سيدي الأستاذ الفاضل؛ حفني بك ناصف المحترم
أشكرك على النسخة التي تفضلت علي بها من مقالات النسائيات لحضرة الفاضلة باحثة البادية، وقد طالعتها معجبا بعلم صاحبتها ودقة نظرها، ولا سيما إقدامها في مجتمع لا يزال يعد الخروج فيه عن المألوف مهما كان شأنه بدعة مذمومة؛ مما دل على أن علمها الواسع لم يبق في رأسها عقيما، كما هو الحال في رءوس أكثر رجالنا حتى اليوم، ولم أقل نساءنا لئلا أبخسها حقها من الفضل المتقدم بين أترابها، وهن غالبا كما هن شطر عاطل في جسم اجتماعنا.
فباحثة البادية بين النساء المصريات، بل المسلمات، بل الشرقيات عموما لا يقل فضلها في الضرب على مساوئ الأسرة عندنا، والحض على وجوب تعليم المرأة لتحرير عقلها وتقويم أخلاقها بالعلم الصحيح عن فضل قاسم أمين في وجوب تحريرها، وإن كانت لم تطلب لها هذا التحرير إلى الغاية القصوى مثله؛ لأنها لم تطلب إلغاء الحجاب بالكلية، وهو رأي في نظر البعض وجيه، أولئك الذين يقولون: إن الطفرة محال ويخشون الانتفاضات العنيفة، فيطلبون الإصلاح بالتؤدة واللين خوفا من أن تصعيب المطلب يحول دون بلوغه، وإن كان نظام الاجتماع لا يستغني أحيانا عن الثورات العنيفة إذا اشتدت المقاومة في الأحوال الراسية لطول العهد، كنظام الطبيعة نفسه حذو القذة بالقذة ومهما يكن من ذلك، فإن رأيها هذا في نظري، لا ينافي رأي الطالبين اليوم السفور المطلق، وما هو إلا حذر لفظي؛ لأن رفع الحجاب المعنوي عن العقل لا بد أن يؤدي إلى رفع الحجاب الحسي عن الجسم، كما أن طلب رفع الحجاب الحسي دفعة واحدة لا يرضى به حتى المحجوب نفسه، إذا لم يرفع حجاب الجهل عن عقله أيضا، كأنها في ذلك سلكت مسلك دارون نفسه في العلوم الطبيعية؛ إذ حصر الخلق في أصول قليلة تفرعت منها الأنواع الكثيرة بعد ذلك بالنشوء والتحول، حذرا من تصعيب المطلب على أصحاب الخلق أنفسهم، ولكن ذلك الحذر لم يمنع معتنقي مذهبه المعتقدين صحته من إطلاق ناموس النشوء والتحول على الطبيعة كلها؛ لأنه إذا صح النشوء للبعض لا يفهم لماذا لا يصح للكل، فتحرير العقل إلى الغاية القصوى لا يتم بدون تحرير الجسم إلى الغاية القصوى أيضا، فطالب تحرير المرأة لا يسعه أن يطلبه من جهة واحدة، وإلا فكأنه لم يطلبه؛ ولذلك أعتبر نسائيات باحثة البادية ككتاب تحرير المرأة لقاسم أمين في النتيجة المترتبة عليهما، ومقامها بالفضل المتقدم بين النساء كمقامه بين الرجال في الإسلام اليوم، وفي يقيني أن الإسلام لم تحرك فيه حتى اليوم مسألة اجتماعية أهم من المسألة التي نحن بصددها، والفضل في ذلك لمصر وحدها ولأبناء مصر. •••
ليس الغريب أن مسألة المرأة في الاجتماع شغلت الناس في كل العصور، ولا تزال شغلهم الشاغل حتى اليوم في كل المعمورة، فهي من مقومات الأسرة التي هي أساس الاجتماع، بل الغريب أنها مع بساطتها لم يسهل الاتفاق فيها وذهب الناس فيها مذاهب، وكتبوا فيها ما لو جمع لضاق عنه الحصر كأنها من المسائل اللاهوتية العويصة؛ لأن أكثر الباحثين جعلوها كذلك، مع أنها من المسائل الطبيعية البسيطة التي لا يجوز أن يختلف فيها اثنان لولا ذلك، ولا نظن أن منشأ هذا الاختلاف خاص بقوم دون آخرين وبصقع دون آخر، بل هو عام جميع المعمورة، وكائن من أول التاريخ إلى اليوم في أشد المجتمعات البشرية انحطاطا، وفي أكثرها ارتقاء على ضروب متنوعة، فلا بد أن يكون لذلك سبب عام هو أصل كل الاختلافات التي رويت في شأن المرأة، والتي لا تزال موجودة حتى الآن.
فالمرأة منذ القدم مظلومة مهضومة الجانب من الرجل؛ لأنه أقوى منها، وهي مظلومة في كل الشرائع دون استثناء؛ لأن واضعيها رجال حتى إن بعض هذه الشرائع أنكر عليها النفس، أو بالأحرى حتى جاز لأتباعها في عصر من العصور أن يتباحثوا في ما إذا كان للمرأة نفس، وهكذا استبد الرجل القوي الخشن بالمرأة الضعيفة الجاهلة، فحرص عليها الفقير حرص المالك على ملكه النافع له، واستخدمها أحيانا كما يستخدم الحيوان، ولكنه لم يكن يضن بها كما كان يضن به؛ لأن الحيوان بثمن وهي بلا ثمن غالبا، ولم يستمسك كثيرا بالحجاب؛ لأن الفقر كان يطفئ فيه آياته الشهوانية، وحرص الغني عليها حرص غيره، فدفنها حية في قبور من القصور، وكفنها بأكفان من الحجاب، حتى إذا برزت من خدرها مشت متثاقلة كالبرميل الموشح، وهي تهتز على محورها وتتعثر بظلها، ولم يعدم الشعراء من خيالهم تصورا للتغني بهذا الشبح، وغار عليها من النسيم لئلا ينقل إلى سواه شذاها، وحتى من النور لئلا تمتد الأبصار به إلى مرآها، فإذا مات وئدت معه حية، كأنها متاع له لا يجوز أن يفصل عنها أو كأنها جزء منه، ولكنه يجوز له أن يفصل عنها واعتبرها بذلك أحط من الحيوان، الذي كانوا إذا غالوا في القسوة عليه ربطوه إلى جانب القبر حتى يموت، وهي قبلت بذلك مرغمة بالقوة مستسلمة للجهل، حتى حسبت كل ذلك واجبا عليها وحقا له:
والمرء إن ما اعتاد متربة
فإن تصنه فهو يمتهن
حتى قتل الترهل قواها الجسدية، والجهل مواهبها العقلية، والرجل يحسب أنه بذلك صانها وصان نفسه بها وما صان فيها إلا جهله؛ إذ المرأة مرآة الرجل جاهلة فجاهل وعالمة فعالم، وما صان الجهل أدبا ولا أوصد أبوابا ولا أعز أمة، وأمنع حجاب توسيع العقل بالعلم الصحيح وتقويم الأخلاق بالتربية القويمة، وأكفل كافل الاختبار بالنفس لصيانة المصلحة، فالذي قياده بيده أمنع جدا إذا امتنع ممن قياده بسواه.
فالحجاب بقية باقية من ضروب الظلم التي حاقت بالمرأة من أول عهد التاريخ إلى اليوم، والحجاب على المرأة المسلمة إلى الحد المألوف اليوم، من غير تخريج أو تأويل، لا تقبله العقول الناضجة أيا كانت، وهو سبب عيوب الأسرة الشرقية عموما، والمصرية خصوصا التي قامت باحثة البادية تنبه إليها في نسائياتها طلبا لإصلاحها، وأي دليل أوضح على أن فساد الأسرة هذا إنما هو من مقام المرأة فيها المنافي للطبع؛ إذ الحرية المتبادلة في نظام الطبيعة حق طبيعي لا يجوز أن تسلبه حتى ذرات الجماد، وإلا كانت أعمال الطبيعة أدعى إلى الخراب منها إلى العمار، وهي في الاجتماع البشري حق واجب بل ضروري أيضا؛ لأن المرأة فيه شطر من شطري جسمه، فإذا سلبت المرأة الحرية عرج الاجتماع ومشى على رجل واحدة، وفيها قيد أيضا إذ تصبح المرأة حينئذ عالة عليه عوضا عن أن تكون عونا له، ولا حاجة بنا إلى إطالة البحث لوضع المقدمات المركبة لاستخراج النتائج البسيطة؛ فإن علم المقابلة البسيط يغنينا اليوم عن كل ذلك، ولا أقل من أن نقارن بيننا وبين الأمم الراقية لنقف على الفرق الجسيم بين مجتمع المرأة فيه مدرجة حية في الأكفان، مدفونة بين الجدران، عقلها محجوب عن أنوار علوم الاختيار، كما حجبت حواسها عن نور الطبيعة، وبين مجتمع ترى المرأة فيه على ضد ذلك، ونقابل فقط بين أطفال الامرأتين في مجتمعنا ومجتمعهم، فأين قذارة أطفالنا من نظافة أطفالهم وسقم أطفالنا من صحة أطفالهم، ورعونة أطفالنا من رصانة أطفالهم؟! حتى إن صبيانا ليفوقوا رجالنا في العزائم، فيشبون على الجد والعمل، ونشب نحن على السخافة والكسل، فيستطيلون بأيديهم إلى كل عمل نافع، ونستطيل نحن بألسنتنا إلى كل دعوى فارغة، وإذا دمغتنا الحجة أخذنا نفتش على عيوبهم الجزئية لنستر بها عيوبنا الكلية، غير ناظرين من خلال ذلك إلى ارتقائهم وانحطاطنا وتقدمهم وتقهقرنا الكليين، وما كان هذا الارتقاء لهم يوم كانت المرأة عندهم مسلوبة الحرية، محجوبة عن نور العلم، فقد كانت مظلومة كذلك عندهم، وإن لم تكن محجبة كما هي عندنا، فإن دروب الظلم كثيرة.
وأغرب من كل ذلك أن مثل هذه الدعاوى الفارغة التي نطمئن إليها تجوز على كثيرين ممن هم في مقام القادة أو أن البعض يجيزونها نفاقا يجعلونه طعاما على رؤوس صنانير أغراضهم لاصطياد أغرارنا به، والأدهى محاولة البعض من هؤلاء وأولئك إخراج البحث في الموضوع من وجهته الاجتماعية إلى وجهة دينية، بحسب أهوائهم وعلى قدر أفهامهم، وما يقصدون بذلك إلا إزالة التكافؤ من بين المتباحثين لينقلوا الكلام من أن يكون بين الناس بعضهم مع بعض إلى ما بينهم وبين الله، لعل المعارض يجبن ويكون صمته عونا على تأييد ما يدعون، كما يفعل منتقدو الزهاوي، وقد يظن بعض السياسيين أنهم يأتون ذلك عن حكمة ليدفعوا عنهم شر الجهلاء، كما فعلت الحكومة العثمانية الدستورية اليوم؛ إذ ظنت أنها تملك قيادة الجهلاء، وهم لا يملكون إلا إقامة العدل الصحيح ومن ورائه السيف حتى يقره العلم، فتزلفت إليهم بأنها منعت نشر أفضل كتاب في الإسلام لأعظم مصلح من المسلمين وهو كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين، وما أشبه سلوكهم في هذه المسألة بسلوك عرابي؛ إذ قام يتبرك بالحجب، ويلبس المسابح ليتقرب إلى العامة وهو يحسب أن النصر له من ورائهم! وما كان له من ورائهم إلا الفشل وهم بعملهم هذا اليوم، أبعدوا غاية الدستور عنا أجيالا، غافلين عن أن التنازع حولنا اليوم شديد. •••
Page inconnue