خلدة» إلى «صيدا». وكان يقول: «من عرف أن ينقل الفخار سالما على بغل شموس مثل «زهران»، فقد عرف أن يفعل أي شيء في الحياة.»
شمدص يعرف أكثر مما يظهر، لا يدري أحد كم من المال معه، ولكن ذكاءه وحرصه كفيلان بأن يكون معه أكثر مما يري. ساذج لا يحب التصنع، فحديثه وثيابه، وكل شيء فيه طبيعي. يعجب بالناجح؛ لهذا يحس في نفسه شيئا من العطف على فرج الله، خلق ليكون رجلا في جمع، ويكره أن يكون كتفه أعلى من أكتاف الجمهور. مظهره الشخصي؟ قصير، عريض الشفة العليا، ضخم السفلى، قوي الجسم، غير أنه لشدة ما نزل به من متاعب يخرس عن سردها؛ شاخ وهو في الخامسة والأربعين، مجعد الجبين، مقوس السلسلة الفقرية عند الكتفين. هو اللبناني الوحيد في مهاجر الدنيا، الذي لا يدعي أمام الإفرنج أنه من «بيروت»، وأن عائلته ذات أملاك واسعة في الوطن القديم، وأن رئيس الجمهورية ابن عمه، وأخواله وزراء، وأخاه «مارشال سوريا»، وأن المجلس النيابي اللبناني يعقد جلساته في مقعد أبيه، وأن أجداده باريسيون، توطنوا سوريا زمن الحروب الصليبية.
سئل شمدص ما هي فلسفته في الحياة؟ فأجاب: «كنت أغني عتابا» إذا شمس البغل «زهران»، وأغني عتابا إذا عثر «زهران»، وأغني عتابا إذا أوصلت حمل الفخار إلى المدينة سالما؛ ففلسفة الحياة هي أن تغني «عتابا» دائما. شمدص من المهاجرين الذين يرجعون إلى بلادهم بعد عشرين سنة هجرة، وليس في حديثهم ولا طريقة تفكيرهم أنهم ابتعدوا عن موطنهم أكثر من عشر دقائق.
الشمادصة هم هيكل عظام الأمم، وفلاسفتها الصامتون.
سارة
قالت لي سارة - وقد قرأت دورها في «نخب العدو»: أهذا كل ما تعرف عن قلوب العذارى، يا محترم؟! أتحجبني عن الجمهور طيلة فصلك الأول، ثم تبدأ الغرام بالزواج، وتنطق شفتي بغزل أتزلف به إلى فتاي، وتحرمني حتى قبلة من زوجي أو حبيبي، وتقيم من نفسك داية، فتولدني بين نزول ستار وارتفاع ستار؟! ألم تجد ضمة ورد تحملها حبيبي، فيطرحها على قدمي، وتطوي ركبتيه فيركع أمامي، ويتهدد بالانتحار؟ لماذا لم تخلق لي «نذلا» يريد إغوائي، و«بطلا» يقحم النار من أجلي؟ وما لي أحس بالعبارات المغصوصة تملأ فمي، والرسائل العليا أشعرها، ولا أتكلم بها؟ أتدعي معرفة لغة العرب، وتعجز عن بيت غزل، أو عبارة ناعمة تترسل بها إلي؟ أين كانت جنيتك يوم مثلت أمامك؟ أممكن أن تكون والذين تغزلوا «بليلى» من أمة واحدة؟ قلت: إن بينك وبين الذين تغزلوا بليلى أودية وجبالا ودهورا من ليال مظلمة، ولئن اتفق فالتقيت بقافلتهم، فستجفل جمالهم من دخان بنزين سيارتك التي تمتطين، وستسدين أنفسك عن رائحة إبلهم، سلي ليلى تخبرك كيف عركوا شفتيها، وجففوا بتبذلهم ريقها، وشوهوا خلقها. لقد شاخت ليلى في صباها من رائحة البارود وآلام منظر الدماء وجثث العاشقين. إنها تكاد تجن من تقريع الضمير؛ إذ يذكرها بتلك السهام التي مزقت بها القلوب. لقد تعبت من النظرة، فالابتسامة، فالسلام، فالكلام، فالقتال، فالزواج، أو الانتحار. أما أنت فقد ظهرت إلى الناس وعشيقك مسروج، أليس الزواج قبلة الفتيات؟ تخور قواه، فتجعلين منه مقاتلا، ويمرض فتواسينه، وتبغضك وتبغضه أمك فتراضينها، وتلبسك أثوابا عصرية وخصالا طبيعية، وتظهرك على المسرح، بحيث لا تخجل فتاة من فتياتنا تمثيل دورك على المسرح، فماذا بعد هذا الذي تبغين؟ أما طفلك، فرويدك حتى يشتد ساعده، فسأرقص له النساء في الشوارع، وأقيم له التماثيل في الساحات، وأفرش باللآلئ طريقه، وسيقول الشعراء فيه من الشعر أكثر مما نظموا «بليلى». إنك لم تعلمي أي رجل أنجبت، حينما ولدت بين ارتفاع ستار، ونزول ستار، طفلك «فوزي».
6
قالت: هو ذا إهانة جديدة، فإغراؤك إياي بمستقبل ولدي دليل على أنك لم تنصفني، وها أنت تكفر عن تقصيرك بإغداق النعم علي ببني، وسكتت وسكت، وتلاقت العيون فضحكنا فاهمين.
بل ستبقين يا سارة لغزا، فليس خالقك شاعرا يسكنك الجنة التي يريد، ولا مصورا يعلق إطارك على الحائط الذي يروق له، خلقت لتختالي على مسرح، فأنت بحكم حرفتك مقصورة الأزياء على ما يروق نظارتك، وأخاف عليك إن أنا كشفت نقابك الكثيف أن يرجمك أناس ويعبدك أناس، ألا فلتكن كلماتك مخنوقة، فإن الذين يفهمون يسمعونها، وإن كنت عنها صامتة، والذين أصم الله أسماعهم، فلن يعوا رسالتك بل يستشيطوا، لتكن نفسك مغلفة بالظلام، يتخيلها كل إنسان كما يريد ويشتهي، وما أحسست «بشرقيتي» مثل هذه الساعة، فها إن داري تحفل بأم، وثكلى، وطبيب، وجمع من تجار، ومغامرين، وقرويين، ومهاجرين، وقلبي لا يضطرب إلا عليك. إن الفتيات نقمة الآباء، فاخرسي ولا تستفزيني. وخرست، وخرست، وتطلعت إلى دخان سيكارتها، فهمت الكلمات أن تنفجر من بين شفتي، لولا أن خارت في تلك اللحظة قواي؛ إذ تحققت أن «سارة» التي أردتها لغزا على الناس ارتدت لغزا علي، وما عزائي في هذه البلية إلا أني وجدت في «سارة» الشرط الأول في أنوثة النساء، ألا وهو «اللغز». إذن فهي امرأة ، ولو جاءت غير ما صور الفنانون.
ظطام
يلثغ بالسين، والصاد، والزاي، في الثالثة عشرة من عمره؛ العمر الذي يحلم به الصبي الأوروبي بلبس البنطلون الطويل، واستعمال موسى الحلاقة. أما ظطام، فيحلم ببارودة موزر، وبفرصة يجندل بها أحدا من بيت الحمصي. شديد القوة والبأس، ساذج، همسه صياح، وسيرة حياته عراك وضرب أحجار، وصفعات تلهب رقبته من عمه أبي مرعي، ويا ظطام، اسق الحمار، وأطعم الحمار، واحمل التبن من البيدر للقبو، فالحمار وعمه مرعي توأما مصائب، يلبسهما كما يلبس أذنيه.
الفصل الأول
المشهد الأول («علية» في بيت من بيوت «وادي الأرز»، لبنان، وهذه «العلية» اللبنانية ليس لها نظير في أي مسكن من مساكن الدنيا. فهي إذا مدت فيها المائدة أصبحت غرفة طعام، أو اصطفت فيها الكراسي صارت غرفة استقبال، وإذا تثاءبت فيها الفرش أمست غرفة نوم. في حيطانها عنابر صغيرة، كل واحدة تدعى الكوارة، اختبأت فيها مئونة الشتاء من غلال وما أشبه، وأنت لا تعرف أن في الحائط كوارة، لولا الثقب المدور الكبير، تسد فوهته كمامة من خرق. يتوسط هذه العلية عمود، يتهدل منه مغزل صوف، وتتوجه روزنامة كبيرة واضحة، تستلفت الأنظار، تعرف منها أننا في 27 أيلول من سنة 1930.
كذلك، على العمود «مدك»، ومرآة وساعة دقاقة، يسميها الإفرنج «ساعة جدي». في الحائط الذي على يمين النظارة مكتبة صغيرة، أما الحائط المقابل للنظارة فعليه صور العهد القديم من رجال تقصفت شواربهم، وصور ملكات، وبين هذه الصور واحدة لجنرال ممتط حصانا أزرق. كذلك يوجد «مشكلة» مثلثة الزوايا، عليها أسلحة قديمة من جفت، ويطقان، وسيوف، وحراب. يتوسط هذا الحائط نافذة عليها آنية زهور فيها نبات الفل، والورد، والزنبق، والحبق. حصيرة وبساط وسجادة تغطي الأرض. قرب العمود «دهليز»، بابه جزء من أرض العلية يفتح ويغلق. كل شيء نظيف بل أنيق، وعلى فقر متاع «العلية»، يشعر الناظر أن وراء مظاهر هذا الفقر كبرياء صلبة، وقوة معنوية هائلة. تسألني: وكيف لأثاث بيت أن يظهر «قوة معنوية هائلة»، أو ضعة سكان؟ أجيبك: وكيف لعين في صورة يبرق منها شعاع الحياة ، وثانية يخبو فيها الضياء! وقوفا من أن نسترسل إلى فلسفات، نجيل النظر ثانية في العلية، فنجد أنه ليس من جو تلك الغرفة حقيبتان استندتا إلى العمود، يعرف الناظر إليهما من جدتهما وجودة صنعهما أن صاحبهما ابن مدينة. في زاوية العلية جرتان، ودويك، وإبريق. يرتفع الستار، وقد آن له أن يرتفع، فإذا بأم وسيم تهيئ ثياب شاب؛ فتعد الكلسات وتكوي القمصان، وهي تتمتم، مهمومة، نزقة، ثم تمشي إلى الروزنامة، وتقف أمامها تعد الأيام، وتقلب الورقات.)
أم وسيم :
27 أيلول سنة 1930، 27 أيلول سنة 1930، (ويعثر نظرها على صورتها في المرآة فتقول):
ما بقي من العمر أكثر مما مضى، (وترجع تحوم في زوايا العلية، مقومة حاجة هنا، مرتبة متاعا هناك، إلى أن تنتهي إلى الجرتين، فترفع الأولى ثم الثانية، وتقلبهما، فإذا هما فارغتان، فيشتد حنقها، وتنادي):
زليخة. زليخة. زلخك الله أيتها اللعينة النهمة. أفتنامين النهار كله إلا ساعات الأكل؟ (لا مجيب)
زليخة، أفيقي يا عاهرة، (تدق بعصا على الأرض) ، انهضي من نومك يا خائنة، أدجاجة أنت، فتنامين قبل المغيب؟! (صوت خافت من يسار النظارة، وكلمات مخنوقة، يعرف منها أن مصدر الصوت شخص كسول، أرغم على الإفاقة من نوم هنيء). (تدخل زليخة متكلمة، متثائبة، فلا يفهم من كلماتها المخنوقة شيء، ثم تمخط في مريولها، وتتطلع إلى المرآة تصلح من شأنها، وأم وسيم خلال ذلك منفعلة، منرفزة، تصب شتائمها على تلك القطعة الهائلة الباردة من حيوان.)
أي نجم جهنمي كان يشع، عندما وسخت وجه الأرض بهذه السحنة الشمطاء، يا لئيمة، أنزل الله عليك التيفوس، والجدري، والعمى، والطرش، والشلل، والسرطان والاستسقاء. (تشدها بغدائرها)
أفيقي يا خاملة. أفيقي.
زليخة (تفتح عينيها) :
أمرك، يا أم وسيم.
أم وسيم :
وسم الله الدم على قلبك يا بقرة، غابت الشمس، وليس في الجرة نقطة ماء. أفنرتوي من رؤية وجهك يا فاجرة؟ وفي البيت ضيف من بيروت.
زليخة :
الله يقطع الضيوف، ويدمر بيروت.
أم وسيم :
ماذا يشرب الضيف إذا طلب ماء؟! آسف أن أضعفني العمر، فلا أقوى أن أطحن عظمك بيدي. (تمسك بها ثانية ، وتهزها) . (زليخة تبكي، وتتألم: آخ. آخ) ، متى جاء ابني مع ضيفه، متى رجع وسيم، سأقول له أن يدق عنقك يا خاملة. كيف تقضين النهار؟ أنوم، وغناء، وأكل؟ لماذا لم يخلقك الله - ولا اعتراض على حكمه - حيوانا تدبين على الأربع، بدلا من مشيك على اثنتين، إذن لحرثنا عليك بدلا من الثور. انهزمي إلى العين، (تناولها الجرة)
وارجعي بها مملوءة، غابت الشمس - يا ليتك تغيبين معها، ولا ترجعين.
زليخة :
آخ يا أم وسيم، بالله عليك يا معلمتي. دخلك. أرسليني إلى جهنم، ولا ترسليني إلى العين.
أم وسيم (تهزها ثانية) :
أنا أرسلك إلى العين، والله يرسلك إلى جهنم متى دنت ساعتك. هيا إلى العين.
زليخة :
دخلك يا معلمتي، لا أريد الذهاب إلى العين، إني كلما التقيت على العين بنساء عائلة الحمصي يهزأن بي، ويسألني صبيانهم: «يا زليخة، يا خادمة أم وسيم، إن معلمك وسيم أرشد وشب، متى يأخذ بثأر أبيه؟» فيضحك كل من سمع، والبارحة قالت لي ورد الحمصي ساخرة: إننا نوصد الأبواب في النهار، خوفا من بطش وسيم الحموي. كل من رآني يهزأ بي. كلهم يسألونني: متى يأخذ وسيم الحموي بثأر أبيه؟ لا ترسليني إلى العين يا أم وسيم.
أم وسيم (حديث زليخة يثير في نفسها الهواجس. فتثور دماؤها، وينعم صوتها، ويرتجف فزعا، فتضع يدها على كتف زليخة برفق وتقول) :
زليخة، بنيتي! كنت يتيمة منذ صغرك.
زليخة :
بل منذ طفولتي، أنت التي ربيتني وحميتني، أطال الله عمرك يا أم وسيم.
أم وسيم :
أنا أحنو عليك حنوي على ابنة لي (زليخة تذوب سذاجة) ، فافعلي ما أقول لك؛ لا تشاكسي بيت الحمصي، ولا تقاتليهم، لا تكترثي بهم، ولا تجيبي على هزئهم، لا تحركي عش الدبابير، (مهددة)
ولا تذكري كلمة لوسيم عما يقولون، ولا تخبري أحدا من أقاربنا به، أفهمت؟ إنه إذا وقعت الواقعة بسببك بيننا وبين عائلة الحمصي (ترجع إلى لهجتها الأولى)
سلخت جلدك حية، أفهمت؟ اذهبي إلى العين.
زليخة (خائفة، تخطف الجرة، وتتطلع إلى المرآة بنظرة غنج ودلال، فتبتسم وتنصرف)، (أم وسيم ترجع إلى ثياب ابنها ترتبها، فتسمع صوت زليخة من بعيد مغنية : «يا رايحين عا حلب».)
أم وسيم :
الله يلعن حليب أمك. (من باب ثان على يسار النظارة يدخل أبو مرعي، متأبطا ما يشبه الحزمة الطويلة، وهو يتسرق الخطى.)
أبو مرعي :
أختي، أم وسيم.
أم وسيم (تواجهه مبغوتة بعد أن كان ظهرها إليه) :
أخي أبو مرعي، ماذا جرى؟ متى رجعت من بيروت، كيف كانت سفرتك؟
أبو مرعي (بلهجة الفخور الراضي عن نفسه، الحامل خبرا سارا) :
يا أم وسيم، كم في هذه الضيعة - كم في وادي الأرز من رجل مثل أخيك أبو مرعي؟
أم وسيم :
ليس في وادي الأرز من أبي مرعي إلا أبو مرعي.
أبو مرعي :
لو تعرفين ما بجيبي؟ (يغلق الباب)
ولكن لأقفل الباب أولا؛ مخافة أن يرانا واش، نزلت بيروت، وانظري ماذا جلبت (يفك كمرا تزنر به، فينتزع منه ورقة)
ورقة، أمر صادر بتعيين أبو مرعي سليمان الحموي، ناطور موقت على وادي الأرز.
أم وسيم (فرحة) :
الحمد لله على هذه النعمة، إنك تستحق هذا الشرف العظيم يا أبو مرعي، هنأك الله بهذه الوظيفة، سيحرق هذا الخبر آذان الحساد.
أبو مرعي :
واحزري يا أم وسيم، كيف صدر الأمر؟
أم وسيم :
كيف؟
أبو مرعي :
أمر مطبوع على الطرنبنتر.
أم وسيم :
هاه؟!
أبو مرعي :
طبعته حورية (مقلدا الضاربة على الماكنة)
طق. طق. طق. طقطقطقطقطق، وأبو مرعي صار ناطور وادي الأرز، ليتك رأيت العروس التي طبعته، أظافرها حمراء، وشفتاها حمراء، وكعب حذائها أحمر طول الخيارة. طقطقطقطقطقطق، والآن ساعديني يا أختي على فتح هذه، وتطلعي إلى العروس (يتساعدان على فتح الرزمة الطويلة ساكتين، فعندما ينتهيان إذا بأم وسيم تصيح: «موزر خيالي»، وتقلب بين يديها بارودة حربية قصيرة.)
أم وسيم (تقلب البارودة، كخبير تعود فحص الأسلحة) :
كم دفعت ثمنها يا أبو مرعي؟
أبو مرعي :
أربع إنكليزيات، فاض معي من ثمن حمل الزيت ليرة سوري.
أم وسيم :
معها خرطوش؟
أبو مرعي :
200 ضرب.
أم وسيم :
سأخيط لك جنادا لها.
أبو مرعي (يقبل البارودة) :
متى وقعت الواقعة هذه المرة ، فلن نقاتل بني حمص عزلا، ستغني موازيرنا أغاني الموت في آذانهم، فكلنا مسلحون؛ أبناء عمي عندهم موازير (يمشي إلى النافذة مصوبا بارودته إلى حي عائلة الحمصي)
يا بني الحمصي! يا أذناب الخنازير، يا ضفادع المستنقعات، وقذارة المواخير، ستنطفئون أمام أسلحتنا، كأنكم مصابيح في زوبعة. إن رصاصنا سيجعل من صدوركم غرابيل، بل من ظهوركم، فما فيكم إلا كل جبان بليل السروال في المعركة.
أم وسيم :
تعال نخبئها.
أبو مرعي :
أخبئها في برميل الزيت.
أم وسيم :
تعال نخبئها في الدهليز هنا. (يتعاون الاثنان على رفع البساط، ويفتحان باب الدهليز، فينزل أبو مرعي، وتناوله أم وسيم البندقية، ثم ترجع إلى المخدع، فتنزع منه بعض الخرق وتقول لأبي مرعي) : لفها بهذه الخرق، حتى لا تصدأ. (يصعد أبو مرعي مادا يده كأن عليها قذارا) .
أبو مرعي (حانقا) :
من وسخ الدهليز؟ (يتناول ورقة من مكتبة وسيم، فيمسح بها يده) .
أم وسيم :
تلك اللعينة زليخة، تركت باب الدهليز مفتوحا أمس، فسرح إليه الدجاج، آ، هذا أثر الدجاج.
أبو مرعي :
لعن الله زليخة والدجاج، (يضع يده على شاربيه)
أخ تفه (يمسح يده ثانية) .
أم وسيم :
لماذا الله بلاني بتلك البغلة زليخة؟! (تأتي له بالصابونة)
غسل وجهك بالصابون، (ترى قنينة كولونيا) ، بل تعطر بهذا (تصب منها على يديه فيغسل شاربيه) .
أبو مرعي :
آ، رائحة طيبة، هذه رائحة المجموزال، التي طبعت الأمر بتعييني ناطور. لمن هذه القنينة، لوسيم؟
أم وسيم :
لا، لصديقه راجي البيروتي.
أبو مرعي :
راجي البيروتي، صديق وسيم!
أم وسيم :
راجي دائما يتعطر بمي القنينة - كولونيا.
أبو مرعي :
ما قتل الشبان إلا الكولونيا، مجموزال وكولونيا فهمنا، لكن شباب وكولونيا؟! ولماذا وسيم لا يتخذ صديقا من أبناء طائفتنا؟ أليس في طائفتنا من يليق بالصداقة؟!
أم وسيم :
حذرت وسيم مرارا من ائتمان أبناء الجماعة، «من جده عادى جدك، يستحيل أن يودك» (يسمع قرع باب، وصوت وقور رزين ينادي) : «يا أم وسيم، يا أم وسيم.»
أهلا وسهلا. من هذا؟
الصوت :
أنا الدكتور نجيب.
أم وسيم (بصوت يفور منه الإخلاص) :
يا ألف أهلا وسهلا بالحكيم. (تذهب لتفتح له الباب، فيغتنم أبو مرعي الفرصة، ويفرغ بعض قنينة الكولونيا في محرمة هائلة، ينتزعها من جيبه)، (أم وسيم تفتح الباب للدكتور نجيب قائلة) : إن ظلك ينير دائما يا دكتور نجيب.
أبو مرعي :
أهلا وسهلا بالدكتور نجيب.
الدكتور نجيب :
مساء الخير يا أم وسيم.
Oh!
مرحبا أبو مرعي. أين فتانا وسيم؟
أم وسيم :
إن له صديقا من بيروت، رفيقا له في المدرسة، جاء به منذ شهر، وهما الآن في الصيد. اسمح لي أن أشعل القنديل، فقد أظلمت الدنيا (تشعل القنديل) ، ولكن عودتهما قريبة، فالشمس غابت منذ نصف ساعة.
الدكتور :
حظي قليل، حاولت أن أجتمع بوسيم في بيروت، فما اتفق لي ذلك، وها أنا لا ألقاه هنا (متذكرا) ، كان طفلا حين هاجرت إلى أميركا.
أم وسيم :
في الثالثة من عمره، وكنت يا حكيم قد أخذت شهادة الطب من جديد، وقد داويت عينيه ...
الدكتور :
أذكر ذلك جيدا. ما أسرع العمر في ركضه؛ 1910 إلى 1930 - عشرون سنة مضت! ...
أم وسيم :
ما أفجع أن تكون قد قضيت هذه السنين في الغربة، عسى أن تطول إقامتك بيننا.
الدكتور :
أنا راجع بعد أسبوع.
أم وسيم :
يا أسفي، ينجبك هذا الوادي، وينتفع بعلمك الأغراب.
أبو مرعي :
يا دكتور، نحن نفتخر بالاسم الذي كونته في المهجر، ما اسم البلاد التي أنت فيها؟
الدكتور :
غرانبلا.
أبو مرعي :
غرانبلا (يصفر)
من اسمها تعرف أنها بعيدة (يضحكون) .
أم وسيم :
غرانبلا؟ كثيرون من الجماعة هناك؟
الدكتور :
الجماعة؟ من هم الجماعة؟
أبو مرعي :
ليس من جماعة إلا هم.
الدكتور :
من هم؟
أبو مرعي :
بيت الحمصي - أذناب الخنازير، وضفادع المستنقعات، وقذارة المواخير.
الدكتور (مشمئزا) :
ليس من حقك أن تتكلم هكذا، فإني أعرف الكثيرين من آل الحمصي، وهم قوم أشراف.
أم وسيم وأبو مرعي :
أنت غلطان يا دكتور. إذا كان هؤلاء أشراف فأنت لا تعرفهم يا دكتور.
أم وسيم :
إذا كان هؤلاء أشراف، فسم الحية ترياق، ونعيب البوم تغريد!
أبو مرعي :
حمصي وشرف، زيت وماء لا يختلطان.
الدكتور :
لقد درت حوالي العالم أربع مرات و...
أبو مرعي وأم وسيم :
ولو درت حوالي العالم 4000 مرة، لن تجد أرزل من بيت الحمصي.
أبو مرعي (وحده) :
هؤلاء الأفاعي يبتلعون حتى أولادهم، يريدون رئيس البلدية منهم، والنائب من حزبهم، والطريق تمر قرب بيوتهم، وماء العين يسقي أراضيهم، ولا تنس أنهم قتلوا أبا وسيم، بيننا وبينهم دم يا دكتور، فلا تسمهم أشرافا.
أم وسيم :
الحية أشرف من الثعلب، والثعلب أشرف من النمس، والنمس أشرف من الحرامي، والحرامي أشرف من العقرب، والعقرب أشرف من الخنزير.
أم وسيم وأبو مرعي :
والخنزير أشرف من بيت الحمصي. (الدكتور خلال ذلك يتمشى منرفزا، ويحاول أن يتكلم، فيطغى عليه طوفان الحديث من أم وسيم وأبو مرعي.)
أبو مرعي :
أرادوا أن يكون وادي الأرز منهم، ولكن انظر إلى ما فعل أبو مرعي (يسحب الأمر من عبه) ، أمر مطبوع، نافذ، مبرم، مطاع، مطبوع على الطربنتر، بتعيين أبو مرعي سليمان الحموي ناطور موقت على وادي الأرز. ليعض الحسد قلوبهم، فلأحكمن وادي الأرز (هازا عصا النوطرة)
بهذا الصولجان (الدكتور يضحك على الرغم منه)
أتدري اليوم ماذا يفعلون؟ إنهم يتسلحون، يتسلحون ليهدروا دماءنا، فليس في بيت من بيوتهم إلا وفيه موازير، كلهم مسلحون، أما نحن بيت الحموي، فليس عندنا بارودة موزر، ولا جفت صيد، ولا دبوس بشنكل، (بالرغم منه يلقي نظرة سريعة على الدهليز، فيجفل ولكنه يكمل)
ولا إبرة ولا كرباج.
أم وسيم (بلهجة الفاهم الأمور) :
يا دكتور، أنت خبير بالطب والعلم الشريف، ولكنك تجهل القوم اللئام، أعطني دواء أطهر به فمي إذا تلفظ باسم «الحمصي».
أبو مرعي :
ما أجمل أن أطحن رءوسهم بمجرفة، وأقطع عظامهم بمنشار صدئ!
الدكتور :
آه! ما أجمل ذلك «وألطفه» يا أم وسيم! سألتني متى تترك الضيعة؟ فقلت لك بعد أسبوع. إن هذا الذي يتعجل رحيلي، ويبغضني بهذا الوطن الذي أكاد أعبده، أنا لهذا الوادي؛ لهذا الوطن، ولهذه الضيعة، وليس عندي فرق بين بيت الحموي وبيت الحمصي وبين طائفة وطائفة. ليدمي قلبي كلامكم في بيت الحمصي، ويمزق كبدي حديث بيت الحمصي فيكم. فعلام تقتتلون يا بني وادي الأرز، وعلى أي شيء تتنازعون؟ فإذا نزل بكم وباء أسألكم إلى أي عائلة أو طائفة تنتمون؟ فإذا انقطع خرير الماء، أفلستم كلكم تعطشون؟ أفلستم بنظر الغريب قوما واحدا، فلماذا تكونون في نظر أنفسكم شيعا، وأديانا، وأحزابا تتطاحنون. يا قطعا من حجارة هذا الوطن تناثرتم، فأنتم كوم يبول عليها كل عابر سبيل، بدلا من أن تكونوا صفوفا متراصة، هي حصن يتكنف دونه الغازي، ويعصم كل من فيه. تتقاتلون على ناطور (أبو مرعي ينتفض)
على بلدية، على قنديل، على طريق، وتتذابحون على حجل، أو دجاجة. في كل يوم نزاع وقتال ودسائس، أهكذا تطلبون الحياة أيها المنتحرون؟
أبو مرعي :
هكذا خلقنا الله.
أم وسيم :
هذه إرادة الله فينا.
الدكتور :
تلهجون بذكر الله، وتسلكون سبل الشيطان، تقيمون من الأحقاد أصناما تعبدون، وتدفعون ثمن عدائكم عملة مصكوكة بدمائكم. أصلكم واحد، ارجعوا إلى أصلكم.
أبو مرعي :
إلى أصلنا؟ ناد أشعة الشمس تتلملم قافلة إلى مشرقها، واصرخ بشعاب النهر أن تركض القهقري إلى نبعها، واهتف بالرجال أن عودوا إلى أرحام أمهاتكم، إذ ذاك نرجع إلى أصلنا. أما الآن، فالله خلق الدنيا متضادة؛ طويل وقصير، طلعة ونزلة، وأبيض وأسود، رجل وامرأة، سمين وهزيل، حموي وحمصي، بخاطرك يا دكتور (يخرج) . (سكوت هنيهة، يهز الدكتور خلالها رأسه، وكذلك أم وسيم.)
الدكتور (يغير الحديث) :
سرني أن أقرأ في جرائد بيروت عن وسيم. أظنه شاعر.
أم وسيم :
هو يكتب كثيرا ويخطب، وقد ألف رواية مثلوها، (تنهض إلى صندوق قديم «بشتخته» فتأخذ منه شهادة)
هذه شهادته نالها منذ شهرين، وهذه أقوال الجرائد فيه.
الدكتور (يقلب الجرائد بسرعة الذي يريد أن يتأدب، فيشارك الأم الإعجاب بوحيدها) :
كوكب لماع، خطيب مفوه، برافو، شيء جميل هذه التقاريظ، ومديح أكثر من دمى أطفال الأغنياء، (الدكتور يستوي في مجلسه)
يا أم وسيم، أصغي إلي، أهنئك بابنك، ولكنني وقد حشدت الأيام اختباراتها ب 55 سنة من عمري، أخاف أن يقتل المديح مستقبل ابنك؛ التقريظ كالعملة المزيفة تفقر حاملها، فلا تتركي وسيم يملأ جيبه منها، من أجل هذا جئت أزوركم، فإني أريد أن أتعرف إلى وسيم، فإني لم أره مذ كان طفلا، وأريد أن أضع يدي على كتفه وأقول: «بني»، حذار النجاح الباكر، فإن أشجار الزيتون في هذا الوادي يكثر زهرها ويقل ثمرها. على أني راجع إلى هنا بعد حين - بل قولي لوسيم أن يزورني (يهم بالخروج) .
أم وسيم :
سيتشرف وسيم بزيارتك يا دكتور، والامتثال إلى نصائحك الغالية، وحبذا لو فحصت عينيه ثانية، فهو ما زال يشكو منهما.
الدكتور :
سأفحص عينيه (وفيما هو يهم بالخروج يباغته صراخ زليخة، ودخولها كأنها دبابة تبصق النار) .
زليخة :
دخلكم، دخلكم، يا ذلي، يا ذلي!
أم وسيم :
ماذا جرى؟
زليخة :
آخ. آخ. (تستمر على صراخها، واضعة يدها على قلبها حينا، ثم على رأسها) .
الدكتور :
ما بك، أين الألم، قلبك؟
زليخة :
يا ليت.
الدكتور :
معدتك؟
زليخة :
يا ليت. آخ.
الدكتور :
دماغك؟
أم وسيم :
ليس لها دماغ يا دكتور.
زليخة :
آخ يا دكتور.
أم وسيم :
قولي ماذا جرى؟ قبل أن أجري العصا على جسدك.
زليخة (تسكت بغتة) :
بيت الحمصي كسرولي الجرة (ترجع إلى الصراخ)
آخ. دخلكم. يا ذلي.
أم وسيم :
اخرسي، اخرسي، ولا كلمة. حذار أن تخبري أحدا من رجالنا بهذه الحادثة، انصرفي إلى المطبخ (للدكتور)
أنظرت يا دكتور فعل «الجماعة» بنا؟ (الدكتور يجلس ثانية مفكرا) .
الدكتور :
لعلها فعلة أولاد صغار.
أم وسيم :
يا حكيم، هذا فعل بيت الحمصي. قتلوا زوجي، وفي كل يوم يتحرشون بنا. (تفرك يديها متحسرة)
ما اسم تلك الآلة التي جلبتها معك من أميركا، والتي تتنبأ عن الطقس؟
الدكتور :
اسمها البارومتر.
أم وسيم :
أنا تلك الآلة، وما أخطأت نبوءتي خلال خمسين عاما في هذا الوادي. أقول لك يا دكتور، إني أشم رائحة البارود، وأسمع لعلعة الرصاص، العاصفة قريبة، إن هذه الضيعة بالبارود حبلى، وكلنا يلعب بالكبريت. نحن جالسون على فوهة بركان، ولا ندري متى ينفجر. إن النفوس حاقدة، والصدور تغلي، ويا خرابك يا وادي الأرز، إذا اصطدم نظر بنظر (زليخة تدخل في يدها فك الجرة المكسورة) ، أنا مهمومة على وسيم الغالي .
الدكتور :
كل غال يجلب الهم.
زليخة :
هذا فك الجرة التي كسروها (ترجع للبكاء) .
أم وسيم :
قلت لك: اختفي (تفعل)، (للدكتور)
لو أن أحدا من رجالنا رأى هذه الجرة المكسورة، لتكسر قبل مطلع الفجر ألف ضلع وجمجمة، وقاك الله يا وسيم شر الأعداء. ماذا أفعل بوحيدي! خذه معك إلى كرانبلا يا دكتور، ولكن لا؛ إذ إن من «الجماعة» أناسا هناك. قل لي ماذا أفعل بوسيم؟ إن بيت الحمصي يكادون ينهشونه بعيونهم، ما أوجع أن أسلخه عني، ولكني سأرمي به إلى الغربة مخافة أن يفتكوا به، كما فتكوا بأبيه؛ ما ربيت وسيم؛ ليكون مرمى رصاص بيت الحمصي. (يدخل نبهان آغا - مختار الضيعة، ووراءه ولده أسعد آغا، فينحنحان بانتظار أن يلقى عليهما السلام.)
أم وسيم :
مساء الخير يا سيدي نبهان آغا، وأنت أيضا يا سيدي أسعد آغا.
نبهان آغا :
بلغني أن بني الحمصي كسروا جراركم، وأغلظوا الشتائم لخادمتكم. غريب أمر هؤلاء البشر، يتحرشون بالشر. أما كفاهم قتل أبي وسيم! لماذا هم يتنمرون عليكم الآن؟! صحيح وسيم ابن مدرسة، لكنه شاب شجاع، قد يحرجه التحرش إلى قتل أحدهم.
أسعد آغا :
وسيم قبضاي.
نبهان آغا :
ليس في بيت الحمصي من هو أشجع منه.
الدكتور :
مساء الخير يا أم وسيم، أذكرك بإرسال وسيم إلي، ولا تأبهي بحادثة الجرة، فأنا سأزور الآن بيت إبراهيم الحمصي؛ لأنه مريض، وأذكر له الحادثة، ولا ريب أنهم سينزلون العقاب بمن كسر الجرة، وينتهي الأمر.
أم وسيم :
يا حكيم، تعرف على سيدنا نبهان آغا، من آغاواتنا، ومختار هذه القرية، وهذا ابنه أسعد آغا، من المتأدبين، الذين يكتبون في الجرائد. (للآغا)
الدكتور نجيب له صيت واسع في جرانبلا، لا شك أن جنابك سمعت به.
نبهان آغا (غير مكترث للدكتور، وهذا يحدجه بنظرة استخفاف حنقة) :
جرانبلا! هناك تسكن صديقتك هدى الحمصي. (إلى الدكتور ) في معركة السنديانة سنة 1908 كسرت أم وسيم فخذ هدى الحمصي. آ، أم وسيم في صباها كانت بطاشة، لا تزال هدى تعرج حتى الآن، وقد حلفت أم وسيم أن تخنق هدى بغدائرها . آتني بهدى الحمصي، وأنا أكفل لك خنقها، لعلك تعرف هدى في غرانبلا يا نجيب.
الدكتور :
إن المهذبين من الناس ينادونني «دكتور نجيب».
نبهان آغا (ضاحكا) :
دكتور، هاه! لقد نبت للسلحفاة جانحان. عمن ورثت هذا اللقب يا نجيب؟!
الدكتور :
لم أرثه، كسبته.
نبهان آغا :
اكتسب اللقب. هاه! (للدكتور)
نجيب، لك أن تهاجر، ولك أن تتحدث الناس عن عظيم مقامك هناك، وكبير علمك، ولكنك إذ تطأ أرض هذا الوادي، هنا، فاعلم أن أبناء أسياد أبيك لا يزالون أسيادك، وكل ما في مقدورك أن تفعله هو أن تتفيأ ظلالهم.
الدكتور :
تريد للنسر أن يأوي إلى قن الدجاج! خسئت أيها الميت، الغير مدفون. إن كلماتك تقزمك في عيني. إن شمسكم غربت يا آغا. رويدك قليلا، إذ يتحرك هذا الشعب فيخنقكم بغبار أقدامه. نادني بالاسم الذي تريد، فالنور الذي أشعلته في بلاد المهجر سينير طريق الناس، بعد أن يدفن الناس آغاواتهم بزمن طويل، ولكن لماذا أحرجتني إلى التباهي؟ خف الله يكفيك، جئت إلى هذه المرأة تثير بغضاءها، وتذكرها بقتالها مع هدى الحمصي، وترش الملح على الجرح في قضية كسر الجرة. اذكر الله، ولا تزرع قنابل التفرقة بين جيرانك.
الآغا :
يظهر أنك أعور العقل.
الدكتور :
بلى أنا أعماه إذ أكترث بمومياء مثلك.
أسعد آغا (يريد أن يحسم الخلاف) :
طول بالك يا أبتي، وأنت يا دكتور، لماذا الغضب؟! قل لي ما هو رأيك في قضية القديم والحديث في الأدب؟
الدكتور :
ما هو رأيك في قضية زيت الخروع والملح الإنجليزي في الطب؟ (ينصرف، فتلحق به أم وسيم مودعة قائلة):
أم وسيم :
يا حكيم، هذه الحادثة مع سيدنا الآغا تؤسفني و... (تختفي مع الدكتور) .
نبهان آغا :
دكتور!
أسعد آغا :
سأهجوه بقصيدة، لا تخف. «دكتور أنت من ال ...» لا بأس بساعة ثانية.
نبهان آغا :
لا أخاف هذا المتدكتر؛ فسيرحل، ولكني أخاف وسيم ابن هذه المرأة؛ لأنه سيقيم هنا، وهو طموح. خف الطموح يا أسعد؛ إذ لا نهاية لأمانيه، ولا حد لمحتمل أعماله. هذا الغلام إذا ظفر بوظيفة في بيروت، فقد ينتزع منا وظيفة المختار. لنهلكه قبل أن يصطادنا.
أسعد آغا :
ما العمل إذن؟
نبهان آغا :
اذهب إلى طعان الحمصي ابن هدى، إنه فتى جبار، ديناميتي الطباع، كبريتي المزاج، قل له: إن وسيم يتوعد بقتله، ثأرا لكسر جرة صانعتهم، (أسعد ينصرف) . (ترجع أم وسيم قائلة):
أم وسيم :
آسف يا سيدنا، أن يكون الدكتور تطرف بالكلام.
الآغا :
هؤلاء المهاجرون الراجعون يتكلمون بما لا يفهمون. لعن الله ساعة فتحت أبواب أميركا، فوضعت الفلفل في أنوف العامة. (صوت أغنية عصرية عربية أو أفرنجية يغنيها اثنان)، (يدخل وسيم وراجي بلباس الصيد، وكل معه جفت، في يد راجي حمامة مقتولة. يركض وسيم إلى أمه.)
وسيم :
أمي، أمي. (يقبل يديها، فتقبله ضامة إياه) .
أم وسيم :
يا تقبر أمك، لماذا تأخرتم؟! ادخل إلى الغرفة الثانية، فأبدل ثيابك.
راجي :
خالتي أم وسيم، مساء الخير، انظري إلى أمهر صياد في الدنيا، قضينا النهار كله ولم نظفر بطريدة إلا هذه (مشيرا إلى الحمامة) ، طلق واحد من أمير الصيادين راجي البيروتي أوقع هذه الحمامة البرية وهي طائرة، (متهكما)
اسألي وسيم كم طير اصطاد؟! إن آلهة القنص أمنت الطير على أرواحها إذ يخرج وسيم للصيد. أهون علي أن أنظم قصيدة من أن يصيب طريدة. زليخة! عساك أكثرت الخبز، ففي مقدوري أن آكل محصول فرن، ويا خالتي أم وسيم، إذا كان العشا حاضر فأنا حاضر.
وسيم :
اتركيه يا أمي يجوع، لعله يريحنا من ثرثرته.
راجي :
ولا؟! وسيم، ولا ...؟! (يتماسكان، هازلين، مظهرين العراك.)
أم وسيم :
يسرني احمرار وجهك ورجوع العافية إليك، فقد جئتنا أصفر الوجه هزيلا، فما أجمل لون الصحة على محياك!
وسيم (إلى الآغا) :
مساء الخير نبهان آغا، هذا صديقي راجي البيروتي، هو كثير الدعابة، فلا تكترث لمهازله، واذكر أنه بيروتي، وأهل بيروت (مشيرا إلى رأسه) .
راجي :
وأهل الجبل (يمشي متبخترا، مقلدا المتكبرين) .
الآغا :
عساك تستطيب الإقامة في ضيعتنا، ما رأيك في هذه القرية، وادي الأرز، أليس السكن فيها جميلا؟
راجي :
يعني إذا سكنها سواي، ولماذا سميتوها «وادي الأرز»؟ فهي جبل، وليست واديا، وليس فيها أرز، بل فيها شجر البلوط. قل للبلدية أن تسميها «جبل البلوط»، بدلا من وادي الأرز.
الآغا :
وقل لبلدية بيروت أن تسمي بيروت «قوس القزح»، ففيها كل ألوان البشر.
راجي :
سنسميها الطاحونة؛ لأن كل الدروب تؤدي إليها. يا آغا، أريد أن أستفسر منك عن أمر.
الآغا :
تفضل.
راجي :
لماذا أنت آغا يا آغا؟
الآغا :
لأن أبي كان آغا.
راجي :
ولماذا أبوك كان آغا؟
الآغا :
لأن أباه كان آغا.
راجي :
حقا! إنك ذكي، تعرف كيف تنتقي أسلافك.
الآغا :
وأنت، هل عرفت كيف تنتقي أسلافك؟
راجي :
أبي ريس.
الآغا :
ريس؟ ريس ماذا؟!
راجي :
ريس بحارة بيروت.
الآغا :
أهو حي؟
راجي :
لا، انتحر.
الآغا :
لماذا انتحر؟
راجي :
في المدينة فتش عن المرأة، وفي الضيعة فتش عن الآغا.
أم وسيم :
يا نبهان آغا، شرفنا للعشاء.
وسيم (غامزا راجي) :
حقا! ابق تعش معنا يا نبهان آغا.
الآغا (ممسكا الحمامة) :
أرى أنك صياد ماهر، فإن لم تكن قد أحسنت اختيار أسلافك، فأنت أحسنت اختيار الطريدة (وسيم يقلب كتبه، مدمدما كأنه في غيبوبة)، (أم وسيم تهيئ الطعام مع زليخة) .
راجي :
صياد ماهر! ألم تسمع بما فعلته كفي في غوطة الشام؟ كنا في العام الفائت نصطاد في الغوطة، ولم يبق معي من الذخيرة إلا رصاصة واحدة، وإذ أطل علي نمر وأسد. نمر وأسد. أسد ونمر. الأسد عن يساري، والنمر عن يميني، وفي بارودتي رصاصة واحدة. أتدري ماذا فعلت؟
وسيم :
أنا أدري، ولكني أستحي أن أقول.
راجي :
انتضيت سكيني، (ممثلا)
وغرزتها في الأرض هكذا، ثم ابتعدت (يبتعد) ، وأطلقت رصاصتي على حد السكين
1
فانشطرت الرصاصة شطرين، الواحدة قتلت النمر، والثانية قتلت الأسد. حادثة هائلة. (زليخة تنذهل، وتصيح «يا ربي!» فيقع الصحن من يدها.)
وسيم :
هائلة وثخينة، ثخينة!
زليخة :
سبحان الخالق.
الآغا (وهو يفحص الحمامة) :
غريب أمر هذه الحمامة البرية! إنها تلبس الخلخال.
راجي :
خلخال، هاه! أنا لا أصطاد رعاع الطير، بل آغواته.
زليخة :
هذه حمامة بيت الحمصي. هذه حمامة طعان.
وسيم (مهموما) :
هذا جائز. فأذكر أنك اصطدتها في خراج القرية . (الآغا يشرق وجهه، كمن فاجأه فكر عظيم.)
الآغا :
على كل حال بخاطركم (يخرج بسرعة) .
زليخة :
سيدي وسيم، بيت الحمصي كسرولي ...
أم وسيم :
اخرسي ... (لوسيم)
الدكتور نجيب زارنا.
وسيم (متألما) :
صحيح؟ ما أقل حظي! لم أجتمع به حتى الآن.
راجي :
من هو هذا الدكتور نجيب؟
وسيم :
غريب! ما أوسع مجهولاتك، بعد قليل ستسألني من هو أبو العلاء المعري؟!
راجي (ببرودة) :
على فوقه، من هو أبو العلاء المعري؟
وسيم (بحنق) :
صاحب كاراج على «فرن الشباك».
أم وسيم :
لقد سألت الدكتور نجيب أن يفحص عينيك.
راجي :
لماذا لم تسأليه أن يفحص دماغه. إن ابنك يا خالتي أم وسيم لولد عجيب. بالكرم حاتم طي تقمص في جسد وسيم الحموي. أكرم من السيف! أكرم من طالب وظيفة!
أم وسيم :
ألاحظ أنه مبذر، ولكن الأيام ستفطمه عن هذه العادة.
راجي :
سيقضي عمره يوحل في كتاب الأغاني (يأخذ كتاب الأغاني من مكتبة وسيم، ويقرأ متهكما) «دخل العمروط بن هرموط على الأمير مرقوع بن مفقوع ...» اسأليه ما هو طموحه؟ طموحه أن يسمع التصفيق، ومستقبله مثل التصفيق (يصفق) بوه؛ يتلاشى.
أم وسيم :
وأنت يا ابني، ما هو مستقبلك، وفي يدك شهادة مثل شهادة وسيم؟
راجي :
يا خالتي، في بيروت أوتوموبيلات اسمها «تكسي»، يركبها من يشاء إلى حيث يشاء. هكذا نحن الشباب المثقف (مناديا)
إلى العراق، فلسطين، مالطة، السودان، مصر، السند، الهند. الفرق أن «التكسي» لها تعريفة، أما نحن الشباب المثقف فليس لنا تعريفة. اركب وادفع ما تشاء.
أم وسيم :
سأتركك ووسيم في دعابتكم، أنا ذاهبة أسهر عند ابنة خالتي. زليخة تقوم بأموركم.
وسيم :
ألم تنسي شيئا يا أمي؟ (أم وسيم متذكرة، فتتطلع إلى وسيم، ثم يضحكان.)
أم وسيم ووسيم :
القهوة!
وسيم :
سأهدي روايتي الجديدة «إلى القهوة التي صنعتها أمي.»
أم وسيم :
القهوة حاضرة (تعطيه الغلاية) .
وسيم :
قهوة! ومغيب، ووادي الأرز. أين القبعة، والعصا، والسيكار؟ (لراجي)
هذا لباس الوحي (يلبس القبعة، ويحمل العصا، ويولع السيكار)،
لا أقدر أن أخط سطرا بدون أن ألبسه.
راجي :
إذن لا تلبسه.
أم وسيم :
بخاطركم .
راجي :
سؤال قبل أن تنصرفي يا خالتي أم وسيم، هل تجيبينني عليه؟
أم وسيم :
إذا قدرت!
راجي :
ما رأيك بطائفتنا؟
أم وسيم (ضاحكة) :
ما أكثر سؤالاتك. بخاطركم.
راجي :
ألا تلومين وسيم على انتقائه ضيفا من غير دينه؟ الصحيح يا أم وسيم. ما رأيك بي؟ الصحيح.
أم وسيم :
الصحيح يا ابني - يا غبنك تكون من «الجماعة!»
وسيم :
يا غبن «الجماعة»، يكون فيهم واحد مثل راجي.
أم وسيم :
بخاطركم.
وسيم :
أمي ادعي لي بالإلهام.
أم وسيم (متضرعة إلى الله) :
رب، يا من أغدقت المواهب على بني وادي الأرز، اغمر بإلهامك قلب وسيم. (تقبله ثانية، وتنصرف)، (وسيم يهم بالدخول إلى الغرفة الثانية) .
راجي (حانقا) :
وسيم! إلام تسمرني في هذه القرية؟ تعال ننزل إلى بيروت الآن - هذه الليلة.
وسيم :
ما أكثر لجاجك! قلت لك: غدا ننزل إلى بيروت، ألا ترى حوائجنا جاهزة؟ صبرت ثلاثين ليلة، أضاقت أنفاسك بهذه الليلة؟ اصبر للغد، فأريك مطلع الفجر في الوادي، فترى الصبح يتنفس. آه! لو تأتي إلينا في الربيع، إذ تنور الأزاهير و...
راجي :
آخ؛ الفجر، الربيع، الأزاهير، أهذه الغلاطات موجودة في كتاب الأغاني؟ الفجر في بيروت؟ متى سمعت (مناديا) كعك سخن، قل: طلع الفجر، ومتى رخص سعر الفجل، قل: أطل الربيع. لا كانت ساعة اطللت بها على هذه الضيعة. أنا على إبر ودبابيس. أريد أن أذهب.
وسيم :
ألا يسرك الراعي بشبابته، يرعى قطيعه؟
راجي :
بل يسحرني! البارحة رأيت راعيا مع قطيعه، فهربت.
وسيم :
لماذا هربت؟
راجي :
الرائحة لا تطاق. غرام التيوس يفسد الجو.
وسيم :
والطيور؟
راجي :
الطيور؟ لم أر من الطيور إلا البرغش والذبان.
وسيم :
لا تكفر بنعمة الطبيعة. أنشق العبير.
راجي :
أنشق البعير.
وسيم :
أنا أهوى هذا الوادي، أنا ألصق بهذه الأرض من صخرها.
راجي :
الله يقلعك، أنا لاصق بهذه الضيعة كأني ذبابة في صحن دبس، وسيم! تعال ننزل إلى بيروت هذه الليلة، فأنيمك في تخت فيه العبير والزهور والربيع، وكل أدوات الوحي ... ها أنا أستعجل الدهر (يمشي إلى الروزنامة، فينزع منها ورقة)، ها نحن في 30 أيلول سنة 1930. ها هو فجر الغد، فلنمش. قل لماذا تسوفني؟ كل يوم تقول غدا.
وسيم :
راجي لا تهزأ بي، أريد أن أنهي روايتي.
راجي :
وأين صرت فيها؟
وسيم :
في الفصل الأخير أتذكره؟ صديقان تغربا. مات أحدهما، فأوصى رفيقه أن يأتي إلى القرية بزجاجة فيها رماد جسمه.
راجي :
أوف!
وسيم :
فيأتي الصديق بالرماد، ويقف على عتبة الباب.
راجي :
أوووف.
وسيم :
فيسمع الأب والأم يصليان، ضارعين إلى الله أن يرجع ابنهما إليهما، وابنهما ميت، بوفاته لا يعلمان.
راجي :
أوووووف!
وسيم :
وإذ يذر الرماد على عتبة البيت، تهب نسمة تعبث بالرماد، فتقول الأم لزوجها: أني أشعر برعشة في نسيم هذا المساء ...
راجي :
أووف ... أوف ... (يسحب محرمته، ويتهكم باكيا) .
وسيم :
راجي، إني أحس بهذه الرعشة الآن في نفسي، وأريد أن أضعها على الورق، غدا نذهب إلى بيروت، ولك أنت أن تنام في التخت الذي تستطيبه.
راجي (متظاهرا كأنه ملهم) :
وأنا ألفت رواية.
وسيم :
هاه!
راجي :
أما القنينة ففيها رماد سخن، أذره في عيون كل من قال الشعر وألف الروايات.
وسيم (مدغدغا خد راجي) :
سأدخل إلى الغرفة الثانية أكتب، فابق أنت هنا هنيهة، بعد عشر دقائق نتعشى.
راجي :
تريد أن تربطني هنا جائعا، أعلك لجامي حتى تعود؟
وسيم :
أعلك رسنك حتى أعود، وإذا شئت أن تتسلى فاقرأ هذا الكتاب (يرمي له بكتاب الأغاني) .
راجي :
يا ربي! كتاب الأغاني! (يأخذ علبة كبريت من جيبه، ويهم بحرق الكتاب، فيوقفه وسيم) .
وسيم :
لا تكن حقودا كالجبليين، انتظرني حتى أنهي الفصل (ينصرف) .
راجي (بعد هنيهة) :
زليخة، زليخة.
زليخة :
نعم.
راجي :
قولي لي، أكل أهل وادي الأرز ينظمون الشعر؟
زليخة :
الذي لا ينظلم الشعر ينظم قرادي.
راجي (مباسطا) :
وأنت ألا تنظمين الشعر؟
زليخة (تضحك متدللة) :
وأنت يا راجي أفندي، ألا تنظم الشعر؟
راجي :
أنا؟ ألم تسمعي بي؟ أنا إمبراطور الشعراء.
زليخة (بازدراء) :
إمبراطور الشعراء؟ فقط لا غير؟ في وادي الأرز ألف إمبراطور شعر. قل لي قصيدة من قصائدك.
راجي :
على فوقه، ماذا طبخت الليلة؟
زليخة (تضحك) :
قل لي قصيدة من قصائدك .
راجي :
أتريدين شعر أم قرادي؟
زليخة :
من الاثنين. (في هذه الأثناء يأخذ من حقيبته زجاجة ويسكي، فيصب في كأس، ويشرب.)
راجي :
نبدأ بالشعر، ثم القرادي! ...
قفا نبك من ذكر الزهور العوائب
ونهدي ألالي في مطلع الشعر غائب
أنا إن قلت يا زليخة شعرا
ضحك الشعر في السنين الخوالي
فانهكي حرمة الغرام
واهد مني لك السلام
جدنا جد العظام
في البريق
والنهيق
نزعه مثل اللبيط
بل هي زهر وماء
مثل زهر القرنبيط
إيه خصر الحبيب، يجتاحك صبح الغداة دولاب طنبر
زليخة (تصفق) :
وقرادي؟ (في الأثناء، راجي يشرب) .
راجي :
قرادي؟ هذه قصيدة عنوانها «طبلية الحب أو طراحة الغرام.»
نحنا ولاد الفن
دجاجاتنا بالقن
الدنيا قايمة دربكي
والدبس دبس بعلبكي
والزهر والوزال
والزعتر والعرزال
يا قاف
يا راء
يا دال
تفسيرها يا قرد (زليخة تصفق ثانية.)
وأنت يا زليخة، ألا تنظمين الشعر؟ (زليخة تتدلل) قوليلي، تعالي ... آو ...
زليخة :
احكي لك الصحيح يا راجي أفندي؟
راجي :
الصحيح يا زليخة أفندي، يا زليخة.
زليخة :
كلما رأيت سيدي وسيم ... (تسكت) .
راجي (مشجعا) :
آ. (تضحك زليخة ... إلخ)
ترين وسيم معتزلا يكتب، (زليخة تقاطعه، مؤمنة ضاحكة)
البرنيطة على رأسه، وفنجان القهوة في يمينه.
زليخة :
آ. آ.
راجي :
والعصا بيده يضرب بها الجو (يتقلده) .
زليخة :
آ. آ.
راجي :
وقد انفرج قميصه عن صدر نبت فيه الشعر.
زليخة :
آ. آ.
راجي :
تتمنين.
زليخة :
آ. آ.
راجي :
تتمنين لو ... لو ...
زليخة :
آ. آ.
راجي :
لو أنه كان زوجك.
زليخة (حانقة) :
احشم حالك يا راجي أفندي.
راجي :
لا تحنقي علي يا زليخة. تتمنين لو ... لو ... كنت أديبة مثله.
زليخة (مبتهجة) :
صدقت يا راجي أفندي، صحيح أن البيارته شطار.
راجي (متظاهرا كأنه في تفكير عميق) :
إذا كنت تريدين أن تكوني أديبة مثل وسيم، فما عليك إلا أن تفعلي مثله ... على فوقه، ماذا طبخت للعشاء؟ ذوقيني لقمة (تذوقه) .
طيبة يا زليخة. عندما أنشر ديوان شعري، سأقدمه (مقلدا وسيم) «إلى المخلوطة التي طبختها زليخة»، والآن إذا كنت تريدين أن تكوني أديبة مثل وسيم، فافعلي مثلما يفعل؛ هذه البرنيطة (يعطيها برنيطته، ثم يلبسها إياها)
وهاك العصا، تمشي يا زليخة مثلما يتمشى وسيم (تتمشى) ، الآن بقي أمر القهوة؛ هذه قهوة بيروتية، البعض يسمونها ويسكي، أو جوني ووكر، أو بدرو دوماك، ولكنها في الحقيقة قهوة بيروتية، كل قنينة مكفولة أن تعصر عشرة آلاف قصيدة. (يصب لها وله)
اشربي (يشربان) ، الشعر هنا يا زليخة (مشيرا إلى القنينة) ، وما عليك إلا أن تستخرجيه.
زليخة (بعد أن تشرب) :
هذه تحرق، وليس لها طعمة قهوة.
راجي :
اشربي ثانية، أول كأس مرة، الحلاوة في قعر القنينة يا زليخة (تشرب ثانية) .
زليخة :
كيف تصنعون هذه القهوة؟
راجي :
نخلط نصف رطل لبيط بغال، مع أقة ديناميت، وعشرة كيلو من نار جهنم.
زليخة (وقد لوحت معها) :
نار جهنم! بدأت أرى الجنة.
راجي :
الآن انظمي الشعر.
زليخة :
طل القمر عاوادي الأرز.
راجي :
برافو زليخة، طل القمر عاوادي الأرز. (يعيدان هذه عدة مرات مغيرين اللهجة، ويعركان الردة بين طل القمر عا أرز الوادي. طل الأرز عا وادي القمر، طل الوادي عا أرز القمر، طل وادي الأرز عا قمر الوادي.)
فلتحي أميرة الشعراء، فليحي الأدب، هذا هو الأدب (يقبلها) .
زليخة (تصفعه) :
هذا قلة أدب! (تنصرف بعد أن ترمي بالعصا من يدها والبرنيطة من على رأسها) .
راجي (وحده. يريد أن يسلي نفسه، فيأكل لقمة، ويشرب كأسا، ثم يسحب كتاب الأغاني لأبي فرج الأصبهاني، ويقرأ :
جادك الغيث إذا الغيث همي
يا زمان الوصل في الأندلس
جاد: تكرم.
الغيث: المطر.
همي: سقط.
يا زمان الوصل ... (صارخا)
هنا قلة الأدب يا زليخة! (يدق الباب الذي خرج منه وسيم)
وسيم، وأنا أريد أن أؤلف رواية (يضع البرنيطة على رأسه، ويمشي ملوحا بالعصا) ، راجي البيروتي الروائي الشهير (يحاول بصراخه أن يقلق وسيم في خلوته) ، عنوان الرواية:
قرن الديك؟ لا.
ريش الحمار؟ لا.
مجنون ليلى؟ لا.
ضرس العقل؟ لا.
الوطنية والعلم؟ لا.
الانتقام العادل؟ لا.
رواية أدبية، عصرية، انتقادية، حماسية، وطنية، شعرية، نثرية، مبكية، مضحكة، منومة، يخصص ريعها «لجمعية قطع دابر الشعراء والأدباء.»
ألفها؟ لا .
خلقها ؟ لا.
كونها؟ لا.
سرقها؟ لا.
ترجمها؟ لا.
اقتبسها؟ لا. (متظاهرا بالتفكير)
وجدتها، وجدتها!
Eureka, Eureka
باضها راجي البيروتي!
الفصل الأول: تظهر بطلة الرواية. الحبيبة - يا قلب اخفق - يا جارة الوادي - ويا نار اشتعلي - ينزل الستار ثم يطلع الستار (كل هذا بصوت عال؛ حتى يشاغب على وسيم)
ثم ينزل، ثم يطلع، وكل ما يطلع ينزل، وكل ما ينزل يطلع. تظهر عروس الرواية، ووراءها أولادها، وأولاد أولادها، يأتي البطل، ها لطيف البطل. غرام وغرام وعشق وهيام و
amour ، ها لطيف الأمور، زواج وانتحار، انتحار وزواج، وأخذ بالثار، يهيج الجمهور، المؤلف، المؤلف، (صارخا بأعلى صوته نحو غرفة وسيم)
المؤلف، المؤلف. (يظهر وسيم، فيضربه ببندورة من على المائدة!)
وسيم (شارقا بالدمع) :
راجي، اهزأ بي ما تريد، واضربني بالبندورة ما تريد، والبيض، والأحذية، ولكن اتركني في خلوتي وفني. إن شعلة من الوحي بيضاء ترقص في صدري، فلا تطردها بدعابتك، إن كلمة علياء فرت فلن تعيدها قوى الأرض. راجي، إن الذي خلقني أرادني أن أخلق هذه الرواية، أحس بموجة في نفسي تململت، ثم اشرأبت، وها هي تكاد تدفع إلى الدنيا بجوهرة. راجي، اتركني واترك الناس يستمتعون برائعتي، لن تفهم في أي غيبوبة أنا، دعني، فلن يهدأ بالي إلا إذا صقلت هذا التمثال الذي أصنعه من الصلصال الذي وهبته، ولن يستريح ضميري إلا إذا سمعت هاتفا يقول لي: أكملت عملك، سلمت يداك. ألا تفهم أني كأم تتمخض بحياة. بربك! اتركني في لذة عذابي، ولك أن تفعل بي بعد هذا ما تريد.
راجي (مأخوذا بإخلاص وسيم) :
ارجع إلى عملك يا وسيم، وسألجم حنكي (يرجع وسيم إلى غرفته)، (يعاود المرح راجي، فيخاطب السقف)
إني كأم أتمخض بحياة، يعني كدجاجة تبيض. صدقت يا راجي البيروتي، أنا أونباشي الأدب. أنباشي؟! شاويش، كولونل، جنرال، حفلة تكريم للأستاذ راجي البيروتي. (ضرب قوي على الباب، وصوت وحشي يصيح):
افتحوا. (زليخة تفتح الباب، وتهرب صارخة: «يا ذلي! طعان الحمصي») .
طعان :
وأين هو عنترة عبس، والزير أبو ليلى المهلهل؟
راجي (ببرودة) :
عنترة عبس ليس هنا، أبو ليلى المهلهل غائب ، أبو العلاء المعري فاتح كاراج على «فرن الشباك»، أبو الفرج الأصبهاني على الطاولة هناك، داعيك اسمه راجي البيروتي.
طعان :
والداعي اسمه طعان الحمصي.
راجي :
هاه؟
طعان :
طعان الحمصي، طعان.
راجي :
طرزان؟
طعان :
طعان يا ...
راجي :
آ، طعان، كيف حالك يا طعان أفندي؟
طعان :
أنت أفندي، أبوك أفندي، وكل عائلتك أفندية.
راجي :
كلك لطف، هل من حاجة أقضيها لك؟
طعان :
حاجتي إلى البطل المغوار وسيم الحموي، يخبرني لماذا قوس حمامتي؟ أثأرا لجرة صانعته، أم ثأرا لأبيه؟ فإن كان ثأرا لأبيه فقد أغلى الثأر، كان يجب عليه أن يقتل كلبا، ليصير «دم بدم».
راجي :
أنا قوست الحمامة، لم أعرف أنها تخصكم حتى رأينا الخلخال، أريد أن أدفع لك ثمنها (يسحب محفظته).
طعان :
الضيوف لا يدفعون ثمن شيء، ولكن بني الحموي سيدفعون ثمن هذه الحمامة غاليا؛ كل ريشة برجل، برجل؟! كأن في هؤلاء الخنافس رجالا.
راجي :
هون عليك، أنتم إخوان.
طعان :
يا وسيم الحموي، يا عنترة، أطل وخذ بثأر أبيك. (يظهر وسيم.)
وسيم :
سمعتك تناديني يا طعان.
طعان :
صدقت فمتى قلت لك يا عنترة، فأنا أناديك. أراك ساحبا العصا، فأنا مستعد إلى لقائك، ولو أن في يدك الناعمة مدفع متراليوز. (وسيم يرمي بالعصا جانبا).
وسيم :
لك يا طعان أن تقول عني إني جبان، ولكن يدي لن تولع هذه القنبلة، لن أكون الشرارة، التي تشعل هذه الضيعة.
طعان :
أنا وأنت، ولا حاجة للضيعة.
وسيم :
لن يسترجع أبي حياته إن أنا فتكت بك.
طعان :
أنت جبان يا ابن المدرسة. حلقت شاربيك، وخضبت كالنساء بالعطر شعر رأسك، فلماذا لا تلبس الفسطان، وتسمي نفسك مزمزال (يضحك ضحكا وحشيا) .
وسيم :
إن الحمامة خطأ وقعت.
طعان :
الذنب ذنب الحمامة هاه! الحمامة أصابت الرصاصة هاه! هكذا علمتك المدرسة، مدرسة بيروت يا مزمزال!
راجي :
قلت لك: سأعوض عليك ثمنها، تعال ننظم قصيدة، هاك المطلع: طل القمر ... هذه قهوة بيروتية (طعان لا يأبه به).
طعان :
جئت أرمد بيوتكم، حسبت أني ألقى شبه رجل أقاتله، ولكن جبنك يعيب الأرنبة يا مبصقة الرجال ، لو أن خوفك كان إقداما لكنت عنترة، ولو أن فسق أمك كان طهرا؛ لكانت أمك راهبة يا ابن القحبة، (كالبرق ينقض وسيم على طعان، فيرميه ببوكس. ينهض طعان، فيهجم على وسيم. يتقاتلان بضع دقائق، ترى فيها وسيم هادئا يقاتل كالملاكم، ومتى ظفر فلا يتحدى خصمه. أما طعان فيقاتل بفطرة وحشية حنقة، فيخسر في كل جولة. تسمع خلال ذلك أزيز «السين»، فإذا اشتبه أحد أن السين كسرة من الشتيمة الشائعة، قل له معتذرا: إنها صريف الأسنان، وابتسم. حينما ييأس طعان من التغلب على وسيم، يبتعد عنه ساحبا مسدسه، ويصيح: «خذها من يد طعان يا ابن الحموي»، فيسرع وسيم فيلوي يد طعان، بحيث ينطلق المسدس، فتصيب رصاصة قلب طعان، يتلوى هذا ألما، ويصيح: آخ. آخ. قتلني ابن الحموي، وينطرح على الأرض، بحيث يختفي زناره وما فوق خلف الكواليس، وتبقى رجلاه على المسرح منظورتين). (سكوت رهيب هنيهة، وراجي ووسيم يتشاوران.)
راجي :
جس نبضه (وسيم يفعل).
وسيم :
ميت ...
راجي :
ميت!
وسيم وراجي :
لنهرب. فلنهرب (يقفزان من النافذة إذ) : (ينزل الستار) (أصوات بعيدة، مغمغة، مخنوقة، ضوضاء، يتخللها طلق رصاص، وهتاف: حموي. حمصي. عليهم، ولا. زلاغيط، وأصوات حدا وتألم جازع.)
المشهد الثاني (أم وسيم كومت نفسها حزينة. الدكتور نجيب منرفز يتمشى. أبو مرعي يقظ، كأنه لاعب شطرنج، يفكر بالخطوة التالية.)
الدكتور نجيب :
ما أهون التدمير، نستعبد النفس للعلم، لنخلص حياة، أو نخفف الألم عن الحياة، وفي نصف ساعة تطفئون أربع عشرة حياة؟!
أبو مرعي :
ثلاثة عشر قتيلا يا دكتور، سليم الحمصي بعد ما مات.
الدكتور :
ولكنه سيموت. (متأملا)
أربع عشرة روحا هدرت. يا خرابك يا وادي الأرز! ما أكثر تبذيرك في دماء بنيك، من يدري أن لا يكون بين من قتلهم الجهل، شاعر كجبران، مخترع كالصباح، بطل كسلطان، عالم كالبستاني، أو جندي كفوزي.
أبو مرعي :
هذا بدء الشر، وليس نهايته، نصف الضيعة في الحبس.
الدكتور (يمشي إلى الروزنامة) :
ألف وتسعماية وثلاثين! تكذبين، تكذبين، ما نحن في القرن العشرين، لقد نام الإنسان في نفوسنا، ونهض الحيوان، نحن في العصر الحجري في أخلاقنا، ولم نلبس من المدنية إلا هذه الأثواب - أثواب فقط.
أم وسيم :
إن ابني ليس بشرير، إن ولدي لم يعتد على الجماعة، ابني لا يهتم إلا بكتبه وأوراقه، جاء ابن الحمصي - حمص الله قلوبهم - إلى زاوية بيتنا، فشتم ابني وحقره، وضربه، في النهاية صوب إليه المسدس، فلم يفعل وسيم إلا أن لوى المسدس، من يلومه يا دكتور؟!
الدكتور :
هل قبضوا عليه؟
أم وسيم :
إذا كان الله يقبل صلواتي فلن يقبضوا عليه.
أبو مرعي :
ولكن لبيت الحمصي عيون وجواسيس، كفوا يدي عن وظيفة الناطور، الأيام بيننا وبينهم.
الدكتور :
هذه كم قرش (يعطيها كدسة أوراق نقود)
ربما تحتاجين إليها.
أم وسيم :
كثر الله خيرك يا دكتور، نحن في سعة، عندنا مائة زيتونة (لا تأخذ المبلغ منه) .
الدكتور :
أتكفيك هذه المائة زيتونة؟
أم وسيم :
كفت من قبلي آبائي، والله وكيل أن تكفيني ووسيم. ليس هذا الذي يشغل بالي يا حكيم، (فاركة يديها باكية)
ولدي، ولدي، ربيته وثقفته، ليمسى طريدا في البراري؟! وإذا قبض عليه الجند؟ وإذا ظفر به بنو الحمصي؟! رب، ماذا فعلت لتنزل بي هذه المحنة؟! (يدخل المختار الآغا) .
الآغا :
هكذا، فلتكن الرجال، إن وسيم رجل، أخذ بثأر أبيه، فقتل ابن هدى الحمصي، (ضاحكا)
فما عليك إلا أن تخنقي أم طعان بغدائرها؛ ليكتمل الثأر. هكذا فلتكن الشباب، وأنت يا أبا مرعي، عزلوك من وظيفتك؟ هذه دسائس بيت الحمصي، فالنائب من حزبهم.
الدكتور :
أربعة عشر قتيلا، عشرون جريحا، معظم رجال الضيعة في السجن. ألا تكفي هذه المصائب لتشرح قلبك القذر يا نمام، أبؤرة دسائس في صدرك؟ يا ويلك! من يوم يحملق بك الشعب، ويقول (متهددا) : يا آغا. (إلى أم وسيم)
هذا تقرير وفاة طعان، فاحتفظي به، قد يساعد وسيم في المحكمة إذا مثل أمام القضاء، التقرير يثبت أن وسيم كان مدافعا عن نفسه، الله معك يا أم وسيم، بخاطرك يا أبا مرعي.
أبو مرعي :
بخاطرك يا دكتور.
أم وسيم :
مع السلامة يا حكيم، الله يحرسك.
الآغا :
يخرج بدون أن يودعني ! سألحق به، وأريه (يتظاهر بالهجوم للخارج) .
أبو مرعي :
طول بالك (الآغا يقف) .
المختار :
إذن، فقد عزلوك يا أبا مرعي.
أبو مرعي :
الدنيا دولاب!
المختار :
عزلوك يا أبو مرعي.
أبو مرعي :
أنا كنت أهم بالاستعفاء.
المختار :
عزلوك يا أبو مرعي.
أبو مرعي :
أنا لا أحب النوطرة، المشي يتعبني.
المختار :
عزلوك يا أبو مرعي.
أبو مرعي (تاركا برقع التظاهر) :
عزلوك يا أبو مرعي (يهدد بقبضتيه إذ) : (ينزل الستار)
المشهد الثالث (فرشتان متقاربتان، زليخة نائمة كأنها رحى طاحونة، أم وسيم قرب القنديل، بين يديها كتاب صلاة، تبتهل.)
أم وسيم : «رب، سدد خطواته، وأبعد الشر عنه. رب، إن أردت به سوءا فأنزله بي واجعلني فداه. يا إلهي، يا سندي، وملجأي، ومعبودي، رجوتك، وتمنيت عليك راكعة باكية أن تحفظ وحيدي وفلذة كبدي. رب ...» (يدخل وسيم وراجي متلصصين.)
بني، لماذا رجعت؟! ولدي، إنهم يفتشون عليك.
وسيم :
جئت أودعك أمي، وآخذ أوراقي، فأنا وراجي مسافران، سيهربنا بحارة بيروت إلى المهجر، إلى أميركا، فوداعك أمي، سأكتب لك من حيث أكون (يتعانقان)، (كل هذه الأحاديث تهمس همسا) .
أم وسيم :
ستكون غربتك موجعة، ولكني سأتحملها في سبيل سلامتك. هذا (مشيرة إلى راجي)
أيرافقك؟
وسيم :
يصر على أن يرافقني.
أم وسيم :
لا تأتمنه، ليس من طائفتنا، سيخونك، يستحيل أن يخلص لك، «من جده عادى جدك يستحيل أن يودك.»
وسيم :
لآخذ أوراقي (وسيم يأخذ أوراقه وكتاب الأغاني من المكتبة. راجي يشير عليه - بالإشارة لا بالكلام - أن يرمي بتلك الأوراق وذلك الكتاب. أم وسيم تفتح صندوقها، وتنزع منها صرة) .
أم وسيم :
هذه صرة اليقين، فيها عشرون ليرة ذهبية، خذها يا بني، والله معك. (قرع شديد على الباب)
افتحوا باسم القانون. (تشير لابنها وراجي، مخاطبة القارع) : مهلا، مهلا، سأفتح لكم (حينما تدير ظهرها، وسيم يفتح الصندوق، فيرمي بصرة اليقين فيها، ثم يفرغ ما في جيبه من نقود أيضا. كذلك راجي يفعل نفس الشيء. كل هذا يجري بسرعة خاطفة. راجي ينحني على زليخة، التي بدأت تتململ، ويقول: «طل القمر». يقفزان من النافذة، فيختفيان) .
مهلا ، يا حضرة الضابط.
الضابط (من الخارج) :
افتحي باسم القانون، باسم القانون، افتحي يا أم وسيم، وإلا كسرت الباب.
أم وسيم :
ألست أنت أبو شكيب؟
الضابط (من الخارج) :
بلى، أنا هو، أنا السرجان سلوم، افتحي باسم القانون، وإلا كسرت الباب.
أم وسيم :
أنت لا تكسر بابا على عجوز، ولا تريد الدخول على غرفة فيها امرأتان في ملابس النوم، كان اسمك أبو شكيب قبل أن سموك السرجان سلوم، وكنت تحلف باسم الشرف قبل أن تحلف باسم القانون، رويدك! حتى ألبس ثيابي.
الضابط (من الخارج) :
أمهلك خمس دقائق.
أم وسيم :
شكرا لك، كلك ناموس يا أبو شكيب (متطلعة من النافذة التي قفز منها وسيم وراجي، ثم تحكم قفلها. زليخة خلال كل هذا المشهد تشخر. أم وسيم توقظ زليخة) .
زليخة، انهضي يا بقرة، انهضي.
زليخة (نصف واعية) :
طل القمر ...
أم وسيم (هامسة) :
اسمعي، الضابط والجنود سيدخلون علينا؛ ليفتشوا المنزل، وسيم مختبئ بهذا الدهليز (تشير إلى الدهليز)
إياك أن تخبري الضابط أن وسيم هناك، أفهمت؟ إياك أن تدلي الجنود على مخبأه، فهمت؟
زليخة :
فهمت!
أم وسيم :
أين مفتاح الدهليز؟ (زليخة تقطع المفتاح من خيط علقته برقبتها، وتعطيه لأم وسيم.) (بصوت عال)
افتحي الباب لحضرة السرجان. (يدخل السرجان وجنود، فيتفرقون.)
الضابط :
نريد وسيم.
أم وسيم :
لا أدري أين هو، لم أر وجهه منذ الحادثة.
الضابط :
أريد وسيم.
أم وسيم :
فتش البيت. أحلف لك: إنه ليس هنا.
الضابط (للجنود) :
فتشوا البيت (يتفرقون) ، (لزليخة)
أين وسيم يا زليخة؟
زليخة :
هاه!
الضابط (يبرم يدها) :
أين وسيم؟ قولي، وإلا سحقت عظامك.
زليخة :
في الدهليز، في الدهليز يا أفندي، (مشيرة إليه)
هنا.
الضابط (يصفر فيجتمع الجنود، يخاطبهم) :
وسيم هنا، خذوا حذركم، (يكشف عن الدهليز، فيراه مقفلا)
أين المفتاح؟
زليخة :
مع أم وسيم.
أم وسيم (تنزع المفتاح من عبها، فتبتلعه وتصيح) :
شقوني، وخذوا المفتاح.
الضابط :
سنكسره. (بينما يكسرون قفل الدهليز، أم وسيم تتضرع للضابط) .
أم وسيم :
بربك يا سرجان، لا تطلق الرصاص على ابني، لا تقبض عليه، إنهم يشنقونه في بيروت، (كأنها تخاطب ابنها داخل الدهليز)
وسيم ابني، تجلد. لا تقاتل الجنود، فهم مسلحون. لا تحاول الهرب، فقد يطلقون الرصاص عليك. بني، تجلد. (وفيما هم يكسرون القفل، يرفعون الباب، ثم يصطفون حول الدهليز بشكل دائرة، وبواريدهم مصوبة نحو الدهليز. ينحدر أحدهم، شاهرا المسدس)، (سكوت رهيب) .
الضابط :
هل قبضت عليه؟ (خارج من الدهليز وفي يده ديك.) - قبضت على هذا.
الضابط :
إذن، فقد ضللتنا أم وسيم؛ لتسهل سبيل الفرار له. لماذا خدعتنا يا أم وسيم؟
أم وسيم :
لأني أم وسيم. (ينزل الستار)
الفصل الثاني
المشهد الأول (بعد عشر سنوات. بلاد غرانبلا. يرتفع الستار عن مكتب تجاري يظهر أن أصحابه تجار بالجملة؛ إذ تناثرت في جوانب المكتب مساطر البضائع من مثل كلسات، برانيط، أحذية، أقمشة، صحون، ملاعق، شماسي، أصيص (أرضية) إلخ ... يواجه النظارة رقعتان: الأولى عربية، كتبت بحروف هائلة «الدين هو المعاملة»، والثانية إنكليزية بنفس قياس الحروف العربية: “Light gains make heavy purses.” “Money is made on turnover and lost on leftover.”
على يمين النظارة صندوق حديدي، وفي المكتب طاولة كبرى، وثانية صغرى للماكنة الطابعة، والآن راجي يطبع على الماكنة بسرعة ونرفزة وغضب. على يسار النظارة كرة عظمى، هي كرة الدنيا يلاعبها وسيم مدمدما أغنية، ووسيم بعكس راجي، يظهر أن الدنيا مروقة معه. بين مساطر البضائع نحو خمسين رزمة مختلفة الأحجام، تلفها أوراق زاهية، وشرائط ملونة، كالرزم التي يتبادلها الأصدقاء في الأعياد. الوقت أول السهرة. خلف الكرة الأرضية مرآة كبرى.)
وسيم (إذ هو يداعب الكرة الأرضية، ويقيس بمسطرة صغيرة) :
أوووف! أتدري يا أستاذ أن بيننا وبين بيروت سبعة آلاف ميل! أحسب! هجرنا بيروت منذ عشر سنوات، عشر سنوات غربة، والآن بيننا وبينها سبعة آلاف ميل. إذا ضربنا عشر سنوات طوالا بسبعة آلاف ميل، أتدري ما هو الجواب يا أستاذ؟ (يتقدم من المرآة، فيتطلع إلى شعره)
الجواب 1431 شعرة بيضاء، (متأوها)
ونفس حزينة! (لا جواب من راجي) . ما بال الأستاذ مشوما
1
هذه الليلة؟ (لا جواب)، (وسيم يتناول حزمة جرائد عربية، فيفتحها مدمدما أغنية، ويقلب صحيفة) .
هالله هالله يا دنيا! احزروا من هو حاكم طبريا اليوم (يقرأ) : «قدم بيروت لترويح النفس الأستاذ الأكبر رفله وهاب ...» (مقهقها)
رفله وهاب صار حاكم. خبر ثان، اسمع يا أستاذ: «ستكون حفلة الشهداء هذه السنة تحت رعاية معالي وهيب باشا سعادة»، (مقهقها)
وهيب سعادة صار باشا، وصاحب معالي ... كل أولاد صفنا. كل رفاق تلك الشجرة صاروا ذوات، إلا أنت وأنا نبيع كلسات. حفلة الشهداء! (متذكرا)
تراهم، أيذكرون من نظم أول حفلة للشهداء؟ ما أجمل أن تمسي بياع كلسات، بعد أن تقود المواكب! (يمزق الجريدة)
أووف! لماذا يطبعون هذه الأوراق؟! (يعود للقهقهة)
رفله وهاب حاكم، وهيب سعادة صاحب المعالي!
راجي :
إذا كنت تفتش عن شيء يضحك، فتطلع بهذه المرآة.
وسيم :
أحمد الله الذي أنطقك أخيرا يا أستاذ، من الضروري أن يتطلع الإنسان بالمرآة مرة بالنهار، ثم يضحك. (مخاطبا المرآة)
صار عمرك 31 سنة، ما شأنك بالحياة؟ اخترعت آلة؟ لا. اكتشفت بحيرة؟ لا. ألفت كتابا؟ لا. افتتحت مستعمرة؟ لا. من أنت؟ لا شيء.
أنت العود بالزبيب.
أنت الشمس بعد المغيب.
أنت العرض بتل أبيب.
أنت لا شيء.
أنت حفلة خطابية.
أنت بضاعة يابانية.
أنت معاهدة دولية.
أنت لا شيء.
أنت إسفنجة معصورة.
أنت كمبيالة غير ممهورة.
أنت قنينة مكسورة.
أنت لا شيء. (يبصق على المرآة).
راجي (مصفقا) :
فليحيى الخطيب، صدق الخطيب. (يتقدم وسيم من الرزمة الملونة، يقلبها متمتما الأسماء التي عليها، مخاطبا راجي.)
وسيم :
ليس بين الهدايا هدية لأنيس سعادة.
راجي :
ناولني الدواة (يناوله دواة زرقاء) ، الدواة الحمراء يا ح ... الحمد لله عندما نعمل ميزانية السنة لا نحتاج إلا إلى الأحمر من الحبر.
وسيم :
ما رأي الأستاذ في هدية لأنيس سعادة؟
راجي (حانقا) :
أرسل له إصبع ديناميت. أرسل لهم كلهم أصابع ديناميت. هؤلاء «الأصدقاء» الذين ربيتهم في هذه البلاد. لا تدري أي معتوه تجعل من نفسك، إذ تغدق الهدايا على هؤلاء النصابين. (متهكما آخذا رزمة بعد رزمة، كأنه مناولها لأصحابها)
كل عام وأنتم بخير، هدية صغيرة لأخي نبيه النجار. كل عام وأنتم بخير، هدية صغيرة لأخي فؤاد أبو هنا. كل عام وأنتم بخير، هدية صغيرة لأخي سعيد الشركسي. (يأخذ غطاء الأصيص - الأرضية - فيضربه بها، ويصيح:
كل عام وأنتم بخير.
وسيم :
ألا تعتقد يا أستاذ، أنك تجعل من الحبة قبة؟! فكل هذه الهدايا لا تبلغ قيمتها المائة ريال، ولم أشترها على حساب المحل، بل على حسابي الخاص، وإنه لجميل أن يهدي الإنسان أشياء ولو تافهة في عيد رأس السنة؟ ألا تعتقد يا أستاذ أن لهجتك الحادة لا تليق بليلة رأس السنة.
راجي :
رأس السنة وذنبها سيان. أتحسب أننا في ليلة عيد؟! انظر إلى حسابات المحل، وانظر إلى أين صرنا بعد غربة عشر سنوات (ينتزع الورقة من الماكنة، ويقرأ فيها) ، علينا دين للبنك خمسة وعشرون ألف ريال، المحل مرهون لفرج الله العسلي بخمسين ألف ريال؛ أي علينا 75 ألف ريال، عندنا في البنك خمسة آلاف ريال، لنا على الناس دين 46 ألف ريال سترى وجه ربك قبل أن ترى منها فلسا، وتقبض على قوس القزح قبل أن تقبض منها ريالا. عندنا بضائع ب 24 ألف ريال؛ أي إن مجموع ما علينا 75 ألف ريال، ومجموع ما عندنا 29 ألف ريال. كل عام وأنتم بخير.
وسيم :
لكل حديث زمان، والليلة ليلة عيد. ليلة رقص يا بومة، ومرح، وبهجة. فاترك نعيبك إلى ليلة ثانية.
راجي :
ليلة رقص؟! اليوم استحق رهن فرج الله العسلي، أراهنك أنه قبل أن يطلع وجه الصباح، سيطلع وجه فرج الله، ويقول: «ادفع، أو أحجز.»
وسيم :
فرج الله رجل شريف ...
راجي :
كل إنسان هو رجل شريف، حتى تتمكن يداه من عنقك.
وسيم :
نزيد له الفائدة؛ ندفع له 24 بالمائة، بدلا من 18 بالمائة، فيسكت إلى أن تمر هذه الأزمة.
راجي :
ما أشد تفاؤلك. لو كنت في سفينة نوح، لسبقت الحمامة إلى غصن الزيتون. فرج الله لا يشبعه إلا المال، وليس عندنا من المال إلا الخمسة آلاف في البنك، وهذه (يفتح الصندوق)
السبعة ريالات و15 سنتيم.
وسيم :
ودوارنا رشيد؟! آن له أن يرجع من البر. بدون ريب جمع عشرة آلاف ريال، نرضي بها البنك.
راجي :
إذا رجع الدوار بألف ريال أركبك على ظهري ألف ميل.
وسيم :
تركبني على ظهرك ؟ «من قال لك أني أركب حمير؟»
راجي :
غرانبلا! غرانبلا! ما الذي أغراك بهذه البلاد؟ قلت لك: تعال نهرب إلى بلاد متمدنة؛ باريس، نيويورك، لندن. لا، لا تريد إلا أميركا الوسطى غرانبلا. انظر إلى هذا المكتب، بل إلى هذا القفص الذي يحبسنا منذ عشرة أعوام. نعيش مع القذارة، ونتجر بالقذارة، ونعاشر القذارة، والآن الإفلاس، وماذا أنت فاعل لحل هذه المعضلة؟ تريد أن تفرق الهدايا، وتدعو أصدقاءك إلى وليمة، وتذهب إلى مرقص الحاكم متنكرا بثوب بدوي. نعم التاجر والمفكر أنت. كل أخلاقك أخلاق بدوي، ولا أعرف أنه نبغ من البدو تجار.
وسيم :
راجي أنت طفل، والطفل متى واجه المصاعب لا يفعل شيئا إلا البكاء (يتباكى)
راجي ...
راجي :
لا تنادني «راجي» ألم تفهم بعد؟ أتريد أن تزيد مصائبنا مصيبة أن يفتضح أمرنا لدى البوليس؟ أتريد أن يفتك بك أبناء الحمصي؟ هؤلاء المواطنون، إذ هاجروا البلاد هاجرت معهم أحقادهم، لا تنس ذلك يا غبي، ألم تتعلم بعد أن اسمي سليم الصيداوي، واسمك سلوم الصيداوي، ونحن أخوان، وتجارتنا «صيداوي إخوان»! تجارتنا؟! طابق إفلاسنا أعني. (يرن التلفون، فيجاوب راجي)
هلو، هاي، (متهكما) ها، ها، ها، كل عام وأنتم بخير. أما بعد ... أنا سلوم، وأنا سليم، وأنا كل عائلة الصيداوي، ولماذا لا تعرفنا إلى لون عملتك قبل أن تطلب كلسات من جديد. (وسيم يختطف التلفون من راجي) .
وسيم (بلطف) :
سليم يكلمك يا نبيه، كل عام وأنت بخير يا نبيه، أربعين دزينة كلسات؟ تكرم. عشر دزينات صبابيط؟
راجي :
الصبابيط على الراس والعين (وسيم يسد فم التلفون بكفه)
يا نصاب.
وسيم (على التلفون) :
الحساب لا يهم، لا تنس أن تحضر العشاء عندنا هذه الليلة. (يقفل التلفون) .
راجي :
حسابه عمره سنة، ويطلب بضاعة! يطلب بضاعة في 31 كانون الثاني! لماذا لا تنزع الغشاوة عن عينيك، فترى هؤلاء المحتالين؟
وسيم :
لأن الله خلقني ضعيف البصر، وخلقك ذا رأي صائب، وفكر ثاقب. رويدك! راجي - سليم. لا تحاول أن تحل كل مشاكل الدنيا هذه الليلة. امرح هذه الليلة، وغدا فكر.
راجي :
من يمرح في الليل لا يفكر في النهار، والله أكاد أجن. أعطني مورفين، وكوكايين، إن أعصابي تكاد تتقطع، أريد أن أنطح السقف. ربي إلى أية حالة وصلنا؛ غربة، وتنكر تحت اسم مستعار، والآن إفلاس. أهم في النهار مائة مرة أن أصيح بالناس: ما نحن بأخوين، لسنا سلوم وسليم الصيداوي، نحن وسيم الحموي وراجي البيروتي. ولتهبط السماء ولتزلزل الأرض، راجي البيروتي صار اسمه سليم الصيداوي!
وسيم :
ووسيم الحموي صار اسمه سلوم الصيداوي؟! هذه ليست المصيبة. المصيبة أن أصير أخا لواحد مثلك يا أستاذ.
راجي :
اهزأ وداعب، أشعر كأنك حجر مطحنة في عنقي.
وسيم :
ألا تعلم أن الغضب دليل الخوف، وأن الرجل الرجل هو من يبصق في وجه العاصفة؟
راجي :
من بصق بوجه العاصفة ارتد بصاقه إلى وجهه.
وسيم :
لا يقهر الحياة إلا من هزأ بمصاعبها، ابتسم في الأزمة (يقف وقفة عسكرية)
وقل لها: تعالي، أنا لك.
راجي :
الحق معك. في الحرب العظمى جندي جاءته الأزمة متسربلة ثوب قنبلة، فابتسم لها (مقلدا وسيم) ، وصاح: تعالي، أنا لك.
وسيم :
صحيح؟ ما اسم ذلك البطل؟
راجي :
صار اسمه الجندي المجهول. (يرن التلفون، فيركض إليه راجي.)
أب. أب. أب. أبا بببب. مرحبا رشيد. أهلب لب. لبلبلبلب. نحن بانتظارك يا رشيد، (يقفل التلفون)
كل عام وأنتم بخير، جاء رشيدك. (كمن انبثق على عقله فكر جديد)
وسيم، قل لي لماذا أنت فوار المرح هذه الليلة؟ رأس السنة؟ لا أصدق، رأس السنة وحدها لا تهزك بمثل هذا الفرح.
وسيم :
ها. ها. ها. الآن بدأت تبرهن أن الذي بين كتفيك هو رأس إنسان، وليس رأس بطيخ.
راجي :
سارة؟
وسيم :
سارة.
الاثنان :
سارة.
راجي :
وهل رضيت أمها عن زواجها منك، بدون أن تعرف دينك؟! (مستعطفا)
أخبرني، ماذا جرى؟
وسيم (يسكت ضاحكا، فيتضرع له راجي) : ، أتريد أن تسمع الخبر؟
راجي :
قل لي، فكلي آذان.
وسيم :
وهل كلك ألسنة؟ (راجي يمد لسانه، فيمثل أنه قطعه فرماه، ويتكتف مدمدما كالأخرس.)
قطعت لسانك، وصرت أخرس! إذن فأخبرك بما جرى؛ تزوجنا منذ أربع ساعات - زواجا مدنيا عند القاضي . سيبقى هذا الزواج سرا.
راجي (فرحا، يقبله) :
عرس كهربائي هاه! كل عام وأنتم بخير، انظم لي قصيدة، فإني أريد أن أهنئك:
والحب نقاد على كفه
جواهر يختار منها القباح
سأنتقل إلى اللوكندة. أنت وسارة عيشا هنا.
وسيم :
لا. ستبقى أنت هنا كما أنت، فسارة تعيش مع أمها، وأنا أعيش هنا.
راجي :
هاه؟! تزوجت وأنت تعيش هنا، وسارة تعيش هناك؟! هاه.
وسيم :
هاه، وهاه، وهاه. إن مخيلتك يا أستاذ، تحتاج إلى قليل من حامض الفنيك. هذا زواج عذري.
راجي (مدهوشا) :
سمعت بالهوى العذري، والآن أتعرف إلى الزواج العذري، وكل عمري أعتقد أن الحب هو عذر للزواج. (التلفون يرن، فيسرع إليه راجي) . (سماعة التلفون على أذنه - إلى وسيم)
هذه جوليت يا روميو. هلو سارة، الآن أخبرني سلوم بالحادثة، يعني الزواج، «علو في الحياة وفي الزواج»، يعني كل عام وعندكم توأم بنات، (وسيم يدفعه، ويخطف التلفون منه)
هذه ليلاك، يا مجنون.
وسيم :
هلو سارة. لا، لا، ليس من أحد هنا. سليم هنا يعني ما في أحد، ثوبي جاهز، سألبس العقال، وأكون بدويا يا زينب. لا تنسي أن البدويات يكتحلن. صبرك، فأرى ورقة الدعوة (يفتش، ويفتش، فلا يجدها)
أين ورقة الدعوة يا أستاذ؟
راجي :
تحت عينيك يا روميو، (مشيرا إلى مغلف قريب من وسيم)
حقا! إن الحب أعمى.
وسيم (يرجع إلى التلفون) :
الساعة التاسعة، يبدأ الرقص فأسرعي، أسرعي، سأكون حاضرا إذ تمرين. (يقبلها على التلفون، ويرقص، بينما راجي يغمض عينيه، ويقفل أذنيه، ثم يتطلع إلى السماء، ويقول):
راجي :
الطقس جميل هذه الليلة يا وسيم!
وسيم :
الحب، الحب يا أستاذ، أتدري ما هو الحب؟ أما تحس أن في قلبك أجنحة؟
راجي :
أحس أن في قدمي مرساة.
وسيم :
أما تحس هذه الرعشة تهز جوانحك؟
راجي :
نو سنيور.
وسيم :
وهذه البهجة تصبغ الدنيا أمام عينيك بألوان زاهية؟
راجي :
نو سنيور.
وسيم :
ودبيب الحياة حار في عروقك، كأنك تغتسل في شلال من شعاع؟!
راجي :
نو سنيور.
وسيم :
والفرح يغمر رأسك وقلبك.
راجي :
نو سنيور، وعدا ذلك فليس لي رأس ولا قلب.
وسيم :
اجلس هنا، سمر نفسك إلى هذا المقعد، واجمع، واطرح، واحسب، وانفلق. فأنا مختل إلى نفسي، فلا تعكر علي عزلتي، إن الإلهام يغشاني ثانية، أنا في الجنة من جديد.
راجي :
خذ البرنيطة والعصا (يتناولهما وسيم من راجي) .
وسيم :
إن روايتي ستتم، إن طيفها يتتبعني هذه العشرة أعوام، كطفلة عاجزة، تناديني مستنجدة: «لماذا وأدتني يا أبي؟»
راجي :
وإن طيف ثروتي الصغيرة يتبعني، كطفلة تقول: لماذا دفنتني يا أبي؟ فأجيبها: اسألي عمك (مشيرا إلى وسيم) ، يلعن أباك (مشيرا إلى نفسه) . (وسيم ينصرف إلى الغرفة، التي إلى يسار النظارة. راجي ينتزع كتاب الأغاني من بين المساطر.) (مخاطبا الكتاب)
كل مصائبنا جاءت منك. لماذا لم يحرقوك مع مكتبة الإسكندرية؟ (يقرأ) «دخل صعلوك على الأمير جان فالجان، فقال: بونجور، قال الأمير: خذ بنطلوني وسترتي ورطلا من لحيتي» (يدخل رشيد، جارا حقيبة هائلة هي حقيبة المساطر) .
رشيد :
م ... م ... م ... مساء الخير.
راجي :
أسعد الله مساء الأمير رشيد (لغرفة وسيم)
يا مسيو عبد الله بن المقفع، يا أبا القاسم غوستاف لوبون، يا أبا جوزف الأخشيدي. يا كاتب الكتاب وشاعر الشعراء، ومفقوع المفاقيع. (وسيم يطل)
في الباب رسول يا مولاي، يحمل الهدايا من الرعية، (يفتح الصندوق)
فلننظف الصندوق، (إلى رشيد)
ناولني أوراق الألف ريال أولا.
وسيم :
مرحبا رشيد، كم جمعت؟
رشيد :
ج ... ج ... جمعت! لا، لا، لا شيء.
راجي :
برافو، كنت أخاف أن تجمع أقل من هذا.
وسيم (لأول مرة يعبس، ويظهر الهم) :
كفى هزلا كفى، كم تبلغ قائمة الديون التي أعطيته إياها؟
راجي (يفتح الدفتر) :
25,320 ريالا. من اليسار إلى اليمين: اثنان، خمسة، 3، 2، صفر، قبض الصفر والسفرة الثانية يقبض الباقي.
وسيم :
لماذا لم تقبض يا رشيد؟
رشيد :
لأن، أن، أن، أنهم ما دفعوا.
راجي :
سبب معقول، لو دفعوا كان قبض، أمر جلي، واضح، شفاف كالوحل.
وسيم (مفكرا، مهموما، متمشيا) :
اترك هذه (مشيرا إلى الحقيقة)
جاهزة، أنا مسافر هذه الليلة.
رشيد :
البحر كبير، والعاصفة. تش، تش، تش، تشتد.
وسيم :
البحر كبير هاه؟ العاصفة تشتد هاه ؟! (يسمع أربع صفرات طويلة) .
راجي :
علامة الخطر نمرو 4.
وسيم :
علامة الخطر نمرو أربعة هاه؟! أبق الشنتة مضبوبة، الليلة أسافر بعد سهرة الرقص، وأريك يا أستاذ، كم أجمع، وكم أبيع.
رشيد :
هاني الأرناءوطي يقول: ما لكم عليه دين.
راجي :
حينما أردت أن أجعله يمضي الفاتورة، صاح أبو الحسن موليير (مشيرا إلى وسيم) : لا لزوم، لا لزوم.
وسيم :
هذا غير صحيح، الآن أريك الفاتورة وعليها الإمضاء. (يفتح السجل «هاني الأرناءوطي» «هاني الأرناءوطي»، بعد أن يفتش، ويفتش، فلا يجده)
أين وضعت اسمه يا سليم؟ لم أجده تحت الهمزة، ولا تحت الهاء، فأين هو؟
راجي :
تحت حرف الكاف.
وسيم :
هاني الأرناءوطي إما همزة أو هاء، فلماذا وضعته تحت حرف الكاف؟
راجي :
لأنه كلب ابن كلب. مع الاعتذار للكلاب.
وسيم (يطبق السجل غاضبا) :
رشيد، كل عام وأنتم بخير (يفتح الصندوق)
خذ هذه السبعة ريالات، والكم سنتيم عيديتك. لا يأخذ على خاطرك فشلك في هذه السفرة، فالدنيا كلها في أزمة هائلة.
رشيد :
بخا، خا، خا، خاطركم (ينصرف) .
راجي :
ليتك أعطيته تشاك بالمبلغ، فقد تحتاج إلى النقد هذه الليلة.
وسيم :
رح انظر إلى دفتر التشكات، تعرف لماذا لم أعطه تشاك.
راجي (يفتح الصندوق الحديدي، ويأخذ دفتر التشكات، ويصيح) :
وسيم، وسيم، ماذا فعلت؟ أين الخمسة آلاف ريال؟
وسيم :
اشتريت بها أسهما في معدن الذهب.
راجي :
من ذلك النصاب وطسن؟
وسيم :
من ذلك النصاب وطسن.
راجي :
الذهب الذي فوق الأرض لم نحصل عليه، فهل نظفر بالذهب الذي تحت الأرض. (وسيم يأخذ كتاب الأغاني، ويقلب صفحاته.)
وسيم :
سأحاول الفوز فوق الأرض وتحتها، وكل فشل جديد يثير محاولة جديدة.
راجي (من الكتاب) : «دخل جبلة بن الأيهم على يحيى بن يزيد. فقال: السلام عليكم. أجاب يحيى: أبيت اللعن، خذ برنيطتي وبنطلوني. وذبح له الأنعام.»
وسيم (يثور) :
اخرس، كفاك هزءا، كفى، تتحرق على التستر باسم مستعار، كأنني أنا ألتذ بأن أخسر حتى اسمي وأستبدله باسم سليم الصيداوي. تبكي ضياع ثروة، كأنه لم يكن لي نصفها، وكأنك كسبتها وحدك. من جمع الثروة يا راجي ؟ من هزأ بالأخطار؟ من نام بين أجلاف الناس، ومشى الكيلوات حافي القدمين، دامي القدمين؟ هل مرت زوبعة خلال العشر سنوات الماضية، ولم أتقلب بين أشداقها في عرض البحر؟
راجي :
أنا لا أقول إنك لم تشق.
وسيم :
من اخترع أساليب تجارية لم يعرفها أولاد العرب قبلنا؟ كم مرة قال لي الدكتور نجيب: لا تجهد عينيك، وإلا تعمى؟ ويشهد الله أني ما زلت أجهد عيني، وأني لا أخاف العمى. أيوم الفوز تسكت، ويوم الفشل تهزأ؟ اصفعني، قوسني، ولكن لا تتهكم علي؛ الهزء، الهزء، إنه يحزني حتى العظام.
راجي :
أنا لا ألومك يا وسيم، ألوم ثقتك بالناس، ألوم المدرسة التي علمتك أن لا تكون لصا، ولم تقل حذار؛ فالدنيا ملأى باللصوص، ألوم البيئة التي أنشأتك جوادا على الغير، بخيلا على نفسك. ألوم من رباك ولم يعلمك الأنانية، وعدة النجاح هي الأنانية، ألوم الكتب التي غمرتك بالشرف، والمروءة، والمعروف - أدوات انتحار في دنيا فقدت الشرف والمروءة والمعروف.
وسيم :
ولا تحسبني جئت أقامر بحياتك، وبأموالك، وأموال دائنينا. (يأخذ من يده بوليصة سوكرة حياة)
أنت لم تر هذه بعد (يفتحها) ، انظر، إن حياتي مضمونة بمائة ألف دولار، أفهمت؟ (ينتشل من جيبه مسدسا) ، وإن ضغطة من سبابتي تدفع لك ولدائنينا، أفهمت؟ الحياة جميلة وغالية، ولكني أطرحها كزجاجة مكسورة، متى دعا الداعي. صار دعابك لاذعا، أحس أن قد انفتح بينك وبيني واد عميق.
راجي (متغنيا) :
واد؟ أعمل زنودي جسر، وبقطعك ليا. (يتطلع الواحد بالآخر لحظة، ثم يصيحان معا: «ولا!» ويتعانقان مقهقهين) .
راجي :
يلعن دين الغضب.
وسيم :
يلعن دين النرفزة.
راجي (يدق على خزانة صغيرة، مخاطبا إياها) :
يا جابر المكسور، وصديق المخذول، في الباب إخوان، إليك يلتجئان (ينتزع قنينة)
في لبنان ينتخبون ملكة للجمال. هذه ملكة القنوط يشربان.
راجي :
أصحيح أن بيني وبينك واديا؟
وسيم :
أصحيح أنني في رقبتك حجر مطحنة؟
راجي :
ها أنا أقطع الحجر (يمثل أنه يقطع حبلا من عنقه)
تدحرج الحجر ...
وسيم :
وسد الوادي.
ما أجمل الدنيا إذا نظرت إليها من خلال كأس ...
راجي :
حقا! إنها وهاجة جميلة .
وسيم :
خطر على بالي أمر.
راجي :
ما هو؟
وسيم :
تعال نستشر الدكتور نجيب بحالتنا.
راجي :
هذا أول رأي صائب خطر على بالك هذه السنة.
وسيم :
تعال نخبره بأمورنا المالية.
راجي :
وأمورنا - أمورك - الغرامية. تعال نخبره بكل شيء.
وسيم :
أنا أثق بالدكتور نجيب.
راجي :
أنا لا أثق إلا به، وبنفسي، (بعد تردد)
لا، لا أثق بنفسي كثيرا، على كل حال إن أمر زواجك سيعرف يوما من الأيام، وهدى حماتك ستقيم الأرض وتقعدها، ومن يدري فقد يفتضح أمرنا كذلك. تعال نخبره بحادثة وادي الأرز أيضا.
وسيم :
نخبره بكل شيء، أي نبيل هذا الرجل!
راجي ووسيم :
كأس الدكتور نجيب. كأس الإفلاس.
وسيم :
متى وصلت إلى الكأس الخامسة، انتصب أمام عيني قصران في رأس بيروت؛ أنا وسارة في قصر، وأنت؛ وأنت ومن؟
راجي :
أنا ونفسي.
وسيم :
ألن تتزوج؟
راجي :
أنا أتزوج؟ معاذ الله! الله خلقني أعزب، وسأبقى أعزب.
وسيم :
باسم جمعية النشوء والارتقاء أشكرك. هل تريد أن يكون للقصر جنينة؟
راجي :
طبعا جنينة، فيها أشجار التفاح والليمون.
وسيم :
والرمان، والخوخ.
راجي :
وأشجار معرفة الخير والشر.
وسيم :
وأنا عندي ولد وحيد، صبي. هاه!
راجي :
صبي! الله يخليه، اسمه أبو الفرج، وقف، إذا صار عندك صبي، فأنا سأقتني كلبا!
وسيم :
ولماذا؟
راجي :
ليحمي الجنينة من ولدك!
وسيم :
رد كلبك عن ابني.
راجي :
رد ابنك عن جنينتي.
وسيم :
الكلب.
راجي :
الصبي.
وسيم :
الكلب.
راجي :
الصبي. (يدخل الدكتور نجيب باسما.)
الدكتور نجيب :
من هو الصبي؟ ومن هو الكلب؟
راجي :
أنا الصبي يا دكتور.
وسيم (مصافحا) :
كل عام وأنت بخير يا دكتور.
راجي :
طبعا لا تريد أن تشاركنا بكأس، فما رأيك بفنجان قهوة صغير (مشيرا بيديه أن الفنجان كبير جدا)
من تلك الفناجين التي تحبها؟
الدكتور :
لا وقت عندي حتى للقهوة؛ فقد تركت المستشفى لحظة حتى أعايدكم، وحتى (يشد أذني وسيم)
أرى هذا المتمرد على الطب، إذا كان قد لبس النظارتين. هل تريد أن تلبس النظارتين، أم أطيل هاتين الأذنين؟!
وسيم :
آخ، العفو يا دكتور، سألبس النظارتين ، وحق هذين الشاربين (يعمل إشارة، كأنه يحلف بشاربيه، وهو حليق) ، أمهلني للسنة القادمة، بيننا وبينها بضع ساعات.
الدكتور :
السنة القادمة! كل صعب مؤجل، هذا آخر إنذار، لا تأجيل بعد غد؛ حالة عينيك يا سلوم ليست من الأمور التي يستهان بها، أفهمت؟ (يقلب جفني عينيه، فيفحصهما)، (ويهز رأسه، ويقول:)
يلزمك معالجة، تعال إلي في المستشفى مرة كل يومين (يرن التلفون، فيسرع راجي إليه) .
راجي :
هلو. أو يا دكتور، تلفون من المستشفى (بينما الدكتور يتكلم على التلفون بصوت غير مسموع، راجي ووسيم يرجعان القنينة والكأسين إلى الخزانة. الدكتور يرجع إليهما) .
الدكتور :
سألني مدير البوليس اليوم عن شخص اسمه وسيم الحموي، مطلوب من بيروت بتهمة قتل طعان الحمصي، أخي خطيبتك يا سلوم. غريب، ما أصغر هذه الدنيا! كنت في «وادي الأرز» يوم الحادثة، وقد كتبت أنا تقرير الموت بيدي (تلفون، راجي يجيبه) .
راجي :
دكتور، الممرضة تقول: وصلك أربع برقيات من حين تركت.
الدكتور :
اسألها أن تفتح التلغرافات، وتخبرني إذا كان فيها شيء مهم. (يعود إلى التطلع بعيني وسيم. راجي يغازل الممرضة على التلفون، ويظهر أنها أهانته، فيرمي السماعة من يده كأنها جمرة، ويصيح: «دكتور الممرضة تريد أن تكلمك أنت.» فيذهب الدكتور إلى التلفون، بينما يرجع راجي إلى وسيم) . (راجي ووسيم يتهامسان.)
راجي :
تعال نخبره الآن.
وسيم :
أريد أن أزحزح هذا الحمل عن صدري (يرجع الدكتور) .
الدكتور :
أين السهرة هذه الليلة؟
وسيم :
سأذهب وسارة إلى بيت الحاكم.
الدكتور :
صحيح! ليلة راقصة متنكرة، ماذا تلبسان؟
وسيم :
بدوية وبدوي.
الدكتور : (يضحك)
وأنت يا سليم؟
راجي :
أنا سيدة المنزل، سأستقبل المواطنين أولاد العرب، ونحيي ليلة صخابة هنا.
الدكتور (لوسيم) :
يسرني أنك تحضر المراقص. لو أن المواطنين يرقصون، ويلعبون الغولف والبردج، لكان لنا في هذه البلاد مقام اجتماعي.
راجي :
مقامك الاجتماعي يغني ...
الدكتور :
لا تخالف الوصية الحادية عشرة.
وسيم :
ما هي الوصية الحادية عشرة؟
الدكتور :
لا تمسح جوخ.
2 (التلفون يرن، راجي يجيب خائفا أن تكون الممرضة. قبل أن يرفع السماعة.)
راجي (إلى وسيم) :
أمن الضروري أن أجيب على التلفون أنا دائما؟ (وأخيرا، يشجع نفسه فيرفع السماعة، ويحك أذنه كأنما نملة لسعتها)
المستشفى يا دكتور. (الدكتور يذهب إلى التلفون فيتكلم بصوت غير مسموع) .
أجلها.
وسيم :
إن هذا الكتمان يشويني، لنفرغ له أسرارنا هذه الليلة. (يرجع الدكتور) .
راجي :
لنا معك حديث طويل.
وسيم :
يا حكيم، إن الناس تأتمنك على أرواحها ...
الدكتور :
اذكر الوصية الحادية عشرة. (تلفون، يجيبه راجي بعد أن يتردد، وكأنه سمع خبرا هائلا.)
راجي :
أسرع يا دكتور، امرأة كامل الأميوني تستنجد بك، زوجها انتحر في دكانه.
الدكتور :
بخاطركم، نتحدث ساعة ثانية (يترك بسرعة، وقبل أن يخرج يكاد يصطدم بفرج الله، الذي يقول: ليلة سعيدة يا دكتور. فلا يجيبه هذا) .
راجي :
أهلا بفرج الله، (على حدة)
وألعن خلق الله.
وسيم :
هو! فرج الله؟!
فرج الله :
كل عام وأنتم بخير يا أحبائي، (يتقدم إلى وسيم ثم إلى راجي فيقبلهما:) كل عام وأنتم بخير، (راجي يغمس منديله بالويسكي، ويمسح مكان القبلة)
كامل الأميوني انتحر (يضحك ضحكة سادية)
3
فتش عن الدولار، يربح عشرة، ويصرف عشرين، الآخرة انتحار. (يرجع إلى القهقهة)
الصحيح اشتقنا، كيف حالكم؟
راجي :
حالنا نصفه ملعون، والنصف الثاني ألعن.
فرج الله :
سلوم دائما يحب الولدنة، عساك تبقى فرح القلب يا حبيبي، (يقبله ثانية، فيمسح راجي مكان القبلة ثانية) سلوم، ما لك كئيبا؟ لا تخف، الأزمة خانقة في كل مكان، الناس كالشجر تعرى وتكتسي. الدنيا فور وغور.
وسيم :
فرج الله، قل لي، هل أتيت بسبب الرهن؟
فرج الله :
الرهن! لا والله العظيم، بشرفي، بديني، برحمة أمي، بعرض أختي نبيهة؛ إني لا أهتم بالرهن مطلقا، وحياة عينيك، وحياة الخبز والملح الذي بيننا، كنت في طريقي إلى العاصمة، فقلت: لأمرن بشقيقي روحي سليم وسلوم. الصحيح أن الحالة التجارية تعسة جدا.
راجي :
أأنت تشكو من الحالة التجارية أيضا؟
فرج الله :
أتحسب أني بمنجى من هذه الأزمة؟ وحياة عينيك، بشرفي، بديني، برحمة أمي، بعرض أختي نبيهة؛ إني خسران، خسران، خسران.
راجي :
يعني بدلا من أن يكون عندك خمسة ملايين، صاروا أربعة ملايين ونصف؟!
فرج الله (إلى وسيم ) :
ما رأيك في هذه الحالة، يا حبيبي سلوم؟
وسيم :
رأيي بهذه الحالة مثل رأي مدير البوليس بصاحب المحششة.
فرج الله :
إذا سألتني رأيي أقول: يا بني، إنك شاب ذكي، لم أر في أولاد العرب منذ أتيت هذه البلاد لثلاثين سنة خلت فتى دأب، وشقي، واشتغل مثلما دأبت أنت، وشقيت واشتغلت. إن قلبي يتفتت كلما فكرت في أمرك، فوجدتك بعد جهاد عشر سنوات تتدحرج إلى هاوية الإفلاس. سلوم لا تخدع نفسك، تجارتكم في خراب.
وسيم :
هذا صحيح.
فرج الله :
أنت مضحكة أولاد العرب اليوم، والذين كانوا يصفقون لك بالأمس، هم اليوم يصفرون.
وسيم :
إن صفيرهم لا يهمني.
فرج الله :
أنت طموح. إنما الدنيا للظافر، للقوي، للغني. فإن أنت فقدت الغنى والقوة، فلن تكون ذا شأن بين الناس، ولو طبلت لك الملائكة، وهللت الشياطين.
راجي :
قرأت هذا الرأي في كتاب ثمنه خمسة قروش.
فرج الله :
قرأته، ولكنك لم تفهمه، لو أنك فهمته، لو أن أخاك سلوم فهمه، لكنتم اليوم في غير هذه الحالة. اليوم أنتم شباب لا تفهمون حرقة الفقر؛ إذ إن الفتوة حمقاء، تستخف بكل شيء، ولكن متى نزلت بكم الكهولة، وكثرت زجاجات الأدوية في غرفكم، وتطلعتم إلى الشارع من زري نوافذكم، فنظرتم الأجلاف يتصدرون السيارات الفخمة؛ إذ ذاك تذكرون صديقكم فرج الله، وتقولون آه ...
وسيم :
هل لك أن تفصح لنا عما تريد، واكف نفسك مئونة التمهيد؟
فرج الله :
لقد وجدت مشتريا لتجارتك، يدفع لك 200 ألف ريال نقدا.
راجي :
ومن هو هذا المشتري القبرصي؟
فرج الله :
اسمه؟! اسمه شركة السكورتاه.
وسيم :
يعني تريد أن نزيد الضمانة على بضائعنا، ونحرق؟
فرج الله :
أعني أنك تزيد الضمانة على بضائعك، ثم تقطع شريط التلفون، هكذا (يذهب إلى التلفون ويمثل) ، وتصل الشريط بالبضائع، ثم تذهب إلى مكان ما، فتنادي هذا التلفون، فيتسبب
Short Circuit ، ويطير الشرر من الشريط، ويحترق المحل. اترك التنفيذ إلي، ليس لك إلا أن توافق على ما أقول. في الماضي كانوا يحرقون بالشمعة، ولكنها موضة بطلت. اليوم
Short Circuit . ما اسمه بالعربي؟
راجي :
أي حريق من بعيد لبعيد؟
فرج الله :
أي نعم.
راجي :
حريق عذري، أو أفلاطوني. حب عذري. زواج عذري. حريق عذري.
وسيم :
سمعت الكثير عن لؤمك وألاعيبك وشرورك. الآن أصدقها. إن هذا الفتى الماثل أمامك، الذي تشفق عليه من التدهور إلى الإفلاس، يشفق عليك من لطمة تطحن أسنانك، إن لم تكبح رزانتي غضبي.
فرج الله :
على مهلك يا سلوم، والله أحبكما كأخوي.
راجي :
الظاهر حضرتك وحيد.
فرج الله :
بشرفي.
فرج الله، وراجي :
بديني، برحمة أمي، بعرض أختي نبيهة.
فرج الله :
إني لا أبغي إلا مصلحتكم. سلوم! انظر إلى ذلك القصر، الذي تتلألأ أنواره، وإلى الأسهم النارية التي تصعد إلى السماء كأنها قافلة نيازك شدت إلى القمر الرحال؛ هذا قصر علوي إخوان. أتدري ما مصدر هذه الأبهة، وهذا النور؟ (ينير عود كبريت)
هذا. من يعيرهم اليوم بما جرى أمس؟ من لا يبجل عظمتهم؟ أي فتاة لا تحلم بالزواج من أحد الأخوة الخمسة؟! سلوم، بينك وبين الغنى شرارة نار.
راجي (يتغنى) :
بينك وبين الغنى بصة نار.
فرج الله :
كان لجمع المال موسم في هذه البلاد وولى، يوم كنا نشتري كيلو الساعات بريال، ونبيع الواحدة بخمسين ريالا. أما اليوم، فأهل هذه البلاد أشطر من تجار حلب. لن تصل إلى الغنى عن طريق التجارة.
وسيم :
ولا أريد أن أصل عن طريق اللصوصية.
فرج الله :
لا تريدها! هاه؟ كلما أردت أن تمطرك الدنيا دولارات، تضع فوق رأسك مظلة، حينما ترجع إلى البلاد هل يسألونك كيف جمعت المال، أم كم جمعت من المال؟ وإذ أنت تربح من شركة الضمان هذه الثروة ... تسرق من؟ تسرق السارق؛ إذ إن أكبر لصوص الدنيا هي شركات الضمان. فكر بهذا الأمر، ولا تدع إباء مزيفا يجمح بعقلك. إن مآوي الفقراء ملأى بالمثقفين، الأذكياء، المجتهدين، الأشراف. انظر إلى أسعد معصب؛ كاتب، شاعر، خطيب، يحسن أربع لغات، ويشتغل عندي بمائة ريال في الشهر، (يعود للقهقهة)
لا تنس، حينما تموت، يدفنون جثتك أنت لا جثة سواك.
وسيم :
كفى، كفى! إن منطقك يخيفني. إن مجرد اقتراحك ارتكاب هذه الفعلة الشنعاء يهين تربيتي ومروءتي. منطقك معقول، ولكن النفس الأبية تطيع الطبع أكثر مما تطيع المنطق. لماذا لا تحرق وتقبض؟ ولماذا لا تتزوج أختك نبيهة؟ في وسعي أن أقنعك أنه لا عار بزواج كهذا؟ إن كل ما بيننا وبينك من علاقة هو هذا الرهن، نجدده، ثم ندرس علم الاجتماع، على غير الأستاذ فرج الله.
راجي :
ندرسه على الأستاذ أبي الفرج الأصبهاني، صاحب كتاب الأغاني.
فرج الله :
الرهن يجدد؟! (يقهقه)
قد يكون هذا في كتاب أبي الفرج، ولكنه ليس في كتاب فرج الله، متى استحق الرهن يدفع الرهن، هذا هو القانون.
وسيم :
قانون الناب والمخلب. إن كنت لا تحب أن تجدد الرهن نضاعف لك الفائظ.
فرج الله :
تدفع قيمة الرهن، وإلا أحجز.
راجي :
يا فرج الله لا تضيق أنفاسنا.
وسيم :
إذن من أجل هذا جئت.
فرج الله (نصف متهكم) :
لا. جئت لأقول لكم: كل عام وأنتم بخير، ولأهنئك بزواجك بسارة.
وسيم :
كيف عرفت بزواجي؟ فقد كتمت الخبر عن جميع الناس!
فرج الله :
سر النجاح أن تعرف ما لا يعرفه الناس.
وسيم :
ألا تعرف شيئا آخر لا يعرفه الناس؟
فرج الله :
أعرف أن البوليس يفتش عن وسيم الحموي وراجي البيروتي.
وسيم :
هكذا أخبرنا الدكتور نجيب، وأنت لا تعرف أكثر من هذا؟!
فرج الله (بمعنى) :
رأس الحكمة أن لا تفشي كل ما تعرف، أسمع جلبة، لعل ضيوفك قادمون، كل عام وأنتم بخير، الدفع الدفع أو الحجز، إنما بينك وبين الغنى (يضرب عود الكبريت، فيشعل سيكارته)
بصة نار.
وسيم :
اخرج يا لص.
فرج الله :
لا تغضب؛ الغضب دليل الخوف، أنت لا ترى الخطر؛ لأن الخطر ليس أمامك، بل هو راكب على ظهرك (ينصرف) .
راجي :
لو كان هنالك طريقة أن نحرق دون أن نحترق، وأن نقبض دون أن تدفع الشركة، لكنت أوافق على هذا المشروع، ولكن مشاريع كهذه ليست عذرية فقط، بل فوق العذرية؛
Super
عذري.
وسيم :
أرى الغيوم السوداء تتلبد. (جلبة وضحك) .
راجي :
أقبل الضيوف. (يدخل ستة مهاجرين، يلبس أكثرهم السترة المفضلة حتى العنق ، ليس بينهم تشابه كبير، أكبرهم رجل اسمه عباس هائل الجثة، أحدهم يضرب على الدربكة، وكلهم يتغنون):
مهما تفرنجنا
سنظل أعراب
مهما تبلدنا
منظل أغراب
ومهما تقاتلنا
منظل أحباب
نحنا الأشاوسة
أولاد العرب
إلهنا واحد
ما منشرك فيه
بيرقنا واحد
نتظلل فيه
عدونا واحد
ما منسميه
نحنا الأشاوسة
أولاد العرب (ضوضاء، وسلامات، وكلام غير واضح، وكل عام وأنتم بخير ... إلخ.)
وسيم :
أهلا وسهلا يا إخوان. أرجو المعذرة منكم؛ إذ إني سأترككم لأحضر الليلة المتنكرة الراقصة عند الحاكم. أخي سليم يبقى معكم، ويخدمكم، اسمحوا لي بأن أدخل، فأغير ثيابي.
مهاجر :
بأي ثوب ستتنكر؟
وسيم :
بثوب بدوي.
مهاجر :
إذا لزم البدوي جمل فعباس (مشيرا إلى صاحب الجثة الهائلة)
حاضر. (وسيم يضحك، وينصرف) .
راجي :
أين شمدص يا شباب؟
مهاجر 2 :
شمدص يكون هنا بعد هنيهة.
مهاجر 3 :
شمدص اعتمد الرجعة إلى البلاد. (يدخل شمدص).
شمدص :
يا إخوان، الرائحة عاطلة.
مهاجر :
كنا نتحدث عنك. (أصوات. هاي شمدص. سنيور تشارلي جو) .
شمدص :
مساء الخير، يا إخوان، كل عام وأنتم بخير، إذا لزمكم خدمة للبلاد أنا حاضر؛ بإذن الله أسافر في 13 الشهر.
مهاجر 4 :
ما الذي جعلك تعتمد على السفر؟
شمدص :
تعبت من اسم «تشارلي جو»، أحن إلى مناداة الناس لي: يا شمدص جهجاه.
مهاجر 5 :
هل ترجع حليقا، أم تربي الشارب؟
شمدص :
سأبقى حليقا، لا شوارب.
كلهم يتغنون:
سافر بالشارب
رجع بلاه
صار اسمه تشاري
شمدص جهجاه
راجي (على يده صينية هائلة، ملأى بالمشروبات) :
من منكم عطشان؟
كلهم :
هاي.
مهاجر 1 :
أنا أعطش من الإسفنجة.
مهاجر 2 :
أنا أقدر أن أشرب معمل بيرة؛ في بطني حريقة.
مهاجر 3 :
أنا أعطش من كيس رجل.
شمدص :
أنا أكاد أشرب عطشي.
راجي :
أطفئوا عطشكم (راجي في هذا المجلس متأدب، ولكنه متقزز من هذا المرح) .
مهاجر 4 :
شمدص، بما أنك راجع إلى البلاد، (يسير به إلى مقدم المسرح)
سلم على عمي حسن، وقل له: الحال عاطل؛ فلا أقدر أن أرسل له دراهم. أعطه هذه الساعة، وقلم الحبر. (يناوله إياهما، ويرجع بينما شمدص مشتغل بوضعهما في جيبه، يتقدم منه مهاجر 3) .
مهاجر 3 :
سلم على أبي، واعتذر عن عدم إرسال فلوس، وأعطه هذه الهدية (قلم حبر وساعة)، (يرجع فيتقدم مهاجر 2) .
مهاجر 2 :
شمدص، أنت أدرى بالحالة هنا. فقل لخالي أبي سامي: إنشاء الله، أرسل له بوليصة بعد كم شهر، وهذه هدية له (يسلمه ساعة، وقلم حبر) .
مهاجر 1 :
الله يوصلك بخير يا شمدص، هذه هدية، اعمل معروف؛ أوصلها إلى ابن عمي سليمان. التجارة في كساد، فلوس ما فينا نبعث. (يدخل مهاجر اسمه خليل، وهيئته أبله.)
خليل :
ليلة سعيدة يا إخوان، كل عام وأنتم بخير.
الحضور :
مساء الخير، كل عام وأنتم بخير.
شمدص (بحنق) :
خليل، تعال إلى هنا. (يتقدم)
عرفت أني راجع إلى البلاد؟
خليل :
بلى، أخبروني.
شمدص :
ما اسم أبيك يا خليل؟
خليل :
أبو خليل.
شمدص :
سأسلم لك عليه، وأقول له الحالة عاطلة، فلا ينتظر فلوس، (بحنق يأخذ بتلابيبه)
هات الساعة وقلم الحبر.
خليل (يناوله الساعة وقلم الحبر، ويصفر مستغربا) :
الله يرد العين عنك يا شمدص.
راجي :
يا شمدص، كل شيء حاضر، إلا صحن الحمص، وليس فينا من هو أشطر منك بعمل الحمص، فادخل إلى المطبخ، فالحمص جاهز.
شمدص :
أدخل إلى المطبخ، وأترككم هنا تشربون؟! لا، أعمله هنا. (شمدص ينصرف، ويرجع بعد قليل وفي يده صحن حمص، ومدقة يهرس بها الحمص) .
مهاجر 1 :
هل قرأتم جرائد البلاد؟ وصلني حزمة اليوم.
مهاجر 2 :
كل جرائد البلاد قتل وضرب.
مهاجر 3 :
ما في ألعن من الجرائد منذ ثلاثين سنة، ولم أدفع الاشتراك، أنا تصلني «بريد الخميس».
مهاجر 4 :
أنا صار لي في هذه البلاد 20 سنة. لا دخلت محكمة، ولا أخذت شربة، ولا دفعت اشتراك جريدة.
مهاجر 5 :
جرائد بلادنا تحير. كل كلمة يا أفندينا، أكبر من رأس البطيخ. من يفهمها؟!
مهاجر 7 :
وماذا تفهم حضرتك، حتى تفهم الجرائد؟
مهاجر 1 :
فيها قصيدة لحسون المصايف بديعة، بديعة، بديعة.
مهاجر 2 :
وكيف عرفت أنها بديعة؟
مهاجر 1 :
لأني ما فهمت منها ولا كلمة!
شمدص :
أنا بحياتي لم أقرأ إلا كتاب الزير (ينتزعه من جيب بنطلونه الخلفي، ويقرأ متغنيا، ومشيرا بمدقة الحمص):
يقول الزير أبو ليلى المهلهل
ألا يا بنات إن السعد جاكم
غدا جساس أقتله بسيفي
وآخذ يا بنات بثار أباكم
فلاقوه على الخيل الضوامر
وإني سوف أهجم من وراكم
مهاجر :
ناولني كتاب الزير (أصوات من المهاجرين: هات كتاب الزير. أعطنا الكتاب) .
شمدص :
لا، لا، لا، اطلبوا روحي، وسيفي، وحصاني، ورمحي، ومحفظة نقودي؛ إنما لا تطلبوا مني كتاب الزير. لنرجعه إلى المكتبة (يعيده إلى جيب بنطلونه الخلفي) .
مهاجر 3 :
يا إخوان، تذكرون أن بيني وبين فؤاد مراهنة على عشرة ريالات. الآن جاءنا جواب المقتطف (يقرأ):
سؤال نرجو أن تفيدونا؛ هل إسكندر ذو القرنين ولد قبل عمر بن أبي ربيعة، أم أن عمر بن أبي ربيعة ولد قبل إسكندر ذي القرنين؟
نبيه غواص
فؤاد الحداد
عن غرانبلا أميركا الوسطى «جواب المقتطف: إسكندر ذو القرنين ولد قبل عمر بن أبي ربيعة.» هات العشرة ريالات يا فؤاد.
فؤاد :
على الرأس والعين (يدفع له) .
مهاجر 3 : (ملوحا بالعشرة ريالات)
على سلامة قرنيك يا إسكندر.
فؤاد :
إنما أراهنك على عشرين ريالا، أني مصيب في جدال هذا الصباح: الأرض مسطحة.
مهاجر 3 :
مربعة.
فؤاد :
مسطحة. أتراهن على عشرين ريالا؟
مهاجر 3 :
أراهن على عشرين ريالا أن الأرض مربعة.
فؤاد، ومهاجر 3 :
لنسأل «المقتطف».
مهاجر 2 (متضايقا من هذا الحوار) :
خلص صحن الفول يا شمدص.
شمدص :
اسألوا المقتطف! (صفير متواصل.)
مهاجر 4 :
يا إخوان، هل تسمعون الصفير؟ العاصفة تشتد!
مهاجر 5 :
الله يساعد الذين في البحر.
مهاجر 8 :
في كل رأس سنة عاصفة، العام الماضي غرق أربع بوابير.
راجي :
كيف حال كامل الأميوني؟ صحيح انتحر؟!
مهاجر 3 :
الرصاصة دخلت الصدغ الأيمن، وطارت من الصدغ الأيسر، دماغه يرشح؛ هكذا أخبرتني الممرضة.
مهاجر 4 :
الدكتور نجيب يعالجه. شفاه الله.
مهاجر 5 :
كيف تريد أن يشفى! إذا كان الرصاص اخترق رأسه.
مهاجر 2 :
أهذه أول عجيبة قام بها الدكتور نجيب؟ سترى كيف يشفيه، سترى (شمدص يخرج) .
مهاجر 7 :
أي نسمة خير هذا الحكيم! أمس كفل 14 مواطنا من «حاصبيا»، حتى سمحوا لهم بالدخول إلى «غرانبلا»، وهذا الصباح توسط لابن أنيس الحلبي فعينوه طبيب بلدية، مع أنه كان مرشح لهذه الوظيفة 82 طبيبا من أهالي غرانبلا. (يرجع شمدص، فيخطف المقتطف، ويقرأ.)
شمدص :
نرجو أن تفيدونا إذا كان الأستاذ شمدص جهجاه - أي السنيور تشارلي جو - أنهى صحن الحمص؟
جواب المقتطف :
صحن الحمص خلص، تفضلوا. (أصوات: هاي، يحي شمدص، ثم يهجمون للداخل)، (راجي يبقى وحده يرتب الكئوس، ثم يتطلع إلى الكراسي، ويصفر صفرة طويلة، كأنه متضايق من معشر كهذا، ويشرب كأسا. فيما هو يمشي يعثر بكرسي، فيخاطب الكرسي، معاتبا: «وأنت أيضا يا بروتوس؟») (تدخل هدى.)
راجي :
أهلا وسهلا بخالتي هدى، أين سارة؟
هدى :
سارة التقت بصديقة لها، وهما يتكلمان خارج المنزل، ستكون هنا بعد قليل، أنا سبقتها، أرجو أن تكتب لي مكتوب تعزية للبلاد.
راجي :
مكتوب تعزية؟! أهون علي أن أموت من أن أكتب مكتوب تعزية، اسألي صهرك.
هدى :
صهري يا ثرثار! من قال لك أني أزوجه ابنتي من غير أن أعرف دينه؟ لعله من الجماعة؟! إن كان من غير ديننا، فأهون علي أن أمزق ابنتي من أن أزوجه إياها!
راجي :
هنا يتزوجون زواجا مدنيا.
هدى :
مدنيا؟ لعن الله المدنية إن كان الزواج يعقده كاتب عدل، كأنه كونتراتو رهن.
راجي :
الزواج رهن يا ست هدى؟! الزواج بيع بات. هل سمعت ببني عذرة؟
هدى :
بني عذرة؟! من أي ضيعة هم؟ ما هو دينهم؟ قل لي ما هو دينكم؟ في أي كتاب يصلي سليم؟
راجي :
كل حياته يصلي بكتاب «الأغاني»، وأظنه يعبد أبو الفرح الأصبهاني، (صائحا للداخل)
يا سليم، يا سليم، خالتك هدى هنا (يدخل وسيم بثوب بدوي. راجي يهرب متغنيا «ضاقت، ولما استحكمت حلقاتها») .
وسيم :
مساء الخير يا خالتي هدى، أين سارة؟
هدى :
سارة تعلك مع صديقتها خارج المنزل، ستكون هنا بعد قليل. اعمل معروف؛ اكتب لي مكتوب تعزية، واقرأ لي هذا المكتوب. (وسيم يأخذ المكتوب من هدى، ويقرأ) .
وسيم : «جناب حضرة ست النساء، وزينة الأرض والسماء، خالتنا هدى - حفظها الله ...»
هدى :
آمين.
وسيم (متابعا) : «من بعد إهدائك السلام، نخبرك أن البارحة وقعت عركة بينا وبين بيت الحموي، فجرح أبو مرعي.»
هدى :
الله يبشرك بالخير.
وسيم :
وقتل أخوه .
هدى :
الحمد لله.
وسيم :
ومنا قتل ابن خالك جميل، عوضنا الله بسلامتك.
هدى :
يا أسفي عليك يا جميل! يا سبع الرجال يا جميل!
وسيم :
من خصوص البوليصة 200 دولار وصلت، وحالا صار دفعها للأفوكاتو في بيروت، وإنشاء الله في المكتوب القادم نخبرك أننا ربحنا الدعوى العتيقة على الجماعة. قال: إذا كنتم تريدون رصاص في صدور بيت الحموي، لازم يجيكم بارود من أميركا، واليوم ورد علم أن وسيم الحموي ورفيقه البيروتي موجودين عندكم في بلاد «جرانبلا»، وأسعد بك اشتغل في بيروت لإرسال علم لحكومتكم، ففتشوا على هذا اللعين، والشبان هنا مستعدون للسفر، وأخذ الثأر إذا لزم الأمر، إنما الأحسن إرجاعه لهنا محفوظا، حتى إذا نجا من الحكومة، فشباننا مستعدون لعمل اللازم، وأم وسيم الآن نصف مجنونة، خرفانة، أكثر كلامها مثل كلام الأطفال، إنشاء الله ينشرح قلبها بالزايد برؤية ابنها يتمرجح برقبته، قبل انتقالها إلى جهنم ... الباقي سلام، وكلام ...
هدى :
أم وسيم الحموي، الحية الرقطاء، ابنها قاتل ابني، ابنها في جرانبلا؟! أين أنت يا ابن اللعينة، لأخنقك بيدي؟ أين يدك التي احمرت بدم طعان؛ لأحزها عن جسمك يا ابن اللعينة؟ سليم، سليم، فتش معي عن هذا اللئيم، وإذا وجدته أزوجك سارة، ولو كنت من الشمس. (تدخل سارة في لباس بدوية، وسيم وسارة لا يسلمان على بعضهما، بل تشع العيون، ثم تبتسم الشفاه، فتشتبك الأيدي)، (راجي يطل لابسا البرنيطة، حاملا العصا، فيتنحنح.)
راجي :
خالتي هدى، تعالي أكتب لك مكتوب التعزية، (مقلدا وسيم)
فإن الوحي يغشاني من جديد. (يتأبط ذراعها، ويحاول الخروج بها) .
هدى :
ليس من اللائق أن نتركهما هنا وحدهما.
وسيم :
يا خالتي هدى، ألا ترينني بأثواب العرب؟ العرب لا يخونون، ائتمني هذا العربي، ولو على ابنتك البدوية زينب (راجي يسير بهدى متغنيا: «الخيل، والليل، والبيداء تجهلني، السيف ...») .
هدى :
يا ربي! في أي زمان نحن!
سارة :
سنة 1937 (هدى وراجي ينصرفان، سارة تهم بضم وسيم، فيدفعها هذا بلطف) .
وسيم :
لا، لا، أنت في مضافتي، اذكري وعدي لأمك.
سارة :
ولكني زوجتك، أنسيت؟!
وسيم :
كيف أنسى! ولكن العربي لا يحنث بالوعود. سارة، ما أجملك هذه الليلة! وكل ليلة وكل نهار.
سارة :
إذا لم تسكت عن مغازلتي صفعت خدك بشفتي.
وسيم :
أريد أن أخبرك خبرا هاما.
سارة :
ما هو؟
وسيم :
هو أني أحبك، وأعبدك، وأحيا لأجلك.
سارة :
أليس لديك خبر جديد؟
وسيم :
بلى، هو أني أهواك.
سارة :
وغيره؟
وسيم :
وأنك حبيبتي.
سارة، ووسيم :
وعروستي، وقلبي، وروحي، ومالي.
سارة :
سليم، كدت أن أخبر أمي بأمر زواجنا، فلماذا ... أمي تقول: ربما تكون أنت من «الجماعة»، فما معنى «الجماعة»؟ كلمة على لسان أمي كل ساعة؛ إذا أتى مكتوب من البلاد فكله عن «الجماعة»، كل النهار: «الله يقطع الجماعة». فمن هم الجماعة في البلاد؟
وسيم : «الجماعة» في البلاد هم من ليسوا من حزبنا، أو ديننا، أو حينا، أو عائلتنا. لو لم تأتي إلى «غرانبلا» طفلة لكنت تفهمين أي ديناميت في كلمة «الجماعة».
سارة :
يعني في بلادنا الناس «جماعة وجماعة»؟
وسيم :
يا ليت! في بلادنا ألف جماعة وجماعة.
سارة :
إنما أنا وأنت جماعة واحدة، آ، سليم؟ هل قرأت المكتوب لأمي؟ أراهن أنه فيه قتل. «وادي الأرز» ضيعة تسكن أم هي ساحة قتال؟
وسيم :
هي جنة تسكن لو لم تكن ساحة قتال. لو لم تكن «جماعة وجماعة».
سارة :
لماذا اخترت التنكر بثوب البدوي عقيل والبدوية زينب؟
وسيم :
أنت وأنا إذ نلبس ثياب العرب لسنا بمتنكرين.
سارة :
صحيح؟ أرى العرب في السينما وفي الجرائد أضحوكة.
وسيم :
أضحوكة سفلة صحافيي الغرب. النخوة، العرض، المروءة، النجدة؛ هل تجدين هذه الألفاظ إلا في لغة العرب؟
سارة :
لا.
وسيم :
أي سارة، إني إذ أسترد أثواب العرب أشعر برعشة فخر.
سارة :
لماذا خلقك الله كتلة من عواطف، وما بالك كئيبا هذه الليلة؟ قل لي؛ من حقي أن أعرف.
وسيم :
أو. ليس بي شيء، تعالي نرقص.
سارة : «تعالي نرقص»! إذن فأنت كباقي أولاد العرب؛ زوجتك للهو وللبيت. إن إنكارك علي مصاعبك ينطوي على احتقارك إياي، فكأني أتفه في عينيك من أن أشاركك بمصاعبك. قل لي ماذا جرى؟ إني أشعر أن أمرا يقلقك، فما هي الحيرة التي تغمرك؟ سليم، ما أنت بالرجل الذي أعهده، لا تخف عني شيئا، أهذا هو الحب الذي غمر قلبينا؟ أهو عاطفة وانفعال جنسي، أم هو تفاهم روحي؟ لي الحق أن أفهم كل شيء. أرى علامة استفهام على وجهك، لماذا لا تضع رأسك على صدري، وتحدث سارة عن همومك؟
وسيم (بعد تردد) :
هذه الجرائد.
سارة :
أفيها خبر مكدر عن ذويك؟
وسيم :
لا، ولكنها تسخر بي؛ كل جريدة تحمل أنباء العظائم؛ فهذا رجل اخترع مكنة، وآخر جاد على الدنيا بكتاب، وغيره اكتشف أو اكتسح. هذه الجرائد تسخر بي، كلماتها تحملق بوجهي، متهكمة تسألني: من أنت أيها النكرة، وما شأنك في الدنيا؟ أي عظيم أمر قمت به في الحياة، فننقل خبره إلى الناس؟ أجيبها: لا شيء، لا شيء، أنا بياع، انظري (يقع، ويبكي) .
سارة :
لا تستسلم إلى الانفعال.
وسيم :
وكنت أمر بها غير آبه، لو لم أكن ذقت طعم الظفر في فجر حياتي. سارة، إني عاهدت الناس في مطلع العمر على الفوز، وها أنا أحنث بالعهد، أنا فاشل وخائن، خائن! رجعت إلى سخيف الذكريات، بل من ليس له مستقبل تعلق بماضيه، إن مستقبلي مضى. رب! كم صرت أبغض نفسي!
سارة (تأخذه بيديها) :
أي زوجي وحبيبي، قف، قف. (يقف)
قف كمن يهم بالقتال، (يفعل)
اصرف بأسنانك، وليلمع الغضب في عينيك، (يفعل)
ضم قبضتيك بكل ما في جسدك من قوة، (يفعل)
الآن قاتل؛ قاتل الدنيا، ولا تنطرح على الأرض كهزيم. ليس العار أن تغلب، العار أن تهرب. أنت رجل، وككل رجل تفكر، وتصل إلى استنتاجاتك عن طريق الفكرة. أنا امرأة، أشعر وأشعر فقط، شيء لا أراه، ولا ألمسه، ولكني أحسه وأشعره؛ إني أشعر أنك ستكون عظيما. أي حبيبي، ستكون عظيما، ولا يهمني إن كنت اليوم مفلسا ومغلوبا. البارحة حلمت حلما مريعا؛ رأيتك ممتطيا جوادا أبيض شأن الفاتحين، وفي يمينك علم خفاق، وعيناك محدقتان بقمة الجبل، والحصان يتخطى بك السفح إلى القمة، وأنا أحوم حواليك، وفي يدي قيثارة، أغني لك الأناشيد ، وفجأة زل الجواد فرعبت، وحدقت، فإذا أنت بالوادي مهشم الجسم دام، ولكن الجواد على حوافره الأربعة واقف، وأنت مسمر إلى صهوته، والعلم في يمينك خفاق، وعيناك في القمة تحدقان؛ هكذا أريد أن أراك!
وسيم :
وهكذا سأكون.
سارة :
أتعد؟
وسيم :
وعدا عربيا.
سارة :
ألا تقبلني الآن؟
وسيم :
أتريدينني حناثا بالوعود؟
سارة :
إذن لا تقبلني.
وسيم :
أريد أن أحدثك بسر هائل كتمته عنك حتى اليوم.
سارة :
ما هو؟ (يرجع المهاجرون، وراجي في طليعتهم يتنحنح.)
راجي :
سمعت سليم يقول: «أحب حتى الذبابة في فنجان قهوتك، والبراغيث في شعر هرتك، وأطرب لنباح كلبكم.»
سارة :
وسمعت سارة تقول: أحب حتى أخاك سلوم ينهق من عطشه، ويلبط من بطره.
شمدص :
اقتراح يا إخوان، ما قولكم إذا رقص البدوي عقيل والبدوية زينب هنا، قبل الذهاب إلى المأدبة؟!
أصوات :
موافق، موافق، وسعوا الحلقة. (سارة ووسيم يرقصان. الباقون: أو من صوته حلو يغني):
بين داري ودارك درب
توصل بابينا
في صدري وصدرك حب
يغمر قلبينا
نرمي مع ساري الريح
أحقاد أبوينا
وفي وجه الدنيا نصيح
من يقدر لينا
نهدم وراثة البغض
من عهد أجدادنا
ونحيا لبعضنا البعض
ونبني لأولادنا (سارة تضع ذراعها على ذراع وسيم ويخرجان. أصوات: تحي البدو، تحي العرب، لا ترجعوا إلا بالجائزة الأولى. هدى تأتي راكضة، فمها مملوء أكلا، وتصيح وهي تنهض فسطانها: «لا تسبقوني، لا تسبقوني» إذ): (ينزل الستار)
ثم يرتفع حالا فنرى
إننا في آخر الليل، وكل ما على المسرح مبعثر. راجي نائم يشخر. شمدص سكران، يخطب لجمهور يظهر أنه بين السماء والأرض بكلمات نصف مفهومة.
شمدص :
أين أولاد العرب؟ فلتحي أولاد العرب. فليسقط أولاد النور. فليحيا الزير أبو ليلى المهلهل. فليسقط جساس. فليحيى العنب والتين والصبير. فليحي اللقطين. فلتحي شواربكم.
راجي (يأخذ بشمدص، ويخرجه صارخا)
وليحي شمدص جهجاه. (يدخل وسيم نصف سكران، وفي يده كأس فضي.)
وسيم :
هاي مسيو سلوم. يا سنيور سلوم، انظر إلى هذه. هذه الجائزة الأولى بالرقص قدمها لنا الحاكم بيده (يرقص، ثم يقبله) . كل عام وأنت بخير. أعاشك الله إلى زمن تكنس به الأرض بلحيتك، أي سنيور سلوم (يطوي ذراعه)
جس هذا، فإنه لا يزال صلبا كسنديان لبنان. ضع يدك على هذا (مشيرا إلى قلبه)
فهو لا يزال يدق دقة عسكرية. هاي سنيور سلوم، ليتك سمعت خطابي إذ قدموا لنا هذه الجائزة. راجي لقد ظفرت بأمنية حياتي، فقد سمعت التصفيق كالرعد. أتذكر قولك لي: أن طموحي هو سماعي التصفيق، ومستقبل التصفيق يتلاشى، ولكن التصفيق يرجفك، قبل أن تتلاشى يا مغفل، ولذة الحياة هذه الرجفات. قلت لهم: ما هذه بأول مرة غزت البداوة الحضارة، وما هي بأول مرة يهز علم العربان فتى من لبنان، قلت لهم ... ولكن هل أعددت حقائبي يا أستاذ؟
راجي :
يا مجنون، أتسافر في هذه العاصفة؟ أتريد أن تأكلك الأسماك.
وسيم :
السمك يأكلني؟! أنا آكل السمك. (يصب في الكأس الفضي، ويشرب)
ما أطيب كأس الفوز في ليلة العيد (صفير بعيد قوي)
علامة الخطر هاه؟!
راجي :
ولكنه البحر يا مجنون، أتريد أن تغرق؟
وسيم :
إذا غرقت فجثتي تشطط برأس بيروت. لا تنس وصيتي، أحرق جثتي، وذر رمادها على تربة تلك الشجرة التي زرعناها يوم تخرجنا. إنما ضع إعلانا كبيرا (يهمس بأذنه، ثم يضحك)
وألا تيبس الشجرة، أما أنت فعش، وامرح، ولا تنس أن تفتح صيدلية في زاوية بيتك، إذ متى كبرت ستحتاج إلى أسبرين وحبوب الحياة للدكتور روس، وقطن، وقطرة لعينيك (يهمس بأذنه، ويضحك)
ستحتاج إلى ذلك أيضا. (صفير) . صفري. صفري أخبري الناس عن العاصفة، ولا تخبريني. أنا الذي أكل العواصف مائة مرة. انظر إلى الأمواج تجن في هجومها على الشاطئ، متدفقة كأنها رجال «سلطان»، حاملة على العدو - أيها البحر، أيها الجواد الصاخب المزمجر، ما هذه بأول مرة أمتطيك وأنت جموح. كم مرة علوت ظهرك، وقد قوسته عاليا عاليا كجبل «الباروك»! وفتحت شدقا عميقا كوادي «حمانا» فالعب، وامرح، وزمجر، وليملأ الجو زبد أشداقك، ففارسك منع الله الخوف عن قلبه. فارسك البدوي عقيل، غير هيابك:
ملأنا البحر حتى ضاق عنا
وماء «البر» نملأه سفينا
عندينا. (ينصرف بالحقيبة) .
راجي (بصمت وجوم، يأخذ القنينة فيكسرها، ثم يتدارك نفسه، فيمسح الخمر بمنديله، ويعصره بفمه، ويرتمي على الكرسي، نابشا شعره صارخا) :
كل عام وأنتم بخير. (ينزل الستار)
المشهد الثاني (بعد ثلاثة أيام. المكان نفسه. شمدص وفرج الله. شمدص كالمشدوه. فرج الله في نشوة الغراب، إذ يمزق جيفة حصان نتنة).
شمدص :
أوضح لي الأمر. أصحيح كل ما أسمع؟ ماذا جرى يا فرج الله؟!
فرج الله :
الذي جرى أمر بسيط، أوضح من هذا الأنف الذي على وجهك. بعد أن خرج وسيم من بيت الحاكم، جاء إلى هنا، واختطف حقيبته، وركب البابور والعاصفة في طورها السابع المخيف. بعد ست ساعات، إذ أمعن البابور في البحر، نزلت «الفاجعة» (يضحك)
فرقصت الباخرة كأنها طابة فوتبول، وانقطع حبل دفتها، وطافت الأمواج على خزانات البخار، فانفجرت، وتناثر ركابها ومنهم وسيم بين تلك الجبال المتلاطمة، حتى عثر وسيم على قطعة خشب، تمسك بها 58 ساعة في تلك الصحراء المائية، لا أكل، ولا شرب، ذاقوا بها أهوال الموت أحياء. كلاب البحر اختطفت تسعة منهم، (يضحك)
إلى أن مرت بهم دارعة أميركية، فانتشلت بقيتهم، وصاحبك وسيم منهم.
شمدص :
أهو في خطر؟
فرج الله :
كلنا دائما في خطر يا شمدص. أنت في خطر وأنا في خطر. إنما وسيم الآن أعمى، (يضحك)
فقد بصره من وهج الشمس على البحر.
شمدص :
وراجي؟
فرج الله :
راجي في السجن؛ لأنه شريك وسيم قاتل طعان الحمصي، وطعان هذا هو ابن هدى وأخو سارة، وهدى شبه مجنونة، تريد الانتقام من قاتل ابنها، وتريد الانتقام من ابنتها، التي تزوجت وسيم سرا، وراجي ووسيم سيرسلان تحت الحفظ إلى بيروت للمحاكمة.
شمدص :
أكاد لا أصدق ما أسمع. هوليوود لم تصنع مثل هذا الفيلم، الذي نشاهده.
فرج الله :
لنعجل بأخذ قائمة البضائع، فبعد قليل، سيأتون بوسيم إلى هذه الغرفة.
شمدص :
ولكن أمن اللياقة أن تضع يدك على تجارتهم، وهي في هذه الحالة؟!
فرج الله : ... وأنت أيضا يا شمدص؟ لماذا كل أولاد العرب يبغضونني؟ لأني نجحت حيث فشلوا؛ لأنهم يحسدونني. الغني محسود، ولكن قل لي من يحتاج الآخر ، أنا أم هم؟ يستدينون مني، أنا لا أستدين. حينما يعطشون إلى المال ينادون فرج الله، وحينما يأتي موعد الدفع يشتمون فرج الله.
شمدص :
ولكن حالة هذين الشابين تستدعي الشفقة، والله أنعم عليك.
فرج الله :
الله أنعم علي، فسأحاسب الله، وليس غيره.
شمدص :
فرج الله تبصر بالأمور. شابان غريبان: أحدهما أعمى كسيح، خلص من الموت غرقا بنصف روحه، والثاني سجين. ألا ترى من المروءة أن توقف الحجز، حتى تستقيم أمورهم؟
فرج الله :
من المروءة أن أحمي حقوق فرج الله أولا، وثانيا، وأخيرا. كل ما في هذه الغرفة وهذا المحل هو ملكي، أفهمت؟ وأنت من أرسلك؟
شمدص :
أرسلني الدكتور نجيب.
فرج الله :
لماذا لا ينصرف الدكتور نجيب إلى الطب، ويترك الناس في أمورهم.
شمدص :
فرج؟! بعض من يكبرون اللقمة يختنقون.
فرج الله :
طيب، إنما في يدي أمر، يفوضني بالاستيلاء على كل ما في هذا المكان، وسأستولي على كل ما في هذا المكان.
شمدص :
فرج! من أخبر البوليس عن وسيم وراجي؟
فرج الله :
لعلكم تتهمونني؟! وصل لمدير البوليس مكتوب مغفل الإمضاء. هل وجدوا توقيعي عليه؟ (يضحك) .
شمدص :
مؤكد لا!
فرج الله :
هل الخط خطي؟ (يضحك) .
شمدص :
طبعا لا، وأراهن أنك كتبته، وعلى يديك قفازان.
فرج الله :
أنا قلت لوسيم الحموي: اقتل ابن هدى الحمصي في «وادي الأرز»، ثم هاجر إلى غرانبلا، وتزوج ابنتها سرا، ثم اسكر ليلة رأس السنة، وسافر في البحر والعاصفة تشتد؟ أنا رجوته أن يستدين المال مني، ويمثل أدوار حاتم طيء، والسموأل، وهارون الرشيد في هذه البلاد؟ شمدص! لا تتكلم كالأغبياء، فأنا أعلم أنك شاطر. فلنبدأ بالتفتيش. (يفتح المكتبة، ويأخذ شهادتين.)
شهادة مدرسية، وشهادة مدرسية. تعجبني هذه الشهادات، فهي ماركات غباوة، وقعها حمار كبير، يشهد أن حاملها جحش صغير، يصلح مطية للأذكياء. هل دخلت مدرسة يا شمدص؟
شمدص :
لا، ولكني تتلمذت على الكثيرين من أمثالك، وتعلمت أمثلة مجانية ثمينة.
فرج الله :
أرخص الأمور أثمنها. الابتسامة لا تكلف شيئا فالبسها، وكلمات الإطراء مجانية، فاغمر بها قلب عدوك، واليمين فاقسم بها مغلظا ، واذكر أن جمهور الناس أغبياء. متى أردت الإيقاع بشخص لا تعبس بوجهه، بل صادقه. فأهون أن تصطاد الذباب بالعسل من أن تصطادها بالخل. كن كالخمرة وديعة في كأسها، تغوي العين، حتى تتسرق إلى الفم، فإذا انزلقت إلى الكبد نهشتها. المهم أن تربح المعركة، ولن تجد من يسألك: كيف ربحتها، واعلم، أنه ليس في الدنيا صديق.
شمدص :
أنا ليس لي في الدنيا إلا صديق واحد.
فرج الله :
من هو؟
شمدص :
الزير أبو ليلى المهلهل.
فرج الله :
أنت رجل حاذق لم تطل المدرسة أذنيه. لا حاجة إلى تقويم البضائع. سآخذها كلها، وأترك للأستاذين كل الشهادات المدرسية، ولكن هذا الصندوق لا أريد نقله مقفلا، مخافة أن يدعوا أن كان فيه الملايين، فقل للدكتور نجيب: أني أريد المفتاح.
شمدص :
الدكتور نجيب في الغرفة الثانية، يداوي وسيم. اسأله أنت عن المفتاح.
فرج الله :
أنت مندوبه، فاسأله أنت. (شمدص يخرج، ويرجع بالدكتور نجيب لابسا سترة الأطباء، بينما فرج الله يقلب أوراق وسيم، ويضحك) .
الدكتور نجيب (إلى شمدص) :
اذهب إلى السجن، (مشيرا إلى النافذة)
هو قريب منا جدا. لقد سألت مدير السجن أن يطلق راجي ساعة بكفالتي، فإن لم يكن قد فعل بعد، فعجله. (شمدص ينصرف، إلى فرج الله)
أيها الضبع، المعسعس في خراب هذا البيت، لا تحرج الدكتور نجيب أن يستعمل نفوذه ضدك. في حياتي كلها ما حالفت مواطنا ضد مواطن. لا تجعلني أبدأ بك.
فرج الله :
ولكن حقوقي. حقوقي. أريد أن أفتح الصندوق.
الدكتور :
سآتيك بمن يفتحه، ولكنك إذا مضيت في قساوة، تعسفك سببت طردك من هذه البلاد، حتى لا تستطيع رؤيتها إلا بمنظار. بعض الأمور في هذه الدنيا لا تشتريها الملايين. (تدخل سارة في لباس النوم.)
سارة :
بدأ يتحرك.
الدكتور :
طيب. متى استفاق، أذهب إليه. (بشدة)
وأنت قلت لك: انصرفي إلى فراشك. كفاك سهرا، وتعبا.
سارة :
مورفين الدنيا كلها لا ينيمني ووسيم في هذه الحالة. (تبكي، فيراضيها الدكتور نجيب، ويصرفها قائلا) : ما عليه شر. قلت لك: ليس عليه خطر. (يرجع شمدص وراجي . هذا في لباس السجن، وعلى ظهره وصدره نمرة 113) .
الدكتور :
هل معك مفتاح الصندوق يا سليم - راجي؟
راجي :
ها هو يا دكتور.
الدكتور :
افتحه.
راجي (لفرج الله) :
ذاب الثلج، وبانت الأوساخ. سأفتحه، ولكنك يا فرج الله، لماذا لم تحجز على هذا السوط أيضا، (يتناول الكرباج من الحائط)
انظر إليه. هذا ملكك أيضا، يا من اشترى ائتماننا بعملة مزيفة. أما الصندوق، (يفتحه)
فهو خال من المال، خلو نفسك من كل مروءة.
فرج الله :
يا راجي، أنا لا أريد إلا خيركم. إذا لم أحجز أنا حجز البنك ... بشرفي.
راجي : (مع كل كلمة ضربة سوط)
بديني، برحمة أمي، بعرض أختي نبيهة، وحياة الخبز والملح الذي بيننا.
الدكتور (يفصل بينهما) : ، اجمد. إرم الكرباج (راجي يفعل) .
راجي :
أيها الممثل العبقري، أهنئك بنجاح دورك. إن أمهر ممثلي العالم لم يسرحوا على مسرح، بل هم بيننا في كل يوم، يمثلون أدوارهم.
فرج الله :
هذه بلاد تمدن وقوانين. ما نحن في «وادي القرن». لن تضربني وتنجو من الحكومة يا مفلس، يا محتال. يا قاتل. سأريك. سأريك (ينصرف) .
الدكتور (لراجي) :
أنت أحمق ومجنون.
شمدص (يتناول الكرباج، ثم يقول لراجي على حدة وهو ينظف الكرباج) :
وسخت الكرباج.
الدكتور :
أفسحوا مكانا هنا لكرسي وسيم. (الدكتور يساعدهم على الترتيب، ثم يذهب إلى الغرفة الملاصقة، فيأتي بكرسي. ذات دولابين، يجر وسيم عليها، وسيم يصرخ متألما. العصائب تشد رأسه، ورجليه، ويده اليسرى) .
وسيم :
الله. الله. آخ. آخ. يا الله.
الدكتور (بينما يشعل بابور سبيرتو؛ ليطهر الحقنة) :
صبرك وسيم. سأعطيك حقنة مورفين، تقتل الألم.
وسيم :
اقتل الألم. آه. ربي، إن جسمي يلتهب، كأني أسبح في بحيرة من النار.
راجي :
صبرك وسيم. إن الألم سيضمحل.
وسيم :
أنت هنا يا راجي؟ يدك وعفوك. عفوك عن هوة سحبتك إليها. كنت نبيلا في أخوتك. تناس حماقتي.
راجي :
ستمضي هذه المصاعب، ويأتي يوم نتذكرها، ونضحك.
وسيم :
أحس أن جيوش الفناء تسير في دمي. انطفأ النور من عيني. صرت أعمى يا راجي، وأحس أن روحي تتراقص لتنطفئ. لا تدعهم يدفنونني هنا يا راجي. لا تسكني مقبرة الأغراب. أيضطجع أربعة عشر جيل في قريتي، وأدفن في مدافن الأغراب؟ أريد أن يواكبني إلى القبر ألف شجاع، ويحر وجهي تلويح ألف منديل. أريد أن أسمع الندب في مأتمي. راجي، إن لم تقو على إرسال جثتي إلى هناك، فلتحرق الجثة والرماد فليذر على تربة تلك الشجرة، التي زرعناها يوم ودعنا المدرسة، أتذكرها يا راجي؟ ما أقبح هذه الخاتمة يا راجي. انظر إن الستار يكاد ينزل، والجمهور يصفر، وابتسامة التشفي على شفاه اللئام. ما هذه الحكاية المشوشة، التي مثلتها على مسرح الأيام، كأن كل شيء فاتنا حين ارتفع الستار، وكانت النظارة مصغية، معجبة، فلماذا هم الآن يصفرون؟ آه (يضرب بقبضته على مستند كرسيه) . ما هكذا كانت تنتهي رواياتك يا وسيم الحموي. سارة، سارة، أين أنت؟ (سارة تبكي في صمت، ولا تجيب) . راجي، لا تقل لهم أني مت هكذا، قل لهم قتله العبيد، غرق أو انتحر، ولكن لا تقل لهم أني فنيت هكذا، كقشرة بطيخ تهرأت.
راجي :
سارة نائمة.
الدكتور :
الآن وقت المورفين. هذه آخر حقنة. بعد اليوم يخف الألم، (يجس ساقه)
وفي أقل من شهرين تستطيع المشي، فخفف من هذه الثرثرة عن الموت، وعن دفن الجثة. (بصوت عال)
سارة، يا سارة. (سارة تنسحب من المسرح، ثم تنادي من بعيد «نعم يا حكيم».)
تعالي ساعديني (راجي واقف واجم) .
وسيم :
أصحيح ما تحدثني يا دكتور؟ أم هو حديث الأطباء لمرضاهم الميتين. آه. آخ. الله.
سارة (تقبله، وتمسد شعره) :
ما عليك شر بإذن الله.
وسيم :
سارة لماذا أنت هنا؟ يجب أن تكوني قريبة من أمك. عفوك يا سارة، لقد خدعتك. كنت غشاشا حين تزوجتك، متخفيا باسم زائف، ولكني لم أقصد شرا. كنت متفائلا أحسب الأمور تصلح نفسها في آخر الأمر. إن كنت أتألم من العمى؛ فلأني لن أرى وجهك يا سارة.
الدكتور (يحقنه) :
ستشعر أولا بانقطاع الآلام، ثم بتخدير حتى تنام.
وسيم :
كوني بقرب أمك، فهي بحاجة إلى العزاء.
سارة :
سأكون بقربك وحدك. أحببتك سليما، وسأحبك وسيما، وكيف كنت، وبأي اسم دعوت نفسك، وأجابه الدنيا إلى جانبك.
الدكتور :
كيف تشعر الآن؟
وسيم :
زالت الآلام. شكرا لك. آه! ما ألذ التفلت من الآلام.
الدكتور (بلهجة فرحة) :
إذن، فأنت وسيم الحموي.
وسيم :
أنا حطامه!
الدكتور :
أتدري أني صديق لأهلك؟
وسيم :
أدري، وأمي كانت كثيرة التحدث عنك.
الدكتور (يلتقط الشهادة) :
وهذه الشهادة؟ جميلة هذه الشهادة. أظن أن بين أوراقي واحدة مثلها.
وسيم :
حسبتها مدرجة لعرش، فإذا هي مزلقة لهاوية.
الدكتور :
ربما لا أوافقك على هذا الرأي. الشهادة كسلم، في وسعك أن تستعمله للصعود، أو للنزول.
وسيم :
وأنا أسأت استعماله.
الدكتور :
وهذا ما لا أوافقك عليه. كم عمرك؟
وسيم :
31.
الدكتور :
أمامك تسع سنوات حتى تتخرج من جامعة الحياة، وتعرف كيف تستعمل السلم.
وسيم :
دكتور ما أنا بجبان. أريد أن أعرف الحقيقة، هل أنجو من هذه الحالة؟
الدكتور :
طبعا تنجو.
وسيم :
أليس كلامك تطمينا؟
الدكتور :
لا. أنا لا أؤمن بالخداع، ولا أستعمله. كن على ثقة أنك ستشفى - بإذن الله.
وسيم :
وهذا العمى.
الدكتور :
كفاف موقت. إن أعصاب عينيك كشريط كهرباء، انفصل عن مولد القوة. الكهرباء موجودة. الشريط موجود، ولا ينقص إلا أن تمس الكهرباء الشريط حتى يظهر النور.
وسيم :
وكيف يمس؟
الدكتور :
ارتجاج عنيف. مفاجأة. خوف. انفعال. هزة أرضية. رؤية أمك. حزن مفاجئ. فرح مفاجئ. حينئذ تستعيد بصرك. إنما يلزمك اليقين. اليقين أني لا أخدعك.
وسيم :
أنا موقن بك.
الدكتور :
ولا أعتقد أنك ستجد في «بيروت» صعوبة في إظهار براءتك. إن تقرير الحادثة كتبته بيدي، وفيه برهان الدفاع عن النفس.
وسيم :
وهل سنرجع إلى البلاد؟
الدكتور :
هذا أمر المدعي العام.
سارة :
ولكن سأكون معك يا وسيم.
راجي :
وأنا كذلك.
الدكتور :
ويكون قلبي معكم.
راجي :
ألن ترجع إلى البلاد يا دكتور؟
الدكتور (يهز رأسه متحمسا، ثم يغير الموضوع) :
أنت أديب، روائي يا وسيم.
وسيم :
كل أهل بلادنا أدباء. روائي؟ لقب أقرب إلى الهزء والسخرية منه إلى المديح.
الدكتور :
ولماذا؟
وسيم :
لأني أنا شبح ذلك الروائي.
الدكتور :
لماذا أنت متشائم؟
وسيم :
ولماذا لا أكون متشائما؟ أطللت في فجر العمر على جنة، حسبت أني سأخلد بها، وها أنا اليوم في جهنم هذه الحياة - خامل الذكر، مجرم، أعمى، كسيح. إن مرارة هذا الفشل تزداد إذ أذكر حلاوة ذلك الفوز في صباح حياتي.
الدكتور :
فوز بماذا؟
وسيم :
فوز أدبي - روايات، مقالات.
الدكتور :
ولماذا لا تكتب؟
وسيم :
أشغال، اضطراب بال ...
الدكتور :
أتعرف لماذا لا تكتب؟
وسيم :
قلت أني ...
الدكتور :
إنك لا تكتب؛ لأنك كسول أولا؛ ولأنك جبان، وتخاف الفشل بمحاولات جديدة؛ ولأنك قنوع تجتر ماضيك، ولا تخلق مستقبلك.
وسيم :
في رأسي مواد ...
الدكتور :
في رأسك لا شيء حتى تنتجه.
وسيم :
سأنتجه.
الدكتور :
برافو أريدك منتجا لا متبجحا. كن مقاتلا إذا خسرت يمناك، فقاتل بيسراك، واترك التأوه والتحسر على الماضي، تلك العادة الذميمة التي تشل ثلاثة أرباع قوى مواطنينا. ها أنا أقترح عليك موضوعا، فأعمل فيه قريحتك. اكتب لي رثائي. هل تكتب لي رثائي؟
وسيم :
سيرة حياتك يا حكيم؟ ... لا تحتاج إلى من يكتبها، بل إلى من ينسخها. فكل يوم فصل مجيد، وكل ساعة سطر خالد. لقد كتبتها أنت، وهي رائعة في يد أي نساخ.
الدكتور :
اذكر الوصية الحادية عشرة ... قل لي: ماذا تقول في الدكتور نجيب؟ «مات النطاسي»؟ «جبل هوى؟» «يا أسى المرضى؟» كيف ترثيني؟
وسيم (ابتدأ يغمض عينيه من فعل المورفين) :
إذا قدرت لي الحياة. فسأرثيك كما لم يرث حامل قلم حامل مبضع. (ينام) .
الدكتور :
نام. إذا نسي الرثاء فذكريه يا سارة. راجي ارجع إلى السجن.
راجي :
أصحيح كل ما قلت لوسيم؟ هل سيشفى من كل شيء، حتى العمى؟
الدكتور :
بالطبع صحيح. نزيف الدم أضعفه كثيرا.
راجي :
إذا لزم نقل دم، فأنا مستعد.
الدكتور نجيب :
هذا منتظر منك. بطريقك إلى السجن مر بالمستشفى، وليفحصوا دمك. ربما نحتاج إلى نقل دم (راجي ينصرف، تدخل هدى. يدها اليمنى قابضة على سكين بين طيات فسطانها) .
هدى :
إذن، فأنت هنا يا زانية. ليتني ولدت عقربا، ولم ألدك يا خائنة. تضاجعين قاتل أخيك. هنيئا لكما الزواج، وهذه هدية العرس مني (تهجم والسكين بيدها على وسيم النائم، وسارة التي تلاعب شعر رأسه، فيردها الدكتور نجيب، ويقول لسارة:) «روحي إلى الغرفة الثانية». (فتنصرف) .
الدكتور نجيب :
هدى. كلك عقل وحكمة. لا تحاولي فعل الجهلة. هدئي روعك.
هدى :
كيف أهدئ روعي، وأنا أمتع نظري برؤية هذا الخنزير. ليت لي قوة الضواري، فأمزقه قطعا. أنظرت كيف الله أعماه، وكسر رجله؟! وسينزل به بعد هذا البرص، والإكزيما، والبله، والنقرس، والعصبي، والتيفوس، والتيفوئيد، والشلل، وذات الرئة، والطرش، والخرس، والقرع، والجدري، والسرطان.
الدكتور نجيب :
اتركي لله أمر تدبيره، واذكري أنه زوج ابنتك. أنت وأنا لن نعيش على هذه الأرض طويلا، فاعفي عنه، وليكن لك ابنا، هكذا قال الله في كتابه، لا تتركي في هذه الحياة حقدا ولا ثأرا. اعفي عنه، وسيم لم يقتل «طعان». نحن قتلنا ابنك. اقرأي هذه الجرائد، وانظري كم تقتل الأحقاد من أبناء الأمهات في بلادنا.
هدى :
أنا ابنة الحمصي. أنا الثكلى، وهذا قاتل ابني، وسارق ابنتي. مالك تتكلم عن العفو؟ من تحسبني أنا. مبشر أميركاني؟ الدم بالدم. تلك كانت شريعتنا يوم كان الرجال رجالا.
الدكتور نجيب :
اسمعي هدى، لقد عانيت مرارة الموت مائة مرة، حتى ولدت هذه الفتاة، فواجهي قساوة الحياة مرة واحدة؛ لتفسحي لها مجال الحياة، ابنتك صبية. أمامها عمر، وهي زوجة هذا الفتى وحبيبته، لماذا تريدين أن تقيمي القيامة على جناية، أنا أعرف أن هذا الفتى ليس بمقترفها؟ لماذا تريدين تشويش الحياة على هذين ال ...
هدى :
إذن، فأنا حجر العثرة هاه؟! أنا الجيفة النتنة في هذه المأدبة الشيقة؟! هاه؟ يا عتبي عليك يا دكتور نجيب، تقضي عمرك تعمل الصالحات، وتريد في آخر هذه المرحلة تلويث يديك بالدفاع عن هذا المجرم، وتبرير زواجه من تلك الحية. أتعرف أن مثل هذا الزواج هو زنا. أتعرف ما دين هذا الخبيث؟
الدكتور :
لا. ما هو دينه؟ (هدى تقترب من الدكتور، وتهمس بأذنه، وتنفعل.)
صحيح؟! هذا دينه؟! يا لطيف (يتأمل متفكرا)
تعالي نقتله.
هدى :
برافو عليك يا دكتور، هكذا تنطق الرجال. أعطني السكين؛ لأحز هذا العنق. أين أنت يا لعينة، فتريني أنحر ابنك. أطلي يا امرأة مجيد الحموي.
الدكتور (همسا) :
أووس. على مهلك. قد يرانا الناس (يهم بإعطائها السكين) ، إذا قتلناه بالسكين يفتضح أمرنا. تعالي، نسمم له، فلا يكتشف أمرنا. (يفتح حقيبته)
خذي هذا الدواء. سم زعاف، نشقة منه تقتل حالا. (تأخذ القنينة، وتحاول فتحها، فيصيح بها الدكتور)
ويحك! افتحيها تحت أنفه، إذ لو طار منها عطسة تقتلك. (تتمهل هدى بالمشي نحو وسيم، وتصيح) .
هدى : «يا لثأراتك يا طعان»، ليت لبيت الحمصي أنف واحد أملأه بهذا السم. خذها من يد بنت الحمصي يا ابن الحية. (ثم تفتح القنينة تحت أنف وسيم، مدبرة عينيها إلى الناحية الثانية) .
الدكتور :
أقفليها حالا. أقفليها. (هدى تسد القنينة، وتعطيها إلى الدكتور، فيسرع هذا، ويضعها في حقيبته، ويقفل الحقيبة، ويمشي نحو وسيم، ويجس نبضه)
هدى، مات. سلمت يداك.
هدى (ينزل بها الرعب والندم) :
مات. مات. مات. ربي، ماذا فعلت؟! وسيم ولدي لا تمت. بربك يا دكتور. أعطه دواء يرد إليه الحياة من جديد. ربي.
الدكتور (همسا) :
أوووس. لا تفضحينا. قلت لك: مات. مات. مات. مات. كيف تريدين أن يعيش مرة ثانية.
هدى :
وسيم ابني، ولدي، حبيبي، لماذا قتلتك. عش مرة ثانية، وكن لي ولدا، والله يبارك زواجك بسارة، وأنت في حل من دم طعان. أحيه يا دكتور. كيف تركتني أفعل هذه الفعلة يا حكيم؟ أمستحيل إحياؤه؟
الدكتور :
مستحيل. لا تفضحينا.
هدى :
إذن، فأعطني زجاجة السم، أريد أن أنشقها، وأموت أنا أيضا. هاتها. هاتها. قلت لك. (يفتح الحقيبة، ويعطيها القنينة مترددا، هدى تأخذ القنينة.)
ماذا أجيب الله إذا سألني: لماذا قتلت روحا يا هدى؟! بخاطرك يا دكتور. (تفتح القنينة، وتنشق، وتنشق)
بخاطرك، إني أموت (تنشق، وتنشق، ثم تنشق، ثم تتطلع بالدكتور، وتصيح) : هذا ليس بسم، (الدكتور يقهقه ضاحكا. سارة تطل)
إذن، أنت كنت تضحك مني، وسيم حي. حي. حي. شكرا لله. ما أعذب العفو! وما أمر الانتقام! سارة، ضمي زوجك. ضحكت مني يا دكتور! (سارة تضم وسيم، هدى تروح مصفقة، مغنية، والدكتور يقهقه، ويمسح عويناته إذ ...) (ينزل الستار)
الفصل الثالث
(نفس المكان في الفصل الأول، إنما ترى أن «العلية» قد شاخت، وترهلت، وفارقتها تلك القوة المعنوية؛ فالشمعدان مقلوب، والكوارة فارقتها سدتها، أم وسيم هرمت، وثقل سمعها، وابيض شعرها، وتقوس ظهرها، وتراخت كلماتها، زليخة لا تزال زليخة، إنما الآن يظهر أنها في أزمة جوع. على العامود منبه من الساعات، التي تدق دقات متقطعة، ربما كرة كل نصف دقيقة. أم وسيم تغني):
ربي لماذا بني
غيبته عن دياره
أعياني حمل سني
ومهجتي في غماره
هلا رجعت لأم
دنياها أنت هلا رجعت؟!
فارقت وهي لهم
استسلمت لم هجرت؟!
مهلا ملاك المنون
لا تعجلن علي
فقبل غمض جفوني
أريد ضم بني (الساعة ترن. فتنهض إليها أم وسيم، كأنها تبغي قتالها.)
أم وسيم :
اخرسي. اخرسي أيتها الساعة، فأنا أعلم من دون أن أسمع ثرثرتك أن الشمس أهوت إلى المغيب. ليت شمس حياتي غابت يوم غاب وسيم، وسيم؟! أين أنت يا بني؟ أفي عافية أنت وهناء؟ في أي بلاد من بلاد الدنيا مقرك؟ ما أقفر هذا البيت من بعدك! كان آهلا بشخصك يا ملاك أمك، فصار أوحش من كهف مهجور. عشر سنين، وليس منك كلمة تطمنها عنك. بيت الحمصي! يخاف أن يكتب، فيعرفوا من مكتوبه مقره. بيت الحمصي أفاعي «وادي الأرز» هم. هذا مغيب الشمس، الذي كان يسحرك مرآه، وهذه قهوتك (ترفع الغلاية) ، ودواتك، وأوراقك (ترفعها أيضا، وتقبلها)
فهلم سطر فيها خواطرك. ارجع إلى أمك، فأنا أقاتل الموت من أجلك، فإني أريد أن أحيا لأراك، ولكن الموت سيغلبني قبل رجوعك (تبكي، كأنما هو يخاطبها) . «فنجان قهوة آخر؟» (مخاطبة السطيحة)
ادخل يا وسيم، (تبكي حتى تكاد أن تقع، ثم تزحف إلى كوة في الحائط، فتأخذ منها كتابا قد يكون الإنجيل أو القرآن، أو كتاب الحكمة، أو أي كتاب آخر من كتب الله، وتصلي منتحبة راكعة) .
زليخة :
يا ستي أم وسيم.
أم وسيم :
أيتبعني نهيقك إلى القبر؟ ماذا تريدين؟
زليخة :
أنا جائعة.
أم وسيم :
إن الله خلقك بطنا خاويا. لماذا تجوعين؟ (يدخل ظطام جريح الرأس، تلفه العصائب )
أنا لست بجائعة.
ظطام :
مساء الخير يا خالتي أم وثيم (لا تسمعه ولا تراه) .
زليخة :
صار لنا يومين بدون خبز. إن مصاريني في فمي (يخرج ظطام كمن دبر خطة) .
أم وسيم :
ليت مصارينك كانت مشدودة حول عنقك. أطبقي مطحنة فمك. أتريدين أن يسمعك بيت الحمصي، فيشمتوا بنا، ويقولوا: بيت الحموي جياع؟ (زليخة تلتقط فجلة، وتطحنها بأسنانها، صوت فونغراف «يا ليل، يا ليل» من بعيد) .
فونغراف الجماعة. (صوت قهقهة)
ضحك، وغناء في بيت الأنجاس! جعل الله أعراسكم مآتم يا خنافس الأرض.
زليخة :
ابن الحمصي رجع من أميركا ومعه مال كثير.
أم وسيم :
سبحانه في ملكه! يجود برزقه على أسقط خلقه.
زليخة :
حظهم كبير. حتى نساؤهم لا تلد إلا صبيان. اليوم خلق لملحم عباس صبي.
أم وسيم :
خلق لنا عدو! (يدخل ظطام وفي يده رغيفان.)
ظطام :
خالتي أم وثيم، أمي بعثت لك هذا؛ لتذوقي خبذنا.
أم وسيم :
رد الخبز إلى أمك يا ابني. عندنا من فضل الله خير كثير.
ظطام :
ولكنه خبذ ثخن، أحبت أمي أن تذوقيه. (أم وسيم تجيب بدمدمة حنقى.)
زليخة :
أنا أذوقه. (ظطام يعطي رغيفا إلى أم وسيم، فتضعه هذه في الخزانة، ويعطي زليخة الرغيف الثاني، فتبدأ هذه بنهشه)
من يومين ما أكلت. (صوت فونوغراف: يا ليل يا ليل) .
ظطام (متطلعا إلى ناحية مصدر الصوت) :
بيت الحمثي أثحاب كيف، صاروا (مغنيا من النافذة: «يا ليل، يا ليل، الله يلعن ليلكم بعزا نهاركم.» يأخذ من حول وسطه مقلاعه، وينتزع من جيبه حجرا، ويضرب به إلى ناحية بيت الحمصي) .
أم وسيم :
اعقل ولا، لا تحرك عش الدبابير.
ظطام :
عش النمل أدوثه بقدمي. قولي لي: أكان خالي وثيم يحبني؟
أم وسيم :
خالك وسيم يحب كل الناس. كان عمرك سنة يوم الحادثة.
ظطام (يسحب سكينه من وسطه، ويسنه على حذائه) :
آخ، لو خالي أبو مرعي يشتري لي بارودة موذر، في المدرثة نفخة مني ترعب أولادهم، كأنما أمهاتهم ثقتهم زيت خروع. لعنكم الله يا بيت الحمثي (يبصق) .
أم وسيم :
لعنكم الله في كل شريعة ، وفي كل كتاب، لعنة أرددها حتى الموت، بل إني أنهض من قبري، وأصيح: لعن الله بيت الحمصي. (تأخذ غلاية القهوة الفارغة، وتصب منها، وترسل نظرة بلهاء إلى الخارج) .
ظطام (يخطف الرغيف من زليخة) :
اثمعي ثنمثل رواية في المدرثة. من بطلها؟ بطلها (مشيرا إلى نفسه)
ظطام فهد الحموي.
زليخة :
أعطني الرغيف. أعطني الرغيف.
ظطام :
اثمعيلي دوري «أنا ثمث على هذي البرايا.» (يدخل الآغا بثياب، كأنها ثياب متسول. رأسه يهز، ويداه ترجفان.) (يرجع الرغيف إلى زليخة):
مثاء الخير يا ثيدنا الآغا.
الآغا :
مساء الخير يا ابني. كيف جرح رأسك؟ ضربك ابن الحمصي؟
ظطام :
ضربني ابن الحمثي؟! جرحي قطبه الحكيم ثبع قطب. جرح ابن الحمثي 12. من يكون الضارب أنا ظطام أم ابن الحمثي؟
الآغا (يقترب من أم وسيم الساهية، ويتنحنح) :
يا أم وسيم، (رافعا صوته)
يا أم وسيم.
أم وسيم :
وسيم، ولدي. ادخل إلى البيت. قد يضرك ندى المساء (ضاحكة) ، بعد مقطع من قصيدة؟ صفحة من رواية؟ كملها. عجل. أتريد قهوة؟
الآغا :
يا أم وسيم.
أم وسيم (تستفيق) :
عفوا، فأنا أكاد لا أسمع طنين أذني. أتحسب أني مجنونة يا آغا. أليس وسيم خارجا (تدل) ، هناك (تضحك) ، ألا تراه مأخوذا بمنظر مغيب الشمس؟ يتمتم شعرا، وفي يده قلم وورقة؟ أحالمة أنا؟ وسيم، وسيم. لماذا لا تجيب أمك؟
الآغا :
أنت حالمة مفتحة العينين. من يلومك إذا أصابك الجنون؟ وسيم غير معروف أين أرضه. بيت الحمصي يتقلبون بالغنى، ويرأسون البلدية، ويضربون على النوطرة. سينتزعون العصا من أبي مرعي مرة أخرى. وأنا يحق لي الجنون؛ ابني خربني منذ تزوج تلك المومسة في بيروت. يا أم وسيم، منذ هذا الصباح لم أذق لقمة. تغير الزمان (أم وسيم تركض، فتعطيه الرغيف الذي أتى به ظطام. الآغا ينهش الرغيف) ، ما أطيب الخبز على الجوع. أنت لا تعرفين آلام الجوع يا أم وسيم.
أم وسيم :
الحمد لله على نعمه.
الآغا :
أسمع أن جماعة بيت الحمصي يريدون أن يشتروا أرزاقكم. فإذا كنت في حاجة، فلماذا لا تبيعينهم؟
أم وسيم :
الأرض ليست أرضي . هي وقف الله على أهلي، وأنا قيمة عليه. من أنا لأكفر بالله، وأبيع ملك الله لنخالة الدنيا؟! أرضنا استلمها أبو وسيم من أبيه، ويسلمها وسيم لبنيه. هذه إرادة الله.
الآغا :
بخاطرك يا أم وسيم. (أم وسيم ترجع إلى قهوتها) .
ظطام : (إلى الآغا وهو خارج)
ثنمثل رواية عظيمة، أنا بطلها، أتثمع ذنابك دوري «يا ميكروبا فتاكا، ثيفتك بك مصل من قذارة لؤمك. ذرعت الشر فاحثد الثقاء ...»
الآغا (مضطربا) :
سأراك على المسرح. ما اسم روايتك؟
ظطام : «المروءة والوفاء، أو عرب الجزيرة.»
الآغا :
جدك الله يرحمه مثل دورا في تلك الرواية. يا ابني، (سرا)
أليس عند خالتك أم وسيم نقطة عرق. أو كأس نبيذ؟ أنا مريض، أحتاج إلى بلعه.
ظطام :
عند خالتي أم وثيم قنينة نبيذ عمرها عشر ثنين.
الآغا :
أعطني منها جرعة.
ظطام :
علي الذيبق والثبع ملوك لا يقدرون أن يأخذوا منها نقطة. خالتي أم وثيم كانذتها لخالي وثيم. اثمع لي دوري ...
الآغا :
سأراك على المسرح. (يخرج) .
ظطام :
اثمعي لي دوري يا ذليخة. ألا تحبين أن تثمعي أدب؟
زليخة :
اتركني من الأدب (يخطف الخبز من يدها، ويهرب، فيصطدم بعمه أبي مرعي، الراجع من المطحنة، الحامل على ظهره كيس طحين، فيقع الاثنان تحت كيس الطحين، فينهض أبو مرعي غاضبا، ويصفع ظطام شاتما، ويصيح به: «يا ملعون، رح اربط الحمار.» فيركض ظطام إلى الخارج) .
أبو مرعي (يقعد تعبا) :
كلما مر يوم كلما استطلت طريق المطحنة، كيفك يا أم وسيم؟
أم وسيم (في يدها الساعة الدقاقة) :
رجع قلبي إلى الخفقان. إن الموت أرسل نذيره.
أبو مرعي :
صار الذهاب إلى المطحنة محنة؛ أنتنوبيلات وأنتنوبيلات وأطنوبيلات، وزمامير، وغبار، وأغراب راكبة الأنتنوبيلات. كل واحد يمد براسه من شباك الأنطوبيل، ويرمي كلمة «انفخت دولاب، حمارك يا عم»، «زمر على الكوع يا عم»، «اضرب فرام الحمار»، «ناقصك بنزين»، آخ من هذه الأيام!
أم وسيم :
يا زليخة، يا بقرة، أين الساعة؟ الساعة.
أبو مرعي :
الساعة بيدك يا أم وسيم. (يأخذها من يدها، ويعلقها على العامود، إلى زليخة)
روحي إلى العين.
زليخة :
الجرة ملآنة .
أبو مرعي :
قلت لك روحي إلى العين. (تذهب بالجرة، يدخل ظطام عارجا) .
ظطام :
آ. آخ! لبطني الحمار.
أبو مرعي :
على أي رجل؟
ظطام :
اليمين.
أبو مرعي :
خليه يلبطك على الشمال بتصح. يا أم وسيم، معي خبر هام (إلى ظطام)
أغلق الباب. (ظطام يفعل)
وأنا راجع من المطحنة ناداني بحري من بيروت، وأعطاني هذا المكتوب. مكتوب من خالك وسيم. فهمت؟
أم وسيم :
الحمد لله على هذه النعمة. اقرأوه لي.
أبو مرعي :
أنا وأم وسيم لا نعرف القراءة. اقرأه لنا، ولكن هذا المكتوب إذا عرف به أحد، ووصل الخبر للجماعة، يصل الخبر للحكومة، أفهمت، أفهمت؟ إذا تلفظت بكلمة أنتف ريشك، وأقطع لسانك، وأشويه. أفهمت؟
ظطام :
إذا تلفظت بكلمة أقطع لثاني، واثلقه وأطعمه للكلاب. لما حرقنا بيادر بيت الحمثي، ألا تذكر كم ضربني الجاويش حتى أقر، وما قريت؟
أبو مرعي :
اقرأ المكتوب بلا كتر حكي. (أم وسيم تأتي بالقنديل، فتحمله بيدها فوق رأس ظطام، وأبو مرعي إلى يمين ظطام واجم. أم وسيم منرفزة، يرقص القنديل بيدها. ظطام يفض الغلاف، ويقرأ: «يا أمي») .
أم وسيم :
يا تقبر أمك. (ينزل الستار)
المشهد نفسه إلا كيس الطحين (زليخة لأول مرة في حياتها هائجة، تركض هنا وهناك، وتصلح ثيابها، وتكلس وجهها بالبودرة أمام المرآة وتكتحل، ثم تفتش عن محرمتها، وترجع فتبودر أنفها، وهي فيما تفعل ذلك تعيد الأغاني، التي أنشدتها في الفصل الأول. ظطام يخرج من الدهليز وبيده قنينة النبيذ.)
أم وسيم :
هات القنينة يا حرامي. هات القنينة، وإلا خنقتك.
ظطام :
أما قلت إنك أبقيت القنينة ليوم رجوع خالي وثيم. أقول لك: خالي وثيم رجع. اثمعي الحدا. اثمعي دوي البارود (صوت حدا وقواس من بعيد)
كل أهل الضيعة يلاقونه. حتى الجماعة هناك. تذوج ابنة هدى. معهم طفل ثبي.
أم وسيم :
أتحسبني مجنونة؟ (تضربه)
صرت أضحوكة الأولاد في هذا العمر، وسيم يتزوج من بيت الحمصي؟! اخرج من هنا يا لعين. (تأخذ القنينة منه)
اخرج، ولا تزد على بؤسي وتعاستي هزءك وتهكمك. (لنفسها)
تزوج من بيت الحمصي ؟!
ظطام :
وحياة الله هذا ثحيح. (أم وسيم: ترجع إلى الغناء «ربي، لماذا بني؟» والتكلم لنفسها ولشخص موهوم على السطيحة في الخارج. «أتريد قهوة بعد؟ عجل إلى عشائك. بعد صفحة؟» ثم تضحك، وتبكي، وتفتح كتابها، وتصلي بينما.)
زليخة :
ظطام. مؤكد رأيت معه رفيق؟
ظطام :
معه رفاق.
زليخة :
أعني رفيق بيروتي، شاعر، إمبراطور الشعر. (تتنهد)
كلامه ظريف، شاب حلو.
ظطام :
اثمه راجي!
زليخة :
اسمه راجي؟ (تهمس بأذن ظطام كلاما يعجب ظطام، ثم تفتح عبها، وتتناول منه ورقة، تعطيها إلى ظطام، الذي ينصرف)، (يدخل أبو مرعي) .
أبو مرعي :
عودي إلى وعيك يا أختي، وسيم هنا. هو على البوابة. إنما يا أختي، تزوج ابنة هدى، وله منها طفل. صرنا أصهار الجماعة، يا للمصيبة! استقبليهم، فهم هنا على البوابة، وسيم بصره ضعيف، هدى معهم. كل الجماعة معهم.
أم وسيم :
وأنت أيضا تهزأ بي يا أبو مرعي؟ (ترجع إلى النحيب، يدخل وسيم، سارة، على ذراعيهما طفل. هدى، راجي يتبادلان الكلام مع زليخة. شمدص جهجاه، قرويون من بيت الحمصي والحموي، بعضهم بلباس القرويين، آخرون باللباس الإفرنجي، وسيم يمشي مشي أعمى، وعلى عينيه نظارتان زرقاوان كثيفتان) .
وسيم :
أمي. أمي. (أم وسيم ترد وسيما عنها بهدوء، ثم تتطلع به غضبى، وتصفعه) .
أم وسيم :
صرت مضحكة؟! إذن، فأنت وسيم، هاه؟! (تقترب هدى، وتضحك لها.)
هدى، أم غلطانة؟
هدى :
لست غلطانة يا أم وسيم، وهذه ابنتي سارة زوجة وسيم، وهذا (مشيرة إلى الطفل)
ابنهما - ابننا.
أم وسيم :
وأين غدائرك (هدى مقصوصة الشعر)
يا لعينة؟ لأخنقك بها. (أبو مرعي يهمس كلمات بأذن وسيم) .
وسيم :
أمي، ماذا جرى، ألا تعرفين وسيمك؟ (يضمها)
أكانت غيبتي عنك مؤلمة إلى هذا الحد؟! استفيقي أمي، أنا وسيم (ينتزع نظارتيه) .
أم وسيم (راجعها الرشاد، فتنفجر بكاء) :
بلى، أنت وسيم! (تضمه وتقبله) ، كيف أخطئ معرفتك يا حبيبي. شكرا لله على رجوعك. كانت الأيام بعد هجرتك قاسية، قاسية. كل دقيقة كانت حبلى بعذاب الخوف والشك، والحنين إلى مرآك يا بني. ظطام، هات النبيذ، واسكب إلى خالك وسيم. لنشرب كلنا نخب رجوعك. انظر إلى هذا البيت كيف تتألق حيطانه (أبو مرعي يفتح القنينة، ويوزع الكئوس على الحضور. تتطلع به)
ما بال عينيك؟!
وسيم :
ضعف موقت. الدكتور نجيب أكد لي أن سيعاودني بصري.
سارة : (لراجي)
غريب! كنت أنتظر أن يسترد وسيم نظره إذ يسمع صوت أمه.
راجي :
لا تقطعي الرجاء. (صوت جرس حزن من بعيد.)
أبو مرعي :
ظطام، رح انظر، لماذا يقرعون جرس الحزن؟! (ظطام يركض إلى الخارج.)
أم وسيم (يعاودها السهو، فتنتفض من ذراعي وسيم، وتصيح:) :
أبو مرعي إني جننت جنونا كاملا. كنت في الماضي أرى وسيما على السطيحة يكتب. أما الآن، فقد مرت بي رؤيا مرعبة؛ رأيته هنا، ورأيت اللعينة هدى قربه، وقد قصت غدائرها، وابنتها، وعلى ذراعي ابنتها طفل، تقول إنه طفل وسيم، ورأيت بيت الحمصي في دارنا، وجمعا من الضيعة كبير، وضممت وسيم، وقبلت وسيم، ورأيت كأن النور انطفأ في عيني ولدي. آخ، يا ربي! أبو مرعي، متى رجع وسيم لا تقل له إن أمه جنت، قبل أن تموت، لا تقل له إني مت مجنونة. (هدى تقترب من أم وسيم، وتضمها) .
هدى :
إنه حلم يا أم وسيم، ولكنه حلم جميل. انظري سيعيش أبناؤنا سعداء متحابين، حيث عشنا أعداء متقاتلين.
شمدص (يخاطب الطفل) :
أبوك حموي، أمك حمصية. خلقت في المهجر، وستنشأ في الوطن، أنت أمل الغد، أنت الزير أبو ليلى المهلهل.
أبو مرعي (مخاطبا الجمهور) :
يا إخواننا بيت الحمصي، في تاريخنا صفحات دامية.
أصوات الجمهور :
مزقناها، حرقناها، نسيناها.
أبو مرعي :
وإني أريد أن أتقدم إليكم بتضحية. عصا الناطور أقدمها لكم يا إخواننا، بيت الحمصي (يزيح الستار، ويتناول بيده ما يظنه عصا النوطرة، فتظهر بارودة حربية، فيرجعها، ويتناول عصا النوطرة من جديد. بيت الحمصي يتهامسون. أبو مرعي يصيح برجل واقف قربه، يظهر أنه من بيت الحموي: «أتظن يقبلون الوظيفة؟ إذا فعلوا أضاعوا لي مستقبلي.» فيجيب رفيقه: «الحق عليك، بيت الحمصي لا يؤمنون») .
أحد بيت الحمصي :
يا أبا مرعي، اليوم في «وادي الأرز» لا يوجد حمصي، ولا حموي، نحن عائلة واحدة .
الآغا :
فيلحي الوفق والاتحاد. هذا ما كنا نسعى إليه دائما. الوفق والاتحاد.
أحد بيت الحمصي :
نحن جسم واحد له ذراعان حموي: (مشيرا إلى يساره) ، وحمصي (مشيرا إلى يمينه) . (أحد بيت الحمصي يثور، ويصيح) : من قال لك إننا نقبل ببيت الحمصي يكونون على اليمين (فيجيبه أحد بيت الحمصي) : ومن قال لك نرضى بيت الحموي على اليمين. (فيسكتهما الجمهور) . (راجي يتضاحك مع زليخة خلال المشهد)
أحد بيت الحمصي متابعا: رزقنا رزقكم، وشرفنا شرفكم، وليس في «وادي الأرز» من هو أحق بهذه العصا منكم يا عمي أبو مرعي. (يرجعها له) .
وسيم :
ما أجمل ما أسمع. صار «وادي الأرز» جنة تسكن. أشعر كأنما نصب دونه ألف متراليوز، وصار أمنع من جبل طارق، لقد خفت موزينكم يا بني «وادي الأرز»، وتصدر الشيطان مجالسكم، فقصرتم جهودكم على التوافه، وعلى هدم بعضكم بعضا، ولكني لا أصدق أنكم تقهرون؛ إذ إن كهارب نفوسكم طاهرة مجوهرة، وهذه الأدران ليست في خلايا دمائكم، بل هي طفيلية على أجسامكم، رواها بالقذارة من روى أرضكم بدم قتلاكم؛ ليبني من عظامكم سلما، يرتقي عليه إلى مراكز الزهو والرفاهية. على أنكم لا تقهرون؛ فلقد نزلت بنا منذ القديم المحن، والبلايا، والغزاة، والتفرقة والأبغاض، وزالت المحن والبلايا، ودالت دولة الغزاة، ونحن الغالبون. إن الصدفة رمت بين يدي مبلغا من المال، هو رهن إرادتكم، خسئت نفس تستعمل المال لغير خدمة الجار، فمن تصدع سقف بيته، أو احتاج إلى معونة، فهذا بيتي وهذه يدي. إن المدفع، والطيارة، وكل آلة اخترعها الإنسان لها حدود لمراميها، وتخدم لمدى قوتها، ولكن الإنسان - وهو اختراع الله - لا حد لما يقوى على فعله، إذا تكاتف مع أخيه الإنسان، فضعوا أيديكم في أيدي جيرانكم وإلى الأمام. نخبكم يا إخوان. (أصوات: كأس رجوعك.)
ظطام (يرجع لاهثا) :
نخب الحمثي. نخب الحموي. نخب العدو. (يخرج ظطام.)
شمدص :
نخب الزير وطمسن صاحب معدن الذهب. أصحيح يا راجي، أن معدن الذهب الذي اكتشفه طمسن، ارتفعت أسهمه مائتي مرة؟
راجي :
مائتي مرة! الخمسة آلاف ريال التي وظفها وسيم، صارت تسوى مليون !
شمدص :
فليحي الزير أبو ليلى المهلهل (يأخذ الكتاب من المكتبة - جيب بنطلونه) ، معي من المعدن مائة سهم (يفتح الكتاب، ويأخذ منه ورقة زرقاء) .
ظطام : (يرجع لاهثا)
جرث الحذن، جرث الحذن، وثل من أميركا خبر الدكتور نجيب.
وسيم :
noi (أصوات: مات الدكتور نجيب، راح الحكيم. سكوت بتأمل) .
سارة، سارة، أمي، عاد النور إلى عيني، إنني أنظر، وأرى، (يمشي في الجمهور)
رحمك الله يا دكتور نجيب، حتى بعد موتك تقوم بالعجائب.
راجي (لسارة) :
صحت نبوة الدكتور نجيب. (سارة تضمه باكية ممسدة عينيه) .
أم وسيم (ذاهلة مخاطبة السطيحة في الخارج) :
أتريد قهوة؟
وسيم :
أريد الكثير من القهوة. سأغمس قلمي في شعاع هذه الشمس، وأكتب صفحات طاهرة حارة كروح الحكيم نجيب.
ظطام (يأخذ من عبه ورقة) :
خالي وثيم، نظمت في رجوعك قصيدة.
زليخة (لراجي) :
أنا نظمتها له. صار لي عشر سنين أشتغل بها.
ظطام (يقف وقفة خطيب، وينشد) :
طل القمر ...
راجي (يصيح) :
آه! يا قمر. وسيم، أعطني كولونيا، ماء زهر، أمونيا. آه! يا قمر (يقع على الأرض إذ): (ينزل الستار)
إذا ثار تصفيق الجمهور، فليظهر الممثلون هكذا: شمدص يقرأ في كتاب الزير. أم وسيم ذاهلة تغني: «ربي، لماذا بني؟» زليخة وراجي يتغازلان: «يطل القمر.» أولاد العرب يغنون: «نحن الأشاوسة، أولاد العرب.» أبو مرعي يقدم عصا النوطرة لبيت الحمصي. وسيم وسارة يتطلعان ببعضهما. هدى تخاطب الطفل. والدكتور نجيب بعيد عن الجمهور، خلفه كأنه طيف بلباسه الطبي الأبيض يبتسم، وينظف نظارتيه. الآغا مشوم، يلاعب المسبحة، وجرس الحزن يقرع. ظطام في يده ورقة خطابه، يهم بإلقائه. فرج الله يعد كدسة فلوس.
Page inconnue