آراء
خطبة في نادي حزب الأمة
خطبة في المقارنة بين المرأة المصرية والمرأة الغربية
قصيدة نسائية لباحثة البادية
باب التقاريظ
باحثة البادية والآنسة مي
آراء
خطبة في نادي حزب الأمة
خطبة في المقارنة بين المرأة المصرية والمرأة الغربية
قصيدة نسائية لباحثة البادية
باب التقاريظ
باحثة البادية والآنسة مي
النسائيات
النسائيات
تأليف
ملك حفني ناصف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، (وبعد) فإني فكرت في جمع مقالاتي (النسائيات) وطبعها كتابا أقدمه للأمة المصرية الكريمة راجية أن تغفر لي زلة القلم فيه، فإني مبتدئة ولا يعدم المبتدئ أغلاطا، وعسى أن تقرأه الفتيات والسيدات المصريات فهو مذكر للائي غنين منهن بأصالة رأيهن وحسن تربيتهن عن استجداء النصيحة ومرشد للائي يسترشدنه.
لا أدعي فيه ابتداعا ولا إبداعا، فما هو إلا سلسلة مشاهدات وتجارب أثرت في؛ فدونتها ليتعظ بها غيري ممن لم تعركه الحوادث ولم تتيسر له التجارب، وما قصدت إلا النفع العام والدفاع عن المرأة المصرية المهيضة الجناح، ولعل الله يحقق هذا القصد ويشد أزرنا لما فيه إعلاء شأننا وتقوية الفضائل في أخلاق هذه الأمة بحسن القيام على تربية أبنائها، والله الهادي إلى الطريق القويم.
ملك حفني ناصف
مقدمة
كان في الشتاء الأسبق أن نظارة المعارف أحالت ناظرة مدرسة السنية على مجلس التأديب لشذوذها عن حدود قانون النظارة، فكتبت وقتئذ كلمة في الجريدة استعطفت بها مجلس التأديب على تلك السيدة، وكان بعض ما استشفعت به لها أنها من الجنس اللطيف. شق هذا القول على سيدة فرنساوية سائحة في مصر وقتئذ، فأقبلت علي تعاتبني على قلة الحيطة التي اتخذتها في كلامي، وانبرت تقرر أن المرأة والرجل سيان في الحقوق والواجبات فيجب أن يكونا كذلك في المسئولية أيضا، وأن الذي يستشفع للمرأة بجنسها ليسيء إليها من حيث يريد الإحسان.
لم أكن قبل هذا الإلفات مترددا فيما للمرأة من الحقوق، ولا جاهلا بما يستتبع للحقوق من الواجبات، ولم أك ظنينا في دفاعي عن هذا الجنس مهضوم الحقوق في كل زمان وفي كل مكان حيث القوة غالبة على الحق، ولكني مع ذلك في تلك الحادثة، كانت كلمتي تشف عن رأيي في أن المساواة بين الرجل وبين المرأة لا يصح أن تقرر على إطلاقها، بل يجب أن تكون تلك المساواة محدودة في مصر بالحدود الطبيعية والشرعية معا. وشتان ما بين هذه الحدود الواسعة المدى، وبين الحدود الحاضرة التي وقفت عندها المرأة من زمن طويل بحكم قوة الرجل، لا بحكم قوة ضعفها الطبيعي، ولا بحكم الشريعة السمحاء.
لم تجرب إلى الآن المساواة المطلقة في جميع الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة، ولكن المساواة قد جربت في التربية المنزلية، وفي التربية المدرسية، وفي كثير من الحقوق الاجتماعية؛ فأتت بأعظم الفوائد والبركات على العائلة والجمعية الإنسانية معا. وأما التفريط في حق المرأة وعدم استخدام مكانتها على أنماط معلومة لمنفعة النوع الإنساني فقد أتى بالنتائج المحزنة المحسوسة.
إن المساواة المطلقة التي كانت ترمي إليها عاذلتي، ويوافق عليها كثير من النسائيين، إن جاز أن تكون غرض الأغراض ومنتهى الآمال في ترقية المرأة، فإنه لا يجوز الابتداء بها وتقريرها عندنا من اليوم مع أنها لم توجد ولم تجرب في أعلى الأمم حضارة، فإذا كنت قد استعظمت مجلس التأديب على ناظرة المدرسة، وجعلت جنسها اللطيف شفيعا لها في تخفيف المسئولية، فلم أخرج بذلك عن أن أكون مستقيم الإنتاج، ولم أنحرف عن أصول قوانيننا، ولا عن طبائع العمران.
إن قوانيننا الإنسانية لا تزال نصوصها تنم على فروق بين الجنسين، وإن المرأة طول عمرها الجنسي كانت ولا تزال مثال الجمال الإنساني، وموضوع تغني الشعراء ومباراة الرسامين والمصورين، كانت ولا تزال مناط سعادة الرجال، إليها ينتهي الأمل عند بعضهم، وفيها تودع الثقة وترجى المواساة عند الآخرين؛ فهي بجمالها محل للعطف، وهي بضعفها الخلقي أولى بالعطف، وهي بتواضع مركزها الاجتماعي وقلة مكافأتها على القيام بواجباتها أهل للعطف، فمن أي ناحية نظرت إليها وجدتها تستحق الحنان والعطف، فإذا كنت استشفعت لها مجلس التأديب فإنما جريت في ذلك على سنن بني آدم الماضية والحالية، وأخذت ما قلت من المشاهدة لا من الخيال، وإذا كانت السيدات النسائيات (اللاتي يرين تقرير المساواة بين الرجل والمرأة) لا يرضين بالتفريق بينهن وبين الرجال في درجات المسئولية أمام المحاكم والمجالس؛ فإني متفق معهن على الأقل في عدم محاباتهن في انتقاد ما يكتبن من الرسائل وما يهدين إليه من الآراء.
ومهما يكن من وجوه الخلاف في المساواة بين الرجل وبين المرأة في درجات المسئولية، وفي الحقوق والواجبات العامة، فإن من المحقق أن المرأة لم تسترد إلى اليوم شيئا كبيرا من المساواة المنشودة على أقل أقدارها في نظر القائلين بها، بل هي عندنا - على الخصوص - لا تزال مظلومة في حقوقها في العائلة وفي حقوقها في الجمعية المصرية، مظلومة في تقدير واجباتها الخاصة والعامة، لا من حيث ثقل تلك الواجبات في ذاتها، ولكن من حيث كونها أغلبها واجبات تحكمية صرفة، يضعها ولي أمرها لا بالتطبيق للشرع، ولا لقاعدة عامة معروفة، ولكن بالتطبيق لدواعي أهواء وعوامل غيرته.
فإذا كانت حقوق المرأة الطبيعية وحقوقها الشرعية يغمطها الرجال؛ فلا يراعون فيها تقاليد الأسلاف، ولا يراقبون فيها أوامر الدين، فإن النتيجة اللازمة عن ذلك هي تعطيل نصف الإنسانية عن كثير من الخدم المطلوبة منه، وهذا مع الأسف هو الذي كان.
لم تكن هذه النتيجة المحزنة كلها من ظلم الرجل، ولكن قعود المرأة الشرقية عن الأخذ بأسباب رقيها الثاني، ورضاها بالحظ الذي قسمته لها القوة في هذه القرون الأخيرة، وعدم محاولتها تلطيف أحكام القوة القاهرة، كل ذلك يجعل لها شركة بوجه ما في الضرر الذي حاق بها وبالمجموع من إهمال تربيتها.
غير أن مهضوم الحق - مهما سها عن السعي في استرداده - لا يعدم من نصراء الإنسانية مدافعا خالي الغرض ينصره من حيث لا يحتسب؛ فإن النساء عندنا لم يكن ليدور في خلدهن أن المرحوم قاسم بك أمين يقوم بالدفاع عنهن دفاعا أغضب منه كثيرا من الناس، بل أغضب منه بعض النساء اللواتي لا يردن الخروج من الحظيرة الصناعية التي احتظرها لهن رجال البأس لا رجال العلم.
قام المرحوم قاسم بك بالدعوة إلى تربية المرأة على أصول التربية النافعة بشجاعة عديمة المثال، واقتفى أثره في ذلك بعض الكتاب، حتى انتبه هذا الجنس اللطيف وتولى بعض أعضائه الدفاع عن ذاته، وأول من سارت منهن في هذا الطريق هي باحثة البادية. نعم أولهن؛ لأنها أخذت تبحث في نسائياتها بحث الجاد الذي يعلق على بحثه نتائج كبرى لصلاح المرأة، بل لصلاح الجمعية الإنسانية. أخذت تكتب في الدفاع عن حقوق المرأة وتخطب فيما يجب لإصلاح المرأة، فكان مجموع رسائلها وخطبها هذه المجموعة التي نضع لها هذه المقدمة.
ولو صح نظري لكانت قاعدة بحثها في تحرير المرأة قاعدة الاعتدال، ورائدها في ذلك هو الشرع الإسلامي.
لقد أجادت باحثة البادية في جعل بحثها مرتبا على هذا النمط المعين؛ فإن الاعتدال في تعليم المرأة وتربيتها، وتقرير الحد اللازم أن تقف عنده في المساواة بينها وبين الرجل، الاعتدال في ذلك كله أمان من الزلل والوقوع في نتائج سيئة قد لا تكون أقل في سوء الأثر من نتائج خمول المرأة وقعودها عن السعي إلى كمالها الخاص. وإنا نكرر دائما أن المساواة المطلقة لم تجرب بعد؛ فأبصر بالباحثة إذ رأت تقرير المساواة المعتدلة والبعد عن الإطلاق الذي هو يخالف الدين من ناحية ويخالف الحيطة من ناحية أخرى!
أما الدين فإنه ملاك أخلاق المرأة ومناط آدابها وطريق كمالها وموجب الثقة بها، إن تقوى المرأة أكبر الأدلة على صونها ومعرفتها بالواجب وحسن قيامها به، إن شهود المرأة صلاة الجماعة في المسجد الجامع مرة واحدة أصلح لقلبها من سماع واعظ أخلاقي في الدار أو في المدرسة سنة كاملة.
وإن تقليد المرأة الشرقية لأختها الغربية نافع، ولكن هذا التقليد إلى اليوم ليس بحسنة جديدة ما دام أنه خلا من النوع الخاص بالدين؛ فإن الغربية تذهب إلى معبدها مرة في الأسبوع على الأقل، والمسلمة الشرقية لا تذهب إليه في مصر أبدا، كأن دخول بيت الله أثقل كلفة عليها وأبعد عن رضى وليها من دخولها في بيوتات التجارة وشهودها مراسح اللهو، إلا أن حضور النساء صلاة الجماعة على صورة لائقة ومن غير إسراف هو أول عمل حسي تأتيه المرأة لتقرب به مسافة الفرق بينها وبين الرجل ولتقرر به المساواة المنشودة.
إن رابطة الزوجية عندنا رابطة دينية محضة، ولا نعلم امرأة تحترم نفسها تستطيع أن ترتبط برجل إلا بهذه الرابطة الشريفة المقدسة، ومما نعجب له أن المرأة تعمل أعمالا كثيرة شاقة في سبيل توثيق هذه الرابطة، ولكنها لا تعمل الشيء الوحيد الذي يوثقها حقيقة، وهو القيام بفرائض الدين الذي عليه عقد الزواج، والذي هو المنظم الوحيد لعلاقات الزوجية، فمراعاته أساس لدوامها ومخالفته سبب لفصم عراها ونقض عقدة الزواج، ولو فطنت المرأة لأدركت أن تقوى الله والقيام بطاعته تكفي وحدها لثقة الزوج بها، وتمنع كل الشقاق الزوجي الذي يتولد عن الظنة والغيرة.
وقصارى القول: إن باحثة البادية قد أجادت كل الإجادة في أن جعلت أساس بحثها تقرير المساواة، لا على جهة الإطلاق، بل في حدود الاعتدال والدين.
فأما انتقاد رسائلها من جهة صناعة الكتابة فحسبي أن أقرر من غير محاباة أنها أكتب سيدة قرأنا كتاباتها في عصرنا الحاضر، بل هي تعطينا في كتاباتها صورة الكاتبات الغربيات اللاتي تفوقن على كثير من الكتاب، وليس نبوغ السيدة ملك حفني عملا من أعمال الصدفة، بل هو قضية علمية مقررة؛ لأن هذه الكاتبة من بيت علم وأدب، انتقل إليها من أبيها حفني بك ناصف بحكم الوراثة الطبيعية ذوق الكتابة وملكة الانتقاد الصحيح، فنما استعدادها بالتربية المدرسية والاجتهاد بعد المدرسة حتى وصل هذا الحد المتقدم.
ورجاؤنا أن تكون مجموعة الباحثة أول أبحاث السيدات في هذا العصر وليس آخرها، وأن تكون السيدة «ملك حفني ناصف» القدوة الحسنة للسيدات المصريات آمين.
أحمد لطفي السيد
الإسكندرية في 18 يوليه سنة 1910
آراء
(1) رأي في الزواج وشكوى النساء منه
رد على ما كتبه حضرة مدير الجريدة في العدد 383 بعنوان: «بناتنا وأبناؤنا». •••
كتبتم حضرتكم في العدد (383) من الجريدة مقالة بعنوان «بناتنا وأبناؤنا» تستغربون فيها كثرة تشكي النساء من الزواج في هذا العصر مع قلة تزوج الرجل باثنتين، وقلتم فيها أقوالا صائبة حقيقية ، ولكنكم عجبتم من أن المرأة كان يرضيها من زوجها أن يعدل بينها وبين ضرائرها في الكسوة والمعاملة، وأنها إذا تزوج عليها كان يمنعها الوقار غالبا من أن تفتح قلبها بالشكوى إليه أو إلى ذوي قرابة منها بما تجده من الألم؛ نعم ذلك صحيح لا ريب فيه، ولكن له أسبابا أنتجت تلك النتائج، أولها أن الفتاة كانت إذا شبت وجدت والدتها تعيش مع ضرة أو أكثر، ورأت خالتها وعمتها على تلك الحال، وكذلك صويحباتها ومعارفها، فلم يكن ذلك بالشيء الغريب، فإذا جاء دورها وتزوجت من رجل له زوجة أخرى وجدت أنه لم يخرج عن المألوف، وأنه تابع لعادة أهل عصره ومصره؛ فلم يكن يحسن بها إذن أن تبدي شكواها من أمر عادي يأتيه كثير غير زوجها، ولو أنه يؤلمها في قلبها ويجرح عواطفها، وكذلك كانت التربية غير ما نراها اليوم؛ فبنات العصر الحالي، حتى الجاهلات منهن، يفهمن الحياة أكثر من أمثالهن الغابرات؛ فأصبحن لا ترضيهن الكسوة والطعام فقط كأحد خدم المنزل، ولكنهن يقدرن اليوم السعادة الزوجية أكثر من ذي قبل، ويعلمن أنه إذا لم يكن الحب أساس المعاشرة بين الزوجين فلا معنى للجمع بينهما يتنافران ويتشاحنان كأمثال الديكة الخرقاء. ومن اختلاف التربيتين القديمة والحديثة صفاء النية والمجاهرة بالقول والحرية فيه الآن، والخوف وشدة التكتم حتى على مضض العيش وذله قبل، حتى إن المرأة في زمن جداتنا كانت إذا أصابها ألم أو مرض تبالغ في كتمانه وتعد المرض - أيا كان نوعه - عيبا تجب مداراته، ولكن المرأة الجديدة على عكس ذلك تماما؛ إذ ترى أن كل شيء من هذا القبيل عادي، وأن ما يصيبها قد يصيب غيرها، فلا معنى لإخفاء أمر يصح أن يقع فيه الجميع. ولا يزال أثر هذا التباين في الحذر مشاهدا للآن ويكاد يكون محسوسا بين طبقة (بنات البلد)؛ إذ تعد الواحدة منهن من النقص أن تخبر زوجها بصداع قد يصيبها، أو تتوهم أنه يأنف منها ويعافها إذا وجدها راقدة في سرير الألم والانحراف! لا يزال التباين بين هؤلاء وبين الطبقة الجديدة (الألفرنكة) محسوسا، وهؤلاء لا يكتمن إلا ما يجب كتمانه على الوجه الصحيح، هذا كله راجع إلى تربية الوجدان واختلاف تلك التربية باختلاف الوسط والزمان. هذا من جهة المرأة وحدها، وهناك سبب لكثرة الخلاف والتذمر الآن يرجع إلى الرجل وحده وإليك البيان: رجال الأمس على جمعهم بين زوجات متعددات كانوا أتقى منهم اليوم، فرجل العصر (الشاب والكهل) تراه يتبجح بأن له خليلات، وأنه بجماله ورشاقة قده واهتزاز أعطافه يسبي ربات الحجال بما فيهن المحصنات، وقد يتقول حكايات لا أصل لها في هذا الموضوع مما تندى له الجباه. ولعمري إن الجمع بين زوجتين - على ما فيه - لأحسن من التهتك وانتهاك حرمة الدين وإيلام نفس المرأة وتنغيص حياتها، يا لله أليس لها قلب يتأثر وشعور يحس وعواطف تثور؟! وقد أصبح رجالنا بفضل هذا التفرنج يعدون من لا يشرب الخمر جهارا، ومن لا خليلة له يترامى على قدميها أو تترامى على قدميه (أنتيكه) في عرفهم؛ فلله درهم!
والأغرب من ذلك، أنك إذا ذكرت للشاب أو أبيه شيئا مما يأتيه أجابك هذه هي الحرية الشخصية (على كيفي)، أو قال: أنا رجل وليس علي عار في هذا. فلله أنت ولله أبوك! ائتني بآية من القرآن، أو إن كان القرآن عندك أيضا (أنتيكه)، فائتني بمادة من القانون الفرنسي الذي تقاليد واضعيه وأهله تحرم التهتك على النساء دون الرجال، وتجيز للآخرين الرذيلة وتمنعه الأول، إذا صح عندك إباحة السفاح لأنفسكم فأسهل منه، وحقكم أن نجيز لكم السرقة بأنواعها والقتل والسلب والتزوير إلى آخر ما يحرمه الشرع والقانون، وإلا فلماذا تختارون أكبر الرذائل وتعدونها سهلة لا إثم فيها وتأنفون إذا قلنا لكم: سرقتم؟!
لا أخالكم تتشدقون بقولكم عند النصح: (إنا رجال) إلا لأنه لا تظهر عليكم عوارض الخيانة بخلاف المرأة والفتاة فلهما من أحوالهما الطبيعية المختصة بهما ما لا يأمنان معه شر الفضيحة والعار، فإن زعمتم أن التقوى هي خوف النتيجة المحسوسة وأن الذمة والضمير لا يردعان ولا يمنعان المرء من إتيان المعاصي؛ فبعدا لما تزعمون وساء ما تتوهمون.
وليت هذا السلوك الفاصم لروابط الألفة بين الزوجين يقف عند هذا الحد، بل له عواقب أوخم من التذمر، وأسوأ من البغض، وهي شطط المرأة بباعث الانفعال والحزن أو الانتقام والخبث وخروجها متبرجة في الطرقات أو وقوعها في مهواة الرذيلة وسقوطها السقوط الأبدي، والعياذ بالله! وفي تلك الحال يلام الرجل لأنه شجعها على ما أتته بما يأتيه هو، وهي تعتقد أنها بشر مثله ويحق لها من الحرية الشخصية بقدر ما يحق له فضلا عن اعتقادها بأنه قدوتها، يبعث ظلم الرجال وسوء سيرتهم النساء إلى السقوط في الرذيلة فيسقطن إلا من عصم ربك، وهؤلاء تمنعهن تربيتهن الصحيحة وشرف مبادئهن عن الإخلال بالدين والآداب، ولكن يصبن في الغالب بحمى الدماغ أو الهستريا والجنون أحيانا، وتكثر همومهن ويعدمن لذة العيش، فيا للظلم! لماذا يشقى عضو من المجتمع الإنساني خلقه الله ليكون سعيدا؟! يشقى لاستبداد الرجل ويضحي بحياته ليتنعم الرجل، فإذا أردتم أيها الرجال أن ترفرف السعادة على بيوتكم فاختاروا الزوجة الملائمة، كل بحسب ما يرى؛ إذ (لكل امرئ فيما يحاول مذهب)، ولا تقيدوا أنفسكم بأفكار العجائز والمشيرين، ثم اسلكوا سبيل الجد في الحياة، فقد كفاكم هزلا أن استعبدنا للغير ونحن لاهون، واجعلوا من أنفسكم صراطا تتبعه زوجاتكم، فإن كنت أيها الرجل عاقلا فلتكن زوجتك مثلك، وإن كنت خليعا فامرأتك خليعة، وإن أسرفت أسرفت وإن فترت فترت، وهذا بحكم تأثير المعاشرة في الخلق، والعادة بالطبع ولإرضاء الزوج من جهة أخرى؛ لأن كلنا يعلم أن الملائمة هي أس الاتفاق، فإذا اجتمع عاقل بمجنون شقي والعكس بالعكس، فترى العقلاء معا فرحين والمجانين معا على أتم ما يكون من الجذل، وكذلك الحال في العلماء والجهال، وكل شيء له نقيض فإن الثعالب لا تتفق مع الدجاج، والجرذ لا يتوقع أن يكون أليفه الهر.
وفي المرأة صفة غريزية هي تقليدها الرجل؛ لأنها تعتقده مرشدها ومعينها أبا وزوجا. وقد ذكرني ذلك بمحادثة دارت بيني وبين سيدة إنكليزية، من صواحب اللادي كرومر أيام إقامتها بمصر، فسئلت تلك السيدة: «إني ألاحظ أن اللادي تترك التأنق في ملبسها شيئا فشيئا؛ فهل تعرفين سببا لذلك؟» فأجابت: «إنها تتعمده لتكون هيئتها أقرب إلى التقدم في السن منها إلى هيئة الشباب؛ لأن زوجها شيخ وتحب أن لا تسوءه بفكرة أنه مسن وأنها أصغر منه سنا بكثير.» ألا فلينتبه الرجال لذلك، وليتقوا الله في نسائهم وأعراضهم، وليعلموا أن التقوى مطلوبة في السر والعلن وأن الله يرى. يا قوم تداركوا الأمر قبل فواته، فإن كنتم ترضون لنظام بيوتكم بالاختلال، وللثقة بينكم وبين أزواجكم بالضياع ولأمنكم بالتأخر، فاستمروا على فسادكم. وإن كانت فيكم بقية غيرة وحمية وتحبون وطنكم كما تدعون؛ فأصلحوا أحوالكم تصلح حال نسائكم، ونقوا ورد بيوتكم من شوك الهم، وسنوا سنة صالحة لأبنائكم وبناتكم من بعدكم يكن لكم أجرها إلى يوم الدين، ولله عاقبة الأمور. (2) الحجاب أم السفور
رد على خطبة ألقاها حضرة عبد الحميد أفندي حمدي بشأن الحجاب. •••
تتبعت خطبة الأديب عبد الحميد أفندي حمدي عددا عددا في الجريدة، فشكرت له اهتمامه بترقية المرأة، وأثنيت على اجتهاده وشجاعته الأدبية، وقد وجدت خطبته صحيحة المقدمات متينة المبنى، إلا أن لي رأيا أبديه فيها، وقد يمر بخلد أحد القارئين أننا ننتقد الخطيب حبا في النقد أو تمسكا بحب القديم وجمودا منا عليه، لكن الحقيقة لا هذا ولا ذاك، وكل امرئ حر في فكره، حر في قبول فكرة غيره أو رفضها حسبما يشاء، بشرط أن لا يضر ذلك الرفض أو القبول بالغير.
أما ما يرجوه الكاتب من تعليم المرأة تعليما صحيحا، فإني أوافقه فيه تمام الموافقة ويجب أن نحث غيرنا عليه بما نستطيع، وقد أصبح هذا القبول بديهيا لا يحتاج لأن أطيل فيه الكلام لا سيما وقد وفاه الخطيب حقه في خطبته؛ فجزاه الله عنا خير الجزاء. بقيت مسألة الحجاب، وهي تلك المسألة العويصة التي قامت من أجلها منذ سنين حرب قلمية عنيفة وضعت أوزارها على غير جدوى فلم يفز فيها (المحافظون) على القديم ولا (الأحرار).
ولست أنتقد اقتراح السفور من الوجهة الدينية؛ لأني أعلم أن الدين لم يحرجنا في هذه المسألة، كما بين ذلك حضرة الخطيب، ولا من الوجهة الاقتصادية فإن باقتراحه أن نلبس لباسا يضارع ما ترتديه الراهبات المسيحيات لتوفير كبير لما كنا عسانا نصرفه في تأنيق اللباس الخارجي كما يفعل نساء الفرنجة مثلا. كذلك لست أنتقده من الوجهة الأدبية فإن ذلك اللباس وبساطته لأليق بتأزرنا به من تلك الحبر المهلهلة، كما سماها الخطيب، ولأدل على حشمة صاحبته - وإن كانت سافرة - مما تلبسه الآن مبرقعة، وشتان بين هذا البرقع الوهمي والبرقع الصحيح.
إذن، لم يبق للموضوع إلا وجهة واحدة وهي الوجهة الاجتماعية، وإذا انتقدته من تلك الجهة فإني لا أقلد فيه ولا أتبع عادة رأي غيري، بل أصرح بما أشاهده عيانا، وبما أعرفه من أحوال شتى جربت فيها النساء المختلفات، والتجارب يجب أن تقدم أوامرها على أوامر البحث والتخيل؛ إذ هي لم تعدم بعد أن تترك أثرا في النفس لا يزول، أما التخيل فقد لا يطابق الحقيقة، وإن طابقها فقد لا يعلق كثيرا بالذهن؛ لأنه لا أثر إلا في المخيلة بعكس التجارب فأثرها يبقى على الحواس والذاكرة. فإذا نصحت طفلا أن لا يلمس النار لئلا تحرقه فإن ولعه بالحركة والاستكشاف لا يزال يغريه بلمسها حتى يفعل ولا تنفع نصيحتك له، أما إذا لمسها مرة وأحرقت أصابعه فإنه يبتعد عنها كلما رآها ولو أمر بلمسها. وعليه فلسنا متبعات رأي من يأمرنا بالحجاب ولا رأي من يقول بخلعه لمجرد أن هذا تعب وكتب، وذاك نقب وخطب، إلا إذا تبينا الرشد من الغي، وعلمنا من التجارب أولى الخطتين بالاتباع. وأمامنا الطبقات المختلفة والأجناس العديدة يجب أن نبحث كلا منها على حدته، ونجمع منها كلها حكما واحدا نحكم به على أنفسنا إما بالحجاب أو بالسفور، أو غير ذلك مما سنوضحه بعد. وطبقات النساء (كالرجال) في كل أمة ثلاث: العامة والخاصة والوسط، وأصحها آدابا فيها كلها على الإطلاق الوسط، ولا بد لذلك من سبب. نعم؛ السبب راجع إلى التربية؛ فالخاصة أو طبقة الغنيات يرخين لأنفسهن العنان في الملاهي والملاذ، والجدة مفسدة في الغالب خصوصا إذا اقترنت بالفراغ، وهؤلاء عندهن من الخدم من يقوم بشؤون بيوتهن وأمور أولادهن، وقد يعودن عيش الكسل والراحة.
والطبقة الدنيا تجد من حاجتها باعثا لها على طرق الطرق المختلفة لتجلب ما تسد به الرمق، ويختلط نساؤها برجالها في المصانع والمزارع وغيرها، وهذه الطبقة شر على الآداب في كل أمة حتى في الإفرنج، وهم ليسوا مقيدين بحجاب ولا عادة يقال معها إنهم لما خالفوها وقعوا في شر منها كما يجوز تطبيق ذلك علينا.
وطبقة الوسط، وهذه دائما أحسن الطبقات آدابا وأكثرهن حشمة ووقارا، ولرب معترض يقول: ما لنا وللطبقات وآدابها وما نسبة ذلك للحجاب وقد أدخلت في حكمك هذا الأمم حتى التي لا حجاب عندها؟ فأقول: متى عرفنا ذلك التقسيم وقارنا بين درجة اختلاط النساء في كل طبقة برجالها علمنا تماما أن الأكثر اختلاطا هن الأشد فسادا.
وإنك إذا استقصيت حوادث النساء في مصر وجدت أكثرها في الطبقة الدنيا منها بما فيها الفلاحات اللاتي وصفهن الخطيب الفاضل بالنزاهة والحشمة، وقد رأيت القرويات كثيرا وحادثتهن واستخلصت من أحوالهن أن ظاهرهن الجد دائما؛ وذلك لعدم رؤيتهن من يقتدين به في أسباب الخلاعة، وقد سمعت أن كثيرات منهن يهمن برجال ممن يختلطن بهم، فلو كانت القرى كالمدن فيها متنزهات بعيدات عن أعين الرقباء، أو كانت الفتاة يستغني أهلها عن شغلها وتعبها قليلا لأفنت ولساوت طبقة المدنيات السفلى (وأعني بهن بائعات البرتقال ومثيلاتهن) في الفساد والوقاحة؛ فهؤلاء فسادهن من سوء التربية لا محالة، ولكن الاختلاط بالرجال زادهن فجورا.
وإذا رجعت لغنيات مصر وهن (الذوات)، ويقلدهن بعض نساء الوسط، فهؤلاء يتفنن في الملابس ويكثرن من الخروج تحككا لأن يسمح لهن برفع الحجاب، ولكن على طريقة بعيدة من الأدب، فإنهن لو كن يطلبن ذلك رغبة في الحرية الشريفة مثلا أو إنهن يشعرن أن الحجاب يمنعهن من الاستفادة من العلماء، أو غير ذلك من الأسباب الجائزة لوجب إعطاؤهن ما يطلبن بغير تكلف البحث والعناء. أما ونساء مصر على هذا الجهل المطبق ورجالها، إلا القليل، على هذا الفساد المستحكم فلا يجوز مطلقا إباحة الاختلاط، على أن الإفرنج - وهم المتعلمون نساء ورجالا - يشكون من فساد مجتمعهم وقلة وفاء أزواجهم. وإذن، نعلم أن الطبيعة البهيمية في الإنسان تجتاز عقبات التربية وتخترق سياجها إلا الشاذة، والشاذة لا حكم لها.
بقيت مسألة واحدة أجملها إجمالا، وهي المثل القائل: (في الطفرة محال)؛ فنساء مصر متعودات الحجاب فلو أمرتهن مرة واحدة بخلعه وترك البرقع لرأيت ما يجلبنه على أنفسهن من الخزي وما يقعن فيه بحكم الطبيعة والتغير الفجائي من أسباب البلاء، وتكون النتيجة شرا على الوطن والدين، وإذا أردت هدم بناء أفلا تهدمه قليلا قليلا إلى أن يتم الهدم فتبنى على أنقاضه أحسن منه. فإذا فرضنا محاولة هدم البناء دفعة واحدة (مستعملين الطرق والآلات التي نستعملها الآن) تصورنا كيف يستحيل ذلك مع بقاء المارة والبنائين سالمين، فضلا عن الأنقاض كزجاج الشبابيك والخشب وما أشبه ذلك، فهذه الباقيات الصالحات في المرأة هي العفة والحياء والمنزل البالي حجابها الآن، والسابلة الوطن والدين والفضائل.
فناشدتك الله أيها الأديب، كيف تأمرنا الآن بالسفور ونحن إذا مشت إحدانا في طريق لا تزال تنصب عليها عبارات الوقاحة، ويرشقها هذا بنظرة فاجرة، وذاك ينضح عليها من ماء سفالته حتى يتصبب عرقها حياء؟! فمجموع رجال مثل مجموعنا الحالي لا يصح بحال ما أن يوكل إليه أمر امرأة وتترك عرضة لسبابه وقلة حيائه، ومجموع نساء كنسائنا الآن لا يفهمن إلا ما يفهمه الرضيع؛ يصبح سفورهن واختلاطهن بالرجل بدعة لا انتهاء لشرها. ثم أفدني أيها القارئ بالله، ماذا تقول امرأة جاهلة أو متعلمة تعلما ناقصا لشاب تجتمع به؟ أتباحثه في العلوم وهي لا تدرك أهميتها أو تعلم منها قشورا لا يعتد بها، أم تناضله في السياسة وهي لا تعلم أين إنكلترا من جزائر الأرخبيل، ولا يمكنها أن تفسر لفظة دستور أو استعمار مثلا؟ أم ماذا تفعل اللهم إلا أنها لا تجد شيئا تقوله إلا ما قد تستحسنه من هيئته وحسن بزته وهناك الضلال الكبير؟!
والمتعلمات في مصر الآن يزددن عددا وفيهن من يصح أن تلقى إليهن قيادة أخواتهن، وسيجيء زمن ينشأ فيه جيل من النساء غير جيل (السحر والزار والرقى)، وهؤلاء يثمر فيهن البذر، فإذا أتعب الباحث نفسه في نصح النساء الآن قد يجد من تسمع، ولكنه لا يجد من تسمع وتعقل، ولا يبعد أن يكون من بين سامعات خطبة عبد الحميد أفندي من قد تقلدت وتزيت بزي الإفرنج وسارت في الشوارع تفاخر بأنها من ذوات الفكر الحر ومن صاحبات التمدين الحديث.
والخلاصة، أن خروجنا بغير حجاب لا يضر في نفسه إذا كانت أخلاقنا وأخلاق رجالنا على غاية الكمال. وأظن هذا مستحيلا أو بعيد الحصول، فإذا حصل التمازج وكان على هذا الشرط فلا اعتراض لي عليه.
وهناك قوم يشددون في تقدير الحجاب، فيحبسون المرأة مؤبدا ويمنعونها من زيارة جاراتها، ويضيقون عليها بحيث لا تستنشق إلا هواء بيتها الضيق الدائرة فتفسد صحتها وتكسل عن الحركة، ومنهم من يفتخر بأن امرأته لم تبرح بيتها طول عمرها. وهؤلاء أيضا متطرفون؛ لأن المرأة لها رجلان يجب أن تتحركا وعينان يجب أن تبصرا، فإذا صاحبها أبوها أو أخوها أو زوجها مثلا في نزهة وأراها محاسن الطبيعة ودقائق الموجودات وجدد قواها بالحركة واستنشاق الهواء الجيد، وهي بمئزرها محتشمة، فلا يخرج ذلك عن معنى الحجاب «وهنا استسمح الخطيب الأديب في استعمال لفظة حجاب على غير ما مر؛ لأننا لو رددنا كل المجازات إلى الحقيقة لصارت اللغة أضيق من سم الخياط».
على أن هذه المسألة واختلاف الآراء فيها قاضيها العادل الزمن والمستقبل، فكم من مسألة أبى قوم إلا اتباعها وآخرون نبذوها نبذ النواة؛ فاختلفوا وجاء الزمن مؤيدا فيها لفريق دون فريق، فصارت له القوة ورجع له الحول فاتحدوا فيها. ورأيي أن الوقت لم يأن لرفع الحجاب؛ فعلموا المرأة تعليما حقا وربوها تربية صحيحة وهذبوا النشء وأصلحوا أخلاقكم بحيث يصير مجموع الأمة مهذبا، ثم اتركوا لها شأنها تختار ما يوافق مصلحتها ومصلحة الأمة. وإن هذا الموضوع وأمثاله لمما يدعونا إلى التفكر والتبصر فإننا بدأنا أن نجاري الإفرنج في كل شيء، والمجاراة ليست ضارة في حد ذاتها ماديا، ولكن ضررها اجتماعي محض، فضلا عن كل ما بينت في مقالي هذا فإننا لو سلمنا بما يقترحه الكاتب من ضرورة تقليد الغربيين في أمور معاشنا ولباسنا وزي بلادنا مما قد لا يوافق روح الشرق، فإننا نندمج فيهم ونفقد قوميتنا بمرور الزمن، وهذا هو ناموس الكون إذ يفنى الضعيف في القوى، وإنه لمن العار أن نهمل هذا الأمر يجري مجراه، فأدعو الكتاب والباحثين للتفكير فيه، وفي إيجاد مدنية خاصة بالشرق تلائم غرائزه وطبائع بلاده ولا تعوقنا عن اجتناء ثمار التمدين الحديث. (3) ما ذنبنا؟
رد على ما كتبه حضرة (الخانقاه) في الجريدة بشأن تبادل إرسال النشء والمصاهرة بين الترك والمصريين. •••
كتب حضرة الأديب (الخانقاه) يقترح على الأمة المصرية أن تتبادل مع تركيا إرسال النشء من بنين وبنات، وقد رد عليه كثيرون مصوبين فكرته ومخطئين لها على أنهم لم يحيطوا بالموضوع من جميع أطرافه، وعذرهم في ذلك أنهم رجال وقد لا يعود عليهم بالذات ضرر ما من تنفيذ ذلك المشروع، ولا يهتم بدرس اقتراح كهذا خطير إلا من قد تقع عليه أضراره فيما لو نفذ، ونحن - معشر النساء المصريات - أكثر الناس تعرضا لمثل ذلك الخطر.
أنا لا أعترض على الموضوع في ذاته، ولكني أعترض على بعض لوازمه المربوطة به، على أني أوافق حضرات الكتاب الذين أبانوا أن بيوتنا لا تصلح لأن يقتبس منها التركي أو التركية شيئا يزيده معرفة أو علما، ولكن بصرف النظر عن هذه الحقيقة المؤلمة فإن الاختلاط الشديد بين الأمتين بهذه النسبة التي يتمناها (الخانقاه)، لا بد وأن ينتج عنها المصاهرة بين أفرادهما، وإن كانت النساء التركيات أغلبهن متعلمات بعكس أخواتهن المصريات، فيكون للأول الرواج في سوق الزواج الآن، أما الآخر فعليهن العفاء ولهن الكساد.
وإن من يتصفح تاريخ المرأة المصرية الحديثة يرى أنها كانت دائما مظلومة مهضومة الحقوق؛ ففي عصر إسماعيل هجم علينا جيش الشركسيات انهزمنا أمامه، وخرج ظافرا منا بأحسن رجالنا فلم يكن شريف أو نابه بمصر إلا وأم ولده جارية شركسية من شراء إسماعيل.
ثم ابتدأ رجالنا فيما بعد ذلك الزمن يتزوجون بالأوروبيات، وليتهن من ذوات الشرف، ولكن كان أكثرهن - إن لم نقل كلهن - من فريق الراقصات والخادمات وأضرابهن. كل ذلك يجري ونحن ساكنات ننظر ولا نتكلم خيفة الريب، ولكن نساء ذلك العهد كن جاهلات لا يفقهن شيئا، وربما كان ذلك خير قصاص منهن على الجهل (على أن هذا لم يكن من جنايتهن على أنفسهن ولكن جناه الوالدون عليهن)، أما وقد صار بمصر الآن من المتعلمات من يصلحن للزواج بأبناء جلدتهن، أفليس من العار أن تقدر على أن تجعل ابنك شريفا من أم ذات حسب؛ فتختار أن يكون ابن جارية شركسية أو راقصة أوروبية؟ ثم أليس من العار أن تشرئب دائما لما في يد غيرك وعندك أحسن منه؟
ألا رب معترض يقول: إن الرق قد بطل الآن، وإن من يصاهر الترك يصاهر أكفاء. هذا صحيح، ولكن الأم تغذي الطفل بأميالها وطباعها كما تغذيه بلبنها، فإذا ما حنت التركية لوطنها (وكل يحن بالطبع لوطنه) نشأ متشبعا بأميالها يحب تركيا ويميل عن مصر وهو معدود من رجالها.
وسبب فشل المصريين وعدم ميلهم الفطري للاتحاد هو - على ما أرى - ناشئ عن تشعب أجناس أمهاتهم؛ فابن الفرنسية يحب فرنسا، وابن الزنجية يذكر خصب السودان، وابن العربية يفتخر بمحتده، وولد المغربية لا يفتأ يذكر بلده، وهكذا أضعنا وطنيتنا المصرية عن طريق المصاهرة بالأجانب.
ثم أجدني محقة إذا قلت إن الدم يحن لنوعه؛ فإذا تكافأ الرجل والمرأة في العلم والتربية وكانا مصريين مثلا؛ فإن الحب بينهما يكون أصدق وأمتن منه لو كانا مختلفي الجنس والمذهب. فإذا أراد الأديب (الخانقاه) أن يختار لنفسه حليلة غير مصرية فليكن ولكل امرئ ما يرى، ولكن ليتذكر أخته وابنته وبنات عمه وقريباته فسيكون نصيبهن من غيره نصيب غيرهن منه، والسلام. (4) مدارسنا وفتياتنا
رد على من ذكرت أسماؤهم في هذه المقالة. •••
لم يكن يدور بخلدي ساعة كتبت موضوع (ما ذنبنا) أن يخطئ فهمه أحد؛ لأنه من السهولة ووضوح الغاية بحيث لا يتعذر تفسيره ، ولكن ظهر لي من كتابة الكاتب في جريدة (لابورص إجبسيان)، ومن كتابة التركية (على الهامش)، أنهما ذهبا في واد وأنا في واد.
أما جواب السيدة التركية فإنه يكفي لأن يقرظ نفسه، ولا أقول فيه أكثر من ذلك؛ لأنه دل على مبلغ أخلاقها ودرجة ألمها، على أني أشكر لها حميتها ودفاعها عن نساء جنسها وألتمس لها بعض العذر على حدتها؛ لأن المسيو (أودولف) أهاج كامن عواطفها، ولكني لا أرى له هو رأيا أن يجرح عواطف إخواننا (أولاد الذوات)، ولا أجيز له أن يؤول مقالتي تأويلا لم أرده؛ فقد ذكر أني قلت: «إن الغربيات لا يصلحن لإدارة البيوت.» وهو يعلم أن هذه العبارة لم ترد البتة فيما كتبت، وإن ظني بأن الكاتب لا يعرف العربية أو أن الذي ترجم له كلامي لم يحسن له الترجمة يجعلني أحمل تهكمه وخروجه عن الموضوع على محمل حسن.
أما الفاضل (المتحرج من الزواج) فقد صدق في كثير مما قاله عمن يدعون أنفسهن بالمتعلمات ولسن من العلم ولا من التهذيب في شيء، وأضر ما يكون هؤلاء إذا تزوجن؛ لأن المتزوجة عليها واجبات شتى، وعلى قدر الواجب تكون المسئولية وهؤلاء لا يدرين حقوقهن إزاء الزوج ولا فن تربية الأولاد ولا كيفية معاملة الخدم وو ... إلخ، مما يجب معرفته، ويراهن - على جهلهن هذا - شامخات بأنفهن نحو السماء ويحسبن الاشتغال بلوازم البيت حطة لمقامهن؛ فيقضين وقتهن بين حديث خرافة وخروج في الشوارع! وهن على العموم أكثر النساء إسرافا وتبذيرا، فضلا عن البهرجة وقلة الحياء؛ فلا علما أتقن حتى تتهذب نفوسهن، ولا على تربية منزلية محضة درجن حتى يعلمن على الأقل طبخ عشاء بسيط إذا تركتهن الطاهية يوما ما.
وهذه الفئة الجاهلة الدعية في العلم هي ولا شك فئة خريجات مدارس الراهبات وكثير من المدارس الأهلية الأخرى. وقد خبرت مدارس البنات بأنواعها (ولا ينبئك مثل خبير)، وحسبك وقوفا على مبلغ علم هؤلاء أن تسألهن سؤالا بسيطا عن بعض ما يلقينه على مسامعك مثل الببغاء فلا يحرن جوابا، أما التدريس في تلك المدارس فهو على النظام الذي أخنى عليه الدهر أو محفوظ عن ظهر قلب، وليس فيه للتعقل أو المحاورة نصيب يذكر، ثم إن إحداهن لتسمعك تاريخ فرنسا ولا تكاد تأخذ نفسها من سرعة الإلقاء، وإذا سألتها عن عمر بن الخطاب أو صلاح الدين الأيوبي أو محمد الفاتح وأضرابهم من حماة الإسلام، قالت لك: لا أدري.
ومدارس البنات في مصر كلها خلا مدارس الحكومة الثلاث، لا أثر فيها إلا تظاهر بالعلم ورياء، وهي في اعتقادي لا تصلح مطلقا لتربية البنات المصريات؛ لأنها فضلا عن قلة بضاعة العلم فيها تجعل تلميذاتها على خلق غير ملائم لنا.
ومما يؤسف له أن القوم عندنا لا يفرقون بين الصالح وغير الصالح؛ فإذا أدخلوا ابنة لهم في مدرسة للحكومة، وأمرتها ناظرة المدرسة أن تلبس جلبابا مغطى الصدر والكمين مثلا أو تخلع حليها وقت الدرس؛ عدوا ذلك إساءة لابنتهم المدللة، وقطعوها عن المدرسة كما شاهدت مرارا.
نحن المصريين نحب الظهور والفخفخة بغير نظر إلى النفس وفضائلها، وهذا نقص في التربية يجب محاربته وإزالته، وأكثر الآباء وجميع الأمهات عندنا لا يقدرون من تعلم البنات إلا العزف على «البيانو» والرطانة؛ لأنهما ظاهران.
وبالجملة أقول: إن أحسن مدارس البنات في مصر هي مدارس الحكومة أخلاقا وعلما، على أنها لا تزال تقبل الإصلاح والرقي.
ولي كلمة أخرى في هذا الموضوع تتعلق بالبيت والمدرسة أرجئها لفرصة أخرى. (5) تربية البنات في البيت والمدرسة
كلنا يعلم ما تعودنا على سماعه من أمهاتنا في سن الطفولة الأولى، كان يغرينا النشاط وحب العمل بمداومة الحركة واستكناه كل شيء مما تقع عليه حواسنا، ولو أدى ذلك إلى كسر الشيء أو تلفه، حينذاك كنا نسمع والدتنا تقول: «خذوها للمدرسة» فترسم المدرسة في مخيلتنا عفريتا يهول منظره؛ لأننا كنا نعد غضب الوالدة أكبر قصاص لنا، وهي لم تفه بلفظة «المدرسة» إلا في ساعة الغضب، هذه أول فكرة تلقى علينا من جهة المدرسة، فإذا شببنا قليلا وأتى بنا إليها ملأنا أرضها صراخا وعويلا، وطال أمد الوحشة بيننا وبينها.
تبذل معلمات المدارس جهد الطاقة في تثقيف عقول التلميذات وتعويدهن الفضائل، ولكن تلك الدروس إذا لم تدعمها الممارسة والمشاهدة لا تلبث أن تزول.
ترى إحدى المعلمات تنصح لفتياتها بأن لا يرتدين في المدرسة الأثواب المزركشة أو الرقيقة فتأتمر الفتاة بأمرها، وما هو إلا يوم حتى ترى والدتها أحضرت لها من تلك الثياب أقلها حشمة وأكثرها بهرجة، وإذا عارضت الفتاة وقالت: قد نهينا عن لبس مثل تلك الثياب أمس؛ أجابتها والدتها: لا تكترثي بكلام المدرسة فهو موجه للفقيرات لا لبنات الأغنياء مثيلاتك! إذا ضاع النصح هباء، وتشجعت الفتاة على العصيان وعدم الاكتراث. كذلك المدرسة تدرب التلميذات على النظام وبيوتنا بفضل الجهل لا نظام بها، وقصارى القول: إن ما تبرمه المدرسة لنفع التلميذات ينقض في البيت ولا سيما مسألة الأخلاق.
وأسطع برهان على أن البيت يفسد ما تصلح به المدرسة، الفرق الظاهر بين التلميذات الداخلية والخارجية، فإن الأوائل كلهن أكثر نظاما وترتيبا من الأخر، وأغلبهن أشد تمسكا بالفضيلة لأنهن ينشأن على البساطة والحشمة، وقد رسخ ذلك في أذهانهن.
فلو كانت تلك الأم متعلمة أو جاهلة تقدر العلم قدره لذاكرت لابنتها وأفهمتها ما تعسر عليها فهمه في الحالة الأولى، أو أعدت لها مكانا بعيدا عن لغط الزائرات في الثانية.
أعرف أختين كانتا معي في المدرسة وقد قصتا علينا يوما الحديث الآتي: وقد كانت إحداهما في السنة الأولى الابتدائية والثانية في السنة الثانية، ومعلوم أن تلاميذ وتلميذات هاتين الفرقتين في المدارس المصرية لا يمكنهم التكلم بلغة أجنبية. قالتا: «سألتنا يوما والدتنا إذا كان يمكننا التكلم بالإنكليزية فأجبنا إيجابا ولما لم تكن تعرف هي منها شيئا لم نجد ما نوهمها به سوى بعض أبيات إنكليزية كنا حفظناها في السنة الأولى؛ وهي حكاية عن طفلتين ضاعا في غابة ... إلخ؛ فأخذنا نتناوب شطور الأشعار أقول أنا الأولى، وأختي تقول الثانية، إلى أن فرغنا منها؛ ففرحت والدتنا بذلك وشهدت لنا بأننا «بارعتان في لغة الإنكليز»!»
ذلك مثال من كثير يبين أن جهل هؤلاء الأمهات لا يقتصر على تأثير بناتهن في العلم ، ولكنه يشجعهن على الكذب والفساد أيضا وإن كن لا يدرين.
وأدهى من ذلك وأمر أن الفتاة إذا شبت وكعبت، فإن الأم لا تفتأ تذكر لزوجها - وابنتهما تسمع - أن ابنتها كبرت وأنها يجب أن تترك المدرسة لتتزوج، وأن فلانا وفلانا أرسل والدته أو أخته تخطبها، فلا تلبث الفتاة أن تلتفت إلى أمر الزواج وتهمل المدرسة؛ لأن والدتها تغريها بذلك وتهتم به كثيرا، فإذا أمطرت السماء يوما ولو رذاذا قالت لها: لا تذهبي إلى المدرسة، وإذا اشتد البرد منعتها عنها، وإذا زادت الحرارة قليلا صدتها، وإذا ذهبت لعرس إحدى جاراتها أخرتها يومين أو ثلاثة، وهلم جرا. والفتاة مظلومة إذا لم تستفد من المدرسة بعد هذا، ولكن المدرسة مظلومة أكثر منها إذا نسب تأخر الفتاة كله إليها.
ولا تكمل تربية الفتيات بحيث تصير المدرسة مسئولة عنهن بالمعنى الصحيح إلا إذا كن لا يبرحنها كالداخلية مثلا، أو إذا كانت أمهاتهن متعلمات يساعدن المدرسة على القيام بأعبائها، وهذا يظهر في الجيل القادم من بناتنا إن شاء الله؛ لأنهن يمارسنه بالفعل ولا يجدن أمامهن ما يفسد ذلك الدرس المفيد.
فيا ليت شعري! هل يخفف المنتقدون قليلا من حدتهم عند انتقاد مدارس البنات؛ لأن بيوتهم ونظامها أدعى إلى الانتقاد منها، والأمهات الجاهلات أكبر عثرة في سبيل نجاح المدارس، ولا سيما إذا كانت بناتهن من القسم الخارجي. وليس من الإنصاف أن تكلف المدرسة بملاحظة الفتيات في مغيبهن عنها؛ إذ إن أعضاءها لم يكن يوما من الشرطة (البوليس) ويكفي ملاحظة التربية والتعليم في المدارس، وليس ذلك بالأمر السهل على القائمات به.
المدرسة تأمر التلميذات بالنظافة وترتيب الهندام، والبيت لا يعنى بذلك كثيرا؛ فإذا غسلت الفتاة شعرها يوما تنتظر بعده أسبوعا بغير تمشيط حتى تجيئها الماشطة وتمشطه لها في الأسبوع التالي، ويظل رأسها بين الأسبوعين معقدا قذرا، فترجعها المدرسة إلى البيت مرة أخرى وتكون النتيجة تأخر الفتاة عن تلقي الدرس، وربما استشاطت والدتها غضبا من تكرر رجوعها من المدرسة، وهي لو مشطت بنتها كل يوم لما استغرق ذلك أكثر من ثلاث دقائق، ولكن هو الجهل والكسل.
حادثتني مرة ناظرة مدرسة للبنات في شأن التلميذات الخارجيات اللاتي يعدن إلى البيت كل يوم لقذارتهن؛ قالت: «إني أعجب لأمهاتهن كيف يرضين لأنفسهن أن تشتمهن المدرسة كل يوم ولا يخجلن؟!» قلت لها: وكيف تشتمهن المدرسة؟ قالت: «أليس إرجاع البنت إلى أمها بسبب الوساخة يعادل قولك لها: إنك أيتها السيدة قذرة ولا تصلحين لإدارة بيتك؟! وأكبر دليل على ذلك إهمالك ابنتك وهي فلذة كبدك وأعز عليك بالطبع من المنزل وأثاثه ورياشه، ولو رجعت تلك التلميذة في إنكلترا (وهي بلدها) إلى أمها بسبب القذارة لفكرت تلك الأم أن الانتحار أولى لها من أن تسب علنا بأنها قذرة.» هذا حقيقي؛ لأن الأم الإنكليزية متعلمة وتعرف حقوق التربية، وشتان بينها وبين الأخت المصرية.
هذا في الأخلاق وقل مثله في التعلم، فإن الفتاة ربما احتاجت إلى مذاكرة دروسها فتشغلها زيارة النساء لأمها ما بين (دلالة وماشطة و«كدية» زار)، ويملأن قلبها الصغير النقي أوهاما وخزعبلات، فيهدمن ركنا من فضيلتها ويبنين مكانه نقصا ورذيلة، فضلا عن أنهن يعقنها عن مذاكرة الدرس والاستفادة منه. (6) الزواج
يا للنساء من الرجال ويا للرجال منهن
بينا أنا أفكر في موضوع أكتبه للجريدة إذ قرأت ما جاء بها بقلم (أحد الناس) وحديثه مع فتاة، فتأثرت به أيما تأثر، وقلت في نفسي: إذا كان الرجال يخوضون في مثل هذه الموضوعات فنحن أحق بها منهم؛ لأنها بنا أمس، وأجدر منهم بالشكوى لوقوع حيفها علينا. وسأتكلم هذه المرة على طريقة الزواج عندنا؛ لأنها مقدمة لموضوع تعدد الزوجات، الذي سأكتب عنه في المرة القادمة إن شاء الله.
طريقة الزواج في مصر طريقة معوجة عقيمة نتيجتها في الغالب عدم الوفاق بين الزوجين؛ يقيم الرجل معالم العرس أياما وليالي، ويتكبد مصاريف جمة لعروس لم يرها عمره ولم يتأكد من حسن أخلاقها أو جمال نفسها، إنما سمع عن بياضها وسمنها أو مالها من الخاطبة التي تصف حسب نصيبها من نوال العروس وأهلها، فإذا أجزلوا لها العطاء صورت ابنتهم للشبان الخاطبين في صورة «بلقيس بمالها أو شيرين بجمالها»، وما هي إلا أحبولة يقع الفتى فيها فلا يلبث أن يصير بعلا للفتاة إما على الحب منه أو الكره.
فإذا سعد طالعهما اتفقا قلبا وقالبا ورضي كل بالآخر رفيقا له وصفت لهما الأيام، هذه حال قل أن يصل إليها زوجان، ومن تمت لهما كان ذلك أحدوثة في بني قرابتهما وعند الجيران!
أما البائس الذي قدر له أن يعاشر حمقاء أو جاهلة أو مسرفة أو ما شابه مما يعرفه أغلب رجالنا بالتجربة، فيا ويحه!
كذلك الفتاة إن فوجئت ببعل مدمن أو خليع أو فاسد السيرة؛ فيا طول ما تقاسي من عناء! فمسألة الزواج عندنا هي ككل أمورنا نحن الشرقيين نكلها للقضاء والقدر والحظوظ وما شئت من المترادفات ...
ومما جعل مسألة الزواج عندنا - أي المسلمين - هينة لينة إباحة الدين الحنيف الطلاق وتعدد الزوجات، ولكن حاشا أن يكون قصد الشارع ما نراه الآن من الفوضى في أدق الروابط الاجتماعية، ومن نقص عهود الأسر وقلب نظاماتها، فإن الأديان لم تخلق لجلب البؤس وإنما خلقت لإسعاد البشر ولتقريبهم من الإنسانية، أو لإبلاغهم حدها الأقصى إذا تيسر ذلك.
وطريقة العرب على عهد النبي
صلى الله عليه وسلم ، وما بعده في أمور الخطبة والزواج طريقة شريفة معقولة إذ لم يكن الحجاب حينذاك كما هو الآن، وإني أجاهر بأن حجابنا مقلوب ونظام اجتماعنا فاسد أشد الفساد، لا يصلح ولن يصلح لأن تتبعه أمة متمدينة.
أليس عجبا أن نرى نساءنا وفتياتنا يتهتكن كل يوم في عرض الشوارع، ويملأن حوانيت الباعة، ويذهبن في الخلاعة كل مذهب؛ فيكلمن سائق (الترام)، ويقفن مائلات عاريات الصدور متبرجات أمام المصور (فوتوغراف)، وإذا طلب خاطب مستنير من أبي الفتاة أن يسمح له برؤيتها والتكلم معها وأبوها يراقبهما عد ذلك أمرا إدا. هذا رجل وذاك مثله! والأول تكلمه بلا مراقبة وإنما بعلم من أهلها وترخيص، والآخر يريد أن يكلمها أيضا ولكن مع مراقبة أبيها وغرضه شريف، وهو معرفة كنه التي سيتزوج بها ويجعلها شريكة حياته ومربية ولده، فما السبب في منح الأول ومنع الثاني؟ اللهم إن هو إلا الجهل والعادة وحب القديم حتى ولو كان مضرا.
إذا اعترض أحدهم وقال: إن الفتيان أغلبهم فاسدو الأخلاق، قلت: إن المصور والبائع أفسد خلقا من الفتى المتعلم، على أن المراقبة مانعة للفساد على كل حال، ثم إن خوف الفتنة أكثر في الحالة الأولى منه في الثانية؛ لأن المقام الأول مقام هزل؛ فتضحك فيه الفتاة بلا مبالاة، وتكشف عن ذراعيها أو صدرها عند التصوير مثلا وتكون في الغالب متبرجة. أما المقام الثاني فهو مقام جد لا تتعدى فيه الواحدة حد الحشمة، فمن أين تأتي الفتنة إذن؟
وعندي أنه لو اتبع هذا السبيل في الخطبة لكان خيرا ولقلت حوادث الشحناء بين الزوجين فيما بعد، وهي بلا شك نتيجة الزواج (العمياني) الذي نتبعه في أعز شيء لدينا وهو أبناؤنا وبناتنا. ولا يقتصر الخاطب على رؤية العروس فقط فإن ذلك لا يكفي، بل يجب أن يستفهم عنها جيدا ممن يعرفون أخلاقها ويبحث عن سيرتها وأهلها، فيتزوج منها على هدى بعد البحث والاستقصاء، وهذه الشروط بعينها يجب أن يتبعها والد العروس قبل أن يسمح للرجال برؤية ابنته، فما كل راء خاطب وما كل خاطب جاد، ورب فتى هازل يريد اللهو أو فاسد يحب الاطلاع على الفتيات بغير قصد الزواج! فهؤلاء يخرجون من موضوعنا؛ لأننا لا نعنيهم وإنما نعني الشريفي النفس الحسني السيرة، والأب مكلف بالبحث عن حقيقة سائليه كما بينا قبل.
وهنا يعترضني فكر يجب أن أبسطه وإن آلم بعضهم، فإن شباننا لم يتعودوا احترام النساء، وذلك نقص في التربية الاجتماعية يجب أن يتداركوه. لا أريد أن يسجدوا لنا، بل أن يفسحوا لنا الطريق إن ازدحمت، ولينظروا إلينا كما ننظر إليهم أناسا مثلهم وليتركوا إشارات التعريض وألفاظه التي أصمت آذاننا، ولولا خوف مفاجأة العجلات والدواب لسددنا مسامعنا عند كل سير في الطريق تخلصا من تلك البذاءة المحرجة، فهؤلاء وأمثالهم لا أصاهرهم لو كنت أبا، ولكن بين شباننا كثيرين - بحمد الله - يتبعون الصراط السوي.
وقد سمعت كثيرا عن قوم طلب منهم أن يروا خاطبا ابنتهم فأروه أخرى جميلة وزوجوه من التي لا يرغب فيها غشا منهم وترويجا لبائرة عندهم، ولعل أحدهم يجعل ذلك من جملة اعتراضاته على الموضوع، ولكني سبقت فقلت: إن هؤلاء قوم لا شرف عندهم، والشريف وغيره يظهر من معاملاته وطباعه وسيرته، والبحث يفرق بين الضدين فلا يعقل أن يستمر الرجل شريفا في كل أمر يأتيه مع إخوانه ومعامليه ثم تتغير ذمته فجأة عند زواج ابنته! إن هذا يكاد يكون مستحيلا، ثم إن هناك قوما يعجبون بالخاطب وبأخلاقه ولكنهم يردونه خائبا؛ لأن المهر الذي عرضه عليهم قليل، فيا ليت شعري! أيشتري العاقل الراحة بالمال أم يشتري المال بالراحة؟ وماذا عليهم لو كانت ابنتهم سعيدة غير غنية؟ إن أكثرهم يطلبونها غنية قبل كل شيء، ويحسبون السعادة تابعة للغنى ألا ساء ما يحسبون.
ومن أكبر الأسباب المنتجة لشقاء الزوجين عندنا عدم ائتلافهما؛ أن يكون أحدهما راغبا في زواج آخر يعرفه أو يحبه فيجبره أهله على التزوج ممن لا يريد، والمثل الفرنسي يقول:
Vouloir C’est pouvoir
أي: الإرادة هي المقدرة، فإذا تزوج فتى من غير من يحب فإنه بالطبع يريد أن لا يهنأ معها، وأن يعذبها من غير ذنب فيقدر ولا شك على ذلك، والمثل بالمثل مع الفتاة، وذلك ظلم بين من الأهل لا يغتفر.
وهذه العادة كثيرة الشيوع بين أفراد الأسرة الواحدة أو بين الأصحاب، يكون لأحدهم ابن فبمجرد ما تولد ابنة أخيه أو ابنة صاحبه يتفقون على أن المولودة الجديدة هذه من نصيب الصبي فلان عندما يكبر ويأخذون العهود والمواثيق على ذلك، وربما ربي الصبي تربية غير التي نشأت عليها الفتاة أو رأى أخرى أعجبته وهنالك الطامة الكبرى؛ أنت لا تأكل مكرها ولا تنام مكرها فلم تزوج ابنك أو ابنتك بالقصر والإجبار؟ ربما كان من يختاره الأهل أجمل وأغنى ولكنه في حال البغض يكون كأنه أقبح خلق الله وأفقرهم، على أن الجمال والغنى ليسا من شروط الوفاق بخلاف الرغبة فهي داعية له.
فنتيجة شقاء الزوجين وعدم الوفاق بينهما مقدماتها الأسباب التي شرحت قبل، وهي: (1)
جهل أحد الزوجين بالآخر. (2)
زواج مختلفي الطباع كعالم وجاهلة وبالعكس، أو غني وفقيرة، ومختلفي الدين والبلد. (3)
الطمع في الغنى بغير نظر إلى الأخلاق. (4)
الزواج القسري. (5)
تأويل الدين الحنيف على غير ما أريد منه في أحكام الزواج والطلاق.
وهذه الأسباب كلها شعب لأصل واحد هو عدم الحكمة، فإذا روعيت شروط الحكمة والتحري قبل الزواج فقل أن نرى هذا الشقاء المخيم على البيوت المصرية الهادم لمعنى الزوجية، وخير للفتاة والفتى أن يعيشا أعزبين من أن يتزوجا بثالث أيضا هو البؤس والعذاب. (7) تعدد الزوجات أو الضرائر
إنه لاسم فظيع تكاد أناملي تقف بالقلم عند كتابته، فهو عدو النساء الألد وشيطانهن الفرد؛ كم قد كسر قلبا، وشوش لبا، وهدم أسرا، وجلب شرا، وكم من بريء ذهب ضحيته وسجين كان أصل بليته، وإخوة لولاه ما تنافروا ولا تناثروا ففرقهم أيدي سبأ وأصبحوا تأكل الحزازات صدورهم، ويضمرون السوء بعضهم لبعض، يثأرون ولا ثأر بني وائل وكانوا لولاه متفقين.
إنه لاسم فظيع ممتلئ وحشية وأنانية، كم أحرج رجلا وعلمه الكذب فأفسد عليه خلقه، وكم بذر مالا كان يعده لبعض رزقه، وكم أحفظ قلب والد على ولد، وكم علم الوشاية والحسد، فإذا ما لهوت أيها الرجل بعرسك الجديد فتذكر وراءك بائسة تصعد الزفرات، يتساقط من مآقيها أمثال لؤلؤ عروسك، ولكنه صهرته نار الحزن فظهر سائلا، واخش الله في صغار يبكون لبكائها، علمتهم الحزن فاستعاروا يواقيت عرسك أعينا، أنت تقرع سمعك الطبول والمزامير، وهم لا يسمعون إلا دق الحزن في طبول آذانهم وكانوا من قبل ذلك جذلين.
وهذه البادية التي أقطن الآن لا أبالغ إن قلت إن جميع نسائها جربن الضرائر لشيوع عادة الجمع بين زوجتين في رجالهن، ولي من مخالطتهن ما يجعلني على ثقة من هذا الموضوع.
طالما سألت امرأة من الحي هذا السؤال: «ترى هل تحبين زوجك الآن كما كنت تحبينه قبل زواجه من غيرك؟» فكان جواب كل من سألت سلبا.
وقد حقق لي ذلك بعضهن، وسمعت عن أخريات أنهن في الحقيقة كن يفضلن أن يرين نعش أزواجهن محمولا على الأعناق على أن يرينهم متزوجين بأخريات، فيا لله! أإلى هذا الحد يبلغ بغض المرأة للضرة؟! فليتأمل الرجال، أرى «القديمة» حزينة و«الجديدة» كذلك، فإذا قلت للأولى: ماذا يحزنك؟ أجابت: يحزنني ذلي وانكسار قلبي وأنا على ما ترين لست أنقص عن الجديدة جمالا ولا أدبا وكنت أبذل جهدي في مرضاة زوجي أما الآن فلا. على أنه لا يزال يسترضيني فيقول لي: أنت أحب إلي من الأخرى، وأنت أول من ملك قلبي، وأنت جميلة، وأنت وأنت ... إلخ، وأنا لم أتزوج عليك لنقص فيك وإنما كان ذلك مقدورا، وإذا ما سألت الجديدة عن سبب انقباضها قالت: يحزنني أن أرى لي شريكة ومنافسة على أن زوجي يحقق لي أنه لا يعبأ بها، وأنه لو كان مقتنعا بها لما تزوج عليها، وأنه يريد طلاقها ولكنه يبقيها رحمة منه لتربي أولاده فقط، فما أقدر زوج الضرتين على التفنن! ولو أنصفوا لعينوا زوج كل اثنتين سياسيا أو ناظرا للمستعمرات! (ولكن الذي يؤسف له أنه ليس لنا مستعمرات).
المرأة إذا ابتليت بالضرة انطفأ سراج بهجتها، والتهبت مكانه نار حقدها وذوى غصن قدها وزرعت محله بذور شرورها، فإن لم تك تقية وإلا وسوس لها الشيطان وعلمها أساليب الانتقام والكيد، وكثيرا ما دست امرأة السم لزوجها أو لضرتها أو لابن ضرتها فكان القضاء عليهم جميعا، وكثيرا ما عمدت للوشاية بها عند زوجها أو ثلم صيتها عند الناس، وأغلبهن يبذلن مالهن ويبعن مصوغاتهن للسحرة ليكيدوا للزوج ولامرأته على زعمهن.
فزوج الثنتين غير سعيد كما قد يخيل له؛ إذا تغيب لبعض شغله اتهمته إحدى المرأتين بأنه كان عند الأخرى، ويا ليت التهمة تقتصر على هذا فإن هناك التغير والتدلل والكراهية والبذاءة أحيانا، وإذا نسي واشترى لواحدة منديلا ولم يشتر للأخرى صب عليه سوط العذاب وألزم بأضعاف أضعافه، فما كان أحوجه للراحة وما أشد اشتغال باله! الإكثار من الزواج داء إذا تأصل صعب استئصاله.
ولا أعذر الرجل يتزوج مرتين إلا إذا تعذر عيشه هنيئا مع زوجته الأولى، لسبب ما - شرعيا كان أو غير شرعي - فيضطر للزواج اضطرارا، ولكن الحازم لا تنسيه أفراحه أولاده ولا امرأته الأولى إن كانت لا ذنب لها، أما إذا كان يعد بقاءها معه منغصا لحياته، أو كان كارها لها فليطلقها بتاتا، فربما يجد مع غيرها راحة وتجد هي كذلك مع غيره «وفي الأرض عن دار القلى متحول».
والطلاق - على مذهبي - أسهل وقعا وأخف ألما من الضر، فالأول شقاء وحرية والثاني شقاء وتقييد، فإذا كان الشقاء واقعا على كل حال فلماذا تلتزم المرأة الصبر على الشدة وترى بعينيها ما يلهب قلبها ويدمي محجريها؟ ألا إن حزينا حرا خير من حزين أسير، وبعضهم يخادع المرأة الأولى بأن يجعلها حاكمة على البيت معها مفاتيح خزائنه، ولكن ماذا تفيد مفاتيح الخزائن والحكم على السمن والعسل؟! وأين هذه من مفاتيح القلوب وحب الزوج؟!
تعدد الزوجات مفسدة للرجل، مفسدة للصحة، مفسدة للمال، مفسدة للأخلاق، مفسدة للأولاد، مفسدة لقلوب النساء. والعاقل من تمكن من اكتساب قلوب الغير، فكيف بقلوب الأهل والعشراء؟
مفسدة للمال؛ لأن الرجل - فضلا عن تحمله أعباء أسرتين وقيامه بلوازمهما - يرى كل زوجة من الثنتين تجتهد في التبذير لتعجزه عن الإنفاق على الأخرى، أو لتمنعه من الزواج بأخرى، ولا تلام إحدى الزوجتين على تبذيرها، فذلك طبيعي؛ إذ تقول: ما الفائدة من اقتصادي؟ أنا أحرم نفسي مما ربما أشتهيه وزوجي ينفق ذلك المتوفر على امرأته الثانية؟ فخير لي أن أمتع نفسي بمطالبها كما تفعل ضرتي، أما الأولاد فإنهم بدلا من أن يكونوا من امرأة واحدة يولدون من امرأتين فيتضاعف عددهم، فإذا أخرجنا الأغنياء من حكمنا كانت معيشة الأب المتوسط أو الفقير ضنكا وعوزا؛ لأن زماننا هذا غير الزمان الأول؛ فغلاء المعيشة ونفقة أسرتين وتعليم أولادهما ليس بالأمر السهل.
مفسدة للأخلاق؛ لأن زوج الضرائر دائما يحتال ليطمع كل واحدة في حبه، وهذا تكفي فيه المداهنة والتطبع على أن زواج الضرائر في ذاته طمع وشره.
مفسدة للأولاد؛ لأني رأيت بنفسي أن كل ضرة تطبع كراهتها لضرتها في نفوس أولادها، فيشب الطفل وقد أشرب كره إخوته لأبيه وأمهم بلا مسوغ سوى ما زرعته أمه في عقله من مبادئها؛ فمهما فعلت امرأة الأب لترضي ابن زوجها ومهما أحسنت معاملته فإنه لا يفتأ يتهمها بكراهيتها له، وبأن ما تعمله معه من خير ومعروف فإنما هو لخوفها من أبيه أو مداراة لما في قلبها منه! وإنك لترى أبناء الرجل الواحد يغارون ويحسدون بعضهم البعض كما علمتهم أمهاتهم، وفي كلام العامة وأمثالهم الجارية ما يؤيد صحة هذا المبدأ.
مفسدة لقلوب النساء؛ لأن الأولى تكرهه بلا شك لإغضابه إياها وجرحه لعواطفها والثانية لا تصافيه مطلقا ما دام متعلقا بغيرها؛ فهو: «المنبت، لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.»
ويسرني أن عادة الجمع بين زوجتين كادت تتقلص الآن من بين الطبقات المتنورة والعالية؛ لأن التمدين والاستنارة يحرمانها وإن ادعوا أن الشرع يحللها، ولأن العيش أصبح سعيا وتناحرا، فإذا كان أجدادنا يكفي أحدهم أن يمتلك عشرة أفدنة لينام مستريحا في بيته ويتزوج اثنتين أو ثلاثا، فإن رجل اليوم لا يكفيه مائتا فدان مع تعبه واجتهاده للإنفاق على بيت واحد صرف التمدين الحديث محب الظهور. (8) سن الزواج
بينت في مقالي الأسبق ما يجب مراعاته في الخطبة والزوج من حيث اتحاد مشارب الزوجين في الدين والأخلاق والمعارف على قدر الإمكان ومعادلة البيئات، واليوم أفرد موضوعي هذا لشرط آخر لا يقل عن هذا أهمية وهو السن الملائمة للزواج. «الشرق» كما قال لورد كرومر في أحد تقاريره عن مصر: «يتم فيه بلوغ كل شيء متقدما.» وهذه حقيقة جغرافية لا ريب فيها؛ إذ بنسبة حرارة البلاد يكون نضج النبات والثمار ونمو الإنسان والحيوان. هذا ناموس الطبيعة الثابت، بغير نظر إلى تفاوت درجة العلم والعناية، وما يتخذ من التدابير لإنماء ذلك الشيء أو لتحسين الآخر، مما يكون له أثر في البطء والإسراع، فبلوغ الفتيات في مصر يكون عادة في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة لجيدات الصحة بعكس فتيات أوروبا والبلاد الباردة الأخرى؛ فإنهن ربما جزن السادسة عشرة أو الثامنة عشرة ولم يبلغن. وعليه، فلا نقيس سن الزواج عندنا به عندهن؛ لأننا كما نسبقهن في البلوغ يجب أن نسبقهن أيضا في الزواج، فضلا عن أن فتياتنا أقرب إلى السكينة، وأبعد عن الطيش من أخواتهن الغربيات، وإني لا أوافق بعض الأطباء الذي كتب في الجرائد مرة ينص على أن سن البلوغ يجب أن يكون هو بعينه سن الزواج؛ إذ بالله ماذا تفهم فتاة في الثانية عشرة من معنى الزواج، وماذا تعلم من أمور البيت، وماذا تعمل لو رزقت بأولاد؟ إني أكاد أتصورها تموت هي وإياهم إن لم يكن في النفاس ففي التربية، وقد ثبت بالتجربة أن أكثر اللاتي يتزوجن صغيرات جدا يصبن بأمراض الأعصاب (الهستيريا) وهذا هو السر في وجود (الزار) كثيرا عندنا.
إن الزواج ليس بالشيء الهين ولا هو بالهزل؛ تظن الفتيات الصغيرات والراشدات أيضا أن الزواج معناه ضرب الموسيقى ونصب السرادق ليلة العرس ولبس الحرير والماس والمباهاة بالأثاث والأواني الفضية، وغير ذلك من ضروب الفخر الكاذب والطنطنة الفارغة، ليس هذا هو الزواج يا سيدتي الصغيرة، بل هو إرضاء الزوج وحسن القيام على ماله وتدبير بيته ومؤاساة أهله وتربية أولاده ورئاسة خدمه، فهل تستطيعين كل ذلك؟ لا أخالك تستطيعين.
تقص علينا جداتنا وأمهاتنا في بعض سمرهن أنهن تزوجن ولم تزل عليهن التمائم؛ فكن يهربن في (الحارة) ويبكين عند الجيران ويأتين من المضحكات ما يبكي؛ فهل نريد أن نرجع القهقرى إلى زمن أجدادنا؟! حرام عليكم - أيها الآباء - ظلم بناتكم وتكليفهن ما لا يطقن (ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها)، حرام عليكم - أيها الآباء - الإصغاء إلى أماني النساء الجاهلات وزج بناتكم الصغيرات في سجون الزوجية الضيقة، حرام والله أن تتزوج البنية اليوم وترجع لبيت أبيها غدا، حرام على الأم أن تقول: «أريد أن أفرح ببنتي»، فتزوجها طفلة ولا تنتقي لها كفؤا، بل تعطيها لأول طالب لها، ولعمري إن الزواج ليتطلب الروية والتأني، والأم ملومة أكثر من الأب؛ لأنها جربت الزوجية بنفسها وسبرت غور مصاعبها وأتعابها، إلا أن حب الظهور متأصل فينا لدرجة أننا نرمي ببناتنا في المأزق الحرج كي يقال عنا: عرس فلانة كان فخما، وما أبهى العروس! وغير ذلك من الترهات.
والزوج قد يسر أولا من عروسه الطفلة لكنه لا يلبث أن يستاء، وهي مظلومة لا جريرة عليها؛ لأنها بالطبع لا تفهم ولا تستطيع القيام بحاجات منزلها من نظافة وحسن ذوق في وضع الأشياء في مواضعها، وهي لا تفهم معنى المسئولية لكنها مع الأسف مسئولة عن جميع لوازم البيت من طعام ولباس وغيرهما، وهي تنام مستغرقة من الغروب إلى الضحى، فإذا بكى وليدها لم تسمعه فيقتله البكاء إن لم تقتله هي بالتقلب عليه في النوم، والطفل يحتاج لسهر الليل وللرضاعة، أفتقدر الصغيرة على حمله طول الليل وإرضاعه، ومعرفة أمراضه وأوجاعه وحسن العناية به؟! يا قوم هذه إحصائيات الصحة ترينا كل يوم بأجلى ما يرى كثرة موت الأطفال في مصر، أو أصابتهم بما يعسر شفاؤه نتيجة جهل الأمهات بلا شك، والجهل في الصغر أكثر منه في الكبر، فإذا قرن بما يستلزم الصغر من الضعف وعدم القدرة على تحمل مصاعب التربية كان أدهى.
ومن نكد الدنيا على الفتاة - قاصرة كانت أو رشيدة - أن تتزوج من فتى صغير تابع لأبيه وتكتفي من الزوج بأنه ابن فلان الغني، فطالما سمعنا بأن اختلاف الكنات أو سوء سير الفتى أدى إلى طرده هو وزوجه من بيت أبيه، فماذا يفعل إن لم يكن تعلم علما أو صنعة تساعده على المعيشة؟ لا جرم أن يذوقا وبالا، أو ينتجعا بيت أهلها وتبقى هي وهو وأولادهما عالة عليهم إلى أن يشاء الله.
ومما يشقي الزوجين أيضا مختصا بالسن أن يتزوج هرم شابت مفارقه بشابة في مقتبل العمر، أو بالعكس فتى بعجوز، فإن مشرب الشباب يختلف عن مشرب الهرم، فضلا عن أن النسل الناتج من أبوين بعيدي فرجة السن الواحد عن الآخر يأتي في الغالب ضعيفا أو لا يأتي بتاتا، وإنك إذا نظرت هرما وشابة، أو شابا وعجوزا ممسكا أحدهما بذراع الآخر، كما قد ترى الفرنجة في طريقك أحيانا، فإنك لأول وهلة تستنكر هذا المنظر، وتحكم - إن حقا وإن كذبا - بأنها ابنته في الأول أو أمه في الثاني، وما يمجه النظر فهو ليس طبيعيا، وإذا كان الله - سبحانه - أحكم أمر الملاءمة في الطبيعة؛ فلم يخلق الجبل الوعر في السماء الرقيقة الصافية، ولم يبرأ النجوم الجميلة المتألقة في الأرض الخشنة القاتمة، فلم نجمع نحن بين الأضداد ونخالف ذوق الطبيعة الصادق؟!
الشابة تفكر في زينتها وحسن هندامها والتأنس بجمال الاجتماع بصديقاتها، والهرم يفكر في علبة السعوط والثريد ودواء السعال فيا:
أيها المنكح الثريا سهيلا
عمرك الله كيف يلتقيان؟!
كذلك الشاب لا يلذ سمعه الشينات الكثيرة والياآات في موضوع السين والراء، ولا زيادة مصروفاته في تركيب الأسنان المستعارة، وصبغ الشعر، وطلاء الوجه، وغيره من لوازم سيدتنا أو (أمنا العجوز) كما كنا نقول في قصص الطفولة. أحب فتى مرة امرأة أعجبه شكلها فخطبها إلى نفسها، فقالت له: أنت فتى وأنا عجوز لا أصلح لك، فلم يقبل قولها وظنها مازحة وألح عليها في قبوله بعلا، فلم تر بدا من إجابته إلى طلبه، فلما دخل عليها ليلة العرس جلس يكلمها وإذا بها خلعت أسنانها ووضعتها على منضدة أمامها فهلع قلبه إلا أنه بقي صامتا ينظر إليها ريثما تتم عملها، ثم خلعت إحدى عينيها وكانت صناعية من الزجاج، ثم جردت رأسها من شعرها المستعار فظهر أصلع مخيفا، وبينما هي تنزع القطن من صدرها هرول الشاب نحو الباب مسرعا؛ فنادته: لماذا تهرب وقد كنت تدعي أني فتنتك بجمالي؟ فأجابها: يا سيدتي «نعم أهرب ويحق لي؛ لأني رأيت أغلب أعضائك من الدكان وأخاف أن تكون حواسك كذلك أيضا.» فهل يغبط الرجل على زوجة مثل هذه؟! وإذا لم يغبط فلماذا تكره الشابة على تزوج الهرم؟ اللهم أنت خالق الخلق ومحدد الأعمار، تزعم الجاهلات أن زواج الهرم دلال في حياته وغنى بعد موته؛ فهل ضمنت المرأة الطماعة أن المنية ستعدو عليه أول؟ وهل تطيب الحياة الزوجية إذا كان الواحد يترقب الموت لرفيقه؟ وهل تصح معاشرة هذه التي تعد موت القرين ربحا؟ إن هذا إلا ضلال كبير.
فعلى ملاءمة سن الزوجين يتوقف شيء كثير من الوفاق والمحبة، والواجب أن لا تتزوج الفتاة إلا متى صارت أهلا للزواج كفؤا لتحمل مصاعبه، ولا يكون ذلك قبل السادسة عشرة. وتزويج الصغار لعب فيه شقاء للأمة من عدة وجوه؛ عناء في الزوجية نتيجته دائما الشقاق أو الانفصال، كثرة وفيات الأطفال، ضعف النسل، إصابة النساء بالأمراض العصبية والأمراض النسائية الأخرى.
وزواج مختلفي السن إضعاف للنسل وشقاء للزوجين وقلب لنظام الطبيعة الدقيق.
فمتى يلتفت لهذا الآباء والأمهات؟ ومتى تنقشع سحابة هذا الشقاء عن سماء بيوتنا؟ ومتى ننظر للزواج بعين الجد والاهتمام؟ اللهم أرني ذلك اليوم فهو أمنية النفس وسبيل سعادة الأمة وترقيها. (9) طلاء الوجوه
أول ما يلفت نظر باحثة مثلي عند زيارتها القاهرة كثرة وجود الخود البيض في شوارعها وطرقاتها ومنازلها، فيا ليت لي علم الغيب كلنا من جنس واحد؛ إما من سلالة العرب الفاتحين أو من الفراعنة، والأولون والآخرون لم تؤثر عنهم الشقرة، ولم يأت في أوصافهم الصحيحة وتواريخهم ذكر لاشتداد حمرة الخدود وزيادة بياض الوجوه إلا ما كان مبالغة خيالا في حبيبة أو حقيقة نادرة، فلماذا نجد نساء القاهرة كلهن شقرا ونساء المدن الأخرى أقل بياضا؟ أو لماذا نجد الدم ضاربا في وجوه الحضريات قليلا عند الفلاحات والبدويات مع أنهن دائما معرضات للشمس، تنقي الدم وتجدد الصحة. إن في الأمر لسرا، نعم إن المسحوقات والمراهم وضروب الأصبغة تفعل بالوجوه فعالها «وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟»
تزعم عاشقة الطلاء أن البياض حلية، ولكن هل تعتقد أن هذا الأبيض، الذي خيل لها أنه أبيض، يبقى إذا فرض أن خيالها صحيح؟ كلا؛ إن هذا الأبيض الذي تتعمده وتجتهد في تنميقه لا يلبث أن يزرق فيصير وجهها بنفسجيا. فهل سمعت في أشعار المتغزلين والمشببين أن الوجه البنفسجي من أمهات الجمال؟ وهل إذا لفح الحر الوجه المدهون، فسال عليه العرق يخطط جداول وغدرانا، وينقل من كحل المحاجر إلى صفحات الخدود، فيختلط الأسود والأحمر، هل يرى ذلك الوجه مشرقا جذابا؟ ولماذا تعد الشقرة خيرا من السمرة ألا تتساوى في ذاتها الألوان ؟! إن مسألة اللون اعتيادية صرفة لا أثر لها من الصحة، فأنا أحب اللون الأخضر وجارتي تحب الأحمر، فهل تفضل إحدانا الأخرى من هذه الوجهة؟
إن هؤلاء السيدات يقلدن، ولكن تنقصهن ملكة الذوق في كثير مما يعملن، فإن الوجوه الشديدة البياض والحمرة يكون فيها دائما عينان زرقاوان وحاجبان أخطبان ويكسو رأسها شعر أشقر فتلائم بعضها بعضا، أما نساؤنا فإنهن بينما يصبغن حواجبهن بالسواد الفاحم إلى نصف الأنف وأعينهن يكاد كحلها يخلق لها حاجبين آخرين تراهن بعد ذلك يصبغن وجوههن بالشقرة، فأين الذوق الحسن من هذا الترقيع الشائن؟!
الوجه المدهون يضيع كثيرا من معاني الجمال؛ فإن تأثرات النفس وطبائعها تنعكس على مرآة الوجه فتكسبه أثرهما فيما لا يمكن وصفه في العينين وفي الفم وفي الابتسام وفي أسارير الوجه الصغيرة وفي الجلد نفسه أيضا، ولكن الطلاء يظهر الوجه كأنه ليس فيه حياة، ويغطي جلده المملوء معنى وينزع بصاحبته إلى تصنع الحركات والسكنات، والتصنع يذهب بهجة الجمال، ولست مبالغة إن قلت: إني أعد كل طالية وجهها تمثالا من الرخام، فإذا كان «حافظ» يعجب لصمت تماثيل الطليان، فأنا أعجب لتكلم تماثيل المصريات.
لتقف سيدة من هؤلاء اللاتي يستعملن الطلاء بجانب تمثال من عرائس (ستين وكموان) ولتنظر في المرآة فتتحقق من حكمي عليها.
ضمني مجلس بصديقتين من المتعلمات المهذبات، وكنا ننتظر سيدة فرنسية أتت مصر لأول مرة لتسيح في الشرق وتخبر عادات أهله، فحضرت السيدة السائحة وأخذت تسألنا عن عاداتنا وأخلاقنا، وأظنها سرت بحديثنا، وإذ دخلت علينا زائرتان مصريتان (من قسم التماثيل)؛ فبهتت السائحة وخجلنا نحن الثلاث لهذا المنظر غير الجميل، وبينما كانتا تتحدثان مع صاحبة المنزل بالعربية، والسائحة لا تفهمهما، كنت أسارقها النظر فأراها تكاد تجهر بضحكة عالية احتقارا واستهزاء من هاتين المرأتين، فيا ويحنا! أما يكفينا أن يحكم علينا الغربيون بالجهل والتأخر حتى يروا ما يسجل علينا العار؟! وبعد أن خرجتا قامت السائحة وطفقت تقلد لنا حركاتهما وتشمئز لذكر وجهيهما، ولم يسعنا إلا موافقتها.
هذا الطلاء مضيع للجمال الحقيقي المعنوي والحسي أيضا، فإنه يسمم الجلد ويسد مسامه ويجهد عضلات الوجه، فإذا استعملته سيدة وانقطعت عنه يوما ظهر وجهها شاحبا أصفر متغضنا وتغور عيناها وتسود ولا حور، وعملية الطلاء هذه ربما تعذرت حينا، فقد تمرض المرأة أو تتأخر فتفاجئها الزائرات، فماذا تعمل؟ أتقابلهن طبيعية أم تجبرهن ساعة على الانتظار ريثما تتم عملها الشاق؟
السيدة التي تغش زوجها يجب أن تحتقر؛ لأنها تزدري بصنع الخالق - سبحانه - وتعمد إلى تغييره، ومن يزدري بصنع الله كافر؛ لأنها تخدع الرائين والرائيات والخادع يجب أن يمتهن؛ لأنها تجني على صحتها وتعجل الهرم لنفسها، فهي إذن لا تدري النافع من الضار، ومن لا يعرف نفع نفسه من أذاها أبله لا يحترم؛ لأنها تجني على الآداب فتجعل من نفسها قدوة فاسدة لبناتها.
وإذا كان الوجه الذي هو أظهر أعضاء البدن يعمد لغش الناس فيه، فكيف بالضمير الخفي؟ إن الطالية وجهها ساقطة في رأيي، فلتغضب من هذا القول من كانت غاضبة؛ فإني لا يهمني رضا التماثيل.
ولولا تشجيع الرجال النساء في غرورهن لما تمادين فيه، فإن بعض الرجال يشترون بأنفسهم علب المسحوقات وأنواع المحسنات لنسائهم وبعضهم يتكدر عندما يرى امرأته في وجهها الأصلي وهيئتها البسيطة.
ألا يا نساءنا اتركن هذه العادة الذميمة، وإن كان لا يسليكن غير صناعة النقش بالألوان فأمامكن الورق ليس أكثر منه، انقشن فيه صورا ورسوما تحلي جدران المنازل، واشكرن الله على نعمه الجزيلة، واعلمن أننا مصريات، فإن لم يكن في أجدادنا أصل العجمة فمن أين لنا هذا البياض الناصع والاحمرار الشديد؟! وما أحلى السمرة الجاذبة لو تفهمين معناها! إنها جميلة لأنها جميلة ولأنها مصرية ولو لم يكن فيها غير المصرية والطبيعة لكفى، وكل طبيعي جميل. (10) مبادئ النساء
المبدأ الأول: عدم الثقة بالزوج أو الغيرة العمياء
أول مبدأ تحفظه المرأة الجاهلة عند زواجها هو عدم الثقة بزوجها، مهما أكد لها براءته من تهمة الخيانة، ومهما كان الباعث له على تغيبه عن منزله، فتراها إذا ذهب زوجها لديوانه ودعاه صاحب له إلى الغداء معه فلم يؤب لمنزله إلا بعد، تراها تتكدر وتثور زوابع غضبها وتتهمه إما بزواج جديد أو بمصاحبة غير شرعية. تراها إذا دعي للسهر مع إخوانه فتأخر قليلا بالليل تسأله: أين كنت؟ ولا تصدقه إذا قال الحقيقة، تراها إذا كان ممن ينتدب في تحقيق قضية أو البحث عن جناية وتغيب يومين أو ثلاثة تتهمه حقيقة، فيلتفت الزوج إلى ما تقول امرأته ولا يلبث أن يتزوج أو يخال؛ لأنها علمته أن هذا الأمر مستطاع له، وسهلته على أذنيه وروحه بكثرة ذكره له، وشدة الضغط تحدث الانفجار.
إذا ركز هذا الأساس في رأس الزوجة نغصت عيشها وعيش قرينها؛ لأن السعادة والشقاء وهميان، فإذا تخيلت أني سعيدة انبسط أمامي الكون، ووجدت مخرجا من المضايق التي تعترضني، ووجدت من ثقتي بنفسي واعتدادي بسعادتي سعادة حقيقية، وصرفت الأمور على قاعدة أن أكون دائما جذلة، وإذا انقلب الأمر رأيت كل حادث هين جالبا للشقاء، وهذا مشاهد في النساء لا سيما الجاهلات؛ لأن اعتقادهن في أي شيء لا يتزعزع حتى ولو سطع أمامهن برهان يكذب ما يعتقدن؛ ولأن أعصابهن أسرع تأثرا وأنفسهن أكثر انفعالا منها عند الرجال.
وقد يتفق أن يرى الإنسان سيدة دائمة الحزن مقطبة الجبين بلا مسوغ، وأخرى دائما جذلة وكل ما حولها مثبط للهمة مزعج، فأي الأسباب عكس كل قضية إلى ضدها؟ إنه هو الاعتقاد والنفس.
وإذا فقدت المرأة الثقة في قرينها فقد يفقدها هو أيضا منها، فيا لهول تلك العيشة المنكرة! مرتبطان اسما منفصلان معنى، والنساء الملتفات حول الزوجة يزدنها كرها له بأن يزعمن أنهن رأين خليلته أو زوجته الأخرى، وينهبن الزوجة الساذجة ويطمعنها في أن ما يأخذنه منها هو لنكاية عدوتها، وسلاحهن الوحيد هو السحر؛ فيا ضعف السلاح والمقاتل! لماذا تعتقد المرأة دائما أن الرجل ليس مخلصا لها الود كما هي مخلصة له؟ إنها ولا شك مخطئة في ذلك التقدير إلا إذا رأت بعينها ما يثبته، ومما يجسم لها خيالها لسانها الذي لا يفتأ يقلب للزوج مواضيع لم تكن لتخطر له، فهي تعيدها صباح مساء، وتقوم معها وتنام، تحلم بها وتأكل ، وهي من جوارشها (أي: مشهياتها للطعام)؛ فيتضايق الزوج لأن الموضوع في ذاته ثقيل، ثم هو مكرر ومعاد مرارا، والشيء حتى الجميل إذا كرر مرارا ضاعت طلاوته وذهب رونقه، فما بالك بهذه التهمة الشنيعة وفقدان الثقة؟! إذا تضايق الزوج من هذا الحديث وبلغت روحه التراقي، ولم يفلح في إثبات براءته وإخلاصه لزوجته، لم يجد أمامه إلا أحد طريقين؛ إما أن يكثر من مجالستها ويستغني عن رأسه وأذنيه، وإما أن يهيم حيث لا مضايق وحيث يبجل مع إخوانه ويتبادل معهم أطايب الحديث، ولكن يستعد لسماع قوارص الكلام كلها ليلا عند أوبته لمنزله، فبحق الألفة والسعادة هل يعد ذلك عيشا؟!
هل علمت سبب تلك الوساوس؟ نعم هي الغيرة العمياء.
الغيرة القليلة ممدوحة؛ لأنها تدل على حب الشخص للآخر وعلى اهتمامه به، فإذا رأت سيدة بعلها غير مستقيم السيرة وتأكدت ذلك من طريق الصدق لا من شياطينها وأعوانها ولم تغر عليه، فإنها لا إحساس لها والحجر أقرب للتأثر عنها، وأما إذا استعملت الغيرة في غير موضعها فإنها تشقي نفسها وتشقي زوجها وتشقي أهله وأهلها.
هل يجسر بعل يوما أن يكلم عجوزا أو يضاحك طفلة أمام زوجته الجاهلة؟ وهل إذا قصدته أرملة في إنجاز عمل لها، لم تجد أكفأ منه في القيام به، هل تغفر له زوجته هذا الخطأ العظيم في مكالمة الأجنبية عنه؟
يجب أن لا يجعل محل للريب إذا رؤيت الريبة رأي العين؛ قد تحمل الرجل سلامة نيته على أن يبوح لامرأته ببعض ما رآه في صباه، أو أن يصف لها ملاهي باريس وغيرها من البلاد، التي ربما كان ساح بها قبل زواجه، فيلاحظ وهو يقص الحديث أنها تتغير أو تسأله عدم تكملته، ولكن هل تغارين أيضا من الماضي أيتها السيدة وقد ابتدأ وانتهى قبل تعرفك بهذا الزوج الشقي؟
والسيدات يملن دائما لفتح مثل هذا الحديث، وليس عندهن أرقى منه طبعا، فتجتهد كل واحدة في إظهار المساوئ التي تسمع بها أو تخترعها عن زوج صديقتها، وتظن ذلك خدمة لها؛ لأنها توقفها على مبلغ إخلاص زوجها لها، فإذا فرض وكانت هذه المساوئ حقيقية، فإن تلك الصديقة الجاهلة تضر صديقتها من حيث تريد لها النفع، وتسبب شقاء أسرة بأكملها، وإذا كانت اختراعا وافتراء على رجل بريء فما كان أجدر هذه الصديقة بضبط لسانها، وهو لا يكلفها أكثر من إطباق فكيها.
وقد شوهد كثيرا أن اختلافات وخصومات جناها أرباب الأسر المتفقة المتحابة من أمثال هؤلاء الواشيات، فإذا علم الزوج أن امرأة صاحبه أو أمه أو قريبته، هي التي غيرت عليه زوجته، واكفهر من غيم حديثها جو سعادته ووفاقها، لا يسعه - وهو مصيب - إلا أن يأمر ذلك الصاحب بحجز تلك المنتمية إليه عن الإيقاع به، وعن الدخول إلى منزله فتؤلم هذه الإهانة صاحبه وتوجعه، وربما بتت بينهما حبل الوداد.
الثقة ما أحلاها بين الزوجين! حتى وإن كانت على غير أساس؛ لأن الزوجة إذا تحققت انحراف زوجها عن الصراط السوي فلتنبهه أولا باللطف والمحاسنة، فإذا لم تفلح ملاينتها فماذا تعمل؟ إما أن تبقى معه إن كانت ترجو عيشه وتؤمل تحسنه، وإما أن تنفصل عنه وهذه إحدى الكبر، فإذا فضلت معاشرته بسبب حبها له أو لارتباطهما بأولاد، أو لانقطاعها من الأهل والإخوة، فأولى لها وقد تحتم عيشها معه أن تفرض أنه مخلص لها، وأنه لا يتغيب إلا لأشغال نافعة لمستقبلها ومستقبل أولادها، وأنا على يقين أن هذا الفرض متيسر وسهل جدا لمن تبغيه وجالب لطمأنينة وهدوء بال لا يفرقان كثيرا عن مثلهما الصحيحين.
المبدأ الثاني: بغض أقارب الزوج أو الأثرة
مما يطرب له النساء أن يكون أزواجهن لا أهل لهم، فترى الخاطبة أول ما تذكر حسنة للشاب الراغب في الزواج، سيان صدقت أو كذبت أنه لا أهل له، وتبالغ بقولها: «إنه مقطوع من شجرة.» معاذ الله! أيجب أن تفنى أسرة بأكملها ليتزوج منها فرد؟! والإنسان مدني بالطبع فالاجتماع بالغير لا مندوحة عنه والاحتياج للمخالطة ضربة لازب، والمرأة تميل للاستئناس كما يميل الرجل، وتعتز بالأهل كما يعتز هو، وتدرك معنى القرابة والصلة. إذن، فماذا يجعل المرأة تحترم هذا المبدأ فتاة وتتجاهله زوجة؟! أو لماذا هي تحب أقارب نفسها وتبغض أقارب الزوج وتحمله أيضا على مجاراتها؟! إن هي إلا الأثرة أو التنازع على السلطة، الزوجة تريد أن تكون حاكمة بأمرها، مطلقة التصرف في شيئين عزيزين عليها: قلب الرجل، والبيت. فإذا كانت وحدها لا يعيش معها من أهل زوجها أحد ظنت أنها نالتهما، أما إذا عاشرتها حماة أو أخت لزوجها أو ابنة له من غيرها فهناك تنازع البقاء والبغض الذي لا نهاية له، كل تريد أن تستأثر بالسلطة على المملكتين، وتجتهد في الفوز بقلب الرجل أولا، فإذا ما وفقت له نالت الأخرى بغير كبير عناء، ولا تخلو إحدى المتنازعتين من خطأ وصواب؛ إذ لا يمكن أن تكون الواحدة على خطأ محض والأخرى على صواب صراح، ولو علمتا لرضيت كل منهما بقسمها من حب الرجل؛ فالحب البنوي غير الحب الزوجي، وإذا ابتغت امرأة أن تغير على الاثنين كانت مخطئة وتعدت ما وراء حدها.
إذا أرادت الزوجة أن لا يحب زوجها أمه ولا يحترمها ولا يتكفل بلوازمها، وهي محتاجة إليه فقد أثمت، وكذلك أمه إذا حدث زوجة ابنها على ابتسامة ألقاها عليها زوجها أو تغشمرت، وأرادت أن تجعلها كالصنم لا رأي لها بينهما، فهي أيضا قد تناهت في الظلم والقسوة.
نساء اليوم غير نساء الأمس وأذواقهن تختلف باختلاف الزمن، ولكن إذا تحتم أن تعيش فتاة الجيل الجديد مع حماتها ذات الفكر القديم، فما العمل؟ المخاصمة والمعاندة لا تجديان نفعا، فضلا عن أنهما من صفات الطبقة الدنيا، أما النساء المهذبات فلا يبعد أن يختلفن في الرأي، ولكنهن يصرفن الخلاف حالا، ولم تسمع واحدة من الأخرى ما يغيرها عليها.
التساهل أول ما تجب مراعاته في الأسرة، واللطف أجمل صفات المرأة. ترى الزوجة وضع هذا الشيء على اليمين وترى حماتها وضعه على الشمال، فلتتساهل الزوجة فإنها أصغر سنا، ولتبين آراءها فيما تختار بلطف وتواضع، واللين كفيل بتسوية الخلاف. أما إذا تشبثت وأظهرت كبرياء المتمدنات وأصغرت حنكة حماتها وتجاربها بجانب تمدينها الحديث، فربما وصل الأمر إلى أوخم العواقب ، وأصعب قضية يحكم فيها الرجل هي التي بين أمه وزوجه؛ لأنه إذا أرضى أحد الخصمين أغضب الآخر وأمامه أم واحدة، أما النساء فغير زوجته كثيرات، فتدور الدائرة في الغالب على الزوجة، ولو كان رأيها صوابا.
الزوجة التي أول ما تدخل البيت تفرق بين أعضائه المتحابين المربوطين بصلة الأمومة والأخوة شيطان رجيم، يجب عليها أن تتذكر أنها لم تأت إلا من قريب أما هؤلاء الذين معه فمنهم من ربته وتعبت فيه إلى أن صيرته رجلا، ومنهم من يفضله على نفسه ويفديه بما يعز وأحدث واحد فيهم أقدم منها حبا له وارتباطا به، والغريب أن كل امرأة من هؤلاء العجائز كانت تكره حماتها وتريد أن تحبها امرأة ابنها، ولكن الجزاء الحق من جنس العمل.
وإذا سألت الأولاد وجدت أغلبهم يحبون أبناء أخوالهم أشد مما يحبون أولاد عمهم، وهذا ناشئ - ولا شك - عن حب أمهم لأقاربها وبغضها لأقارب زوجها، على أنهم بعيدون عنها ولا ينازعونها السلطة التي تخاف عليها، ولكن كره واحدة سرى في جميع من ينتمون إليها؛ فالزوجة تكرههم بحق أو بغير حق، فضلا عن أهل الزوج يحبون الرقابة على امرأة قريبهم، وقد ذكرنا أنها عدوة الرقابة والتقييد ومبادئها استقلالية مطلقة، على أني لا أفهم كيف تزعم المرأة أنها تحب زوجها ثم هي تبغض أقاربه؟! إن هذا تناقض غريب، فإذا كان ادعاؤها هذا حقيقة وجب أن تحبهم وتحتمل من أجله كل صعب مهما كلفها ذلك الاحتمال.
تنازع الرئاسة على البيت أحد سببي البغض، والسبب الآخر تنازع الرئاسة أيضا ولكن على قلب الرجل، ألا فلتطب نفسا كل امرأة غيور فإن حب الزوجة المكتسب الظاهر غير حب الأهل الغريزي الدفين، كل له صفة خاصة به تجعله لا يقل أهمية عن الآخر، وهما مختلفان لا تدل كثرة أحدهما على قلة الآخر، فهما منفصلان تمام الانفصال.
فالزوجات المتمدينات يجب أن يخفضن قليلا من غلوائهن ولا يبخلن على الحاكمة القديمة في البيت بشيء من السلطة؛ لأن من تعود الحكم صعب عليه أن ينزع منه، وأمهات الأزواج أولى لهن أن لا يتشبثن كثيرا بآرائهن العتيقة؛ فكل زمن يقتضي إصلاحا مغايرا لما قبله، والصلاة والصيام خير لهن من إلقاء مسؤولية البيت وتربية الأولاد على عواتقهن؛ لأنهما مريحان في الدنيا مكسبان أجرا في الآخرة، والسلام.
المبدأ الثالث: المباراة والإسراف
يمتاز الجيل السابق على أخيه الحالي بقلة اللزوميات ورخص أسباب المعيشة، كذلك له ميزة أخرى لا أعرف ألاحظها الجمهور أم لم يلاحظها، وهي لزوم كل طبقة من الناس حدها من جهة الغنى والفقر، فلم يكن الفقير ليستنكف من خصاصته، ولم يكن المتوسط يقلد الأوسع رزقا والأعظم جاها، كما نفعل نحن الآن، ولعل السبب الأصلي في ذلك هو نقص الحرية من أخلاقهم وتأثير شدة الضغط عليهم.
نفقات الأسرة اليوم كثيرة في ذاتها لتعدد الحاجات وغلائها، كثيرة جدا؛ لأننا نتأنق في الكماليات الزائدة، ونحاكي الغير فيها ممن هم أوسع ثروة وأفخم مظهرا، ولا مبرر لنا في ذلك إلا الحرية الشخصية وحب التقليد، أما الحرية فنعمة من الله ورحمة وأما التقليد إلى هذه الدرجة: درجة التلف، فليس من العقل في شيء اللهم إلا إذا ابتغينا به تأييد مذهب دارون في النشوء والارتقاء، ولا أخالنا نبغي التسجيل على أنفسنا بأننا وحدنا من سلالة القرود.
إذا استثنينا الطبقة السفلى من النساء، فإننا نكاد نرى الباقي من الوسط والثريات شبيهات في الملبس والزينة، تضارع الواحدة الأخرى في عدد الخدم وكمية الأثاث ونوعه، فهل يمكن أن نكون كلنا في درجة متساوية من الغنى؟ هذا يستحيل، وإذا لم نكن متساويات في ماليتنا؛ فمن أين نسد هذا العجز في النفقة عن الإيراد؟ جواب صغير مفهوم: من الرجل أبا وزوجا.
إذا تزوجت الواحدة منا كلفت أباها ما لا طاقة له به كي لا ينقص جهازها عن فلانة جارتها أو قريبتها، فإذا قدر فنعم القادر لا انتقاد عليه، ولكن إذا عجز فمن خرق الرأي أن يستدين ليكسب فخرا كاذبا أطول مدته يومان، وإذا تزوجت لم تشأ أن ترى صاحبتها تشتري عشرة أثواب وهي لا تشتري إلا أربعة مثلا، وكيف تجد عند جارتها خمس خادمات فيهن الأوروبيات وليس في بيتها إلا واحدة مصرية وهي تكفيه، فهي دائما تزن نفسها بميزان الغير لا تفتأ تقلده مهما فعل، فإذا لم يكن لها ميراث رفيع خاص بها يصرف في مآربها فإن هذا يحمله الزوج المسكين ولا راحم له يصرف دخله كله، وفي الغالب لا يكون له إلا جعالته الشهرية دخلا، ويحمد الله إذا لم يستدن على حساب الشهر التالي، فإذا فصل من الوظيفة أو لحقه ما يستلزم النفقة كالهرم أو المرض لم يجد شيئا يعتمد عليه إلا رحمة رب العالمين.
علة المباراة الحقيقية هي الحسد، يأكل القلب ويكثر الهم، فلا تطيق صاحبته أن ترى أجمل منها هيئة أو أغنى مظهرا، وتهتم في أن تكون هي المشار إليها بالبنان في المجالس، ويسكرها الطرب إذا ذكر غناها واقتدارها على اقتناء العربات الجميلة والخدم الكثير، وبعضهن تبيع حليها أو شيئا من أملاكها لتشتري سيارة (أوتوموبيلا) أو لتسافر إلى أوروبا، لا لأنها تحب السياحة أو تستفيد من الأسفار، ولكن لأن غيرها فعلت ذلك. ولو تأملنا لرأينا أن الإنسان مهما حاول أن يجعل نفسه الأول في صفة ما فإنه لا يلبث أن يرى أعلى منه وأمكن في تلك الصفة بعينها. تبذل سيدة كثيرا من مالها ووقتها للتفتيش عن أجمل عقد في القاهرة فتجده، ولكن لا تدوم أوليتها به أكثر من أن ترى أخرى عليها عقد أنفس أتت به من الآستانة أو باريس مثلا، وإذا تطلع المرء لغيره لم يقتنع قط بما عنده.
أرى أنه لا يجمل بالسيدة العاقلة أن يستحكم منها داء التقليد؛ لأنه يدل على صغر النفس والإحساس بصغرها (وإذا ذممت المحاكاة هنا فإني لا أقصد المعتدلة منها فقد تكون لازمة أحيانا، وإنما أذم المتطرفة ولذلك وصفتها بلفظة داء).
وإذا كنت بارعة رشيدة فلماذا لا أبتكر في ملبسي ومنزلي ما يجعل غيري من النساء يقلدنني فيه بدل أن أجري دائما وراء ما يفعلن؟
يقول الحديث الشريف: «الناس بخير ما تباينوا.» وهي حكمة بالغة، أو هي كل نواميس العمران ولباب نظامات الاجتماع، وإذا كد الاقتصاديون أذهانهم وألهب الاجتماعيون أدمغتهم يستنبطون القوانين ويسنون النظامات لصالح بني البشر فلن يأتوا بأجمع للحكمة، ولا أدعى لسير هذا العالم سيرا آليا منتظما (ميكانيكيا) أحسن من هذا الحديث على إيجازه. وعليه، فلا يمكن أن يتساوى البشر، ولا يمكن - مع الأسف - أن نكون كلنا غنيات، نحن نريد أن نظهر كلنا بمظهر الموسرات «وهل بالفقر من عاب؟»
الفقر وحده لا ينزل الإنسان من رفعته؛ فالاعتبار بالنفس والفضائل لا باليسر وعدمه، ماذا يضر المجتمع الإنساني إذا كنت أفقر من صاحبتي أو كانت هي أفقر مني؟ بل ماذا تفيد محاكاتي لها إذا كنت لا أستطيعها بمعناها الصحيح؟ هي تقدر أن تتجمل بالثياب الحريرية والماس الكثير من مالها وفضل الغنى عليها، ولكني قصيرة اليد عن الإتيان بمثل ما عندها، أفليست القناعة إذن خير ذخيرة للقاصرات؟!
وقد تكون امرأة ثرية جميلة الملبس يعجبك منزلها ويبهرك أثاثها، وتكون مع ذلك شحيحة لا ينال العاجزين نفعها أو تكون فظة سيئة العشرة، وتكون أخرى غير جمة المال، ولكنها جمة الفضائل محسنة على المعوزين، فأي الثنتين أنفع للإنسانية وأولى بالدعاء؟! أعجب لنا لماذا نتبارى فيما لا يفيد ونترك النافع من الأمور؟!
المباراة تستدعي الإسراف، والإسراف يعجز مالية الزوج ويثقل كاهله بالديون، والمرأة التي تضطر زوجها ليصرف عليها أكثر مما يستطيع لا تخلو من أحد باعثين؛ إما أن تكون تفعل ما تفعل غير عالمة بعواقب التبذير، فهي إذن كثيرة الشطط جاهلة لا تصح أن تكون مديرة للبيت وللأسرة، وإما أن تكون عالمة بمصير مالية الزوج وتفعل ذلك مختارة، كما يفعل كثيرات كي لا يوفرن للرجل ما يمكن أن يتخذه في يوم من الأيام مهرا لحليلة جديدة أو خليلة عنيدة، فهي مزعزعة اليقين كثيرة الشك تقدر البلاء قبل نزوله، ولا بلاء إلا التزوج بمثلها.
وأكثر ما تنزع المرأة للإسراف في مال الزوج إذا كان لها ضرة تقتسم معها فؤاد الزوج وماله، فإنها تصرف بحساب وبغير حساب كي لا يجد ما يقوم بمصروفات ضرتها، أو كي تنتقم منه لنفسها ليعجز عن الجمع بين اثنتين ويندم، وتحسب أن عجزه وندمه يجعلانه يكتفي بها وحدها، ولكن ما أدراها أنه إذا أراد حذف إحدى الثنتين من جدول نسائه لعلها هي تكون المحذوفة الخاسرة.
وعلى ذكر التصرف بمال الزوج أصرح باستهجان عادة التوفير السري الذي يأتيه كثير من النساء ويحسبن ذلك محمدة؛ فيشترين بما يوفرن حليا ولباسا ويزعمن أن أهلهن أتوا به لهن، أو يصرفنه في السحر والخرافة، وفي ذلك منقصتان: نقيصة الكذب ونقيصة السرقة؛ وأسميها سرقة لأنها لا تفرق عن سرقة اللصوص البتة، وربما كانت الأخيرة أخف من الأولى؛ لأن اللصوص فضلا عن كونهم غرباء عن المسروق منه فإنه قد يعثر بهم فيعاقبهم، أو على الأقل لا يهتدي إليهم ولكن يدري أنه فقد شيئا، أما السرقة الأخرى فإنها من أقرب الناس إليه وألصقهم به ثم هو جاهل بالمرة قد لا يهجس بها، فإذا وفرت المرأة شيئا فإن ذلك يعد مهارة لها واقتدارا، ولكن لتريه لزوجها فيعطيها إياه عن طيب خاطر وسماح، فذلك أهنأ لها وأشرف.
والخلاصة، أن الغنى ليس متيسرا لكل فرد فأولى أن يلزم كل حده؛ لئلا يكون مثلنا كمثل الضفدع التي أحبت أن تبلغ كبر الثور؛ فاستعانت بالماء فانفجر جوفها فماتت، ولتعلم المرأة أنها وكيلة الزوج في ماله وبيته، والوكيل يجب أن يكون أمينا تقيا، وأن التكالب على المباراة صفة مصغرة للنفس، وإني لأزعم أن رجالنا وأبناءنا يقل فيهم الباحث ويندر المخترع أو لا يكاد يوجد؛ لأننا متشبعات بحب التقليد لا تتجدد همتنا بالبحث والاستنباط؛ فيكون لهم من زوجيتنا وأمومتنا محك لأفكارهم أو أسوة ومثال حسن.
المبدأ الرابع: سرعة الغضب والتهديد بالفراق
اتحاد الزوجين وارتباطهما بالحب الصادق هما السعادة الكبرى التي نفتقدها، والتي لا غنى لأحد المتزوجين عنها، ولو رأى سعادة أخرى في غير ذلك؛ فالممول الذي يحسب نفسه سعيدا إذا أحرز الملايين، والعالم الذي يغبط نفسه إذا اشتهرت تعاليمه، والسيدة التي ترى هناءها في اقتناء النفائس، كل هؤلاء مع فرحهم بما وفقوا إليه لا يستغنون عن تلك المحبة الزوجية ، ولا يستكملون سعادتهم وهي ناقصة؛ لأن الإنسان مهما قويت إرادته لا يستطيع أن يتفرغ لأعماله ويفكر وعنده شاغل يزعجه، ولشد ما يقاسي أحد الزوجين من تنغيص الآخر له.
ومن أكبر دواعي الكدر والتنغيص أن تفعل الزوجة لأقل كلمة وترجع إلى قومها غضبى آسفة.
عادة التهديد بالفراق شائعة عندنا شيوعا هائلا مستهان بها كثيرا، فكما ترى الرجل يحلف بالطلاق لغير داع كذلك ترى المرأة تنهزم من بيت زوجها لأوهى الأسباب، يهدد بعضهما البعض بالانفصال في عرض كلامهما، يريد أحدهما بذلك بث خوف الفراق في نفس الآخر ليخشاه، وما من زوجين مرتبطين برابطة ما إلا ويخشيانه، ولكن فاتهما أن ذكره ساعة الغضب مما يثير العواطف ويعلو بالنفس إلى سماء عزتها، وكيف يرضى إباء المهدد وغيظه محتدم أن لا يطلب ما يهدد به ويستخف بالعقاب وإن عظم، فينسى الحقيقة والصالح ويدوس العقبى؛ تفاديا من ضيم نفسه المثارة الهائجة، ولا يشجع النفس الجائشة أكثر من تذكيرها بالخوف، كالجند إذا صح عزمها على القتال، وكانت على حق منه، تراها أكثر ما ترمي بنفسها في حلق الموت حينما ترى نار الحرب مستعرة متأججة، فشدة الموقف تذهب الخوف وتبعث على الإقدام، والغضب كذلك إذا أرخي له العنان ملك صاحبه، ورمى به إلى حيث لم يقدر وهو حليم، والمرأة التي تتغنى دائما بذكر الفراق لأقل خلاف يحدث بينها وبين حليلها أو بينها وبين أهله، قد لا تأمن أن يصدر عليها حكم الفراق المؤبد من زوجها ساعة الغضب، وهي لم تكن لتعضده بالجد وإنما كان هزلا وعادة مستقبحة، سمعت أن إحدى السيدات كانت تطلب الفراق من قرينها كلما شجر بينهما خلاف بسيط أو كلما كدرتها حماتها، وقد تشبثت بذلك الطلب مرة وألحت فيه وألحفت، فسألها الزوج هل تبغي الطلاق حقيقة؟ فأجابت نعم، فلم يسعه إلا أن أخذها إلى القاضي ليترافعا إليه ويتخاصما، وبعد أسئلة وأجوبة رأى القاضي أنها مصرة على تنفيذ رغبتها فأصدر حكمه بالطلاق، ولم يكد يتم كلمته حتى صرخت وأعولت وندمت على ما جنت، ثم طلبت أن ترد إلى زوجها ثانية، فما هذا التناقض واللعب؟! إن هذه المرأة مثلها كثيرات يجنين على أنفسهن وأولادهن، ويبعثرن أسرا كانت ملتئمة لولا الحمق واللين. إذا تعسر عيش المرأة مع زوجها صافيا تعذر إذا طلبت الفراق، وأما إذا كان ذلك تجنيا ومزاحا، فالزوجة أحكم من أن تفصم عراها في التجني والمزاح.
الوالدان أو الأهل لا يزوجون بنتهم إلا وهم راسمون لها خطة سعادتها المستقبلة، ومقتنعون بها ومقررون هدوء بالهم من جهتها، فما أحراها أن تحقق ما يرجون! وهي الواجب بطبيعة الحال أن تخفف مسئوليتها كثيرا عن عاتقهم، أما وهي تشكو لهم مما لا يوجب الشكوى فإنها تبدل صفاءهم كدرا وتأتي بعكس ما كانوا ينتظرون.
يجب أن نقرن رقة شعورنا وسرعة تأثرنا بفضيلتي الصبر والحلم؛ لأننا في منازلنا بين استقبال الزائرات وزيارتهن وترتيب الأواني وجلائها، ولعب الأطفال والذهاب من اليمين إلى الشمال، والاضطجاع على الفراش الوثير من مزركش وحرير، لا ندري ما يكابده الرجل من الآلام من تعنت الرؤساء، وما يقاسيه من العذاب في غلاء المأكل والشراب، ربما كد فكره وأنهك قواه ولم يصادفه التوفيق وأخطأه الرزق وهو لو لم يكن له إلا نفسه فقط لرضي باليسير، ولكن ماذا يفعل ووراءه أم وأولاد، أو قلب وأكباد، أيتركهم يتضورون جوعا وهم لم يألفوا إلا الرخاء؟! أفمن كانت هذه حاله يشتغل ليحفظنا ويتعب ليريحنا يصح أن نقابله بالعبوس والغضب إذا ما بدا متأففا يوما من طول إعمال الفكرة أو من شدة النصب؟!
كل شريكين قد يختلفان اختلافات بسيطة ولكنهما لا يذيعانها، ومن أحق بكتمان السر من شريكي الحياة؛ أعني الزوجين؟! والحازم من لا يجعل للاختلاف الصغير محلا من اهتمامه، بل يزيله بمجرد الفراغ من التكلم فيه، فإذا ما اختلف زوجان أديبان في تقدير حسنات الشاعر الفلاني، أو تفضيل هذا المذهب على ذاك، واحتدم بينهما الجدال وبدرت من أحدهما كلمة شديدة للآخر، أفيغضبان ويسببان الفراق لأجل ذاك الشاعر، أو ذلك الحكيم صاحب المذهب، وهما لا يدريان كما قال أبو الطيب المتنبي:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
بقيت لي كلمة عن هؤلاء اللاتي يغضبن ليقبضن ما يبقى لهن من الصداق عند أزواجهن، وهي عبارة شائعة كثيرا عند بعض الطبقات، أما قبحها فجلي؛ لأن المرأة بذلك تبرهن على أنها تقدر النقود أكثر من الحياة والسعادة، وهذا جشع لا يليق إلا بالمرابين ومهووسي المال، والمرأة يجب أن تكون ملك اللطف ومثال الرقة والنزاهة، وبعضهن يتذرعن بالغضب والاحتماء بالأهل ليصالحن الرجل، والعادة أن يصالح الرجل زوجه بقطعة حلي وثياب كثيرة، فما أسخف هذه العقول! تفدي المرأة راحتها وهناءها وسعادة أولادها بذلك المتاع الفاني.
وقد تغضب المرأة أيضا لتجرب محبة زوجها لها، وترى من آيات الود شيئا جديدا، ولكنها في غنى عن هذه المخاطرة والتجربة الصعبة؛ لأنها تعلم مبلغ حبه لها من أحواله معها.
المنزل لا بهاء له إلا بالمرأة كما أن قوامه الرجل، فترك المرأة بيتها يمسخ ذلك الهناء المرفرف عليه ويسبب حزن الأولاد وانقباضهم، كما أنه يتلف وتعبث به أيدي الخدم فيخسر الرجل خسارة مضاعفة.
طريق الكذب والتمويه هذه وعرة المسالك غير مأمونة دائما، فإما أن تقرر المرأة أنها تعيش مع زوجها وتشاركه السراء والضراء فتحتمله ولا تحنق عليه لصغير الهفوات، فلا يلبث أن يندم إذا كان أساءها ويعتذر لها، ويغفر أحدهما غلط الآخر، ويزيلان أثر كل خلاف بينهما فيعيشان سعيدين، ويتحتم على الزوجة إذن أن لا تسرع الخطو نحو منزل أهلها، بل تظل في منزلها تديره. وإما أن تغضب وترجع لأهلها حين ترى أن لا خير في البقاء مع رجل فظ سيئ الأخلاق فتفارقه إلى الأبد، ولا تعود ترى وجهه البتة، أما الذهاب والإياب فأعده طيشا لا يليق بعاقله مهذبة تعلم عواقب الأمور. (11) مساوئ الرجال
الطمع
أريد مما كتبت وما أكتب في الجريدة بعنوان «النسائيات» تخفيف ويلات الزواج على قدر الإمكان، وقد بينت في مقالاتي السابقة ما يرجع منها إلى المرأة، واليوم أراني مضطرة لأن أكتب عن الرجل؛ لأنه أحد طرفي الزواج؛ لأنه كثيرا ما يظلم ويطغى، ولست أقصد كل رجل على الإطلاق ، كما أني لم أكن أقصد كل امرأة، وإنما الكلام على من فسدت أخلاقهم (وهم مع الأسف كثيرون)؛ فسببوا شقاء النساء وهدموا بناء الزوجية.
انقلبت الحال وصارت الفتاة بائرة في سوق الزواج إلا إذا شفع لها غناها، عكست آية الإسلام واستبدلت بها عادة لم تأت في شرائع النصارى ولا اليهود وإنما اتبعوها بدعة وضلالا.
ازداد طمع الرجل فملك عليه حواسه، فصار ينام يحلم بالمال ويقوم يشتغل له، ولا عيب عليه في ذلك، وإنما الذي يعيبه أنه زادت خميرة جشعه فحمض ذوقه واستحكم منه الطمع في كل شيء حتى في عروسه! «ماذا عندها»؟ كلمتان ألفناهما وهما أول ما يفتح به للخاطب، وقد لا يسأل غير هذا السؤال؛ فأبو العروس الذهب وأمها الفضة وأخلاقها النحاس وسمعتها الطين ومعارفها العقار، متى وجد المال صحت المصاهرة ولزم الزواج، وإلا فتبقى الفتاة إلى أن تسن وتدفن معها طيبة قلبها وحسن عشرتها وقدرتها على تربية أولاد بررة ربما كانوا، لو ظهروا في العالم نافعين.
يلبث إعجاب الرجل بزوجه وغناها قليلا، ثم يتحول إلى استبداد واغتصاب، فيجبرها على أن توكله على مالها توكيلا شرعيا ليتصرف فيه على هواه، فيبدده على ملاهيه وخليلاته، أو يتذرع به للظهور في مظهر الموسرين، ورب معترض يقول: لماذا تستحل المرأة مال الرجل وتحرم مالها عليه؟ فهل فاته أن الرجل مكلف شرعا بالإنفاق على زوجته وعياله أما المرأة فلا؟ اللهم إن كان محتاجا وعند المرأة فضل، فليس من المروءة ولا الحنان أن تتركه يقترض من غيره ولا تعطيه هي مما عندها وتعتبره شريكا لها في كل شيء على أن ذلك تكرم منها لا تجبر عليه، فإذا سمحت أعطت وإن شاءت منعت، كذلك إذا تزوجت المرأة من رجل كان يكفي بيته ثم عضه الدهر فأعسر فلا يصح أدبيا ولا اجتماعيا أن تتخلى عنه وقت عسره أو تبخل عليه بمالها؛ إذ هما شريكان في السراء والضراء، فضلا عن أنها لو لم تكن ذات مال لوجب عليها أن تساعده بما تستطيع فيما لا يتعدى الشرف، فمساعدة المرأة للرجل بالمال واجبة إذا أعسر بعد يسر اشتركت فيه معه، بشرط أن تكون تلك المساعدة في غير ضرر عليها أو إفساد له، أما إذا كان ممن يلعبون الميسر، أو ممن يقضون حياتهم بين القناني والقيان، فأحر بزوجته أن لا تقرضه فلسا واحدا.
وهناك آخرون تحل لهم أخلاقهم أن يجازوا الإحسان بالإساءة، فبعد أن يبددوا ثروة نسائهم ويلحق أصفرها أبيضها يكافئونها بضرة جديدة، وبئس الجزاء!
مال المرأة يجب أن يبقى لها ولكمالياتها وترفها، وهو على أي حال يوفر على الرجل بعض النفقة، وإذا اتحدا ولم يتفارقا فالمال باق لأولادهما فأي ضرر عليه في ذلك؟! وهل الأنفع له أن يبدده ويحتاج لغيره أو أن يوفره فيجده كنزا لم يتعب في الحصول عليه؟ وهي إذا وفى لها وأيقنت بحسن نيته لا تضن عليه بروحها فضلا عن بعض مال سيفنى وتأتي عليه الغير.
لا أعد الرجل ذا مروءة ونخوة وهو يبيع حلي امرأته ويجردها حتى في حال عسره؛ لأنه لا معنى لرجوليته ووصفه نفسه بالقوة والنشاط مع اعتكافه على الكسل، ولماذا لا ينقب له عن عمل يرتزق منه، وهو لا يمنعه عن الارتزاق مانع إلا أنه وكل؟ لا يعذر الرجل على مد يده لمال زوجه إلا إذا كان له من ضعفه وعدم اقتداره على العمل مبرر.
على أن هذه المسألة من التعقيد بحيث يسهل عندها ذنب الضب؛ فإن بعض النساء يهددن بالفراق إذا لم يعطين أزواجهن ما يطلبون ويذكر لهن الزواج إرهابا، فأي الأمرين تختار المرأة البائسة؟! لا شك أن إعطاءها المال أهون الشرين، ولكن أتأمن غدره بعد أن أظهر لها أنه قادر على إتيانه في أي لحظة وهي لا تعلم؟! اللهم إن رجلا هذه أخلاقه مع زوجه وهذا مبلغ جشعه لخليق بأن يفارق، ولكن المداراة مما أوصى به النبي
صلى الله عليه وسلم
فلتداره ما أمكن؛ فذلك خير لهما من الخلاف وأولى للمرأة التي تشك في أمانة زوجها الطماع أن توكله توكيلا مدنيا فقط، لا شرعيا كما يريد، فتكون وسطا بين الطرفين تحفظ العين من الضياع وتتساهل قليلا في الريع. المرأة مظلومة دائما؛ إذا كانت فقيرة لا يرغب فيها، وإن كانت وارثة يطمع في مالها. والوارثة مظلومة أيضا؛ فإما أن لا تتزوج لتأمن الطمع والطماعين، وإما أن تتزوج على غير بصيرة كعادتنا. ولو كان للخطبة والزواج عندنا نظام آخر لأمكن التحقق من أخلاق الخاطب، وتمييز الرجل ذي المروءة من الشره الزنيم.
الظلم
من الأنباء ما يترك في أعماق النفس أثرا لا يزول، ومن تلك الأنباء ما أثر في تأثيرا خاصا، وسأقصه فيما يلي: كنت يوما عند صاحبة لي، فسألتها عن سيدة كان لي بها معرفة قديمة، ولم أرها منذ زمن بعيد، فتنهدت وأجابت بلهجة المحزون أن تلك السيدة في أشد ما يكون من الأسى، وأنها لفرط حزنها وكثرة بكائها قد حل بها السقم؛ وذلك لأن زوجها عقد على امرأة أخرى وستزف إليه قريبا، فأخذ مني العجب مأخذه، ورأت صاحبتي دهشتي فقالت: لم تعجبين من ذلك الخبر؟ أليس كثير الحدوث عندنا مألوفا؟ قلت: نعم؛ ولست أعجب من حدوثه في ذاته وإنما العجب في أنه حدث لتلك السيدة، وهي على ما تعلمين على أحسن ما يكون عليه النساء من الخلق، وعلى جانب غير قليل من الجمال والعلم، وقد كنت أسمع منها أنها في راحة مع قرينها، وقد رأيتها بعيني تشتغل في بيتها، ولم يكن ينقصه شيء من النظافة والترتيب، ولها منه أطفال صغار؛ فماذا يريد الرجل فوق ذلك (تربية وعقل وملاحة وإنجاب)؟ فقالت محدثتي: إن ولدي تلك السيدة توفيا في شهر واحد وهذا ما حدا بالزوج إلى البحث عن أخرى، وقد خطب في نفس الشهر الذي فقد فيه ولديه، وامرأته الأولى أم جنين لم تكمل مدته بعد، فيا لقساوة الرجل! أكل ذنبها أن ولديها توفيا؟ وهل لم يكفها حزنها على فقدهما فيسدد إلى فؤادها المكلوم سهما آخر مسموما؟ وهل ضبط منها رسالة لعزريل تستزيره بها وتحثه على خطف فلذتي كبدها؟ وهل كان هذان المفقودان ولديها ولم يكونا كذلك له؟ نعم؛ إن الرجل أقوى عزيمة من المرأة وأشد احتمالا للمصائب، ولكن هب أنه جلد أفينسيه الجلد الشفقة، ويخطئ به الصبر مواضع الرحمة؟ اللهم إن هذا منكر لا يرضيك.
إذا احتاجت المرأة للمواساة والعطف في زمن ما فأشد ما يكون ذلك في أيامها السود، وهل أحلك من يوم تفقد فيه ولدين معا؟! فإذا ما اشتد حزنها وشاركها فيه القريب والغريب أيصح أن يتنصل عنها زوجها ويتركها هدفا لسهام الأرزاء والأشجان والحزينة زوجه والذاهبان ولداه؟ إنها إذا حزنت على أخ لها أو قريب كان من الواجب عليه أن يشاطرها الحزن حتى ولو ظاهرا، أما وهي محتسبة ابنها وابنه فمن أحق بتخفيف آلامها إذا خلا هو من مثلها؟! إنه إذا لم يحزن ولم يواسها فلم يكن أقل من أن يتركها ونفسها، كما قال الشاعر:
تخذتكم حصنا منيعا لتمنعوا
سهام العدا عني فكنتم نصالها
إذا كنتم لا تدفعون ملمة
عن النفس كونوا لا عليها ولا لها
ولكنه هو يتزوج عليها؛ يكلم قلبها الكسير فضلا عن أنه أقدم على أمر لا يضمنه، أفلا يجوز أن تكون امرأته الجديدة عاقرا فلا تلد، أو ولودا ويموت أبناؤها كالأولى؟! إن القدر لا يعاكس ولا يستطاع تحويله عند أمر كهذا؛ فالولادة والحياة والموت بيد الله لا ندري متى هو مانحها ومتى يقبضها، إن جوف تلك السيدة لا يسع شيئين في آن واحد: الجنين والشجن، ألا يكون زوجها جانيا عليها وعلى ولده الجديد إذا ما زاحمه البث فلفظه ميتا، ألا إن ذلك الزوج القاسي لجان في عرف القانون، جان في عرف المروءة، جان في عرف الإنسانية والحنان.
تذكرني تلك الحادثة المؤلمة بحادثة أخرى تشبهها، ذلك أن رجلا من ذوي الرتب عاف زوجته لأن أولادها منه كلهم بنات؛ فطلقها واقترن بأخرى على أمل إنجاب الذكور، فأتت له بأنثى ثم بأخرى، وهكذا أبى الله إلا أن يتم ما أراد، فكأنه استبدل بنات بغيرهن، ولكنه خسر ود امرأة صالحة كانت تحبه، وغير عليه قلوب بناته الشابات، وظن أنه كسب ود أخرى وما هو إلا واهم فيما زعم.
ليت شعري إذا فرضنا أن ولادة البنات عيب كما يرى بعضنا؛ فهل للمرأة يد في ذلك؟! ولماذا لا يعيب الرجل كما يعيبها؟ لماذا لا تعافه المرأة وتطلب إليه أن ينفصل عنها وتتزوج غيره لتلد ذكورا؟ إذا صح أن يتشبث أحد الزوجين بهذه الخرافة صح للثاني أيضا؛ إذ هما في حقها وبطلانها سيان.
إن لنا من شؤوننا البيتية الأخرى ما يكفي لشغلنا، ولنا من عاداتنا القديمة المستهجنة ما يبح في طلب إصلاحه صوتنا، فجدير بالرجال أن لا يشغلوا وقتنا وفكرنا بالشكوى من أعمالهم، وأظنهم يقع عليهم ظلم الحكومة مرة وضيق العيش أخرى، فلا يجدون من ينتقمون منه لأنفسهم سوانا، وما أخال محروبا أضعف منا سلاحا وأقل طلبا للثأر، فيا رب ألهم رجال حكومتنا السداد؛ فإن ظلمهم الأمة له أثر مضاعف فينا، ولعلنا لم نزد عن الرجل في شيء البتة إلا فيما يؤلم. إذن؛ لقد عكسوا آية القرآن القائلة:
فللذكر مثل حظ الأنثيين .
الازدراء بالمرأة
لعل عدوى التشاؤم من النساء سرت إلينا وانتقلت إلى بعضنا بالوراثة من عرب الجاهلية الأولى، أولئك الذين كانوا يئدون بناتهم خشية الإملاق أو العار، كما كانوا يزعمون، وقد نسخ النبي
صلى الله عليه وسلم
تلك العادة المنكرة، إلا أن أثرها لم يزل باقيا فينا إلى اليوم؛ إذ نحفل لولادة الصبي ونستاء لظهور البنية في هذا الوجود، وقد يعذر المتقدمون على اعتقادهم هذا لحاجتهم إلى الرجال لكثرة حروبهم وغاراتهم، أما نحن فلا عذر لنا إلا قليلا، وفي ما عدا حفظ لقب الأسرة ومالها من الضياع يتساوى الصبي والصبية في نظري؛ لأن عدد جنودنا محدود ونحن قوم مسالمون نجتنب الحرب ما أمكن وترانا نقلد العرب ولا نحكيهم فهم يهبون الصبي من يوم ظهوره للحرب، ويفتخرون بدخوله في غمارها، أما نحن فإذا دخل أحد أبنائنا الجندية يكاد يقتلنا الحزن، وأعرف أمهات فقدن أبصارهن من شدة البكاء على أبنائهن المجندين.
ذلك كان زمان الكثرة والشجاعة أما اليوم فزمن السياسة والصناعة، ها هي دولة الإنكليز يربو عدد نسائها على رجالها، وقد سادت أمما كثيرة رجالها ضعف الإناث فيها، وها نحن بحمد الله يزيد رجالنا عنا عددا، فأي خير جلبنا وأي شر دفعنا عن بلدنا المفدى؟! وحنكة وزير واحد أطيب أثرا من مائة ألف مقاتل، ويقظة من قليل خير من نوم الكثيرين.
هذا بيان لا بد منه لتنفيذ رأي القائلين بعدم الاعتداد كثيرا بالبنات.
المرأة المصرية مسلوبة الحق مظلومة في كل أدوار حياتها؛ نراها يتشاءم منها حتى وهي جنين، فإذا ظهرت مولودة تستقبلها الجباه مقطبة والصدور منقبضة والثغور صامتة، ترى القابلة وهي تحملها منكمشة لا تبدي ولا تعيد، كأنما كان لها بعض الذنب في ولادتها أنثى، نرى أقارب النفساء وصديقاتها يكثرون لها الهدايا إذا كان مولودها ذكرا ويقللون منها عددا وقيمة إذا أتت بأنثى، نرى كل من نقل الخبر يطفح اليأس من عينيه ولسان حاله يقول: ناقل الكفر ليس بكافر، فإذا انقضت ستة أيام كان سابع أيام الصبي عيدا نوقد فيه الشموع نهارا وتجلب أنواع الحلوى وتعزف الطبول وآلات الطرب، أما الصبية فيكتفى لها ببعض النقل ويحسب تفضلا.
كذلك حالهما في التربية والتعليم، فإن نصيب البنت قليل عندنا حتى إن من كعبت وهي في المدرسة تعد شاذة، ولست أعجب من جهل الأمهات أكثر مما أعجب لقوم متنورين تربوا تربية عالية ينادون بقصر البنت على تعليم القراءة والكتابة والطبخ والغسل، كأنما العلم خلق لهم وحدهم في حين أن الله - سبحانه وتعالى - لم يكلف به طائفة دون أخرى، فكأنهم يجرحون عواطفنا علنا بقولهم لنا: نريدكم خادمات منازل فقط لا سيدات مهذبات، وكيف يأبون علينا حقنا الطبيعي في مشاركتهم الحياة ويطلبون الدستور؟!
وليس حالنا في سن الشباب بأدعى للطمأنينة منه في الطفولة، فإننا لا نزيد عن المساجين شيئا إلا بالاسم فقط؛ فبينا تجد الفتى حرا في كل شيء ترانا يحجر علينا حتى في استنشاق الهواء النقي، حتى في اختيار لون الثوب الذي نلبسه، وإذا سمح لنا ببعض المشي أو التنزه رمانا المارة بكل معيبة وأخجلونا ببذاءتهم، وهم أحق بالخجل من وقاحتهم وفحشهم.
وإذا تزوجنا لم نزدد إلا ضغطا فيقوى الرجل ويستبد، تكتم حرية الزوجة إلى درجة تميت نفسها وتعدمها الإحساس والحياة، أرأيت أطغى من ذلك الرجل الذي يمنع زوجه من رؤية أمها وأهلها لغير جناية حدثت منهم؟ أرأيت أطغى من ذلك الذي يمنع الزائرات من دخول بيته، ويحجب امرأته عنهن خوفا من أن يفسدنها عليه أو يعلمنها شيئا جديدا يأباه جموده واعتسافه؟ يتحكم فيها وفي صحتها وفي مالها وفي وقتها وفي حريتها وفي كل شيء ويأبى عليها أن تسأله سؤالا بسيطا عن شغله، بحجة أنها لا تفهمه! أو عن نفقاته معتذرا بأنه لا مدخل لها في شؤونه! وهل يحتقر الرجل المرأة أكثر من أن يجلس لطعامه وحده ولا يدعوها لمشاركته فيه، فإذا فرغ منه تأخذ لقمة من هنا وأخرى من هناك كما يفعل الخدم؟ تظل واقفة، وإذا غاب ليلا يتحتم عليها السهر إلى أن يحضر، ثم إذا مرضت يأنف أن يناولها جرعة من الدواء، ويستنكف البقاء معها قليلا فيترك لها المنزل بما فيه، وليس أصعب على المريض من أن يرى نفسه مهملا متروكا.
يظهر احتقار الرجل للمرأة جليا في أفعاله وتصرفاته، إذا حزن يوما لا يكاشفها بما يؤلمه، وإذا نوى الشروع في عمل يعدها غريبة عنه فلا يخبرها، يخرج من البيت ولا يعود إليه إلا لأمر ضروري، فمؤانسته وأسراره نهب للخلان، أما زوجه فلا يعدها إلا طاهية أو خادمة، وأظن أن الرجل لولا بقية حياة فيه لما هوى منزله، ولولا أن أكله في الفنادق يكلفه كثيرا لما ذاق طعام بيته.
أي ازدراء للمرأة وعبث بحقوقها أشد من أن تخرج كلمة من فم الزوج ساعة غضبه فتفرق بينهما وتشتت ملتئمهما؟! وأي أمل لها في مستقبل مظلم لا تدري متى ينهار بنيانه؟! إن الدين لم يسمح بتعدد الزوجات وبالطلاق هكذا من غير شرط كما يفعل الآن رجالنا، وإنما جعل لهما شروطا وقيودا لو اتبعت لما أن منها النساء البائسات.
زار أغلب رجالنا أوروبا والبلاد المتمدينة، ورأوا بأعينهم كيف يحترم الرجل الأوروبي امرأته، حتى إنها مقدمة عليه في كل مجتمع، فعادوا ينادون بوجوب تعليم المرأة، ويصرحون في كلامهم بأنهم من أنصارها وأنها واجبة الاحترام، ولكن لا يلبث كلامهم أن يذهب مع الهواء، إلا أنهم إذا اجتمعوا بسائحة إفرنكية أو امرأة غربية تلطفوا لها كثيرا، فساعدوها في النزول من عربتها، وأمسكوا لها حقيبتها، ورفعوا الطرابيش إجلالا لها، في حين أن أحدهم يستنكف أن يركب مع امرأته في عربة واحدة، وإذا سافرت أو انتقلت إلى محل آخر تركها ونفسها، كأنه لم يكن هو صاحب الأفكار الحديثة القائل بمساعدة المرأة، وإذا ازدحمت الطرقات في مولد أو موكب مثلا رأيت الرجال يدوسون النساء ويضربونهن بالمناكب كأنه زحام الحشر، فهل هذا مبلغ احترام النساء عندنا؟!
أي سبة للمرأة العفيفة أنكى أو أشد إيلاما من أن يحوطها زوجها بالرقباء والحشم كلما انتقلت خطوة، كأنها غير أمينة على نفسها، أو كأن العفة ملاكها الرهبة لا الرغبة؟!
وهل يزدري الرجل عواطف المرأة بأكثر من أن يجالس خليلته أمامها، كأن شعورها ميت، ويريدها أن لا تغضب، فهل قد فؤادها من حجر صلد؟!
لا أنكر أن لنا عيوبا يجب إصلاحها، وأن بعضنا لا يستحق كثير احترام، ولكن أيؤخذ البريء بذنب المجرم؟ وهل يصح تطبيق القانون إلا على من ثبت إدانته؟ وفي اعتقادي أن الرجل لو خفف قليلا من كبريائه، وعلم أن امرأته مساوية له في جميع الحقوق المشتركة، وعاملها معاملة الند للند، أو على الأقل معاملة الوصي لليتيم لا معاملة السيد للعبد، لما رأى منها هذا العناد الذي يشكوه، ولأطاعته حبا فيه لا خوفا منه، ولا يجهل أن الاستبداد يأتي بعكس المراد.
ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، فكيف ورجالنا على هذا الاستبداد يأملون صلاح الأمة وتربية أبنائها على حب الاستقلال والدستور؟! أما والله لو أرانا رجالنا عناية واحتراما لكنا لهم كما يحبون، فما نحن إلا مرآة تنعكس علينا صورهم، ولنا قلوب تشعر كما يشعرون، فإن أرادوا إصلاحنا فليصلحوا من أنفسهم وإلا فلينظروا ماذا هم فاعلون. (12) احترام الآراء وآداب الانتقاد
اللسان والقلم رسولا القلب إلى الناس، أو هما جدولان صافيان تنعكس عليهما صورة النفس وما حواليها من الصفات، وإن شئت فقل: هما سلك الكهرباء بين ذهن المرء ومن يخاطبهم أو يكتب لهم، تنقل عنه رسالة أخلاقه حرفا حرفا بغير زيادة ولا نقصان، والفضائل والرذائل كامنة في الأشخاص، لا يوري زنادها إلا الأقوال والأفعال بالمتكلم والكاتب تظهر أخلاقهما جليا فيما يقولانه أو يخطانه وإن حاولا إخفاءها؛ لأن الطبع غالب، والتطبع سمل بال قليل الستر، إن دارى شيئا تظهر منه أشياء، والفكرة - وإن جانبتها - لا تزال تحوم حولك وترفرف إلى أن تجد لها مقرا تستقر فيه من الجولان والاضطراب.
فإذا قرأت كتابة شخص لم تلحظه عيناك أمكنك بالتفرس فيها أن تحكم على أخلاقه بالإجمال، فالمتكلف تعرف من كتابته بأنه لا يزال ينتقي الألفاظ الوحشية، ويتقعر في أسلوب إنشائه؛ ليدل على علمه وبراعته. والرجل البسيط يتجنب الألفاظ ومعقد التراكيب، من غير تبذل ولا ركاكة في عبارته، كذلك من كرمت نفسه ترى أثر ذلك الكرم فائضا على كلماته وفي ثنايا سطوره، واللئيم بالمثل تكاد تلمس لؤمه وضعة نفسه وأنت تقرأ أماليه على القرطاس، وأظهر صفات الكاتب على الورق الحكمة والحلم والحسد والجهل؛ لأن الغرائز كلها حسنة أو قبيحة هادئة لا يستفزها الشيء القليل، ولا يهيج لاعجها إلا إذا هيجت كالرائحة لا يبعثها إلا الهواء، أو كتراب الأرض لا يثور إلا مع الرياح، أما الحسد والجهل فهما أبدا جائشان، يغلي صدر حاملهما ويكاد ينبثق من تلقاء نفسه من شدة الفوران كالبركان المضطرم يقذف الحمم لحر ما احتواه جوفه من النيران.
والكاتب أو المفكر يخطئ إذا لام معارضيه على وقاحتهم في الرد عليه، أو النظر إلى فكرته بغير العين التي تستحقها؛ لأنهم معذورون فيما أرى، معذورون لأنهم لا يمكنهم التجرد عن غرائزهم، ولا يستطيعون نزع نفوسهم أو تنزع أرواحهم من جسومهم، وما قلمهم إلا أنبوب تصب فيه تلك النفوس سائلها فيجري على القرطاس، فأقلامهم لا ذنب عليها وأيديهم لم تأثم، وأذهانهم خفيف جرمها، إنما العيب كل العيب في نفوسهم فإنها مصدر الوحي للذهن واليد والقلم .
على عدد اختلاف أشكال البشر وألوانهم ومناهجهم تجد اختلافا في آرائهم ومعتقداتهم، يخطئ الأبيض إذا لام الأسود على حلكة لونه، كذلك يخطئ ذو الفكرة إذا عاب غيره لعدم رضائه عنها، ورحم الله البارودي إذ قال:
أسير على نهج يرى الناس غيره
لكل امرئ فيما يحاول مذهب
من العدل أن تترك الحركة لكل إنسان يعتقد في خلده ما يعتقد؛ لأن المصادرة لا تجوز في الأفكار والاضطهاد، إذا ضيق دائرة العمل والكلام، فلن يبلغ التضييق على الهاجس والوجدان.
فالفكرة ما دامت في الخلد خفي أمرها، ومن التحامل أن يتكهن قوم بمعرفة أسرارها والوقوف على حقيقتها، وإن العمل الذي يقصد به النفع هو بذاته ما يصح أن تقصد به الشهرة وحب الذكر، ألا ترى إلى المحسن كيف يتهمه أعداؤه وحساده بأنه لم يحسن ابتغاء وجه الله ولكن سعيا وراء المحمدة، ويقول أنصاره وعاضدوه: إنما أتاه لحب الخير المحض، كذلك السياسي وصاحب الصحيفة فقد يناضل عن مبدأ يعتقده صوابا، أو يرد على رأي مخالف، فيقول قوم: ما أصدق وطنيته! ويقول آخرون: إنه مأجور، ولم يخل عمل من الأعمال من العاضدين والمعترضين، ومذهبي أن العمل ما دام نافعا فسيان أن يعتبره قوم للمنفعة وحدها أو للشهرة، فإن فائدة حاصلة على أي حال، وقد تكون الشهرة وحسن الصيت جزاء وفاقا لصالح الأعمال، تأتي عفوا بغير قصد صاحبها فما حيلته؟ أيردها وقد لا تدفع، أم يترك عمله كي يبرهن لأعدائه أنه صادق، وأنه لم يقصد إلا الفائدة خالصة لوجه الله؟ أما الأفكار والكتابات أو الأعمال التي تظهر للملأ فيجب على من لا توافقه أن ينتقدها، وليس أحب للمنصف من أن ينتقده الناس بالحق فيصلح من خطئه ويقوم من معوجه، وإذ قد بينت أن الآراء تختلف بحسب الأشخاص والعقول، فما على المنتقد إلا تخطئة ما يرى فساده، على أن يقرع الدليل بالدليل والحجة بالحجة، حتى يقتنع صاحبه ويفحم، فلا يجد مناصا من الرجوع إلى الصواب، ويرى الناس صدق الأدلة أو كذبها، فيكونون حجة له أو عليه، أما من ينتقد بغير الدليل أو يشوب كلامه بالتهكم والسب القبيح فيخرج من عداوته بكلامه أن يضرب به عرض الأفق فهو هراء، وإذا كان الله - وهو يعلم صدق دينه وفي قدرته أن يجبر البشر على أن يدينوا بما ينزله لهم - لم يرض أن يذكر مسألة القرآن إلا وهو مبين أدلة نفعها وأوجه ضررها، وضارب لها الأمثال كي يقتنع من له عقل بصلاحها أو فسادها، إذا كان الله وهو القادر المتعالي يفعل ذلك؛ فهلا نفعله نحن عبيده الضعفاء؟!
ومن أدب الكتابة أن لا يخلط الكاتب الشخصيات بالعموميات؛ إذ ما علاقة انتقاد مبدأ مثلا بأم المنتقد أو زوجه أو فقره وغناه؟! وأين الشجاعة والشهامة في كيد الخصم من هذا الهذيان؟! لعلهم جعلوا مكان الأسنة الطوال ألسنة طوالا وبدل خضاب الدماء صبغة من قلة الحياء.
كل ذي رأي يجب قدر رأيه واحترامه وتمحيصه، حتى إذا ظهر فساده يحاج بالدليل إلى أن يقتنع، ومن البلاهة أن يتشبث كل بفكرته وحدها، ويزعم أنه علمها ومفردها، فيأبى قبول البرهان ويغمض عينيه على القذى.
الصياح والتحامل لا يجديان بل قد يزيدان المتشبث عنادا، واختلاف المبادئ والآراء لا يحمل على العداوة إلا من لا يفقهون، ثم إن العداوة لا تستلزم الهجر وفحش القول إلا من القوم السافلين، ومن لي بصلاح الدين الأيوبي يلقي على كل عدو درسا مما أتاه مع خصمه ريتشارد قلب الأسد ملك الإنكليز؟! ومن لي بمن يعلم الجهلة ما ورد في القرآن والإنجيل والتواريخ من مقابلة الأنبياء أعداءهم بالصبر والصدر الرحب؟!
ومما يجمل ذكره من آداب الانتقاد أن لا ينتقد الكاتب أمرا كان قد أتاه هو أو أتى شرا منه؛ لأنهم يقولون: من كان بيته زجاجا فلا يقذف الناس بالحصى.
هذا رأيي في احترام الآداب وآداب الانتقاد، أوجهه للفتيات والسيدات فقد ابتدأنا نعترض ويعترض علينا، وإذا كنا ننقد الرجال في كثير من الأمور؛ لأنهم سبقونا في التعلم والبحث، هؤلاء قد بلغ بعض كتابهم من الهوس وسقط المتاع إلى الخبط والخلط، وحشو عام المواضيع بالشخصيات، ومزج الانتقاد بالعداوات والمشاحنات، فأنبه أخواتي من النساء أن يجتنبن الهوة التي وقع فيها بعض إخوانهن، فالباطل أولى أن يجتنب والحق أحق أن يتبع، والسلام. (13) لماذا يضيع الرجل تأثيره الحسن في أسرته
يأخذ مني العجب مأخذه كلما دخلت بيت أحد العلماء ورأيت نساءه على جهل مطبق، وتنال مني الدهشة كلما سمعت أن ابنة فلان الغيور غاية في الخلاعة، وأن أخت ذاك المستنير تدعو أترابها لحفلة زار، وأن أطفال ذلك الأستاذ مثقلون بالتمائم، وأكاد أحزن إذا سألت امرأة الصحافي المشهور - وهي تعرف القراءة وتدعي العلم - عن مبدأ زوجها السياسي؛ فتخبرني ببرود أنها لا تقرأ الجرائد، ولا تشتغل بمعرفة المبادئ! يحزنني جهل هؤلاء أكثر مما آسف لجهل عامة النساء.
يعذر الفلاح على عدم تعليم ابنته العلوم؛ لأنه هو ذاته لا يفقهها، وربما لم يسمع إلا بقليل من أسمائها، فضلا عن احتياجه لفتاته في مساعدته في الحقل ومساعدة أمها في البيت، ويعذر العامل الصغير إذا لم يدخل ابنته المدرسة؛ لأن ما يشتغل به قد لا يكفيه لسد الرمق، فضلا عن تحمله أجرة تعليم أبنائه، يعذر هذا وأمثالهما جد العذر، ويعذر أيضا صغار الناس ممن لم يتعلموا إلا القليل، ليمكنهم من نيل وظيفة تكفيهم العيش؛ لأن نفوسهم لم تتشرب روح العلم، ولم يأخذوا به إلا وهم لا يجدون غيره وسيلة للارتزاق، ولكن ما عذر رجالنا المستنيرين المتفقهين في ترك بناتهم تنشئهن الطبيعة، كيف اتفق وتربيهن الأمهات وسط الترهات، وهم إذا كلمك أحدهم أظهر لك واسع خبرته في العلم الذي يتقنه، وفهمت من مجمل حديثه أنه فيلسوف، وأنه ذو أفكار ومبادئ قويمة وأنه يلتهب غيرة على أمته؛ مثل هؤلاء يصدق فيهم المثل العامي (باب النجار مخلع) أو هم كالرجل الذي إذا دهمه أمر ظل كالحديد يتجاذبه مغناطيس الحيرة من كل الجهات، فلا يكاد يرى له مخرجا من الضيق.
إذا رأيت ابنة شيخ الإسلام لا تقيم الصلاة، وإذا حادثت امرأة الطبيب فوجدتها لا تفرق بين فعل الأدوية الأكيد وبين تأثير الرقى والتعاويذ في شفاء الأمراض، فهمت من حالهما أحد أمرين: إما أن يكون رب الأسرة لم تمتزج روحه بالعلم الذي يشتغل به تمام الامتزاج، فهو لا يشعر به حقيقة وإنما يظهر به ليتذرع إلى كسب معاش أو احترام، وإما أنه صادق في ادعائه، ولكنه لا يختلط كثيرا بأفراد أسرته، ولا يوضح لهم آراءه ومذهبه، وهذا هو الغالب في رجالنا.
يقضي الواحد منهم نهاره في الديوان أو محل شغله، ويتسلل من العصر إلى (القهوات والبارات) فيقتل الوقت فيما لا ينفع، ولا يعود لمنزله إلا وجفنه مثقل بالكرى، وقد يمضي الأسبوع ولا يرى أولاده إلا يوم بطالة المدرسة، فيشبون لا يدرون شيئا من أخلاق والدهم، ويقصر هو في مخالطتهم والتحدث معهم، كأنه يأنف أن يضيع وقاره في محادثة الصغار، وبعضهم يظل أمام زوجه صامتا حتى إذا مل وملت أخذ صحيفة من صحف الأخبار يطالعها، ولكنه لا يفهمها ما بها إن كانت جاهلة، ولا يقرأ ليسمعها إن كانت تفهم القراءة، فكيف تعلم مبادئه وميوله وهو لا يتكلم؟! إنها ليست نبية فينزل عليها الوحي، ولا قدرة لها على كشف حجب الغيب، وكيف يبلغ أولاده التربية الكاملة التي بلغها هو ومن يرشدهم في الحوادث اليومية إلى مكارم الأخلاق ويخلص لهم النصيحة؟ إن المدرسة وحدها لا تفي لأن تكيف ملكة الشخص، والأم لا تجد من وقتها فراغا لتجالس أولادها وتثبت فيهم أخلاقها، هذا إذا كانت مهذبة عاقلة لها أخلاق فاضلة أما غيرها فعليها العفاء.
وإن الصبي لاعتناء والده به، ولكثرة اختلاطه بأخدانه خارج المنزل تفيده التجارب ويعرك الحوادث فيعرفها، أما الفتاة فحظها قليل من التربية النفسية، وهي ملاك الأخلاق، ولا عبرة بما يعلمه الإنسان من العلوم إذا لم يكن ذا إرادة قوية؛ معتمدا على نفسه في كل أموره، ثابتا حازما لا يابسا ولا طريا، وفي اعتقادي أن الأب الرحيم العالم باجتماعه مع أولاده وبناته يعوض عليهم كثيرا مما لم يدركوه بالتجربة.
لا أحب الأب يتكبر على أهله وأولاده؛ فيظهر لهم بمظهر الجبار العنيف ويظن أن ذلك استجلاب للهيبة، وهو لا يعلم بما يشعرون. إن الهيبة واجبة في حد الاعتدال، ولكنها إذا زادت تعدت على الخوف فيفقد الوالد الرحمة على أولاده، ويفقدون هم كثيرا من المحبة والثقة بوالدهم، وتجد أغلب الأطفال يحبون والدتهم أكثر من آبائهم لهذا السبب عينه، وهذا التجبر من جانب الأب يضعف الأخلاق في الطفل ويفسدها إذ يربي فيه الجبن والذل، ثم الاستبداد متى كبر وأولاد البخلاء أكثر الناس تبذيرا متى كبروا. زرت مرة سيدة ممن ابتلين بمثل هذا الزوج القاسي، وكنا نتكلم وأولادها الصغار يلعبون قريبا منا وبناتها الشابات يضحكن، وإذا بهن سكتن فجأة، وارتبكت أمهن وغارت أعينهن، وعلاهن الاصفرار وقامت إحداهن تهرول إلى الصغار لتسكتهم، والثانية تتسمع على السلم، والأخرى ترى ماذا يمكنها ترتيبه في حجرة والدها، فعجبت من هذه الحركة الفجائية، وسألت عن الباعث لها، فأخبرتني السيدة والحزن باد عليها وتكاد لا تنطق إلا همسا «إن البك ربما يكون قد حضر»، فقلت في نفسي: إذا كان كل هذا الاضطراب وفي حضوره شك، فماذا يفعل هؤلاء النسوة إذا قيل لهن: «إنه قد والله حضر»؟! وأخذ البنات يشرحن لي أنهن لا يتكلمن أمام والدهن، وأنهن يجتهدن دائما في البعد عن طريقه؛ لأنه غضوب وأنه لا يسمح لهن بزيارة قريبة ولا صديقة، وأنه إذا أخطأت إحداهن في خدمته أو تأخرت قليلا (وشدة الوجل تبعث على الخطأ والتأخير) كدرها وأهانها، وإذا تناول الطعام تظل أمهن وثلاثتهن واقفات كالإماء إلى أن يفرغ منه، فعجبت لذلك وأسفت على تأصل روح الاستبداد في بعض رجالنا إلى هذا الحد المعيب حتى وهم في منازلهم بين أهلهم وفلذات أكبادهم.
هذا مثل الأب القاسي الذي إذا اختلط بأسرته ليعلمها لم يستفد أفرادها من تعليمه؛ لأن شدة الخوف تذهب بالفكر، سألت عن هذا الرجل ومعاملته في الخارج فأكد لي أخي أنه غاية في اللطف والتواضع، وأنه يحب المزاح أحيانا، فاستغفرت الله له. أيتفضل على الغرباء بالمؤانسة والمزاح أيضا ويضن بابتسامة على أولاده وأهله؟! ولكن لله في خلقه شؤون.
ألا فليعلم الآباء والأزواج أن السلطة التي يطلبونها في منازلهم يكفي منها أن يقلدهم أبناؤهم، وتتشبه بهم فيها زوجاتهم وبناتهم، ويخشينهم على البعد والقرب. وإن الأسرة الواحدة يجب أن تكون تامة الامتزاج، مرتبطة بالحب الصحيح، فلماذا يضيعون ذلك الحب الطبيعي بقسوتهم وجفائهم؟! ولماذا لا يبثون روحهم فيمن حواليهم من بنات وأخوات؟! ولماذا لا يجعلون لهم تأثيرا حسنا في أسرهم؟! وكما يتوارث الأولاد اللون والخلقة عن والديهم يجب أن يتوارثوا عنهم أيضا أخلاقهم الحسنة ومميزاتهم، وبودي لو يجتهد كل شاعر في أن يجعل أبناءه ذكورا وإناثا شعراء، وكل رياضي أن يعلم أسرته الرياضة، وكل سياسي أن يجعل زوجته وذويه يتباهون بمبدئه حتى يتم الامتزاج المطلوب، وتظهر فينا روح الحياة الطبيعية، والسلام. (14) الكلفة بين الزوجين
بين الزوجين الحضريين من أهل مصر تكلف لا يتفق مع ما يريده الله لهما من سكون الواحد إلى صاحبه، ويشذ عن شواهد الطبيعة وآثارها المرسلة إرسالا من غير تعقيد ولا إبهام، فالسماء معقودة على الأفق في مصر، وهي كذلك معقودة على الأفق في اليابان وفي جرينلاند، لم يضع الله لها عمد المرمر في إيطاليا، ولا قوائم العاج في السودان، ولم يقرها على حوائط البلور في النمسا، تنيرها الشمس نهارا (إلا في القطبين) والقمر ليلا، وقد نثرت فيها النجوم نثرا، إلا قليلها فهو منظوم، ولم يشأ الله - وهو قادر - أن يجعلها في شكل عقود وتيجان، أو يرسمها دوائر ومثلثات مرصوصة رص البلاط الملون، وهي مع ذلك يأخذ جمالها بلب المتأمل المتفكر، والأرض بسيطة أيضا لا تحول لنظامها؛ فالصخر يفتته توالي الريح والمطر فيصير رملا، والرمل تسقيه الريح ويعجنه المطر فيكون صخرا، والبذر ينبت إذا لقي ريا وأرضا صالحة، وما أبسط سوق النبات تظل قائمة ولكنها تميل مع الريح، ويثقل عليها ثمرها فيتدلى، أو يسقط إلى الأرض.
زعموا أن ملكا من ملوك الصين أمر أن يعرض أصحاب الحرف والملكات مخترعاتهم ومجهوداتهم على باب قصره ليكافئ المجيد منهم، وبينا هو ذات يوم يفحص تلك المعروضات استوقف نظره جمال لوحة مصورة، فأمر أن يمثل صاحبها بين يديه ليكافئه على مهارته في النقش، فلما أن حضر الرجل عرض الملك اللوحة على جمع من أهل النظر ليحكموا فيها، فاستحسنوها كلهم وأشاروا بإجازة المصور، إلا رجلا حاذقا قال: إن بالصورة عيبا وتكلفا لا ينطق على الطبيعة، فسئل عنه فقال: صور الرجل عصفورا على إحدى سنابل القمح المرسومة في اللوحة، ولكنه رسم السنبلة قائمة مع أنها ضئيلة، ولو اعتلاها عصفور لمالت كل الميل، فرأى الملك صدق رأيه وأخرج المصور بخفي حنين، هذا مثل ضربته لقبح التكلف وحلاوة البساطة، ولكننا - مع الأسف - نسمع الزوجة عندنا تقول لزوجها: يا سيدي، أو يا أفندي، وهو يناديها بقوله: «يا هانم»، كأنهما غريبان بعضهما عن بعض، وما اثنان أحق بزوال الكلفة بينهما من الزوجين، المطلع أحدهما على سر الآخر، المشرف على نفس صاحبه، ولو اقتصر الأمر على النداء لقلنا: بعض الشر أهون من بعض، ولكنك ترى الرجل يرائي في حديثه مع امرأته ويطريها بمحاسن ليست بها، فما أكذبه وما أكذبها! إذ تغش نفسها وإذ تتكلف له في كل شيء حتى لون وجهها فتصبغه وتغيره، وعذرها أنها لو وثقت من رضاه عنها، وهي في صورتها الفطرية لما ظهرت له متكلفة.
أعرف نساء وأسمع عن أخريات، تظل إحداهن واجمة أمام بعلها تخطئها الكلمة إذا نطقت، وتتعثر إذا مشت، وتكسو وجهها الصفرة إذا سمعت صوته، «وتعروها لذكره رعدة» فيا سبحان الله! أي سعادة في تلك العيشة النكدة، عيشة الخوف والوجل؟! إن الزوجة مهما كان الرجل مهيبا شجاعا ليست موضعا لإظهار بسالته وقدرته على سحق البشر! ويقول العامة في أمثالهم: «السبع لا يأكل أنثاه.» وهو مثل من الحكمة بمكان، وحبذا لو اقتدى به ساداتنا المتجبرون، وحسبهم شرفا أن يقال إنهم كالليوث، وإلا يصدق فيهم قول الشاعر: «أسد علي وفي الحروب نعامة.» فعندهم مواطن عدة لإظهار شجاعتهم، فليتشجعوا لها وليتركونا.
تعجبني طريقة العرب والفلاحين والفرنجة في معاملة أزواجهم، ينادي الرجل زوجته باسمها وتناديه باسمه، تشاركه في الراحة والتعب وتقاسمه الطعام والشراب، إذا غضب عليها أظهرت له في مظهر الشمم والإباء، فإن حاسنها حاسنته، وإن التوى لم تقصر هي في كيل الصاع بالصاع.
أما طبقتنا نحن نساء الحضر في مصر فلا يمثلها في العالم طبقة جمعت بين الأضداد، فبينما نحتكم في الرجل من شأن حلينا وحللنا، حتى نجعل نهاره ليلا أو يذعن لمطالبنا، ترانا نكسر شرة النفس ونحملها من الكلفة وضيمها فوق ما تحتمل، فكم من امرأة تقبل إهانة زوجها لها صاغرة، وكم من أخرى تلدغها أصابعه لدغ الأفعى فتجعل من دمعها المدرار ترياقا لها، ثم لا تلبث أن تستغفره كأنها هي المذنبة، على حد قول الشاعر:
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم
وتذنبون فنأتيكم ونعتذر
إنها لو ظهرت له أنها مساوية لما استرضته مخطئا، ولكن هل ظواهر الإنسان دائما بواطنه؟! إنك تحترم الأمير، ولكن لا تعتقد أنه أشرف منك مجدا، ولا أعرق منك في الإنسانية، وتظهر هذه النزعة في كلامك عنه، خصوصا إذا استفزتك إهانة منه فأثارت نفسك عليه.
فالزوجة بتحملها أذى زوجها لا تعتقد أنها أذل منه، ولكنها تخضع صاغرة لاحتياجها إلى إنفاقه عليها، أو تفاديا من أن يقال: طلقت وبانت، أو حبا لأولادها، وخوفا عليهم من أن يذلهم بعدها، وهذا الخضوع - وإن كان يعلمها مزية الصبر الجميل - تكلف منها وتصنع، فالحاجة والحياء يغطيان جراحها ظاهرا فتظهر كأنها اندملت، ولكنها تنغر نغرا صديدا وصدودا.
الكلفة رياء، والرياء سرطان يسطو على النفوس فيصدعها ويصرعها، والزوج القاسي أو المتكبر يفسد أخلاق زوجته بتكبره ويعلمها الصغار والكذب، ومن كانت هذه حالها كيف ينتظر أن تربي أولادها على الفضائل؟! كيف تقول لابنها: لا تكذب، وهي تكذب؟!
أظن أصل تأليه البعول سرى إلينا من ذلك الزمن الذي كانت فيه الجواري حظيات! ولكن إذا جاز أن تقول الجارية لسيدها المالك لها، الباني بها: يا سيدي، فكيف يجوز لحرة أن تدخل نفسها في الرق مختارة والرق أسر فضلا عن أنه غير مباح الآن؟!
وهناك أخرى تقول لزوجها: حضرتك وسعادتك، فما هذا التكلف البارد؟!
إننا بتسميتنا فلانا بصاحب العزة، وتلقيبنا أحد الملوك بصاحب الجلالة لنكفر ونلحد، فما صاحب العزة وذو الجلالة إلا الله الواحد القهار، ولو أنصف كتابنا لحذفوا تلك الألفاظ الدالة على الشرك من كتاباتهم وأقوالهم.
يكلم الفرنسيون الغريب بلفظة الجمع
Vous ، ولكنهم يضحكون إذا قال الطفل لأمه أو الرجل لزوجته:
Vous
لفظة التعظيم، لم يقل:
Tu
أي: أنت، وكذلك الحال بين الأهل والأصدقاء والأصحاب.
الزوجان بعقدهما عقد الزواج تعاهدا أمام الله أن يرتبطا بعضهما ببعض، فكيف يقف الإنسان حياته على من لا يوافق مشربه أو يتعالى عليه؟
سمعت أن المرأة اليابانية تسجد لزوجها وعجبت من ذلك، وهي قد أخذت من التمدن الغربي حظا وافرا، ولكنها مشركة بالله فلا غرو إذن أن صدق ما سمعته عنها في هذا الشأن، فعلى رجالنا المستكبرين، الذين ستغضبهم مقالتي هذه أن يخطبوا منهن، فإننا مسلمات مؤمنات لا نشرك مع الله أحدا، أو أولى لهم إذا قبلوا أن يتحملوا مسئولية المحاكمة أن يختطفوا الجواري من جبال القوقاز، أو من مجاهل أفريقيا، ويدربوهن على عبادتهم من الصغر ولكن بأي لغة!
لعل مصلحة منع الرق لا تعتبرني محرضة على العبث بقوانينها فتحاكمني قبلهم معتبرة الدال على الخير كفاعله. (15) زواج الأختين
وصلني في بريد الخيال كتاب ذو بال أثار من النفس أشجانها، واعترض سرورها بأحزانها، وجعلها بين اليأس من الإصلاح والرجاء فيه، فتارة أنا متسنمة ذروة الأمل، وطورا أراني في حضيض القنوط، ومعاذ الله أن أستسلم لليأس، وهو سم القلوب ومعول الحياة! ومعاذ الله أن تسترجعني الصعوبات عن عهد أخذته على نفسي بيني وبين الله أن أصلح ما أستطيعه من فساد! وما كان لمثلي أن تنكث المواثيق أو تغدر بالوعد مهما كانت وعورة الطريق، وهذا هو الكتاب.
مصر في 3 شوال سنة 1327 هجرية
عزيزتي ملك:
شوق وسلام وبعد، فإني أهنئك بالعيد السعيد كما يقولون، وإن كنت لم أشعر به ولا حفلت له.
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
أما ماضي فقد كان غير سعيد، اكتنفته الأحزان وأخذت عليه طريقه تقلبات الزمان ومستقبلي لا أراه، أشد حلكة وأبعث على اليأس منه على الرجاء، فقد تولتني مصيبة دهماء ليس لها سلوان، واحدة لكنها متعددة إذا تعزيت بأولادي ألح على فراقهم لي على الرغم مني ومنهم، وإذا أنساني عزاء الصديقات بعض الأسى على بعدهم، ذكرني غدر شقيقتي خيانة بعلي، ولولا الإيمان والثقة برحمة الله لفضلت الانتحار على حياة سئمت تكاليفها، ولكني لم أعش ثمانين حولا كزهير عندما سئم، بل عمري لم يتجاوز الخامسة والعشرين.
عزيزتي، لقد أفرغ الدهر جعبة سهامه علي فأصاب مني مقاتل شتى، طالما سمعتك ونحن نلعب تقولين لشقيقتي: إنها غليظة القلب جافية الشعور، ولا أكتمك أن قولك هذا كان يؤلمني، وقد عاتبتك عليه مرارا إلى حد التعنيف، ولكن ستأخذ منك الدهشة الآن إذا جاريتك على رأيك فيها، بل زدت عليه أن فؤادها قد من الجلمود.
أتدرين ماذا فعلت؟ إنها كانت تكثر من زيارتي فأنشرح لها؛ إذ كان يلذني شعوري بحبها الأخوي؛ لأننا كما تعلمين فقدنا الأبوين منذ نعومة الأظفار، فكنت أستعيض بها عنهما، وكانت تجالس بعلي وتخاطبه وليس عندي شك في إخلاصها لي وأمانتها نحوه، ثم تحولت المحادثة البسيطة إلى مضاحكة ومغازلة، فحملتها على أنهما كأخوين مرفوع بينهما التكلف، ثم زاد الشغف فكان يأخذها للفسحة معه خارج البيت ويتركني به، وهكذا تدرجا في الحب كما قيل:
نظرة فابتسامة فسلام
فكلام فموعد فلقاء
ولم يداخلني ريب البتة في حسن نيتهما نحوي، وأخيرا لم أدر إلا وقد فاتحني يوما بأنه يريد التزوج من أختي؛ لأنه كلف بها وهي كلفت به، وإذ كان الدين الإسلامي لا يسوغ الجمع بين الأختين فقد تحتم طلاقي منه وحم القضاء، وقد تركت له منزله فأقام فيه عرسا بهجا، واقترن بشقيقتي بنت أمي وأبي، وأخذ مني أفلاذ كبدي، وتركني أندب حظي وأندب اجتماعي بأولادي، بل أندب الوفاء وأندب الإنسانية، أما والله لو كان تزوج غير أختي لهان الخطب، ولما أسفت على عيشة نكدة ... قضيتها معه؛ تحملت سوء معاملته بالصبر الجميل، وعذرته في سكره وعربدته، فكنت أصفح ويسيء، كما قال معن بن أوس:
وإن سؤتني يوما صفحت إلى غد
ليعقب يوما منك آخر مقبل
كأنك تشفي منك داء مساءتي
وسخطي وما في ريثتي ما تعجل
إني لأشك في أني وأختي رضعنا ثديا واحدا أو حملتنا أم واحدة.
لم يكف أختي - سامحها الله - ما فعلت، بل إني ذهبت بعد شهرين من زواجها لأرى أطفالي، الذين حرمني الدهر منهم على غير جريرة ارتكبت، فامتنعت عن أن تسلم علي، وتركت الطبقة (الدور) التي كنت بها إلى الطبقة العليا، وأرسلت لي خادمتها تأمرني بالانصراف حالا عن منزلها خيفة أن أكون استصحبت لها سحرا يقلل من محبة زوجها لها خرافة والله، وما كان ليهمني زوجها وحبهما بعد أن حصل منهما ما قد حصل، على أني لا أعتقد في السحر إلا كاعتقادي في وجود العنقاء.
وأنا الآن في بيت خالي وقد طالما نصح لأختي هو وجدتي، نصحا لها أن ترجع عن غيها وتنسى زوجي والرجال كثير، وهدداها بأن يبرءا من نسبتها إليهما فلم تحفل بما بذلاه لديها من النصح والتهديد، وصمت إلا عن هواها وأنانيتها.
إن هذه الحادثة عزيزتي جعلتني أمقت ذكر الزواج والرجال، وأعتقد أنه لا يزال بهم جزء وافر من البهيمية، وإن كانوا يدعون أنهم أرقى منا عقلا وأصفى جوهرا، نعم إن أختي عليها بعض الجرم، ولكن من أغواها وأضلها؟ أليس هو الرجل؟
هذه حكايتي قصصتها عليك، ولي في إخلاصك ما يخفف بعض لوعتي، والسلام.
صديقتك الوالهة سعاد
كلمتي
تقع أمثال هذه الحادثة كثيرا فيتفطر لها قلب الإنسانية، ولا أدري هل عند حضرات العلماء والمجتهدين فتوى تحرم الزواج في مثل هذه الحادثة.
نعم؛ إن الشرع نص على أنه لا يجوز الجمع بين أختين في آن واحد، ولكن ألم يضع الدين كل ما يكفل راحة البشر وسعادتهم؟ وإن في طلاق أخت لأجل زواج أختها من نفس بعل الأولى لشقاء لا يعادله شقاء، وقطيعة بين ذوي القربى، أو عصيانا لأمر الله تعالى، فإنه نص على البر بهم نصا صريحا لا يحتاج لتأويل.
من الملوم في مثل هذه الواقعة؟ لا ريب أن اللوم لا يتخطى كلا الزوجين الجديدين، ولكني أعتقد أن المرأة أضبط للنفس من الرجل متى أرادت ، وليس ذلك بالفطرة ولكن بفضل المبادئ والتقاليد، فلو كانت أخت سعاد أرجعت بعل أختها عنها لارتجع، أو لو ابتعدت عن طريقه لامتنع عن التمادي في الغواية، ولكنها كانت ميالة للغدر بأختها، فلا رعاها الله ولا رعى كل امرأة لا تقوى على ضبط نفسها وامتلاكها. (16) المدن والقرى
قل: ما أنقى الهواء وأعذب الماء وأصفى السماء في القرى! وما أكذب الحياة وأقرب الوفاة في المدن! القرى جميلة لأنها على الفطرة، أما المدن فلا تعدم أثرا للتكلف والرياء.
أين دوي الكهرباء من خرير الماء، والدخان المتعاقد فوق المداخن من جو لا ترى فيه إلا تحليق الصقور وإلا رؤوس النخل الباسقات؟! وأين وحل الشوارع وعثيرها من أرض كسيت ببساط النبات؟! وأين الرائحة المنبعثة من مقاذير المنازل، وروث الدواب من شذى أزهار الحقول؟! بل ما أوصل البصر يريد الجولان فيرده من هنا جدار ومن هناك سور من نظر تسرحه حيث شئت فلا تجد إلا اللا نهاية للفضاء؟! وأين كثرة التلفت والحذر من رسل عزريل (السيارات والمركبات) من اطمئنانك وسيرك على صراط سوي لا يقتفي أثرك إلا ظلك، وهو على ما تعلم من التبعية والولاء؟! وبالاختصار قل: إن جملة المدن فيها إجهاد للحواس وتشويش للفكر، وإن القرى فيها هدوء الكون والجسم والبال.
في القرى تجود الصحة لنقاوة الهواء وحسن الغذاء واتباع سنن الطبيعة في النوم والراحة والاستيقاظ، أما في المدينة فغذاء مغشوش وماء آسن لا يكاد يصل إلى المنازل إلا بعد مروره ببطن الأرض فيتلوث بما فيها من المستنقعات والرواكد والأقذار، وجو مكتظ بأنفاس السكان من أقوياء وأعلاء، ومساكن اشتركت في عمرها الرطوبة فضلا عما بها من الضيق، وساكنها من حين لآخر ينتظر زائرا أو يزور صاحبا، أو يخرج ليرى منظرا أو يلتقط خبرا، فيضيع وقته سدى في أحاديث منمقة كاذبة، تراه يقول لزائره: «أوحشتنا وآنستنا» وقد يؤثر زيارة الحمى على زيارته.
المدن باعثة على الفساد، من كان عنده ميل إليه، أو كان ضعيف الإرادة يجره أولو السوء إلى مساوئهم كما يجر الجزار الشاة، ويجذبه زخرف المدينة الباطل فلا يقوى على رد هجمته، لا تصلح المدن لتربية الأطفال على قواعد الصحة والاستقلال، وكذلك لا توافق المرأة كثيرا. والمتصفح لكتاب (التربية الاستقلالية، أو إميل القرن التاسع عشر) لا يسعه إلا التأمين على ما قاله مؤلفه من وجوب تربية الأطفال في القرى، وقد ضرب لذلك مثلا أن الطفل في المدينة تجتهد أمه في تزويقه وتحسين بزته ليفتن كل من رآه، فإذا مشى يريد الفسحة حمله هذا وقبله وأطراه ذاك، وإذا أراد اللعب أو تتبع حشرة أو جرى تنشيطا لرجليه، منعته مربيته لئلا يلوث ثيابه الجميلة، فينشأ الطفل ضعيف الجسم؛ لأنه لم تترك له الحرية ليستعمل حواسه وأعضاءه كيف شاء، ولا غرو فإن استعمال الشيء يقويه ويصلحه ويشب ضعيف الإدارة مغلوبا على أمره؛ لأنه يجبر على الخضوع لمربيته خضوعا مزريا، حتى إنه ليستشيرها فيما يقول أو يفعل، ويشب كذلك مغرورا بنفسه لتعوده سماع الثناء عليه والإطراء، ثم يظل جاهلا لكثير من الأمور؛ لأنه في القرية يستغني عن كثير من «دروس الأشياء» والجغرافية الأولية يتعلمها بنفسه، والعلم المكتسب من النفس والتجارب ثابت بخلاف ما يحشى به الرأس قسرا فإنه سريع الزوال غير مؤثر. فبدلا من تلقينه أن الشمس تبزغ من الشرق وتغيب في الغرب، وترديده تلك الألفاظ كالببغاء وقد لا يرى شروقها وغروبها لعلو المساكن الملتصق بعضها ببعض وحجبها الأفق، بدلا من ذلك يمكنه في القرية أن يلاحظ الشروق والغروب بنفسه لسعة الفضاء حوله.
يضحكني في دروس الأشياء وكتبها أن يقال: الجمل من ذوات الأربع وله سنام، والقط وله عينان وشاربان، والسمكة لها ذيل وحرافيش، فإن ذلك يجب أن يراه الطفل بنفسه، أما ذكره له فأراه حطا من كرامته وتضييعا لوقته، وتعويدا له أن يتكل على غيره، وعندي أن تركه يلعب ويمرح خير له من تلك الدروس العقيمة، ولكن قد لا ينتبه أطفال المدن لتلك الحيوانات لقلتها عندهم، ولعدم تعودهم البحث وإجالة النظر من تلقاء أنفسهم، وهم لو تربوا في القرى لعلموا كل ما يتعلق بها أو جله، ولأمكنهم معرفة خصائص النباتات، ومتى وبأي وسيلة تنمو، وماذا يصنع بها في أدوار نموها وبعد نضجها، وغير ذلك مما يفيدهم ويسليهم في آن واحد.
ترى الطفل في القرية يستيقظ مع الشمس وينام معها ويأكل متى جاع، فلا ينتظر وليمة يأخذ منها فطيرة قد تفسد معدته، ولا يجبر نفسه على السهر ليحضر الملاعب، وهو في كل أوقاته بعيد عن السكارى والمهوسين وصرعى العجلات (الترام) فتمتلئ نفسه ثقة وإيمانا واطمئنانا، ويكون أبعد انفعالا وحمقا من مثله في المدينة، ويؤيد قولي هذا أن أعظم النوابغ في مصر وأشرف الرجال مبادئ أصلهم كلهم تقريبا من أولاد أولئك القرويين الأصحاء البنية والعقول، أثرت فيهم تربيتهم الاستقلالية فنشأوا ذوي عزيمة صادقة وحب غريزي للعمل، أما أولاد (الذوات)، وهم العريقون في سكنى المدن، فلا حاجة لوصفهم، ويكفي القول بأنهم لا يصلحون لشيء ما، ولا ينبغ منهم إلا النزر القليل.
والمرأة ليست أقل سعادة من الطفل في سكنى القرى، بأنها فضلا عما تجد من جودة الصحة والراحة، تراها تتفرغ لبيتها أكثر وتزاول بعض الأعمال مما يشغل عضلاتها، أو على الأقل يستدعي انتباهها وملاحظتها، فبدلا من أن تنام وتنتظر بائع الخبز يحضره لها، تراها في القرية تشتغل بتحضيره، أو تلاحظ خدمها عند اشتغالهم بالقمح وتجهيزه، كذلك تجد نفسها في المدينة كسولا؛ لأنها ببذل بعض الدراهم يمكنها استجلاب جميع لوازمها، فلا تخيط والخياطات كثيرات، ولا تلاحظ نظافة البيت وترتيبه، كما تفعل لو كانت في القرية؛ لأن خادمات المدن أرقى بالطبع من الفلاحات في مثل هذه الشؤون؛ فتتكل ربة البيت عليهن ولكنهن لا يقمن بما عهد إليهن تمام القيام، أما سوق التنافس فرائجة جدا في المدن لكثرة الاختلاط، وقد يجر تنافس النساء إلى تحميل الرجال فوق طاقتهم ومضايقتهم إذا لم يكونوا في سعة من الغنى.
ماذا تعمل نساء المدن عندنا؟ لا شيء اللهم إلا كنس الشوارع بذيول حبراتهن، وإثارة ترابها وجراثيم الأمراض المنتشرة، ووقتهن ضائع بين استقبال الزائرات وزيارتهن، وبعضهن يحضرن التمثيل ولكنهن مع الأسف لا يخرجن منه بفائدة ما، ولا يتعلمن من مزاياه والتاريخ المنطوي تحته والمعاني السامية التي يحتويها إلا ألفاظ العشق والتهتك ووسائل الهرب والفجور، مثل هؤلاء تفسدهن المدن وتدعوهن للتبذير والابتذال.
قارن بين المرأتين المدنية والقروية تجد فرقا هائلا في الصحة والأخلاق؛ فبينا تنشأ الأولى خمولا عليلة تجد الثانية مفتولة الذراعين طاهرة السيرة والسريرة، تمشي الأولى في الطريق محتجبة، ولكنها غير محتجبة عن أعين السفلة وألسنتهم فيغازلونها على قارعة الطريق، وهي تمشي الهوينى متبخترة، أما القروية فإنها تلوح عليها دائما ملامح الجد والنشاط، فإذا مشت خارج بيتها تجدها تسرع الخطى لا تلوي على شيء، وهي لا تغطي وجهها، ولكن هل يجسر أحد على «معاكستها»؟
رأيت سيدات كثيرات لا يستطعن العيش في القرى أسبوعا واحدا فعجبت من ذلك، هؤلاء من يسميهن الإنكليز
Society Women
أي: نساء المجتمعات، وهن اللاتي لا يهمهن إلا أن يظهرن في كل حفلة ويذكرن بالحسن والتأنق في الملبس ونفاسة المصوغات، ويطربهن أن يكن موضع الإعجاب وأن يشار إليهن بالبنان، ولو فيما لا يستحق الذكر، مثاله أن إحداهن رهنت أملاكها واشترت سيارة وأوصت أن تدهن تلك السيارة بلون ليس له مثل في البلد، وأن يجعل لصفارتها صوت خصوصي تعرف به، فإذا مرت وسمعت قولهم: هذه سيارة فلانة؛ هزها الفرح ونسيت أن أملاكها مرهونة، وأنها خير من السيارة وأبقى، فهذه السيدة ومثيلاتها ممن يرصعن أحذيتهن بحجارة الماس الكريم ويتركن الفقراء يتضورون جوعا، لو نشأن في القرى أو لو سكنها لوجدن أنفسهن بعيدات عن مثل هذا الترف الباذخ ولواسين الملتفات حولهن من الفلاحات البائسات.
السيدة الفاضلة هي التي ينال غيرها نفعها، لا التي ترفل في الدمقس وفي الحرير، وفي القرى يمكن بث التعاليم المناسبة لأهلها فتستفيد منها كثير من النساء الجاهلات، كتشويقهن للنظافة، وإلقاء بعض النصائح الصحية عليهن، وحثهن على إرسال بعض أولادهن للكتاب، وتعويدهن الاطمئنان لتحوطات الأطباء أيام الأوبئة، وتشجيعهن عند أخذ أولادهن للجندية وغيره كثير، وقد جربت ذلك بنفسي ويسرني أنه ناجح والحمد لله، إلا أن هذه القلوب الطيبة والنفوس المطمئنة لتجعل الملتفات حولها تشعر كأنها ملكة في مملكة صغيرة ويلذها أن تنفعها وترقيها، فليتدبر ذلك نساؤنا اللاتي يكرهن زيارة القرى لا لذنب إلا لأنها بلد الفلاحين. (17) جمال السيدات
البشاشة مفتاح ما أغلق من السعادة، ومعوان على قضاء الأشغال، يصل نورها إلى قلب صاحبها فيفعمه غبطة، كذلك يلقي شعاعه الكهربائي على من حوله فتنتعش به أرواحهم وهي جميلة في الكهل، كما تجمل في الطفل، إلا أنها أبهى وأشد تأثيرا في المرأة تلك التي تسيطر على القلوب ولا تدري.
خلقت المرأة لطيفة بالفطرة، والبشاشة من لوازم اللطف، كما هي من المؤثرات في الجمال، وإن لين صوتها ونعومة أديمها وتناسب أعضائها لتستدعي مراعاة النظير في رشاقة حركاتها وانفراط أسرة وجهها، كذلك صوت المرأة يدل على تربيتها، فالمرأة المهذبة لا ترفع الصوت ولا تكاد تسمعها عن بعد إلا كالهمس، هذا إذا لم يبعثها باعث شاذ على إعلائه كأن تقف خطيبة على جمع حافل أو تلقي درسا في حجرة واسعة، ولكنك إذا اجتزت أحد شوارع البلد الهادئة يذعرك كثرة ما تسمع من صياح النساء في غير طائل إلا شتم الخدم والدعاء على الأطفال أو محض قص القصص أحيانا، فإذا دخلت المنزل تجد صاحبته مقطبة الجبين، يكاد يطردك عبوسها عن أن تقابلها، ولا توشك أن تجلس حتى تبدي لك سبب صراخها، فتشكو من هذا وتتألم من تلك إلى أن تجعل الدنيا في عينيك كسم الخياط.
يلاحظ نساء الفرنجة ذلك، وكذلك السيدات التركيات، ويستدللن من صوت المرأة على مكانتها في الاجتماع، فالمهذبة تخفضه أما عاليته فيصمنها بفساد التربية أو ضعة المنبت، ولكننا نحن المصريات قلما نراعي ذلك فقد تجد أعرقنا أصلا أقوانا نبرة، وأكثرنا حشمة أشدنا صراخا.
ثم إذا أرادت إحدانا التنقل من حجرة لأخرى تراها تتعثر بأذيالها، أو يصدمها حائط أو تكسر زهرية قريبة منها، وهذا كله نتيجة تربيتها الأولى.
يجب أن تتعلم الفتاة كيف تمشي وكيف تتكلم، لا أريد بذلك أن تتدرب على التبختر أو غنة الصوت، كلا وإنما المراد تربيتها على ملاحظة ما حولها والانتباه له؛ فكثيرات عندنا وكثيرون أيضا من يمشون غير حذرين فيقعون فيما لا تحمد عقباه، وإن كثرة صرعى (الترام) في مصر وتعدد السقوط من النوافذ لبرهان جلي على فساد التربية سواء كانت في الأطفال أو الكبار، وإن من العمى لمن هم أشد حذرا في التلمس وأكثر تؤدة في المشي من هؤلاء المبصرين الذين (لا يستعملون أعينهم) كما يقول الإنكليز في اصطلاح لغتهم.
إذا كان الإنسان عاجزا عن أن يحسن خلقته أو يغيرها تغيرا ثابتا، فإنه يستطيع على الأقل أن يحفظها كما هي زمنا طويلا وأن يحسن أخلاقه، وهذه الثلاث الخصال؛ أي: البشاشة والخفة وانخفاض الصوت من مجملات المرأة خلقا وخلقا، ومن محسنات الصحة أيضا؛ فقد ثبت أن تقطيب الوجه يدني إلى الشيخوخة بما يخلفه من الآثار والغضون، فيثني الجلد ثنايات لا انفراط لها فيما بعد، وأظن هذا هو السبب الوحيد فيما يظهر على نسائنا من الكبر قبل الأوان.
أما خفة الحركة فكفى بها ما تستدعيه من نشاط الجسم وتوفير الوقت، تسافر المرأة الإفرنجية الآن أو البدوية وحدها، فتركب القطار أو الجمل وتنزل وسرعان ما تحمل متاعها أو تحضر من يحمله لها بلا ضوضاء، أما المصرية فلا تسافر إلى محطة قريبة إلا ومعها من الخدم والأقارب من تعطلت أعمالهم من أجلها، ثم تجدها لا تكاد تحرك رجلا لتنزل حتى يتحرك القطار وإذا ساعدها الله (والأولياء) ونزلت! فما أكثر ما تفتقده ولا تجده! ضاعت حقيبة المصوغات وانكسرت القلة فبللت حبرتها، واشتبك برقعها بمفتاح العربة فانقطع خيطه، وإذا لم يسرع حشمها في التقاط أطفالها فقد يقع أحدهم تحت العجلات صريعا.
أما انخفاض الصوت، ففضلا عن رقته ولطفه في ذاته، فإنه يريح الرئتين والزور من الإجهاد وكذلك يقع لينا على آذان السامعين.
المرأة صاحبة البيت في الحقيقة لا الرجل، فإنها بما لها من القيام على ترتيبه وحفظ من فيه وما فيه تسري سلطتها على من يسكنونه معها من زوج وأولاد وخدم، والرئيس له تأثير غريب على مرؤوسيه، يأتي طبيعيا إن لم يكن بالتقليد لنيل الزلفى، فإذا دخل معلم على تلاميذه بحالة من الحالات النفسية تجد أن تلك الصورة بعينها قد انطبعت في التلاميذ إن فرحا وإن غضبا. والمرأة لها نفس التأثير الغريب في بيتها، فحرام أن تحزن معها رجلا يتعب ويكد يومه ولا يغشى بيته إلا ليستريح، وأولادا صغارا لا يعرفون للهم معنى، وخدما تبعث فيهم كلمة طيبة منها روح النشاط وحب العمل، حرام أن تكدر صفو هؤلاء على غير جريرة؛ لأنها تشعر بملل من طول الكسل، أو بضيق صدر بسبب كان ذلك أو بلا سبب.
على أن بعضهن قد يفرطن في التبسم وانخفاض الصوت إلى درجة تخرجهن عن اللائق، فالمرأة الضاحكة بلا سبب والخفيفة إلى حد الطيش والواطئة الصوت إلى حد الهمس كلهن مفرطات فيما يجب، إنما أعني أن تصحب البشاشة الوقار، والخفة الحزم، وهدوء الصوت البيان. هذا هو الجمال الممكن نيله، الممدوح أثره، لا الطلاء والتطرية الكاذبان.
جمال السيدات يضيعه التبغ والخمر
الله أكبر! ما جمال المرأة المعنوي إلا في عفتها ووداعتها، والتبغ مذهب لتلك الوداعة مخل بصفائها؛ صور قدماء الرومان واليونان آلهتهم برموز وتماثيل تدل عليها، وكذلك يصور المعاصرون من الفرنجة كثيرا من المعاني في أشكال مجسمة تعينها، مثلوا الحنو الوالدي والشفقة والصبر والحب وغيرها في حجارة نحتوها وصور نقشوها، ولعلهم لم يفتهم تصوير الكسل ولو أنصفوا لصوروه امرأة تقضي وقتها بين السيجارة والقهوة، وأظننا لا نجهل مثلا حية كثيرة له.
وكما يذهب تعاطي التبغ بالجمال المعنوي، كذلك يسلب الجمال الحسي، يرمي الأسنان بالصفرة ويغير اللثة والشفتين، وأظنه يغير طعم الفم أيضا، ولو عاش الشعراء الأقدمون إلى هذا الوقت لما رأينا في أشعارهم ذكر اللؤلؤ والبرد ووميض البرق، وغيرها مما كانوا يشبهون به أسنان النساء لشدة بريقها، فإذا كانت المعاصرات - وخصوصا المتدينات منهن - يزعمن أنهن أرقى من مثيلاتهن الغابرات في كل شيء فقد أخطأن، وإذا كان دارون وأنصاره يدعون اطراد التحسن والارتقاء في التسلسل الذي قالوا به، فقد كان يتحتم عليهم أن يستثنوا جمال النساء؛ لأنه راجع القهقرى، ولو اقتصرن على تعاطي التبغ لهان الأمر، إنهن - والأسف ملء فؤادي - يتعاطين الخمر سرا وجهرا، أعوذ بالله من شر المدنية الحديثة، ومن شر التقليد الأعمى.
الرجل أبشع ما يكون حين يسكر، والمرأة أبشع ما تكون حين تشرب الخمر، وقد سرى هذا الداء العياء بين الطبقات العالية من النساء، بدعوى أنه من كماليات التفرنج، ويقلدهن فيه الباقيات تشبها، ويتبجح بعض النساء الآن في الأعراس بطلب الكؤوس والأقداح وزجاجات الخمر؛ إذ يشربن بلا احتشام، ولا يلبثن أن يتمايلن ويهذين كسكان (السراي الصفراء).
حدثتني سيدة ثقة من المتألمات لهذه الحال أنها دعيت إلى عرس أحد (الذوات)، ولما جن الليل قام من بين المخمورات اثنتان فهذتا ما شاء الجنون، وبعدها تشاجرتا وأمسكت كل واحدة منهما بتلابيب الأخرى فمزقتا أثوابهما المزركشة، وكانت النتيجة سخرية وفضيحة، وقد أكدت لي محدثتي أن ثوب إحداهما كلفها أربعين جنيها؛ فيا للعار! إنها لبدعة وضلال كبير ... ذهب الوقار وانتشر الفجور فبئس التدين وبئس التقليد، ألمثل هاتين المرأتين توكل تربية الأولاد، ومن مثلهما يطلب تدبير الدور؟ إن السكرى لا تعي ما تقول ولا ما تفعل، وقد يجرها الخمر إلى شر أنكى من الهذيان، وإن المتتبع لسير نسائنا ليدهش من كثرة الفساد بين الطبقة العليا منهن وهي تعدي كالجرب غيرها من الطبقات، أين وازع الدين؟ أين زاجر العقل والآداب؟ يا قوم لا تغرنكم زخارف المدنية وربوا بناتكم تربية إسلامية، ولا بأس من اقتباس الحميد من المدنية الأخرى، وإن تدهوركم هذا لآخذ شيء بكم وبالوطن إلى مهاوي الاضمحلال، وأي فساد أكبر من اندماج أمة في أخرى، وتلاشي عاداتها وآدابها في اتباع سنن لا تتفق مع دينها ولا مع مدنيتها؟
إن فساد كثير من النساء راجع إلى بعولتهن، فكثيرات من تعلمن منهم المسكر، وكثيرات من يسكرن معهم في البيت حرصا عليهم أن يسكروا في الخارج فيرنوا إلى غيرهن، أو تسلب نقودهم، ويجعلن لأنفسهن عذرا أن بعض الشر أهون من بعض، إلا أن المرأة الحكيمة هي التي إن رأت في بعلها خصلة ذميمة أخذته بالحيلة وحسن السياسة والتأثير إلى أن يتركها، لا التي تحاكيه فيها فيتضاعف الفساد، وأجدني مضطرة إلى توجيه بعض اللوم إلى أطبائنا في هذه الحال، فأغلبهم يصفون أدوية فيها مزيج من النبيذ وغيره للسيدات بدعوى أنها تقوي الدم أو تجلب الدفء أو تمنع المغص وغير ذلك. نعم؛ إنهم يصفونها بقصد حسن لأنهم يعرفون من خصائصها ما قد يشفي ما وصفت لأجله، ولكن في إمكانهم أن يستبدلوا بها عقاقير أخرى لها نفس تلك الصفات، ولا يبعد عليهم معرفتها أو التنقيب عنها في كتب الطب القديمة؛ لأن بعض النساء يتوكأن على أن الخمر داء، فيتعاطينه لذاته ويزعمن أنه للشفاء، وقد تترك فيهن الكأس الأولى وهي دواء ما يجعلهن يعدن الكرة في غير ألم.
أما الضرر الصحي من التبغ والخمر فلا يقل عن مثله الاجتماعي، فقد أوضح الأطباء مفعوله وبينوا مقدار (النيكوتين) السام في كل لفافة (سيجارة)، وكيف أنه يضر الصدر والعيون ويفسد الشهية للطعام، أما الخمر فكفى أنها تقطع الكبد وتفسد العقل، وفي تقرير كتبه مدير مستشفى المجاذيب أن أكثر من نصف ضيوفه اللطاف أذهبت عقولهن المغيبات!
إن أثقل وقت تقضيه السيدة التي لا تدخن هو الذي تجتمع فيه بأخريات يدخن، فيرسلن سحب دخانهن فتستعير ويسد عليها الدخان منافسها، ولعل الله بفضله وكرمه يسمعنا عن حريق آخر في مخازن الخمور كما أحرق مخازن التبغ، فتجد المتوسطات والفقيرات من غلاء أسعارهما ما يمنعهن من تعاطيهما، ويكون عزاؤنا الوحيد لأصحاب الخسائر بيت المتنبي:
بذا قضت الأيام ما بين أهلها
مصائب قوم عند قوم فوائد
جمال السيدات والرياضة البدنية
كثيرا ما يكون ضعف البنية من مشوهات الجمال، وإن لجودة الصحة لدخلا لا يستهان به في تحسين تقاسيم الوجه وتناسب الأعضاء، ولا تقوم تلك الجودة على حسن الغذاء فقط كما يتوهم أغلب النساء، بل لها أساسات أخرى، أهمها الرياضة وخلو الفكر من الهم، والناظر لحالة نسائنا يدرك لأول وهلة احتياجهن الشديد إلى الرياضة البدنية، فإن فقر الدم المستحوذ على كثيرات منهن، والسمن المفرط المسببين عن طول مدة الجلوس، ليشهدان أن تلك الوجوه المصفرة لم ترها الشمس، وأن تلك الأجسام الضخمة لم تهذبها الحركة، ولو اقتصر الأمر على تشويه الجمال، وما ذلك بالهين على النساء، لما كان الخطب كما هو الآن جللا، إن طول المكث في محل واحد وعدم تنوع المعيشة عندنا يذهبان بطلاوة الجديد ويجلبان الأمراض المختلفة والسأم، كالماء الراكد إن لم يتغير أسن.
للرياضة أنواع شتى تستعملها النساء الغربيات، ولست أشير على نسائنا باقتباسها بأنواعها فقد لا تلائم مجتمعنا، فمنها الألعاب المختلفة والركض والسباحة وركوب الخيل وأقلها كلفة وأكثرها ملاءمة للشرقيات المشي؛ فهل ترانا نقوم به وهو لا يكلفنا درهما، وليس هو مما قد نعده من علائم الطيش الإفرنجي، أو مما يذهب برزانة الشرقيين ووقارهم الطبيعيين؟!
إن عيشتنا كلها جلوس في جلوس، نظل أسرى البيوت الضيقة، ويمنعنا زهونا عن أن نشتغل بشيء فيها، فتجمد عضلاتنا عن الحركة، وإذا طلبنا فكاكا من هذا الأسر الممل فلا نجد سوى بيوت الجارات نزورها ماشيات خطوات معدودة إن كانت قريبة، وإن بعدت فما أرخص العجلات وأكبرها مما تجره الخيل أو الكهرباء!
يشكو أغلب نسائنا الصداع وضيق الصدر وعسر الهضم وغيرها مما تكفي الرياضة واجتلاء جميل المناظر لإزالته، وما الآلام العصبية و(الزار) إلا نتيجة ذلك الملل وبلادة الأعضاء، فإن المرأة المصرية لا تدري بماذا تروح عن نفسها وتذهب سأمها ولا كيف تنوع معيشتها فتنزع إلى تلك الترهات لجهلها، ولكنها معذورة فيما أرى لأنها مضطرة وقد يركب المضطر حد السيف.
إن آباءنا وأجدادنا كانوا أكثر منا مراعاة لترويض النساء من حيث لا يدرون، فإن المنازل القديمة كانت كلها مبنية على الطراز التركي، تحجبها أسوار عالية وداخلها الرحبات المتسعة والحدائق الغناء مما تمرح فيه نساء البيت ولا رقيب عليهن، وينعمن أنفسهن ببهيج منظر الحدائق وفوارات الماء، فمن لاذ للسمع وجميل للنظر وحلو للذوق ولطيف للمس وزكي للشم؛ طيور صادحة وغزلان سارحة وفاكهة جنية وزهور شهية وروائح عطرية. خضرة الزمرد وشفافية البلور في النبات والماء، وبهاء الياقوت وأريج المسك في الزهر والهواء، وسواق ناعرة تجلب النوم وتجعله هنيا، وبالجملة كان عيش تلك البيوت مريئا ونساؤها كما قال شوقي بك:
يمرحن في مأمن
مثل حمام الحرم
أما اليوم فقد قضى الاقتصاد، أو بالأحرى البخل والتناهي في تقليد الغربيين على أصحاب البيوت أن يضيقوها، وما ضاقت إلا على النساء المظلومات فليس بها إلا الحجر، وتجد السلم مبتدئة من عتبة الدار ووجهة البيت مكشوفة، فلا تستطيع صاحبات البيت التحرك ولا فتح النوافذ أحيانا، وهذا لعمري آخذ بالخناق، ولعله سبب انتشار كثيرات منا في الطرقات، ماذا يفعل الطير المحبوس في قفص من حديد؟ إنه لا يتأخر لحظة عن الفرار إذا وجد وسيلة له.
إلا أن الشوارع والطرقات بها ما يوقر الآذان من بذاءة المماحكين وانتشارهم كالجراد، وقد يراهم رجال شرطتنا ويسمعونهم يتعدون على الآداب ويضحكون، ولو جاز أن تجعل طرق للنساء خاصة وأخرى للرجال خاصة، لما تأخرنا عن المشي في طريقنا، أما والطريق عامة فليس أمامنا إلا أن نتوسل إلى أولئك الطغام أن يكفوا عن مماحكتهم وتعرضهم لنا، فيكفينا ضيق المساكن عن أن يضيقوا علينا السبيل.
إن المشي والنزهة ليكسبان علما وتجربة، فضلا عما يؤثران به في الصحة وتنقية الدم وما يخلفانه من النشاط في الأعضاء لمساعدتهما الجسم على إخراج فضلاته المحترقة، فكم في الطريق من مثار للرحمة ومن نافع لتعليم الأطفال. وليست الفضيلة دروسا تلقى على الآذان وتحفظ باللسان، وإنما هي فواعل تؤثر في النفس فتكسبها صدق العزيمة على رد هجمات السوء، وتحبب إليها الحسن من الخصال، وكم في المتنزهات من دروس صامتة لجمال الكون، وتسبيح الخالق والإيمان بما أنزله، وكم فيها من شياطين للشعر والموسيقى النفسية توحي للنفس ما توحي من جمال وحكمة.
إننا في مصر ولكنا لا نعرفها، أرأيت أغرب من مبصر أعمى؟! إن الأهرام على قيد فلتة العيار من القاهرة، ولكن كثيرات منا لم يزرنها، والآثار تخبرنا عنها السائحات الأجنبيات فنبدي جهلا مزريا، ونعجب مما يقصص علينا، وتاريخنا مبعثر في الأرض من قديم وحديث ولا من تلم به حيا من غير الكتب الجامدة الخالية من الروح، ألم يأن لنا أن نطلب الحرية قليلا فقد طلبتها أرجلنا التي كاد يصيبها الكسح من طول الجلوس، وأعيننا لم تر من بدائع الكون شيئا؟! خصصوا لنا متنزهات - إن شئتم - لا يدخلها غير النساء وخليق بالمحافظين والمديرين أن يجيبوا هذا الطلب كل في مديريته، ووفروا قليلا مما تصرفونه على الزخارف الكاذبة لبناء أو استئجار بيوت فسيحة الأفنية ليتروض فيها نساؤكم وأطفالكم بالمشي ليس إلا، أما نصيحتي للسيدات فهي أن يتركن الزيارات جانبا وينزهن أنفسهن في الخلوات القريبة مع آبائهن أو بعولتهن؛ ليستفدن صحة وعلما وجمالا.
خطبة في نادي حزب الأمة
وبحضور مئات من السيدات
أيتها السيدات
أحييكن تحية أخت شاعرة بما تشعرن، يؤلمها ما يؤلم مجموعكن، وتجذل بما به تجذلن، وأحيي فيكن كرم النفس لتفضلكن بتلبية الدعوة لسماع خطبتي، إن أطلب بها إلا الإصلاح ما استطعت، فإن أصبت كان ما أرجو، وإن أخطأت فما أنا إلا واحدة منكن والإنسان يخطئ ويصيب، فمن رأت في خطبتي رأيا مخالفا لما تعتقد أو أحبت المناقشة في نقطة فلتتفضل بإبداء ما يعن لها بعد انتهاء كلامي.
أيتها السيدات، ليس اجتماعنا اليوم لمجرد التعارف، أو لعرض مختلف الأزياء ومستحسن الزينات، وإنما هو اجتماع جدي أقصد به تقرير رأي لنتبعه، ولأبحث فيه عن عيوبنا فنصلحها، فقد عمت الشكوى منا وكثرت كذلك شكوانا من الرجال، فأي الفريقين محق في دعواه؟! وهل نكتفي من الإصلاح بمجرد التذمر والشكوى؟! لا أظن مريضا طاوع أنينه فشفاه، ويقول المثل العربي: لا دخان بلا نار، ويقول الفيلسوف الإنكليزي هربرت سبنسر: إن الآراء التي يظهر لنا أنها خطأ لا يمكن أن تكون خطأ محضا، بل لا بد أن يكون فيها نصيب من الصحة والصواب، إذن نحن والرجال متساوون في صحة الدعاوى وبطلانها، كلنا متظلمون وكلنا على حق مما نقول، بيننا وبين الرجال الآن شبه خصومة، وما سببها إلا قلة الوفاق بيننا وبينهم، فهم يعزون هذه الحالة إلى نقص في تربيتنا وعوج في طريقة تعليمنا، ونحن نعزوها لغطرستهم وكبريائهم، وهذا الاختلاف في إلقاء المسئولية زادنا اختلافا في العيش، وأوسع هوة الجفاء بين الرجال والنساء في مصر، وهو أمر لا ننظر فيه بعين الارتياح، وإنما نأسف له ونتوجس منه، لم يخلق الله الرجل والمرأة ليباغضا ويتنافرا، وإنما خلقهما الله ليسكن أحدهما إلى الآخر فيعمر الكون إذ في ائتلافهما بقاؤه، ولو انفرد الرجل في بقعة من الأرض وانعزلت النساء إلى أخرى لانقرض الحزبان وحقت عليهما كلمة الفناء.
تدركن معنى قولي هذا من صعوبة الرد على هذا السؤال: أي الجنسين أصلح للبقاء في الدنيا: النساء أم الرجال؟ فإذا أجابت إحداكن: الرجال؛ لأنهم يقومون بشاق الأعمال من بناء واختراع وزرع وغيره، عارضتها بقولي: ولأجل من نتجشم تلك الصعاب ولا نساء يتسلسل منهن النسل لعمار هذا الكون؟! وإذا قلنا: النساء؛ لأنهن مدبرات البيوت وأمهات النشء، لقلت: ومن أين يأتي النشء ولا أب له؟ هذا قياس على نظام الطبيعة الحالي، ولن نتوسع في الافتراضات والمتوهمات، فقد كان الله قادرا على خلق نظام آخر للتوالد، وهو قادر على خلق مثله، ولكنا للآن لم نسمع إلا بمثال واحد لهذا الشذوذ هو مثال سيدنا عيسى عليه السلام، فالمرأة والرجل للكون كالخبز والماء للجسم أو الشمس والماء للزرع، ولو استعاضت إحدانا باللبن عن الماء فإن اللبن بالتحليل يحتوي الماء، فالكتب السماوية كلها مجمعة على أن أصل البشر من آدم وحواء، والقائلون برأي دارون لم ينكروا ضرورة لزوم الذكر والأنثى للتوالد من الحيوانات الأولى التي زعموا أنها ارتقت بالتدرج إلى مصاف الإنسان، كذلك الحال في كل جسم حي نام، فإن النباتات كلها فيها الذكورة والأنوثة، والزهرة - على لطافتها وصغر حجمها - تحتوي شكلين مختلفين من العروق أحدهما لقاح للآخر، كذلك جعلهما الله لينتج منهما الحب الذي فيه بقاء النوع وسلط عليه الريح تسفيه إلى الأرض، فإذا ما جاده الغيث أو لقي ريا نبت ونما وصار شجرا، فنظام التوالد مطرد في كل الأجسام الحية من حيوانات ونباتات لا شك فيه البتة، وإذا راجعنا إحصائيات العالم كله وجدنا أن عدد الذكور والإناث فيه يكاد يكون واحدا أو يفرق قليلا جدا، وهذا دليل على أن الله خلق رجلا لكل امرأة، هذا بقطع النظر عن الحروب وغيرها، مما قد يخل بهذا التوازن الطبيعي الدقيق. إذن، فمحاولة الاعتزال بين الرجال والنساء مستحيلة، وعليه فلا فائدة من هذه الغارات القلمية الشعواء بيننا وبينهم، والأوفق أن نسعى للوفاق جهدنا، ونزيل سوء التفاهم والتحزب، لنحل بدلهما الثقة والإنصاف، ولنبحث أولا في نقط الخلاف.
يقولون: إننا بتعلمنا نزاحمهم في أشغالهم، ونترك أعمالنا التي خلقنا الله لها، فليت شعري! ألم يكونوا هم البادئين بمزاحمتنا؟! كانت المرأة في العهد السابق تغزل الخيط وتنسج ثيابا لها ولأولادها، فاخترعوا آلة الغزل فأبطلوا عملها من هذا القبيل، وكانت المرأة المتقدمة تغربل القمح وتهرسه وتطحنه على الرحا بيديها، ثم تنخله وتعجنه فتهيئ منه خبزا، فاستنبطوا ما سمونه (الطابونة)، واستخدموا فيها الرجال فأراحونا من ذلك العمل الكثير ولكنهم عطلوا لنا عملا، وكانت كل امرأة من السالفات تخيط لنفسها ولأفراد بيتها، فابتكروا لنا آلة للخياطة، يشتغل في استخراج حديدها وصناعتها الرجال، ثم جعلوا منهم خياطين يخيطون لرجالنا وأولادنا، وكنا نكنس حجرنا أو تكنسها الخادمات بمكانس من القش، فاستنبطوا آلة الكنس التي يكفي أن يلاحظها خادم صغير فتنظف الرياش والأثاث، وكانت الفقيرات والخادمات يجلبن الماء لبيوتهن، أو لبيوت سادتهن فاخترع الرجال القصب (المواسير) والحنفيات تجلب الماء بلا تعب، فهل ترى عاقلة الماء يجري عند جارتها في أعلى طبقات منزلها وأسفله، وتذهب لتملأ من النهر وقد يكون بعيدا؟! أو هل يعقل أن متمدينة ترى خبز (الطابونة) نظيفا طريا لا تتكلف له سوى ثمنه، تتركه لتغربل وتعجن، وقد تكون ضعيفة البنية لا تتحمل تعب تجهيز القمح وعجنه أو فقيرة لا تستطيع تأجير خدم له أو وحيدة لا مساعدة لها عليه، أظن الرجال لو كانوا محلنا لما فعلوا سوى ما فعلناه، وما من امرأة تقوم بهذه الأعمال كلها إلا القرويات اللاتي لم يدخل قراهن التمدين، بل إنهن يستعضن عن الرحا بوابور الطحين، وبعضهن عن الملء من البحر (بطلومبات) يضعنها داخل دورهن.
ولست أريد من قولي هذا أن أذم الاختراعات المفيدة التي اخترعها الرجال كثيرا من أعمالنا، أو أقول: إنها زائدة عن حاجتنا، وإنما كان هذا الشرح ضروريا لبيان أن الرجال هم البادئون بالمزاحمة، فإذا ما زاحمناهم اليوم في بعض أشغالهم فإن الجزاء الحق من جنس العمل.
على أن مسألة المزاحمة هذه ترجع للحرية الشخصية، فزيد راقه أن يكون طبيبا، وعمرو رأى أن يكون تاجرا، فهل يصح أن نذهب للطبيب ونقول له: لا تحترف هذه الصناعة بل كن تاجرا؟! وهل يمكننا أن نجبر التاجر على أن يصير طبيبا؟! كلا؛ فكل له حريته يفعل ما يشاء ولا ضرر ولا ضرار، وهل يجوز أن يمنع مهندس قديم من يحترفون هذه المهنة؛ لأنه كان يكتسب ربح بلد بأكمله، فجاءه هؤلاء المهندسون الجدد يقتسمون أرباحه؟! على أن ذلك لو جاز قوة لما صح أن يجوز شرعا وحرية، ولما قامت من أجله الشحناء بين الرئيس روزفلت وشركات الاحتكار، فإذا كان المخترعون والصناع أبطلوا جزءا كبيرا من أعمالنا، فهل نقتل الوقت في الكسل أم نبحث عن عمل يشغلنا؟! لا غرو وأننا نفعل الثاني.
ولما كانت أشغال منزلنا قليلة، لا تشغل أكثر من نصف النهار، فقد تحتم أن نشغل النصف الآخر بما تميل له نفوسنا من طلب العلم، وهو ما يريد أن يمنعنا عنه الرجال بحجة أننا نشاركهم في أعمالهم، لا أريد بقولي هذا أن أحث السيدات على ترك الاشتغال بتدبير المنازل وتربية الأولاد إلى الانصراف لتعلم المحاماة والقضاء وإدارة القاطرات! كلا؛ ولكن إذا وجدت منا من تريد الاشتغال بإحدى هذه المهن فإن الحرية الشخصية تقضي بأن لا يعارضها المعارضون، قد يقولون: إن الحمل والولادة مما يجبرنا على ترك الشغل، وقد يجعلون ذلك حجة علينا، ولكن من النساء من لم تتزوج قط، ومنهن العقيمات اللاتي لا ينتابهن حمل ولا ولادة، ومنهن من مات زوجها أو طلقها ولم تجد عائلا يقوم بأولادها، ومنهن من يحتاج زوجها لمعونتها، وقد لا يليق بهؤلاء أن يحترفن الحرف الدنيئة، بل ربما يملن إلى أن يكن معلمات أو طبيبات حائزات لما يحوزه الرجال من الشهادات، فهل من العدل أن يمنع مثل هؤلاء من القيام بما يرينه صالحا لأنفسهن قائما بمعاشهن؟! على أن الحمل والولادة إذا كانا معطلين لنا عن العمل الخارجي فهما معطلان لنا عن الأعمال البيتية أيضا، وأي رجل قوي لم يمرض ولم ينقطع عن عمله وقتا ما؟
يقول الرجال ويجزمون: إنكن خلقتن للبيت، ونحن خلقنا لجلب المعاش، فليت شعري! أي فرمان صدر بذلك من عند الله؟! ومن أين لهم معرفة ذلك والجزم به ولم يصدر به كتاب؟! نعم؛ إن الاقتصاد السياسي ليأمر بتوزيع الأعمال، ولكن اشتغال بعضنا بالعلوم لا يخل بذلك التوزيع، وما أظن أصل تقسيم العمل بين الرجال والنساء إلا اختياريا، بمعنى أن آدم لو كان اختار الطبخ والغسل، وحواء السعي وراء القوت لكان ذلك نظاما متبعا الآن، ولما أمكن أن يحاجنا الرجال بأنا خلقنا لأعمال البيت فقط، وها نحن أولاء لا نزال نرى بعض الأقوام، كالبرابرة مثلا، يخيط رجالهم الثياب لأنفسهم ولأفراد بيتهم ويتجشم نساؤهم مشقة الزرع والقلع حتى إنهن ليتسلقن النخل لجني ثمارها، وها نحن نرى نساء الفلاحين والصعايدة يساعدن الرجال في حرث الأرض وزرعها وبعضهن يقمن بأكثر أشغال الفلاحة كالتسميد والدراس وحمل المحاصيل ودق السنابل والبراعم (الكيزان) وسوق المواشي ورفع المياه بما يسمونه بالقطوة، وغير ذلك من الأعمال التي ربما شاهدها منكن من ذهبت إلى الضياع (العزب)، ورأت أنهن يقدرن عليه تمام القدرة كأشد الرجال، ونرى مع ذلك أولادهن أشداء أصحاء.
فمسألة اختصاص كل فريق بشغل مسألة اصطلاحية لا إجبار فيها، وما ضعفنا الآن عن مزاولة الأعمال الشاقة إلا نتيجة قلة الممارسة لتلك الأعمال، وإلا فإن المرأة الأولى كانت تضارع الرجل شدة وبأسا، أليست المرأة القروية كأختها المدنية؟ فلماذا تفوق الأولى الثانية في الصحة والقوة؟! هل ترتبن في أن المرأة من المنوفية تصرع أعظم رجل من رجال الغورية لو صارعته؟ فإذا قال لنا الرجال أننا خلقنا ضعيفات، قلنا: لا، وإنما أنتم أضعفتمونا بالمنهج الذي اخترتم أن نسير فيه.
حدثتني سيدة عالمة أنها في سياحتها بأمريكا رأت بعينها هنودها الحمر تتحرك آذانهم من تلقاء نفسها تجاه الصوت الذي يترقبونه كآذان الخيل والحمير؛ ذلك نتيجة استعمالهم لها وقد توارثوه أيضا وهم في حاجة إليه لتسمع زئير السباع وعواء الوحوش التي ربما تهاجمهم في فلواتهم، كذلك نجد حواس الوحشيين أقوى من حواسنا بكثير، فهم يشمون رائحة الوحوش من بعيد أما نحن فلا، ولم يكذب من قال إن الوظيفة تكون العضو، هؤلاء العميان يعتمدون كثيرا على حاسة السمع، فتقوى فيهم بالتدريج تلك الحاسة إلى أن تبلغ غاية قد تعد من الخوارق عندنا، فهل بعد أن استعبدنا الرجال قرونا طوالا حتى خيم على عقولنا الصدأ وعلى أجسامنا الضعف يصح أن يتهمونا بأنا خلقنا أضعف منهم أجساما وعقولا؟ إنهم لو أنصفوا ولم يتحزبوا لما عيرونا بأننا قليلات النبوغ وأنه لم يسمع بإحدانا غيرت قاعدة في الحساب والهندسة مثلا، وليتفضل أحدهم بإخبارنا عما استنبطه من تلك القواعد، أوليست قواعد الحساب هي بعينها من زمن اليونان الأول إلى الآن؟! ونظريات الهندسة لم تزل تلك التي كان يعرفها قدماء المصريين والرومان؟
نحن نعترف لرجال الاختراع والاكتشاف بعظيم أعمالهم، ولكني لو كنت ركبت المركب مع خريستوف كولمب لما تعذر علي أنا أيضا أن أكتشف أمريكا، وحقيقة أن النساء لم يخترعن اختراعات عظيمة، ولكن كان منهن النابغات في العلوم والسياسة والفنون الجميلة، أي: فيما سمح لهن بممارسته، وبعضهن فقن الرجال في الفروسية والشجاعة، كخولة بنت الأزور الكندي، فقد عجب منها عمر بن الخطاب وأعجب باستقتالها في فتوح الشام حينما أرادت تخليص أخيها من أسر الروم، وجان دارك التي قادت جيش الفرنسيس، بعد هزيمته أمام الإنكليز، فشجعتهم على استمرار القتال وأصلت محاربي وطنها حربا عوانا، ولن أضرب مثلا بالنساء اللاتي تولين الملك فأحسن سياسته، ككاترينا ملكة روسيا، وإيزابيلا ملكة إسبانيا، وإليزابيث ملكة إنكلترا، وكليوباتره، وشجرة الدر امرأة الملك الصالح، وأم طوران شاه التي حكمت مصر، فقد يقول معارضونا إنه دبره لهن الوزراء وهم رجال! على أنه لو صح هذا القول في عهد الدستوريين، كالملكة فيكتوريا مثلا أو وولهمينا ملكة هولانده الحالية، فلا يصح تطبيقه على أيام الحكم المطلق.
إننا الآن في ابتداء القيام بتعليم البنات، فقول بعضهم بالاقتصار على هذا وذاك مثبط للهمة ورجوع للوراء في حين أنه لا خوف من مزاحمتنا لهم الآن؛ لأننا لا نزال في الدور الأول من التعليم، ولا تزال عاداتنا الشرقية تثنينا عن الاستمرار على الدرس الكثير فليهنأوا بوظائفهم، وما داموا يرون مقاعد مدرسة الحقوق والمهندسخانة والطب والجامعة خالية منا فليقروا عيونا ولينعموا بالأمان، فما يتخوفون منه بعيد، وإذا فرض أن اشتاقت إحدانا لتكملة معلوماتها في إحدى تلك المدارس، فأنا واثقة أنها لن تقلد وظيفة أو تشتغل خارجا، وإنما تفعله لإطفاء شوق النفس للعلم أو الشهرة ولما تفعله، فإذا كنا لم نشتغل بالمحاماة ولا بتقلد الوظائف الحكومية أفلا تشغلنا عن تربية النشء إلا قراءة كتاب أو خط جواب؟! أظن ذلك مستحيلا، على أن الأم مهما تعلمت وبأي حرفة اشتغلت فلن ينسيها ذلك أطفالها، أو يفقدها عاطفة الشفقة والأمومة، بل بالعكس إنها كلما تنورت أدركت مسؤوليتها، ألم ترين الفلاحات والجاهلات يظل يبكي طفل الواحدة منهن ساعات وهي تسمعه ولا تتحرك؟! فهل يا ترى كان شغل هؤلاء أيضا تحضير القضايا أو الاشتغال بالتحرير والقراءة؟!
ولا يغيظني أكثر من أن يزعم الرجال أنهم يشفقون علينا، إننا لسنا محلا لإشفاقهم، وإنما نحن أهل لاحترامهم، فليستبدلوا هذا بذاك، والإشفاق لا يتأتى إلا من سليم لعليل أو من جليل لحقير، فأي الصنفين يعتبروننا؟! تالله إنا لنأنف أن نكون أحد هذين.
قال قائلهم: لا تعلموا البنات من الحساب إلا القواعد الأربع؛ لأنهن لن يحتجن إلى أكثر منها، فمن أين له أننا نودع نقودنا في مصرف، أو نبيع وثيقة (كمبيالة)، أو يغالطنا وكيل في قياس قطعة أرض؟! إنه إذا ادعى بذلك تفضيل الرجال على النساء في علم التكهن والرجم بالغيب أيضا قلنا: لم تصح هذه الفراسة فقد أظهر الواقع غير ذلك، أما ما يذهب إليه من تفضيل لغة على لغة في التعلم، فذلك ما لا أفهمه لأني أعتبر اللغات كلها نافعة، ولو وجدت من يعلمني البربرية أو الصينية لتعلمتها، إذا كان لآداب اللغة فإن الفارسية والألمانية والإنكليزية وغيرها ملأى بذلك، أما تعليم تدبير المنزل وتربية الأطفال فيجب أن نشكر للدكتور عبد العزيز نظمي بك اهتمامه بهما وحثه عليهما.
أيتها السيدات، العلم منور للعقل على أي حال سواء عمل به أو لم يعمل، فماذا يضرنا أننا لا نشتغل بمسح الكرة الأرضية ولا بالسباحة ولكن نعلم مواقع البلاد وأبعادها؟! إن الطبيب يتعلم الجبر في تلمذته ولكنه لا يشتغل به في صناعته، كلنا نسمع بأخبار السياسة والرجال يشتغلون بها، ولكنهم لا يحدثون أنفسهم بأن يولوا مكان ذلك الملك المقتول أو السلطان المعزول، فهل نقول لهم: إذا كنتم لن تتملكوا في تلك الأمم فلا يجوز لكم أن تعرفوا سياستها وأخبارها؟! نسمع في هذه الأيام أن جيش الدستور في تركيا زحف من سلانيك إلى الآستانة، وأن حصن اسكودار تأخر في التسليم، ألا يحسن بنا أن نعرف من (الجغرافيا) ما يهيئنا لفهم تلك الأخبار بعدما لاكتها أفواه الكبار والصغار، لو لم يكن للعلم لذة في ذاته لما اشتغل بتحصيله الملوك، وهم واثقون أنهم لن يكونوا مهندسين ولا بحارة ولا سائقي قاطرات، وهل تفضل السيدة التي تعرف أن تطبخ البطاطس وتنسق الزهور فقط، أم التي تعرفهما أيضا ولكنها تعلم متى يؤكل البطاطس، وهل يوافق زوجها المريض بالسكر، أو جسمها السمين الذي تريد تضميره؟ وهل وجود أصص (قصارى) الزرع في حجرتها ليلا صالح لرئتيها الضعيفتين أم مضر بهما؟ فهذه تعرف تدبير المنزل وتلك تعرفه، ولكن تعلم واحدة علم النبات تحفظ لها صحتها وصحة عيالها من التلف، فضلا عما تشعر به من السرور الناشئ عن العلم، نحن نعلم أن نقص تربيتنا الأولى وتربية إخواننا الشبان لا شك نتيجة جهل أمهاتنا، فهل نعرف الداء ولا نداويه، وقد قال الحديث الشريف: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين؟!» إن المدارس مهما اجتهدت في تثقيف عقول النشء وتهذيبها، فإن المنزل له تأثير خاص في الأطفال، وإذا شعر تلميذ أن أمه عالمة أو لها نصيب من علم، فإنه يسعى جهده ليريها أنه أهل لحبها وتقديرها إياه، فيجتهد ليحفظ سلسلة العلم لتكون الصلة شديدة بينه وبينها؛ فتعلمنا الحالي ناقص يجب أن يزاد عليه لا أن ينقص منه.
أما ما أشكل على الرجال من علة فسادنا فهو ما ينسبونه خطأ للتعلم وحقهم أن ينسبوه للتربية، يرى كثيرون أن العلم يهذب ولكني لا أعتقد ذلك، بل أصرح أن العلم والتربية منفصلان تمام الانفصال إلا في علوم الدين فقط، ودليلي على ذلك أن كثيرين من المبرزين والمبرزات في العلوم لا خلاق لهم، وأن الكتاب الواحد قد يدرسه معلمان مختلفان في فرقتين كل على حدة فتتعلم الفرقتان الكتاب، ولكن نجد أثر الهمة وعلو النفس في واحدة ولا نراه في الثانية، فهذا ناشئ من تأثير روح المعلم في تلاميذه لا من العلم، وإلا فلو كان من العلم لتساوت الفرقتان؛ لأن الكتاب واحد والعلم لا يختلف، يظن بعض الناس أن حسن التربية معناه تقبيل أيدي الزائرات وتكتيف اليدين خضوعا، ولكن ما أبعد هذا عن الحقيقة! التربية الحسنة هي التي تؤهل الشخص لأن يدرك نفسه من سواه، وما أحزم من قال: ما هلك امرؤ عرف قدر نفسه! التربية الحسنة هي التي تعود الإنسان من صغره احترام الغير إذا استحق الاحترام، حتى ولو كان عدوا، فالتعليم لم يفسد أخلاق الفتيات، إنما هي التربية الناقصة، تلك التربية في الحقيقة يجب أن تكون من أعمال البيت لا المدرسة، ولما كانت بيوتنا لم تبلغ الدرجة التي تؤهلها لإحسان تربية الأطفال فقد وجب علينا أن نضاعف مجهوداتنا لإصلاح شأن أنفسنا ثم إصلاح النشء، ولا يتم ذلك في لحظة كما قد يتوهم، ومن الظلم أن نلقي مسئولية الفساد كلها على المدارس، فإن المدارس لها تأثير في التربية، ولكن ليس عليها كل الذنب، بل العيب في الأسر.
من عيوبنا نحن النساء أننا لا نكترث كثيرا بالنصح، فإذا قامت سيدة تريد تقرير مبدأ أو إظهار حقيقة قال أكثرنا: ما لها ولهذا؟! أو إن كانت تغار فلتعمل مثلنا، ومن غير ذلك من الألفاظ!
ومن عيوبنا السخرية والتهكم، فكثير منا تنتقد من تصادفه وتعيب عليه، لا عيبا حقيقيا يستدعي الانتقاد، ولكن لولوع بالانتقاد في ذاته، فربما انتقدت في ساعة واحدة اثنين على خصلتين متضادتين، ولا يمكن أن يكون الشيء ونقيضه منتقدا، فإذا رأت امرأة سمينة قالت: إنها (كالبرميل) وكيف تستطيع الحركة؟ وإن أبصرت بأخرى رفيعة قالت: إنها كعود الحديد تكسر يدها على ساقيها! وإذا وجدت سيدة قليلة الكلام قالت: إنها متكبرة، وإن سمعت أخرى تتكلم كثيرا عابت عليها وقالت: إنها تتصنع الخفة!
ومن عيوبنا الصلف والاغترار، كنت وأنا طفلة أحفظ قصيدة سمعتها، ولكني كنت أخلط فيها وألحن كثيرا غير عالمة بالطبع ما كنت واقعة فيه من الخطأ، وكانت زميلاتي الصغيرات لا يعرفن القصائد ولم يسمعن بها، فكنت إذا قلتها أمامهن عددنها غريبة عليهن ووسمنني بالذكاء! فما لبثت أن اغتررت بقصيدتي وصرت أفخر بها، حتى إذا ألقيتها ذات يوم أمام والدي أراني خطئي، وبين لي أنها كانت مجموعة نتف من هنا ومن هناك، لا ارتباط لأجزائها ولا قافية لها وأعطاني كتابا فيه شعر؛ فأدهشني أكثر لأنني كنت أحسب أن لا شعر في الدنيا إلا تلك النتف التي كنت استظهرتها، فلو كان تركني ولم يبين لي خطئي فربما كنت استرسلت في الغرور، والإنسان مهما بلغ من العلم لا يزال يقبل الزيادة فيه، ومهما كبر فيما يعرف فإنه لا يزال طفلا إزاء ما يجهل كالبحر تستعظم منه ما رأيت وما لم تره أعظم، وكيف أصلح خطئي إذا كنت لا أشعر به ولا أقبل نصيحة من يراه؟
يشكو الرجال من تبرجنا في الطرقات؛ وحق لهم لأننا خرجنا فيه عن المألوف والجائز، نحن نزعم أننا نحتجب ولكنا ما بلغنا حجابا ولا بلغنا سفورا، لا أريد أن نرجع لحجاب جداتنا، ذلك الذي يصح أن يسمى وأدا لا حجابا، فقد كانت السيدة تقضي عمرها بين حوائط منزلها لا تسير في الطريق إلا وهي محمولة على الأعناق، ولا أريد سفور الأوروبيات واختلاطهن بالرجال فإنه مضر بنا، إن نصف إزارنا السفلي اليوم مرط (جونيلة) لا يتفق مع كلمة حجاب ولا مع معناها ولا مع الحكمة منه، أما نصفه العلوي فهو كالعمر كلما تقدم قصر، كان الحجاب الأول قطعة واحدة تلتف بها المرأة فلا يظهر من هيئتها شيء، ثم طرأ عليه تكمش بسيط ولكنه كان واسعا يكفي لستر الجسم، ثم تفننا فيه فصرنا نضيق وسطه ونقصر رأسه، وأخيرا فصل له كمان وصار يلتصق بالظهور ولا يلبس إلا مع المشد، ويربط من أطرافه إلى الوراء، حتى تظهر منه الآذان ونصف الرأس أو أكثره فتبين الورود والرياحين والأشرطة المزين بها الرأس، أما البرقع فأشف من قلب الطفل، ما الغرض من الإزار؟ الغرض منه ستر الجسم والملابس، والزينة اجتناب الزينة التي نهى الله عنها، فهل يتفق هذا المئزر الحالي وقد أصبح (فستانا) يظهر النهدين والخصر والأعجاز، فضلا عن أن بعض السيدات ابتدأن يلبسنه أزرق وبنيا وأحمر؟ الأولى أن لا نسميه مئزرا بل (فستانا بطرطور) فإنه في الحقيقة كذلك، وعندي أن الخروج بدونه أدل على الحشمة؛ لأنه على الأقل لا يسترعي النظر، على أن مسألة الحجاب قد اختلف فيها الأئمة فإذا كان تفنن بعضنا هذا يراد به الاحتيال على الخروج بلا إزار فليس عليهن فيه من حرج إذا كشفن وجوههن بشرط ستر الشعر والجسم، وأرى أن أوفق لباس للخارج هو تغطية الرأس بخمار وسدل رداء أشبه (بالبالطو)، المسمى
cache poussiere
عند الفرنجة على الجسم إلى الكعب، ويكون طويل الكمين إلى المعصمين، وهذا اللباس مستعمل في الآستانة، كما وردت لي إحدى السيدات للخروج إلى المحلات القريبة، ولكن من يضمن لنا أننا لا نقصره ونضيقه حتى نمسخه (فستانا) آخر؟ وحينئذ تضيق بنا حيل الإصلاح.
لو أننا متربيات من صغرنا على السفور، ولو أن رجالنا مستعدون له، لأقررت بالسفور لمن تهواه، ولكن مجموع الأمة غير مستعد له للآن، وإن كان بعض نسائنا العاقلات لا يخشى من اختلاطهن بالرجال، إلا أننا يجب أن نتحفظ على غير العاقلات أيضا؛ لأننا سرعان ما نقلد وقل أن نبحث عن حقيقتنا فيه، ألا ترين أن تيجان الماس أصلها للملكات والأميرات فأصبحت الآن يلبسها المغنيات والراقصات؟! ولعل الشعراء يعدلون عن كنايتهم الملكات بياربة التاج فقد أصبحت تلك الكناية شاملة لسواهن!
على أن تفنننا في هذا المئزر الحالي هو في ذاته تقليد للأوروبيات، ولكنا فقناهن في التبرج؛ فإن المرأة منهن تلبس أبسط ما عندها عندما تكون في الطريق، وتلبس ما شاءت في البيت أو في السهرات، ولكنهن بخلاف ذلك يظللن أمام أزواجهن بجلباب بسيط جدا، ثم إذا خرجت إحداهن عمدت إلى أحسن ثيابها فلبسته، وأثقلت نفسها بالمصوغات وأفرغت عليها زجاجات العطر والطيب، ويا ليتها تقتصر على ذلك بل تجعل من وجهها حائطا تنقشه بالدهان وتصبغه بمختلف الألوان وتتكسر في مشيتها كأنها الخيزران فتفتن المارة، أو على الأقل يتظاهرون لها بأنها تفتنهم، إني واثقة أن أغلب هؤلاء المتبرجات يفعلن ما يفعلن وهن خاليات الذهن من سوء القصد، ولكن من أين للرائي أن يتبين حسن نيتهن ومظهرهن لا يدل عليه؟!
حجابنا يجب أن لا يحرمنا من استنشاق الهواء النقي، ولا من شراء ما يلزمنا إذا لم يقدر آخر على شرائه لنا ... ويجب أن لا يمنعنا عن تلقي العلم، ولا أن يكون مساعدا على فساد صحتنا أو سببا في تلفها، فإذا لم أجد في بيتي حديقة واسعة أو رحبة طلقة الهواء وكنت فرغت من العمل وأحسست من نفسي بملل أو كسل فلم لا آخذ نصيبي من هواء الضواحي المنعش الذي خلقه الله للكل ولم يحبسه في صناديق مكتوب عليها «خصوصي للرجال»؟! وإنما يجب أن نختار الاعتدال وأن لا نخرج للنزهة وحدنا اجتنابا للقيل والقال وألا نمشي الهوينى، وألا نلتفت يمنة ويسرة، وإذا لم يكن أبي أو زوجي يحسن اختيار ما أشتهيه من الملابس، غير الموجود لها عينة ولا يمكنه جلبها للمنزل، فلم لا يأخذني معه لاختيار ما يلزمني أو يدعني أشتري ما أريد؟! وإذا لم أجد من يحسن تعليمي إلا رجلا فهل أختار الجهل أم السفور أمام ذلك الرجل مع أخواتي من المتعلمات؟! على أنه ليس هناك ما يجبرني على السفور، بل إنه يمكنني التقنع والاستفادة منه وهل نحن في إسلامنا أعرق أصلا من السيدة نفيسة والسيدة سكينة - رضي الله عنهما - وقد كانتا تجتمعان بالعلماء والشعراء؟! وإذا اضطرني المرض لاستشارة طبيب، لا يمكن لإحدى النساء القيام بعمله، فهل أترك نفسي والمرض وقد يكون خفيفا فيعضل بالإهمال، أم أستشفيه فيشفيني؟
إن حبس المصرية السالفة تفريط وحرية الغربيين الآن إفراط، ولا أجد أصلح ما نقتبس منه إلا حالة المرأة التركية الحاضرة، فإنها وسط بين الطرفين، ولم تخرج عما يجيزه الإسلام، وهي مع ذلك مثال الجد والاحتشام.
بلغني أن بعض كبرائنا (أريد كبراء الوظائف) يعلمون بناتهم الرقص الإفرنجي والتمثيل، وهما أمران أحلاهما مر، وأعدهما تطرفا ممقوتا واستماتة في تقليد الغربيين؛ لأن العادة يجب أن لا تغير إلا إذا كانت مضرة، والأنماط الغربية لا يقيمها قوم بينهم إلا إذا رأوا ضرورتها وصلاحيتها، فأي صلاح لنا من مخاصرة الرجال والنساء ورقصهم معا؟! أو ظهور بناتنا أمام الرائين (المتفرجين) بصدور عارية يمثلن أدوار الحب والخلاعة على (المرسح)، إن ذلك مناف للدين الإسلامي هادم للفضيلة، مدخل لضار العادات بيننا، فعلينا أن نحاربه ما استطعنا ونظهر احتقارنا لمن تفعله من المسلمات القليلات اللاتي إذا شجعناهن بسكوتنا فإنهن لا يلبثن أن يعدين الغير منه.
وعلى ذكر العادات والحجاب أذكركن بمسألة تئن منها السعادة وتكاد تندثر في بيوتنا، تلك هي مسألة الخطبة والزواج، يرى أكثر عقلاء الأمة أن لا بد للخطيبين من الاجتماع والتكلم قبل الزواج، وهو رأي سديد لم يكن النبي
صلى الله عليه وسلم
والصحابة يفعلون غيره، وهو متبع عند جميع الأمم بأسرها والأمة المصرية أيضا إلا في طبقة واحدة هي طبقة أهل المدن، إذا ائتلف العروسان عندنا فهو من محاسن الاتفاق (الصدف)، وكيف يمكن الجمع بين شخصين لم ير أحدهما الآخر ولم يختبره على أن يقضيا العمر معا؟ إن إحدانا إذا اتفق أن رأت عرضا في إحدى زياراتها سيدة استثقلت ريحها فإنها لا تصبر على مجالستها فضلا عن النظر إليها، وتسرع بالتملص منها، فكيف تصبر على مضض الحياة إذا استثقلت أيضا بعلها، وهي لم يمكنها التصبر على ثقل الغريبة لحظة واحدة في غير بيتها؟! يشير قوم باتباع خطة الغربيين من وجوب معاشرة الخطيبين زمنا ليتمكن كلاهما من استطلاع طبع صاحبه، ولكني أصرح باستهجان هذه العادة وأعتقد أنها مبنية على وهم لا على أساس متين؛ إذ من نتائج معاشرة المتشابهين الألفة ومن الألفة الحب، وإذا أحب الإنسان شخصا لم ير عيوبه، ولم يمكنه فحص أخلاقه، فيتزوج العروسان حينذاك على حب باطل وعلى غير هدى، فلا يلبثان أن يتنازعا وتذهب ريحهما، إنما الطريقة التي أود عرضها على مسامعكن هي أن يتراءى العروسان ويتكلما بعد خطبة النساء المتبعة وقبل العقد، ويجب أن لا تظهر العروس إلا مع أحد محارمها وتكون في أبسط لباسها، قد يعترض على هذا الاقتراح بأن اجتماعا واحدا أو اثنين أو أكثر لا يكفي لأن يقف الواحد على أخلاق الآخر، ولكنها على أي حال كافية لأن يشعر الواحد باجتذاب دم الآخر له أو لا، على أن من صدقت فراسته يمكنه تبين الأخلاق من العينين، ومن الحركات والسكنات، فيبين إن كان صاحبه متصنعا أو طائشا وغير ذلك، أما معرفة ماضي العروسين وبقية أحوالهما فيجب أن يسأل عنها المعارف والجيران والخدم وغيرهم، وخوفا من أن يتخذ الشبان فاسدو الأخلاق تلك الطريقة ذريعة لرؤية بنات الناس من غير قصد الزواج يجب على الولي أن يتحرى سلوك الخاطب، ويتبين الجد من كلامه قبل السماح له برؤية ابنته أو موكلته، ربما تستصعبن قبول هذه الفكرة والعمل بها، ولكن كل شيء يخيل لنا صعبا عند الابتداء فيه وإذا مارسناه سهل وهان، على أننا إذا كنا نعتقد فساد طريقتنا القديمة، ونتألم منها ونحجم عن الإقدام على ما نراه مفيدا لنا مقللا لحوادث الشقاء في زواجنا، فما أشبه يومنا بالأمس وما أشد إثمنا وما أبعدنا عن قول الشاعر:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
حياة لنفسي مثل أن أتقدما
وما الفائدة من تعلمنا إذا كنا لا نستطيع تغيير عادة مضرة لا هي من الدين، ولا من الحكمة؟! وقد رأينا رأي العين سعادتنا العائلية مزعزعة تكاد تقتلعها صرصر تلك العادة العائلية، وما مثلنا في ذلك إلا كمثل رجل غرق أو أشرف على التلف فلما بصر بقطعة خشب يمكنه النجاة بالتعلق بها أبى لئلا يكون بها مسمار فيجرح إصبعه فابتلعته اللجة، وقد كان يمكنه النجاة لو لم يقدر الخوف من المسمار، وما أدراه أن ظنه وتخوفه في محلهما؟! ولماذا نأبى أن يرانا خاطب بحجة أننا ربما لا نعجبه؟! أوليست مضرة رغبتنا عنه أو رغبته عنا أخف بكثير من تعاقدنا على الزواج قبل الرؤية، والإنسان لا يفعله في شراء دابة فكيف يفعله في اختيار قرين؟!
إن امتناعنا عن أن يرانا الخاطبون صرف كثير منهم إلى الأوروبيات، فيتحمل أحدهم أن يتزوج من خادمة أو عاملة يعتقد أنه سيهنأ معها على أن يقترن ببنت الباشا أو البك المخبأة في (علبة البخت)، ولتعذرني صديقاتي الغربيات على هذا القول، فإني لا أريد به إهانة لهن، فإنهن يعرفن قبلنا أن امرأة ذات حسب مرغوبة في شبان قومها لا تتركهم إلى فتى من غير دينها وجنسها، فضلا عن أن كل بلاد لها مدنيتها الخاصة بها وتقرير أحوال مدنيتنا لا يقتضي أننا نعيب مدنية الآخرين، قسما بالله لو جاء البارون رتشيلد أو المستر كارينجي إلى ابنة كاتب عندنا مرتبه أربعة جنيهات شهريا لما رد بغير الخيبة، فإذا لم نعمل على تدارك هذا الخلل في مجتمعنا لا نلبث أن يحتلنا نساء الغرب أيضا، فنقع في احتلالين؛ احتلال الرجال واحتلال النساء، وثانيهما شر من أولهما؛ لأن الأول إذا كان حصل على غير رضانا فإن الثاني جلبناه بأيدينا والنساء شديدات التعلق بالأقارب، فلا يبعد أن تلم كل زوجة منهن أخاها وأباها وابن خالتها وصاحبها حولها فيسدون ما بقي لرجالنا من موارد الرزق، فنخرج وإياهم من بلدنا بخفي حنين، وإن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد.
بعض رجالنا يفضلون عنا الأوروبيات لتدبيرهن، حقيقة إن الفقيرة منهن ترتدي بلباس نظيف مرتب، ويرى بيتها على قلة أثاثه نظيفا مرتبا، وطعامها لذيذا متنوعا، وأولادها مؤدبين أصحاء، ومع ذلك نفقاتها قليلة. نرى كل يوم نساء ضباط الإنكليز ماشيات في الطريق بلباسهن التيل الأبيض البسيط وأولادهن لابسين القبعات الجميلة والأحذية البيضاء ومنظرهم يأخذ باللب، لا يقاربهم في شكلهم عندنا إلا أولاد (الذوات) الذين تخدمهم المربيات (الدادات) أما سائر أطفالنا فهم في حالة يرثى لها من الإهمال، ولكن هل تدبر من تتزوج منهن مصريا أمر زوجها كما كانت تفعل لو كان زوجها أوروبيا؟ كلا، والحس يؤيد ما أقول؛ فإن أغلب رجالنا الذين تزوجوا منهن يئنون ويصرخون من تبذيرهن واتباعهن أهواءهن، فالمرأة الغربية تعتقد أنها من جنس أرقى من المصري، فإذا تزوجته ظلت رئيسة له يعمل بإشارتها وحسبت أنه ملزم بالإنفاق على ما تشتهي وجلبه لها حتى ولو كان في الصين، فهي مدبرة مع الغربي مسرفة مع المصري. وإذن، ضاعت أفضليتها من هذا القبيل، وبعضهم يدعي أنه يفضلها لأنه يمكنها الخروج معه في نزهة وروحاته وغدواته، ولا أظن الرجل يحب أن ترافقه زوجته وتلزمه لزوم الظل فإنه داعية للملل، على أنه لو كان هذا الرأي صحيحا لما تأخر أكثرنا عن تنفيذه وأنا أول من تفعله، ولا أجد للمرأة الغربية التي تقبل الزواج من مصري ما يفوقها علينا إلا أمرا واحدا، لا أرانا نحسنه لأننا لم نمارسه ولا أريد أن نمارسه، ذلك أنها ماهرة في اجتذاب القلوب وفي نصب الشباك للرجال، فإذا صادت بحركاتها وغنة صوتها مصريا فليعلم أنها دربت على ذلك في عشرين غريبا قبله؛ فهل يقبل وفيه غيرة الشرقيين وأنفتهم أن تطعمه طبيخا، حقيقة، لذيذا ولكنها أنضجته على نار غيره، ثم انتبذه من قبله خلق كثير؟!
وبفرض أن الزوجة الشرقية الراقية نقصت قليلا عن أختها الغربية، فلماذا لا يرشدها بعلها إلى مواضع خطئها بالرفق ويريها ما يحب وما لا يحب؟! لا سيما وأن أحب شيء إلى الزوجين المتحدين أن يبذل أحدهما وسعه ليرضي الآخر، فانصراف شباننا لتلقي العلوم الحديثة في أوروبا يجب أن يكون لخير البلاد لا لشرها، فكما يتعلمون لنفع أنفسهم يجب أن يقرنوا ذلك النفع بنفع مواطنيهم أيضا، وإلا فلو اتبع كل واحد يرى عيبا في صاحبه طريقة هؤلاء الشبان لما كان لأحد من أهل بلده خليل «ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها؟!» فواجبهم الوطني يقضي عليهم بأن يدخلوا كل ما يرونه صالحا في بلادهم مع الاستغناء عن الأجنبي على قدر الإمكان، فصانع الحرير الوطني إذا رأى معامل أوروبا وسرعتها وجب أن يشتري لبلاده الآلات اللازمة لسرعة إنجاز العمل، لا أن يدخل تلك الصناعة بعينها ويقضي على صناعته الجميلة، فيكون قد اقتبس شكلا وأبطل آخر، فنحن إذا اتبعنا كل شيء غربي قضينا على مدنيتنا، والأمة التي لا مدنية لها ضعيفة هالكة لا محالة، فشباننا يدعون أنهم يأتون بنساء أوروبا؛ لأنهم رأوهن أرقى من نساء مصر. إذن، يجب أن يحضروا لنا تلاميذ أوروبا؛ لأنهم أرقى من تلاميذ مصر وعمال أوربا لأنهم أرقى من عمال مصر؛ لأن النظرية واحدة فماذا تكون الحال لو تم ذلك؟ وهل إذا سافرت زوجة مصرية لأوروبا ورأت الأطفال هناك أجمل بشرة وأحلى منظرا من مثلهم في مصر أيصح أن تترك أولادها، وتأتي بغيرهم من الغربيين، أم أن تجتهد في تجميلهم وتقريبهم من الشكل الذي أعجبت به؟! وإذا كانت أحط فتاة غربية تتزوج مصريا يتبرأ منها أهلها، أفنرضى نحن عنها وقد شغلت محل أشرف فتاة منا، وصار زوجها مثالا لغيره من الشبان؟ أنا أول من يعجب بنشاط المرأة الغربية وإقدامها، وأول من يحترم من تستحق الاحترام منهن، ولكن يجب أن لا ينسينا احترام الغير منفعة الوطن. والمصلحة العامة فوق الإعجاب، وإننا في كثير من أمورنا نسير وفق ما يراه الرجال، فليرونا ما يحبون وكلنا مستعدات للسير بمقتضاه بشرط أن لا يكون ظلما لنا ولا إجحافا بحقوقنا.
يؤلمني أن درجة احترام الرجال لنا ليست بالدرجة التي نحب، وإذا بحثنا وجدنا أننا نحن اللاتي وضعنا أنفسنا في هذا الموضع غير المرضي؛ ذلك أن الإنسان ينزله الناس في المنزلة التي يختارها هو لنفسه ويسير عليها، كما قال زهير: «ومن لم يكرم نفسه لا يكرم» لا يكرم المرء نفسه بأن يقول: سعادتي وحضرتي أو البك والباشا في نفسه ، كبعض الجهلاء الذين ينالون رتبا جديدة، ولكن لا يستهين بذاته فيهينها ويشعر من نفسه بالضعة فيهينه الغير أيضا، فهل نضع نحن أنفسنا عادة في الموضع اللائق بها؟ كلا، يحكى أن أحد الخلفاء بينما كان يروض نفسه في الطريق إذ سمع صوتا في خربة؛ فاتجه نحوه فوجد فيها زبالا يقول:
وأكرم نفسي إنني إن أهنتها
وحقك لم تكرم على أحد بعدي
فقال له: وأي إكرام لنفسك وأنت تحمل التراب والأقذار؟! قال: نعم؛ أفعل ذلك لأكفي نفسي مهانة السؤال من مثلك. إن معتقداتنا وأفعالنا كانت سببا عظيما في قلة احترام الرجل إيانا، أيعتبر رجل عاقل امرأة تعتقد في السحر والشعوذة وكرامة الأموات وتجعل من الدلالات والبلانات، بل ومن الشياطين عليها سلطانا؟! أيحترم المرأة ولا حديث لها إلا (فساتين) جارتها ومصوغات صاحبتها وجهاز فلانة وأخبار علانة؟! هذا فضلا عما انطبع في ذهنه من أن المرأة أضعف منه وأقل ذكاء، إن تهاوننا في هذه النقطة اعتراف بأن حالتنا مرضية فهل هي كذلك؟ وإذا لم تكن فماذا يرقينا في أعين الرجال؟ يرقينا حسن التربية والتعليم الصحيح، فإذا حسنت تربيتنا وتعلمنا علما حقا لا قشور بعض اللغات الأجنبية و(دوري مي فاسول) والعلم يشمل أيضا تدبير المنزل والصحة والأطفال، وإذا تركنا الخلاعة في الطريق جانبا، وإذا أثبتنا لأزواجنا بحسن سلوكنا وقيامنا بواجباتنا حق القيام، أننا آدميات نشعر وأن لنا نفوسا لا تقل عن نفوسهم فلا نسمح لهم بحال من الأحوال بإيلام شعورنا أو بالاستهانة بنا، إذا فعلنا كل ذلك فمن أين يجد الرجل العادل طريقا لاحتقارنا؟! أما غير العادل فكان حريا بنا أن لا نقبل الزواج منه.
يرقينا أن نطرح الكسل أرضا، فإن عمل أكثرنا في المنزل هو القعود على (الشلتة) كل النهار، أو الخروج للزيارات كأن رد فعل القعود أدار لولب أرجلنا ونفخ في شراع حبرنا فلم نقو على ضبط جماحنا، والتي تعرف القراءة منا ففيم تقضي أوقات فراغها؟! في قراءة الروايات فقط، فهلا قرأت قانون الصحة أو بعض الكتب المفيدة فتنتفع وتنفع؟! إن انغماسنا في الكسل أو الترف أدى إلى ضعف أجسامنا وشحوبنا، فيجب أن نبحث لنا عن عمل نزاوله في منازلنا، والمتأمل يرى لأول نظرة أن الطبقات العاملة هي الأسلم صحة والأكثر نشاطا والأنجب نسلا، ألا تنظرن إلى أولاد الطبقة الوسطى والسفلى فإنهم كلهم تقريبا أصحاء الجسم أقوياء البنية؟ أما أولاد (الذوات) فأكثرهم مرضى أو نحفاء، يتأثرون بأقل العوارض، مع ما يبذله آباؤهم من الاعتناء بهم بعكس أولاد الطبقة الدنيا مثلا فإنهم في إهمال شديد من والديهم، العمل يخرج الفضلات الزائدة في الدم ويقوي العضل ويبعث على النشاط، والطبقة أو الأمة العاملة يزداد نسلها فتعتز بأبنائها وإن الأمة الألمانية لشاهد حسي على ما أقول، فإن التعداد يظهر أن النسل هناك يزداد بسرعة هائلة حتى ضاق رحب ألمانيا بأهلها؛ فأخذوا يبحثون عن أراض يستعمرونها ليصرفوا فيها الزائد من السكان، والذين زاروا أوروبا أخبروا أن أهل ذلك البلد مجدون نشيطون رجالا ونساء، بعكس المرأة الفرنسية فإن ترفها الزائد كان سببا في قلة نسلها فضلا عن انصراف كثير من تلك الأمة عن الزواج، وقد بح صوت الاقتصاديين والاجتماعيين في نصح مواطنيهم بالاعتدال واتباع الطريق القويم فلم يفلحوا، لاحظت وأنا في البادية أن بين نساء البدو ورجالهم كثيرا من العجائز ممن بلغوا الثمانين والمائة، وقد رأى معظمهم أربعة أعقاب من ذريته، مع أني لم أر في القاهرة ولا في المدن الأخرى ما يشبه ذلك، ولا شك أن هذا نتيجة عيشتهم الطبيعية واعتدالهم، فإنهم كلهم مبكرون في كل شيء؛ مبكرون في الاستيقاظ وفي النوم وفي تناول الأغذية وفي الأخذ بأول كل شيء وكلهم عاملون، ولم أر بينهم امرأة واحدة حتى من نساء أغنيائهم، تقضي النهار في الكسل كما نقضيه نحن، فإذا كان الفلاسفة والأطباء يبحثون عن أكسير الحياة فها أنذا قد اكتشفته، ذلك هو العمل والاعتدال في المعيشة أو العيش الطبيعي، ولعل في هذا القدر عن المرأة كفاية اليوم.
بقي علينا أن نبين الطريق العملي الذي يجب أن نسير عليه ولو كان لي حق التشريع لأصدرت اللائحة الآتية :
المادة الأولى:
تعليم البنات الدين الصحيح، أي: تعاليم القرآن والسنة الصحيحة.
المادة الثانية:
تعليم البنات التعليم الابتدائي والثانوي، وجعل التعليم الأولي إجباريا في كل الطبقات.
المادة الثالثة:
تعليمهن التدبير المنزلي علما وعملا، وقانون الصحة، وتربية الأطفال، والإسعافات الوقتية في الطب.
المادة الرابعة:
تخصيص عدد من البنات لتعلم الطب بأكمله وفن التعليم؛ حتى يقمن بكفاية النساء في مصر.
المادة الخامسة:
إطلاق الحرية في تعلم غير ذلك من العلوم الراقية لمن تريد.
المادة السادسة:
تعويد البنات من صغرهن الصدق والجد في العمل والصبر وغير ذلك من الفضائل.
المادة السابعة:
اتباع الطريقة الشرعية في الخطبة فلا يتزوج اثنان قبل أن يجتمعا بحضور محرم.
المادة الثامنة:
اتباع عادة نساء الأتراك في الآستانة في الحجاب والخروج.
المادة التاسعة:
المحافظة على مصلحة الوطن والاستغناء عن الغريب من الأشياء والناس بقدر الإمكان.
المادة العاشرة:
على إخواننا الرجال تنفيذ مشروعنا هذا.
خطبة في المقارنة بين المرأة المصرية والمرأة الغربية
وعاداتهما واستخلاص زبدة المقارنة لنعمل بها
بسم الله الرحمن الرحيم
أيتها السيدات
إذا كان لفئة ما أن تجتمع وتبحث في شؤونها فلا أحق بذلك منا نساء مصر وفتياتها، فإننا على درجة من التأخر تؤلم نفس المتفكر فيها وترجع بالوطن خطوات واسعات عن سبيل التقدم، إن من دلائل تأخرنا أن أكثرنا أخذ يقلد المرأة الغربية بغير نظر إلى موافقة عاداتها للشرع الإسلامي والآداب الشرقية، وبعضنا الآخر ظل على تقاليده القديمة سواء كانت صحيحة أو فاسدة، فما هذا الجمود بمستحسن ولا ذاك الاندفاع بممدوح، وإني شارحة الآن عادات المرأتين في كل أدوار حياتهما، مقارنة إحداهما بالأخرى، مستخلصة من زبدة ذلك ما عسى أن ينفعنا في مستقبل حياتنا.
الدور الأول: المولودة
إن رجالنا الآن عند تبشير إحدانا بالأنثى شديد المشابهة جدا لحال الجاهلية الأولى، ولم أرنا خالفناهم في شيء مما كانوا يفعلون في ذلك إلا الوأد، قال الله تعالى:
وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون .
إن الانقباض الذي نظهره عند مستهل الأنثى يحدث في الطفلة إذعانا إلى الذلة ورؤما إلى الضعة، فتشب الفتاة آلفة الفرق العظيم بينها وبين أخيها، فتعتقد في نفسها أنها أحط شأنا وأدنى مرتبة، فلا تطلب من المعالي ما يطلبه أخوها، ولا تنبسط نفسها إلى ما يرفع من شأنها وشأن جنسها، وتضع نفسها حيث يضعها الظالمون من أهلها، وليت شعري! لم نكره ولادة الأنثى وهي نصف الإنسان وأمه وزوجته وابنته؟! ألا يصح أن تكون الفتاة نافعة كالفتى؟! ألا يرجع الفضل في تدبير عيش الرجل لها؟! ألم تكن في كثير من الأحيان سبب سعادته وموضع أمله؟! وكيف نهمل تعاليم ديننا الحنيف في هذه المسألة ويتبعها أكثر الغربيين؟! فإن أممهم - خصوصا الشمالية منها - يتساوى عندها الذكر والأنثى، وقد يملكون عليهم فتاة فيهم من يفضلها علما وتجربة وحذقا، يبرر الظالمون للأنثى جورهم هذا بأن الذكر يحفظ اسم (العائلة) ويرث مالها ولقبها، ولكن كم من والد مات ذكره بموته، وكيف لا والعمل وحده عليه حياة الذكر أو فناؤه؟! هل رفع الله الأنبياء - عليهم السلام - درجات على الناس بأعمالهم أم بأبنائهم، ومنهم من لم يتزوج قط ومنهم من عقه أبناؤه؟! أم كان أبو العلاء المعري أبا ذرية أحيت اسمه وهو الذي يعد الزواج والذرية جناية؟! وهل يغني الولد عن الأبوين شيئا إذا كان لا يخفف حشرجة الموت؟! فالبنت والصبي سيان، قرة عين الوالد في حياته، ولا يدري ماذا يفعلان بعد مماته، وهل إذا ورث الفتى ثروة وبددها يعد حافظا غنى أسرته، أم إذا ولد لأحدهم ذكور ضمن لهم الحياة الخالدة؟!
الدور الثاني: دور الطفولة
في هذا الدور نفضل الصبي عن البنت في أمور شتى، مع أن الغربيين لا يفرقون البتة بينهما، فضلا عن أنهم يوفونهما حقهما من التربية والعناية، ونحن إذا فضلنا الذكر قليلا فلا نزال مقصرين في العناية به، فما بالكن بالأنثى؟! ترضع المرأة الغربية طفلها وتنظفه بنفسها، اللهم إلا فئة العاملات اللاتي يضطرهن الفقر إلى الاشتغال في المصانع والحوانيت وترك أطفالهن في أيدي الأجراء من مربيات الأطفال ومراضعهم، أما نحن فنعد إرضاع أطفالنا عيبا لا يغتفره لنا ادعاء الغنى أو الغنى نفسه! ونفوض أمر نظافتهم للخدم، ونكل ترويضهم وتربيتهم إليهم، وهن من تعلمن من فساد الذوق والجهل القبيح، فيشب أطفالنا أشد حبا لهم أشبه أخلاقا بهم، بينا نجد بيننا وبينهم جفاء وتقاطعا، وكيف تعرف الأم طباع طفلها إذا هي لا تتعرفها بنفسها؟! ولو مرت الأمهات يوما بالمراضع جالسات على حافة الطرق ليراقبن حالتهن الأخلاقية لما تأخرن لحظة عن حماية أطفالهن من جيش المراضع الهازم لمكارم الأخلاق.
أما عنايتنا بصحة أطفالنا فلم تكن بأكثر من عنايتنا بأخلاقهم، فبينا المرأة الغربية تغذو طفلها غذاء خفيفا سريع الهضم، وتحتفظ به من هجمات البرد والحر، تريننا نطعمه أثقل الغذاء ونبادر بإعطائه اللحم وما يتعسر هضمه، فتختل معدة الطفل ويصاب بالإسهال والنزلات المعوية، وقد يفضي به سوء الحالة إلى الموت أخيرا. وكذلك لا نكترث بنظافته لئلا يحسد، ونتركه يلعب به النقيضان: القر والحر، فلا يلبث أن يمرض ولا علاج له عندنا إلا الرقى والتمائم نثقل بها حمائله، وإذا بكى متوجعا نظن بكاءه جوعا فنلقمه الغذاء فوق الغذاء إلى أن يلقى حتفه، هنالك تتهم أمه صاحبتها أو قريبتها بأنها حسدته، وأنفذت فيه سهما من عينيها فتبغضها وتتشاءم من رؤيتها، وإذا ابتدأ الطفل يتكلم ويمشي فأول ما ينطق به عندنا لعنة الآباء والأجداد، ومن الغريب أننا نجعل ذلك منه موضوع ضحك واستحسان؛ فيظن أنه مصيب في قوله فيتمادى في الإكثار منه، وإذا مشى فإننا نحجر عليه أن يمشي إلا وسط الحجر المزدحمة بالأثاث والأواني، فإذا لم يكسر منها شيئا فإنه يتهشم بصدمة أو بوقوع، وإذا تأخر في الخطو قليلا نساعده عليه بالممشاة (المشاية) وهي علة تشويه كبيرة لا نشعر بها؛ ذلك أن عظام الطفل اللينة بإجهادها في المشي قبل قوتها، تلتوي فيشب الطفل أعوج الساقين منحني السلسلة الفقرية أو الصدر، كذلك لا نلتفت لموضع سرير الطفل وتأثير النور في عينيه، فيكثر فينا الحول والعمى، وما أعظم الفرق بين طفلنا الشاحب اللون البذيء اللسان وبين الطفل الغربي الصحيح البدن! فالاعتناء المهذب بالتربية ما أجمله حين يذهب في الصباح والمساء ليقبل والديه وحين يستغفر غيره أيا كان لأقل هفوة أو يشكر له جميلا أسداه إياه، ذلك الطفل الذي إذا حرم تلك القبلة الوالدية لهفوة أتاها فلا تسلن عن حزنه وبكائه إلى أن يتوب، بمثل هذا تعلم المرأة الغربية طفلها أن رضاء الوالدين أعظم نعمة للأولاد وتربي فيه الضمير الحي، والاعتراف بالشكر لمن وجب له، فلا تصغر نفسه بالضرب كما نعود نحن أطفالنا، ما المراد من ضرب الطفل؟ إذا المراد هو نهيه عن إتيان شيء لا نستحسنه لإيذاء جسمه بأنواع التعذيب البدني، فهلا نجد من طرق التأديب النفسية ما يوصل إلى تلك الغاية بغير الشتم والضرب اللذين يصغران همة الطفل ويخفضان من عزته صغيرا ويزيدان تحكمه واستبداده كبيرا؟!
وبقدر ما نعطي الطفل حرية في البذاءة والإتلاف نمنعها إياه في الرياضة المفيدة لنموه، فنمنعه الجري والفسحة ومشاهدة المناظر الطبيعية الجميلة، مع أن الطفل الغربي يعد عضوا مهما في البيت كسائر أعضائه من أب وأم؛ فيذهب به إلى بلاد بعيدة لاستنشاق الهواء واجتلاء المناظر ويفرد له أدوات خاصة لنومه ولعبه وسائر لوازمه ويعامل بالإكرام، ويعود الاستقلال من نعومة أظفاره إلى أن يترعرع، وإذا لحن في كلامه بادرت أمه بتصحيح خطئه والنطق أمامه نطقا صحيحا حتى يحاكيها فيه، أما أطفالنا البائسون فإننا نلثغ لهم لنرضيهم ونكلمهم بلغتهم المشوشة بدل تعليمهم لغتنا العامية لا الفصحى!
نحن نبادر بإرسال أولادنا للمدارس وهم صغار لا يدركون ماهية العلم ولا يألفون حجر حريتهم، فيضايقهم المعلمون بتدريسهم الممل غير الجذاب، ويلزمون أعضاءهم المخلوقة للحركة بالسكون التام، فيتربى في الطفل نفور من المدرسة والدرس، فتجبره أمه على الذهاب إلى المدرسة فيزيده الإجبار نفورا، وقد يكون خطؤنا في إرسال أولادنا صغارا جدا للمدرسة ومضايقة المعلمين لهم بأساليبهم العقيمة ما ينقص من استعداد الطفل لتلقي العلم ويفسد ملكاته، أما الطفل الغربي فهو أسعد حظا؛ إذ تعلمه أمه في البيت طرق الملاحظة والمشاهدة وتلقنه فوائد الأشياء والأسرار القريبة الإدراك لما يحيط به من نبات وحيوان ومطر وغيره، وتعلمه الإحسان والشفقة بما تفعله أمامه من ضروبهما، وكذلك تعلمه القراءة والكتابة الأولية بأسلوب شائق ولا ترسله للمدرسة إلا وفيه ميل إليها واستعداد لما سيلقى عليه بها، وقد جربت ضرر إرسال الأولاد للمدرسة صغارا في نفسي وفي إخوتي وفيمن شاهدته من التلميذات، فإني ظللت حوالي ثلاث سنين لا أفقه معنى للمدرسة، ولا أكاد أفهم الغرض من إرسالي إليها، وكذلك شاهدت أن النابغات من التلميذات هن اللاتي أرسلن للمدرسة في سن الثامنة أو العاشرة، أما المرسلات صغيرات فأكثرهن لم يستفدن شيئا غير ضعف البنية وخسارة ما أنفق عليهن، إذا لم يكن بد من إرسال الأطفال للمدرسة صغارا فيجب أن تجعل لهم فرقة مخصوصة كفرقة بستان الأطفال (الكندر جارتن) التي تجعل فيها الدروس مزيجا من التعلم والرياضة، ويراعى فيها مدارك الطفل، وتمرن حواسه وأعضاؤه بغير إجبار يخافه أو تكرار يمله، ولو كانت الأمهات معتنيات بأطفالهن تمام العناية فإن تلك الفرقة كان يجب أن تكون في كل بيت أنعم الله عليه بنعمة الأولاد.
للتربية عندنا إحدى طريقتين: إما القسوة أو التدليل وكلاهما مضر؛ فالقسوة ترهق الطفل وتعلمه الذل، والتدليل يطرح به في مهواة الغرور، فمن دلائل القسوة تخويفنا الأطفال وتصوير صور مخيفة لهم من الظلمة وملء أذهانهم بترهات لا أصل لها (كالبعبع والمزيرة ... إلخ) وضربهم عند مخالفتهم لنا، ومن تدليلنا إياهم أن نعلمهم الأنانية ونعطيهم ما يشتهون عند بكائهم بعد منعهم إياه قبل البكاء، فيتعلمون من ذلك أن الصياح ميسر العسير ومقرب البعيد فلا يتأخرون عن البكاء عند أي شيء نمنعه عنهم، وقد رأيت كثيرا أن طفلا ينصح لأخيه أو أخته الأصغر منه سنا بأن يبكي حتى يأخذ كيت وكيت مما كان منع عنه، أما الإفرنج فطريقتهم في تربية الأطفال خير من طريقتنا أضعافا؛ فيعاقبون الطفل الذي يبكي لطلب شيء بالحرمان منه فيعلم أن البكاء لا يجدي ويطلبه بالطرق المشروعة، وإن منع منه فلا يعود يتشبث به، ويستحضرون في المنزل ما تمس إليه حاجة الأولاد من الحلوى واللعب خوفا عليهم من قذارة ما في الأسواق واقتصادا للمال والزمن.
الدور الثالث: دور المراهقة
هذا هو الدور الذي تتجلى فيه صفات الفتاة حسنة كانت أو سيئة، وإن كانت الأخيرة فمن الصعب تغييرها، في هذا الدور يهتم الأهلون بإرسال أولادهم الذكور للمدرسة وإن كانوا يدخلونهم قبل ذلك الكتاتيب، ولا يهتمون كثيرا بتثقيف عقل الفتاة، على أنهم قد أخذوا يقلدون الغربيين أخيرا في تعليم الفتاة، ولكن لم يكن التقليد نافعا لنا ولا محكما في ذاته، فالفتاة الغربية تتعلم العلوم إلى أن تحصل منها على درجة عالية أو درجة محمودة، أما فتاتنا المصرية فلا تكاد تقرأ وتتعلم قشورا بسيطة من العلم حتى تستغني بها عن الاستمرار في الاستفادة، فهي لا تقلد الغربية في التعلم النافع وإنما تقلدها باستماتة في تعلم البيانو والرقص، ولا أدري لماذا أخذت البيوت الشرقية تبطل العود والقانون وتتعلم (البيانو) مع أن الأولين - فضلا عن كونهما شرقيين - ألطف صوتا وأشجى نغمة وأقل جلبة وأرخص ثمنا وأخف حملا، إن (البيانو) لازم جدا في الغرب لتحية الجموع في المراقص والكنائس؛ لأنه بنغماته العالية يسمع إلى مكان بعيد، أما في بيوت المسلمين حيث لا مراقص ولا كنائس، فلا أجده من الضرورة بالدرجة التي يتهافت عليها فتياتنا. نعم؛ إن تعلم الموسيقى من الكماليات الممدوحة، ويقولون إنها مهذبة للطبع مرققة للشعور، ولكن ألم يكن الأولى تعلمها على الآلات الشرقية التي لا ضوضاء لها؛ إذ هي بذلك أدعى للحشمة فلا يتعدى صوتها البيت الذي هي به؟!
لو سلمنا بضرورة تقليد الغربية في تعليم (البيانو) لوجب محاكاتها أيضا في تعلمه من حيث هو فن وإتقانه، لا أن تقتصر الفتاة على نقر لا تناسب بين نغماته حتى إن سليم الذوق مع عدم تلقيه دروسا في (البيانو) يمكنه نقد ذلك الضرب الذي لا قانون له على صماخ الأذن لا على (البيانو) فإن أذنه تنبو عنه لسماجته!
ماذا تقرأ الفتيات في سن المراهقة؟! لا يقرأن إلا الروايات الغرامية وهن في ذلك الوقت موضع لسورة الانفعالات النفسية؛ فيتأثرن بحوادث العشق والهرب وتنطبع في ذاكرتهن أشعار وجمل غرامية مما يقرأن، وتمر أمامهن صور تلك الحوادث كالصور المتحركة، فلا تعدم أن تلقى أثرا في عقولهن اللينة، إلا أن الآباء ملومون في هذه الحالة لعدم اختيارهم كتبا نافعة تقرأها فتياتهم، لماذا لا يختارون لهن مثل كتاب التربية الاستقلالية وفيه أمور نافعة جدا في تربية الأطفال ومعاملة الأزواج؟! أو مثل كتاب كليلة ودمنة؟! أو كتب تراجم المشهورين من رجال ونساء؟! فإن في قراءة سير المشاهير ما يبعث القارئ على أن يقتدي بهم، أو مثل كتب آداب اللغة وغيرها مما يلذ ويفيد في آن واحد، هذا إذا وجدت الفتاة من كتب الفلسفة والعلم ما يستعصي عليها فهمه أو تتضجر من الاستمرار على قراءته لجده الخالص وجفافه، ماذا تفعل الفتاة في سن الرابعة عشرة أو السادسة عشرة وهي ممتلئة الذهن بحوادث «روميو وجوليت» وألفاظ «فاتنتي وحبيبتي» إلخ؟! إنها تتمنى أن تسمع مثلها وتكون مرموقة بنفس تلك العين؛ لأن سنها - كما بينت - أخصب مراعي إبليس، هذا من جهة القراءة. أما الحرية، فإن الفتاة المصرية الأولى كانت محجورا عليها لدرجة الحبس، والفتاة الغربية لها مطلق الحرية أن تغدو وتروح وحدها وتسافر من بلد لآخر قاص بغير رقابة أهلها، وهذا من الخرق في الرأي، وأخاف أن تغرنا زخارفه فنعمل به؛ لأن كثيرات من فتياتنا المتعلمات يحسبن أن الدرجة التي وصلن إليها تكفي لإعطائهن مطلق الحرية يغدون ويرحن وحيدات، وإن حوادث الفتيات المحزنة كثيرة جدا في أوروبا؛ لأن الفتيات الطائشات يصدقن لصفاء نيتهن كل مدع لهن بالغرام، وتساعدهن حريتهن المطلقة على مسايرة الفتيان، ثم لا يلبث الرجال أن ينفضوا من حولهن، ويتركوهن بين اليأس والعار وهما أمران أحلاهما مر.
من رأيي أن تمنع الفتاة في سن المراهقة هذه من الاختلاط بالشبان، وحاشا أن أمس بكلامي هذا شرف الفتيات، وإنما أحب أن أنبه إلى شيء طبيعي والعاقل من اتعظ بغيره، ويكفي تجنبا لمثل هذا الاختلاط المعيب أن أهله أنفسهم هم أول العائبين له، والفتاة في هذه السن ككل إنسان تطلب الحرية ويجب أن تتروض وتخرج، وهذان لا أمنعهما عنها، وإنما أنصح للأمهات أن يرافقنهن وللآباء أن يراقبوهن مراقبة لا تتمكن بها من الوجود مع غير ذي رحم محرم.
ثم إذا ثبتت للوالدين مقدرتها على حسن السير وطهارة الذيل وقوة الإرادة فلا بأس من إباحة الحرية لها في زيارة صاحباتها، وأرى أن الحرية المطلقة والحجر المطلق كلاهما مضر؛ فكما أن الأولى تسهل سبل الفساد لمن تريدها، كذلك الثاني يخلق في الفتاة ميلا لأن ترى كل شيء ويعلمها طرق الغش والكذب؛ فيكون قد جنى أهلها جنايتين.
إن صلاح الفتاة مترتب دائما على تربيتها الأولى، فإن فسدت فقد يكون قليل من الحرية أفضل من الحجر المطلق؛ لأنه لا ينفع ولا تعدم الفتاة منفذا لأغراضها فتتعلم بذلك السرقة والخداع وقد تكون بعيدة عنهما من قبل.
أفضل طريقة لتربية البنات هي أن يرين قبل البلوغ كل شيء تصح مشاهدته، بمعنى أن البنت في نحو العاشرة يجب أن يريها والدها الصور المتحركة والتمثيل والألعاب المختلفة والحوانيت الكبيرة والمتنزهات والآثار، ويركبها السيارة ويريها الحفلات وغير ذلك، حتى تلم على قدر الإمكان بكل شيء حسن أو عجيب، فتستنير من جهة ولا تظل بلهاء ككثير من فتياتنا من جهة أخرى، وحتى تكون امتلأت نفسها من الصغر فلا تجد فيها فراغا فيما بعد لطلب المزيد من المشاهدات، فإذا عرضت لها الفسحة في حياتها المستقبلة فلا بأس بها وإن لم تعرض فلا تأسف كثيرا عليها.
المدارس:
تعجبني جدا طريقة مدارس (الفرير) في نقل الفتيات صباحا ومساء في عرباتها الخصوصية حتى لا يختلط بهن السابلة، وحتى يأمن عليهن أهلهن من مراقبة الخدام، الذين هم في أكثر الأحوال وسائل الفساد ووسطاء الغواية والضلال، وكذلك يوفرن وقت من سيعطل نفسه فيصحبهن إلى المدرسة ذهابا وإيابا، فحبذا لو اشترت نظارة المعارف أو استأجرت مثل تلك العربات لنقل التلميذات إلى مدارسها في الغدو والرواح، ويكون لكل قسم من أقسام البلد واحدة أو اثنتان طبقا لحاجة التلميذات كثرة وقلة ، فإن التعليم في مدارسها أرقى بكثير من التعليم في المدارس الأخرى، خصوصا في اللغة العربية التي هي لغتنا ويجب أن نتعلمها جيدا، وكذلك تراعى فيها آداب البلد وعوائده ودينه أفضل مما تراعى في تلك المدارس الأجنبية التي لم تفتح إلا لنشر مذهب من المذاهب الدينية أو لكسب أصحابها فقط.
بعض المستهجنين تعليم الفتيات يرون أن تظل الفتاة جاهلة خير لها من أن تتعلم؛ لأن التعليم يوسع عليها حيل الاختلاط الذي لا تبرره العادة ولا يسمح به أولياؤها، وهي نظرية فاسدة؛ لأن التربية الحقيقية تحول دون ذلك، فالفتاة الكاملة تجد من عفتها وقدوة أهلها وآداب نفسها ما يخيفها من سوء الأحدوثة، وتعلم أن سمعة الفتاة كالزجاج الصافي يتلوث من أقل الأشياء وإذا انكسر فلا يجبر، أما الفاسدة فتميل للمروق متى وجدت مسربا سواء كانت عالمة أو جاهلة، وغاية الأمر أن الجاهلة أسرع شططا وأدنى إلى أن تشهر بنفسها، وقلما تعرف نتيجة تصرفها السيئ إلا بعد وقوعها في سوء مغبته.
الملابس والأزياء:
الملابس الشرقية أخف مؤنة وأيسر كلفة وأشد ملاءمة لجونا الحار وصيفنا المحرق من الملابس الإفرنجية، فهي جلباب يلبس مرة واحدة فوق الملابس الدنيا وعند الخروج تلبس فوقه الملاءة، أما الملابس الإفرنجية فإنها متعددة القطع مضاعفة التركيب عسرة اللبس والنزع؛ فمن مشد يخنق الخاصرة ويعتصر الكبد والطحال ويضغط على الأحشاء ويمنع الجلد من التنفس الطبيعي اللازم له، ومن بنيقة (ياقة) منشاء كالورق المقوى، لا تستطيع المرأة فيها لفت رقبتها ولا الانثناء لقضاء أي عمل، فتظل مشرئبة العنق مشدودة لا عن وثاق، ومن صدار
chemisette
لاصق بالإبطين ضاغط على الكتفين أو مقور الفتحة
décolts
معرض القفا والنحر، بل الصدر والظهر إلى الحر والقر واختلاف درجات الجو وجلب النزلات الصدرية ومن مرطة
juops
ضيق الأعلى غير محكم الإزرار واسع الأسفل طويل الذيل، كأن لابسته من ذوات الأذناب، تثير في مشيتها الجراثيم وتضايق الرئتين والخياشيم، ومن قبعة مترامية الأطراف مدججة بالدبابيس مثقلة بالطيور وريشها والغصون وأزهارها وثمارها مدبجة بالأربطة الحريرية، ومن أناشيط (ينابيع) في أجزاء (الفستان) يضيع في ربطها وحلها الزمن سدى، فضلا عن تعدد الملابس لتعدد الأغراض؛ فحلة للصباح وأخرى للمساء وثالثة للخروج وأخرى للرقص وغيرها للاستقبال وهلم جرا، إن الزمن الذي يضيع كل يوم في اللبس والخلع لو صرف في عمل نافع لأتى بالفائدة وأراح من العناء، على أن لنساء الإفرنج حسنة واحدة في ملابسهن مفقودة عندنا، وهي البساطة عند الخروج للنزهة أو لقضاء شغل، فتلبس المرأة ثوبا قصيرا كي لا يعوقها عن المشي، أما نحن فنرتدي أحسن طرفنا في الخارج ونطيل في الذيول نجرها، على أن الأوروبيات أحق منا بالافتتان في الأزياء وشدة التأنق فيها لأنهن بارزات، أما نحن فأكثر ما يرانا جدران المنازل وإن خرجنا فتحت الإزار أو في العربات. وإذن، فلا لزوم لاتباع (المودة) بشغف زائد؛ لأنها تفقر وتضايق، وإن كان للغنيات حق التمتع بصرف مالهن، ولو فيما لا يجدي الإنسانية كالأزياء، فليس للمتوسطات حق إفقار بعولتهن أو آبائهن جريا وراء المودة المتقلبة.
تخرج بعض نسائنا عن حدود الأدب والشرع متفانيات في اتباع (المودة)، ولكن هناك فرقا كبيرا بين (المودة) والخلاعة، فإن لبست المرأة آخر الأزياء في بيتها فما عليها في ذلك من حرج، ولكن إذا أظهرت زينتها للمارة وظلت تتلكأ وتتسكع وتداعب وتضحك فتلك هي الخلاعة الشائنة، ولم تجئ في مجلات الأزياء (كالبرنتان واللوفر) وغيرهما، ففي أي كتاب قرأتها؟!
لاحظت شيئا غريبا في الفتيات؛ وهو أن الفتاة التي تتبرج وتتأنق مغالية في إظهار محاسنها وغناها تريد بذلك أن يعجب بها الخاطبون والخاطبات، هي التي تتأخر دائما في الزواج، وإن تزوجت فبرجل أقل مما كان ينتظر لمثلها، وهو عقاب طبيعي للمتبرجات؛ لأن الرجل مهما أعجبه شكل الخليعة وكلامها فهو لا يود أن يقتنيها لنفسه اعتقادا أن ما أعجبه منها ظاهر لغيره أيضا، ولو فطنت الفتيات إلى أن أول شرط يشترطه الرجل في امرأته خاصة هو الحشمة والترفع عن التبرج لما تأخرن لحظة عن الإقلاع عما زعمنه يقربهن في أعين الراغبين في الزواج، وهو في الحقيقة يبعدهن وينفر الرجال منهن، لست بذلك أدعو النساء إلى التقشف أو البعد عن الزينة، فليس لي أن أحرم ما حلل الله؛ ولأن في الزينة للمرأة بعض السعادة ولزوجها كذلك، ولكن غرضي الاعتدال في الزينة إلى عدم الخروج عن المعروف.
الدور الرابع: الخطبة والزواج
تتعجل الفتيات كثيرا في انتظار هذا الدور ولو علمن مصاعبه ومتاعبه لما تعجلنه، وأظن ما يشوقهن إليه هو الزخارف والحلي الجديدة وما يقام للعروس من معالم الزينة وما يتقاطر عليها من التهانئ والهدايا، ولكنهن لا يدرين التبعة العظيمة التي تتحملها المرأة بزواجها، وما قد يصيبها من الآلام النفسية في عيشتها الجديدة، وشتان بين الفتاة تنام ملء عينيها ولا تسأل إلا عن نفسها ويسعى أبوها وأهلها في إرضائها وجلب ما تشتهيه من ملابس وغيرها، وبين الزوجة تنتظر بعلها إلى ما بعد نصف الليل وتبكر قبل بزوغ الشمس لتجهيز طعامه وتنظيم ملابسه، وتظل يومها تشتغل في بيتها أو تلاحظ الخدم وعليها أن ترضيه وترضيهم وتخطب ود أهله وتقوم بتربية أولاده، وهي بين كثرة العمل وتنوع التبعة تحاسب حسابا عسيرا على أقل هفوة، وربما وجدت منه سكيرا فظا أحمق، وأدهى من ذلك أن يتحفها بضرة شرعية أو غير شرعية تأتي على ما بقي من رونق جمالها وسعادتها.
لا وسيلة للزواج عندنا إلا الخطبة، ولكن بأعين الأهل والجيران والخاطبات اللاتي قد تحسن في أعينهن من لا تحسن في عين الخاطب لاختلاف الأذواق والمشارب، فيتزوج الرجل على مجرد أوصاف رويت له، فيصور منها شكلا في مخيلته قد لا يطابق العروس الحقيقية أصلا لسوء تعبير الخاطبات وتحريفهن المقصود لغايات، وكذلك الفتاة لا تكاد تعلم عن خطيبها إلا اسمه وماله المبالغ في تقديره لترغيبها هي وأهلها، فإذا حان وقت المقابلة يكاد العروسان يصابان بالبكم والغشيان لفرط دهشة أحدهما من الآخر، وبعد المعاشرة قليلا قد يتفقان وقد لا يتفقان، وهل هذه المخاطرة في الحقيقة إلا نتيجة اعتقادنا المقلوب في القضاء والقدر؟! نعم؛ إن القضاء والقدر لا تجدي مغالبتهما، ولكن لا يصح اتخاذهما وسيلة للإهمال في جلب المنفعة أو درء الضرر، فإن هذه المسألة مسألة اختيار محض، للعقل أن يحكم فيها وحده، فإذا أحسن الاختيار حسنت عاقبته وإن قصر أو أهمل ساءت العقبى، على أن إسفار النساء عن وجوههن لم تجمع الأئمة على تحريمه فضلا عن أنهم كلهم يجوزونه عند الخطبة تحاشيا من وقوع الاختلاف ودعوى الغش فيما بعد.
أما الإفرنج فخشية أن يصابوا بما أصيب به أغلب أهل الشرق من الخطبة العمياء وما يترتب عليها من الشقاء المستمر أجمعوا على وجوب أن يتراءى العروسان قبل الخطبة مرارا ويتقابلا تكرارا، ولكنهم أفرطوا في الأمر كما فرطنا نحن فيه و«كلا طرفي كل الأمور ذميم.» لم يكتفوا بأن يرى الخطيب خطيبته عدة مرات، بل شرطوا أن يكون الزواج بعد الرضى أو الميل المتبادل بينهما؛ ولأجل أن يملكوا قلب الخاطب قبل أن يعرف من هو! يحرضون بناتهم على غشيان المتنزهات والمراقص ومجتمعات الفتيان لعل الواحدة منهن تخلب فتى من الذين هناك بالاتفاق، وقد تذهب المقابلة بعد المقابلة سدى فتتعرض لغيره ويتعرض لغيرها إلى أن تجد بعد طول مدة التخير فتى يكاشفها بعزم الاقتران، فتظن أنها وجدت ضالتها المنشودة، فتعلن أهلها ويتردد الخطيب عليها في البيت وغير البيت وربما تمضي على ذلك الشهور والسنون، ثم يغض الفتى عن الفتاة بدعوى أن الاختبار لم يؤد إلى المرام وأن القلوب لم تأتلف، وإذا كان أصل الفكرة وجوب الاختبار الطويل فيما يتعلق بالأخلاق والتأكد من الحالة الصحية كان العدول بعد الاختبار أمرا غير مستقبح، وإنما يكون الاستقباح بعد الإعلان القطعي وهو لبس الخاتم عندهم، ولا شك أن التساهل إلى هذا الحد فيه ما فيه من العيوب القبيحة مما لا يخفى على الناقد البصير.
والحق أن هذه المسألة من المعضلات الاجتماعية، فلا الاسترسال في الاختبار بمأمون العواقب ولا الاحتجاب المطلق عن الخاطب بمفيد، بل ربما كان مؤخرا للفتاة عن الزواج في الأوان المناسب، وربما كان في الحي الواحد فتيان وفتيات كل منهم يبغي الزواج ولا يعلم الفتيان بوجود الفتيات لاحتجابهن الاحتجاب الشديد ولعدم التعارف بين البيوت، ولا خلاص من هذه العقيدة إلا باتباع سنة السلف من العرب في صدر الإسلام من مباشرة الفتاة خدمة الضيوف، ومقابلة زائري أهلها لاستطلاع قصدهم، والخروج في القرى إن كانت بها للمساعدة في بعض الأعمال، ويجب على الفتيان في مثل هذه الحال أن لا يظهروا غرضهم أمام الفتيات، أو يتعرضوا لهن بالخطبة، فإن ذلك مغاير للذوق والأدب ومؤد لخجل الفتيات وانزوائهن وراء الحجب، وينبغي أن تعود الفتيات هذا الأمر من صغرهن حتى لا يستغربنه عند الكبر ويحسسن بشذوذه، وهذه الطريقة متبعة في القرى والبوادي المصرية، فحبذا لو اقتدى بهم غيرهم متى أمنت الفتنة وسلمت الأعراض وصلحت مقاصد الرجال في رؤية النساء، أما في العصور والأماكن التي خبثت فيها مقاصد الرجال وانحطت أغراضهم وشاهت آدابهم، فإن الحجاب للمرأة ليس إلا حصنا يصونها من عدوان الخبثاء المفسدين.
وفي الحالة التي لا بأس من الخروج فيها يشترط أن يكون خروج الفتاة مع أبيها أو أخيها أو أحد محارمها، وعلى كل حال فالشيء الذي لا بد من منعه هو انفراد الفتى بالفتاة المحادثة في غير ضرورة؛ لما في ذلك من مخالفة للشرع وإثارة التهم.
هذا ما يقال في الخطبة، أما الزواج فطريقتنا فيه مختلة أيضا، فالمرأة الغربية في بعض البلاد تدفع الصداق (الدوت)، وقد يكون من جراء ذلك بعض الظروف أن تصير الزوجة سيدة الرجل الآمرة الناهية، والمرأة الشرقية كانت لا تدفع شيئا ولكن يدفع الرجل الصداق فيأخذه أهلها لأنفسهم ولا يشترون لها منه شيئا، وبذلك يعتبر الرجل سيدها لا حق لها في معارضته، وهاتان الطريقتان بغير نظر إلى صلاحيتهما أو تفضيل إحداهما على الأخرى واضحتان في أن دافع الصداق هو المنفرد بالسيادة في البيت، أما طريقتنا الآن فهي معتلة؛ ولذلك فالسيادة متنازع عليها بين الزوجين المصريين، يدفع الرجل الصداق فتأتي المرأة بما يساوي ضعفه أو ضعفيه أو أكثر، تعنت بذلك أباها أو أخاها، وإذا كانت موسرة وتزوجها الرجل لمالها كان التنازع بينهما على الرياسة أمرا مقضيا لا محيص عنه، فهي بما لها من الثراء ترى نفسها سيدة المنزل ، وهو - بما منحه الله من الدرجة في الفضل وبما أنفقه من ماله عليها - يرى نفسه سيد المنزل، وهنالك يقع التنازع.
ما لنا ولهذا التكليف الثقيل والبيت باسم الرجل لا باسم زوجه؟! فإن أعجبه أن يفرش في بيت حصيرا فليكن، وإن راقه أن يموه سقوفه وجدرانه بماء الذهب فليفعل، وإن أحب أن يجعله جنات عدن تجري من تحتها الأنهار فحبذا رأيه، وليس للزوج وأهله أن ينتظروا شيئا من العروس فهي وشأنها في مالها، إن حوادث الطلاق فيها عظات كثيرة لو انتبهنا لها، فكثير ما يتنازع الزوجان على الأثاث كل يدعي أنه له، وإذا كان في الرجل مروءة وتركه لمطلقته فإنها تزحم به بيت أهلها ويظل مكدسا يرتع فيه العث والجرذان فتجد مرعى خصيبا، فإذا تزوجت المرأة ثانية وجدت أكثره تالفا أو طال عليه القدم مع ما يستلزمه نقل الأثاث وترتيبه كل مرة من النفقات والتعب.
وإذا لمت الغنية مرة على هذا التبذير فإني ألوم الفقيرة المدعية مرارا، فكم من بيوت خربت وأرض بيعت أو رهنت لا لسبب سوى تجهيز عروس لا يلبث فرشها البهي أن يحول لونه أو يتمزق بعد سنين قلائل، فتكلف زوجها بتجديده أو يبقى خرقا، سمعت عن أب له ثلاث بنات جهزهن واحدة بعد أخرى جهازا كان موضوع الحديث عند معارفهم، وكان له مائة فدان من أجود الأطيان يعيش بريعها عيش الرخاء فباع ثلاثين لتجهيز الفتاة الأولى، ورهن ثلاثين للثانية، والباقي للأخيرة، ولما حان ميعاد السداد لم يف وإذا بالدائنين أتوا على ما ورثه - وهو كل ما يمتلك - وحجزوا على بيته أيضا، فبالله ألا يعد هذا الرجل قصير النظر أخرق؟! وهل أغناه أثاث بناته وقد أصبح معدما ذليلا؟! إنه لمن الجنون، بل ومن القساوة أن تجتهد الفتاة في تخريب بيت والديها لتزين بيت زوجها، ولماذا تقلد كل سيدة من هي أغنى منها؟! وهل يعد التوسط في الغنى أو الفقر عيبا؟
إن المرأة الأوروبية لا ترمي مالها كما نفعل في أوان لا تستعملها وفي خرق تبلى بعد زمن قصير ، بل تستثمر ذلك المال فتنميه وتحفظه للعوز أو تدخره لأولادها من بعدها، أو تنفق منه على الجمعيات الخيرية والمدارس؛ فيجيء البائسين وتحيا بحسناتها، فهي أبرع منا بمراحل في طرق الاقتصاد.
الاقتصاد المالي والمنزلي:
لا تكتفي المرأة الغربية بتنمية مالها، بل تضع (موازنة ميزانية) مضبوطة لإيراد بيتها ومصروفه فلا تخرج عن حد الاعتدال في النفقات ولا تنفق درهما في غير موضعه، وتفحص مشتراها بنفسها كي تتأكد من جودتها واستحقاقها لما تباع به، وتعنى برفو الثياب وتصليحها وتعمل من كل قديم جديدا، وقد تغير شكل الثوب الواحد وزينته مرارا فيبين جديدا. نعم؛ إن فينا تلقاء ذلك كرما ولكن أن لا يكون الكرم إهمالا، فقد تقع بقعة صغيرة على جلباب من الحرير الغالي، فإذا أهملناه لم يصلح للبس، وإذا أعطيناه خادمة أو امرأة فقيرة فقد ينفعها ثوب من النسيج (القماش) البسيط (الشيت) أكثر من ذلك الثوب الجميل، وفي هذه الحالة يكون كرمنا غير مجد، فلو اجتهدنا في إزالة تلك البقعة أو مداراتها بشيء من الزينة (الكلفة) وجدنا على تلك الفقيرة بثوب بسيط لكان أنفع لنا ولها.
إن تربية الغربية مؤسسة على العناية والملاحظة، أما نحن فقلما نتنبه إليهما، تقتصد المرأة الغربية من مالها بما تظهره من براعتها وعملها؛ فهي تخيط لنفسها ولزوجها ولأولادها وتكوي ثيابهم، أما نحن فالبيوت المتوسطة كلها تكوي في السوق وتخيط كل شيء حتى التافه عند الخياطات، بعشرين قرشا يمكن للمرأة الغربية أن تحضر طعاما لبيتها وتجعله لذيذا شهيا بكثرة الجوارش (السلطة) والحلوى، أما العشرون قرشا عندنا فتهيئ بها المرأة طعاما ولكن غير كاف ولا شهي.
إن الإفرنج رجالا ونساء يعرفون كيف يجتذبون الأنظار، ويجعلون الشيء المتوسط في الحسن جميلا، قد رأيتن من بضاعتهم ما هو أقل متانة من بضاعتنا الشرقية، ولكنهم يضعونها في حوانيت واسعة منارة بالكهرباء ويرصونها داخل ألواح من الزجاج فتجتذب المارة، ثم هم يختارون لتجارتهم محلا من المدينة يكثر عليه الغادون والرائحون، أما تجارنا فهم بمعزل عن ذلك التفنن؛ إذ قد تكون حوانيتهم في نقطة غير مطروقة كثيرا أو يهملون في عرض بضاعتهم وإعلانهم عنها فتبور، ومثل تجارنا في حوانيتهم كمثلنا في بيوتنا ففينا من الذكاء والمقدرة ما يمكننا من جعل بيوتنا جنة، ولكن قلة العناية هي التي تخل نظامها وتعطل ترتيبها.
العمل:
أما العمل البيتي أو الخارجي فإننا يجب أن نعترف للمرأة الغربية بسبقها إيانا فيهما، وإن كانت غنياتنا وأغلب غنياتهم لا يكترثن إلا بالملاهي والأزياء، ولكن المتوسطات هناك لا يأنفن مزاولة الطبخ والكي وترتيب أثاث البيت كما تأنفه متوسطاتنا، وفقيراتهن يعملن ما يقوم بحاجاتهن وحاجات من يعلنهم (عائلاتهن)، أما فقيراتنا فإما أن يسألن وإما أن يشتغلن بعمل قليل الكسب، والشواهد كثيرة على ذلك وأقربها - وهو ما نعرفه كلنا - أن الخياطات المصريات لا نكاد نجد بينهن واحدة يمكنها تفصيل الثياب وخياطتها جيدا، وهن لعدم إتقانهن العمل يكتفين بأجرة قليلة مع ما يتكبدنه من التعب وإنفاق العافية، فتأخذ الواحدة خمسة قروش أو عشرة أجرة الثوب في حين أن الإفرنجية تطلب جنيهين على الأقل مقابل تعبها فقط، وكذلك الطبيبات منا يكتفين بدروس قليلة في التمريض ولا ينظرن لمثيلاتهن الأجنبيات اللاتي برعن في الطب ونلن نفس شهادات الرجال، كذلك المربيات والخدم المصريون لا يفقهون معنى التربية، وأغلب الخادمات لا يصلحن لمزاولة مهنتهن فنضطر أن نجلب هؤلاء من الإفرنج.
يقولون: الحاجة أم العمل، فما بالنا نكسل ونقصر ونحن في شديد الحاجة لأمثال هؤلاء الخياطات والطبيبات والمتعلمات وغيرهن؟! إن من فروض الكفاية أن يكون كل هؤلاء مصريات في مصر حتى يمتنع بعض مالها من التسرب إلى جيوب الأجانب وهن ساكنات ينظرن، لقد أصبحت كلمة «مصرية» في أفواه الأجانب عنوانا على الكسل وعدم المقدرة، فهلا يبعث فينا ذلك التعبير روح النشاط وحب العمل؟! هلا حاكيناهن فيما تفوقن فيه علينا من العلم والعمل؟! أم هل تكفي محاكاتنا لهن في الزي والتصنع لأن نصبح مثلهن؟! إنهن أسسن الجمعيات وأدرن المستشفيات والملاجئ وقمن يشتغلن بكل فن، حتى إنهن يطلبن مشاركة الرجال في الانتخاب لحكم بلادهن، وما ذلك إلا نتيجة العلم والتربية على حب العمل .
من حب العمل عندهن الرياضة في ساعة الفراغ، فترين أنهن يشتغلن حتى وهن يطلبن الراحة، أما نحن فنكسل ونطلب الراحة في ساعات العمل، ألم تسمعن بجمعية (الصليب الأحمر) وكيف تخاطر النساء فيها بحياتهن لمداواة الجرحى والتقاطهم ونار الحرب تستعر وأمطار القنابل تتساقط؟! وهل ينفي الهم ويضمد الجراح كالمرأة الآسية؟! إن النساء المنخرطات في سلك تلك الجمعية يعرضن أنفسهن للهلاك وتكبد مشاق السفر وتحمل البرد القارس بين سهول؛ مثل: منشوريا وحزونها، والحر اللافح في الأقاليم الاستوائية التي يذيب حرها رأس الضب، وقد كانت نساء العرب يفعلن نفس هذا الفعل الشريف في الحرب ويزدن عليه تشجيع المجاهدين وتغذية الجياد، قال عمرو بن كلثوم من معلقته:
يقتن جيادنا ويقلن: لستم
بعولتنا إذا لم تمنعونا
وقد كانت مخاطرتهن هذه تثير الشجاعة في الرجال وتحملهم على الإقدام بدليل قوله:
إذا لم نحمهن فلا بقينا
بخير بعدهن ولا حيينا
وقوله في موضع آخر من القصيدة:
وما منع الظعائن مثل ضرب
ترى منه السواعد كالقلينا
الأخلاق:
لا أدري أنفضل المرأة الغربية في معرض الأخلاق أم تفضلنا؟ فهي أشجع منا في اقتحام الخطوب وإن كانت لا تقل عنا جزعا عند المصائب، ونحن لا ينقصنا ذكاء كذكائها وإنما ينقصنا عزم وثبات كعزمها وثباتها، هي تعمل لتعيش ونحن نتكل إما على آبائنا أو أزواجنا فلا نعمل شيئا، وهذا الاتكال معيب في نفسه، فضلا عما تخلقه تقلبات الأيام، فلو تعلمت كل فتاة شريفة مستقلة لما رأينا البائسات تموج بهن الطرقات والمهيضات بعد سابغ عز وسابق نعمة ينتظرن إحسان الأخ أو أحد الأقارب، وقد تكون المرأة سيئة الخلق فنمل عشرتها، أو يكون لها من الأولاد ما تنوء تربيتهم بذلك الأخ أو القريب، والمرأة الغربية تعتني بكل شيء حتى التافه، ونحن بما ركب في طبعنا من المسالمة نميل إلى الإهمال والكسل، وأرانا أسلم منا قلبا وأقل خداعا لعدم الاختلاط بالرجال أيضا، فإنها لتجوالها في الخارج تتعلم كيف ترضي هذا وذاك لتظهر فاتنة جذابة وتعيش خداعة محتالة؛ إذ الحاجة تعلمها الاحتيال على العيش، فهي تطلبه بكل الوسائل الممكنة، وهي ولا شك أنشط منا وأثبت على العمل إلا أننا أكثر قناعة وأشد رضا بالقليل.
بقية العادات:
للخرافات سلطان كبير على المرأة الغربية، وإن كان بعضنا يظن أنها معصومة من الخطأ، فنحن وهي سيان في التفاؤل والتشاؤم وتصديق العرافات والمنجمين والمشعوذين والاعتقاد بطلوع العفاريت في الظلمة، وعندنا الزار وهو أبو الخرافات ومفسد البيوت، وهي لا تعتقد به وإن كانت تصاب بأعراضه العصبية، فلماذا اختارتنا العفاريت (يا ترى) مسكنا لها دون أختنا الغربية؟! وإذا فرضنا المستحيل وصدقنا القائلين بتقمص الأرواح؛ فلماذا لا تلجأ إلينا روح أرسطو وابن رشد وأبي العلاء وغيرهم من الفلاسفة والمصلحين؟! أم قضي علينا حتى في الكذب والترهات أن نكون دائما متأخرات فلا يلبسنا إلا (الشيخة رمانة وسفينة ويوسف مدلع ونحوهم ممن لا يطلبون إلا الخلاخيل والمصوغات والسيوف المذهبة)؟! ألا إننا لم نبرع في حيلة إلا هذه، تخاف المرأة أن تطلب ملابس وحليا فيرفض زوجها الطلب فتعمد إلى ادعاء العفاريت والجن لتهديده، أعرف كثيرات ادعين (الزار) فرفض طلبهن وبعضهن ضربن بسببه فلم يعدن إليه، وليت شعري! إذا كانت العفاريت جبناء إلى هذا الحد؛ فلماذا لا يستعمل الرجال العصي وهي كثيرات وإن كنت لا أوافق على ضرب الرجل للمرأة بحال من الأحوال؟! إنها لتصر على دعوى أن العفريت هو الذي يتكلم بلسانها ويشعر بأعضائها وأنها أعارته ظاهرها، ولا أعلم إلى أين ذهبت هي! إذن، فليضرب العفريت فهو الذي في ظاهر زعمها يتألم دون أن يصيبها شيء من آثار الضرب! ولعل المتحضرات الحديثات يدعين قريبا أن الملائكة تقمصت أجسامهن؛ لأنهن أحكم تصرفا وأحسن اختيارا كأنما عفاريت الأرض نفدت لكثرة الطلب فانصرفت هممهن إلى السماء، كما فعل مخترعو الطيارات، لما ضاقت بهم فجاج الأرض، وحينذاك يأنفن ركوب الضأن والإبل المستعملين حتى الآن في الزار فيمتطين المخترعات الحديثة وإن كانت لا تزال خطرة الاستعمال، فلا تتيهن علينا البارونة دي لارو فربما نبغ عندنا كثيرات مثلها، وإن كان باعثهن (مودة الزار) لا العلم، لا أعلم عند الإفرنجية عادة تساوي الزار في القبح إلا مخاصرة الرجال في الرقص، وما يتبع تلك العادة من التهتك والتصنع والميل عن جادة الصواب، وما ينشأ عن إباحتها المطلقة بلا قيد ولا وازع من الضرر البليغ والإخلال بالشرف، وأدهى من ذلك أن ينتشر بينهن مذهب حرية الاعتقاد، وهو مذهب من لا يصدق بالله ولا باليوم الآخر، فيزعمن أنهن يجتنبن الرذائل بمحض إرادتهن وتربيتهن، ولكن هل إذا منعت الفضيلة امرأة عن إتيان ما لا يرضى؛ فهل يصح أن تطبق هذه النظرية على كل امرأة؟! ألم يكن الإيمان بالله وترقب ثوابه وعقابه هما المانعان لكثير من الناس عن الانتحار والكفر وإتيان المناكير والفحشاء والخيانة؟ ألا ساء ما يحكمون.
إن النفس لأمارة بالسوء، ولقد تقدم على كثير من الموبقات لولا الضمير الحي وهو ثمرة الوازع الديني؛ أفلا يعقلون؟! أرانا لا نتمسك شديدا بديننا الحنيف وهذا بدعة وعدوى أتتنا من الغرب، فهلا تفكرنا قليلا فيما ينفعنا وما يضرنا قبل الإقدام على التقليد؟! أو كلما رأينا إنسانا يفعل شيئا حاكيناه وإن كان في ذلك هلاكنا وخسارة ديننا ودنيانا معا؟!
المأتم:
بينا الإفرنجية ورجالنا أيضا يجتهدون في التلهي والتعزي عن المصيبة، تجدنا بالعكس نعقد الاجتماعات لنبكي، ونستأجر النائحات (المعددات) ليزيدن نار الأسى تأججا في قلوبنا! وماذا يجدي الحزن وهو لا يرد ميتا ولا يعيد مفقودا؟! قال أبو العلاء:
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد
وإن من تعاليم الإسلام أن يصبر المرء عند الملمات ويترك ما فات لما هو آت، والعاقل من يصرف همه إذ لا معنى للعيش مع البؤس، وإن العمر إلا أيام تنقضي فلماذا لا تجعلها سعيدة بقدر ما تستطيع؟!
المسرات:
إننا في جلب المسرات لمقصرات حيال أنفسنا ومن هم في ذمتنا من الأهل والأولاد، حبذا لو اتبعنا طريقة المرأة الغربية في ذلك؛ فإنها تعقد الاجتماعات وتوالي السمر، وتدعو أعضاء الأسرة الواحدة وأصدقاءها لتناول الشاي أو الطعام أو الفسحة معا، فيتجاذبون أطراف الحديث، وهنالك يبدي كل منهم رأيا أو حكاية لا تخلو من فائدة أو فكاهة ، وقد يصرفون الوقت في ألعاب مختلفة لتنشيط أذهانهم وأبدانهم ويتبادل المجتمعون الدعوة كل في نوبته، فيتراءى أعضاء الأسرة الواحدة وأصدقاؤها كل يوم تقريبا فينفون بذلك همهم ويأنسون بعضهم ببعض، وبذلك يعيشون في وئام ووفاق.
الخدم:
المرأة المصرية لا تقدر نفسها قدرها، وطالما رأيت سيدة تضاحك الخادمات وتكاشفهن بأسرارها فلا يتأخرن عن إذاعتها في البيوت الأخرى، وهذا من الخطل في الرأي، يجب أن يعامل الخدم بالرأفة ولكن لا تتعدى تلك الرأفة حدودها، ألم تستغربن مرة من أن خدمنا لا يشتغلون عندنا نصف ما يشتغلون في البيوت الإفرنجية، ومع ذلك نراهم هناك أنشط وأهدأ خلقا مما إذا كانوا في بيوتنا؟ إن السبب لسهل الإدراك وهو أن المرأة الإفرنجية تحفظ هيبتها فيخشاها الخدم، وهي لا تخالطهم إلا عند الأمر والنهي ولا تحط من شأنها بمسايرتهم ومضاحكتهم، وتفرض عليهم شغلهم وتريهم إياه لأول مرة ثم تتركهم وشأنهم فيشعرون بمسئوليتهم.
الدور الخامس: دور الأمومة
هذا الدور مرتبط بدور الطفولة ارتباطا تاما حتى يكاد يندمج أحدهما في الآخر، وعليه فكل ما قلته هناك أقوله هنا.
النتيجة
والنتيجة أن المرأة الغربية سبقتنا بمراحل في العلم العمل، مع أننا لا نقل عنها ذكاء، وكل ما لا يستحيل طبعا فهو ممكن بالمعالجة واتخاذ الجد مطية إليه مهما صعب الطريق واستعصى، فإذا تدرعنا بثبات العزم وقوة الإرادة فإننا نصل إلى ما وصلت إليه من نور العلم ورفعة المقام، ولا يثبطنا قول القائلين: «إن الشرق شرق والغرب غرب.» فإن التاريخ أعدل حكم، وهو حافل بذكر الشرقيات اللاتي نلن من بعد الصيت ووفرة العلم منالا كبيرا أيام كانت الغربيات لا ذكر لهن؛ فاقرأن تواريخ نساء العرب في الشرق والغرب تجدن نادر الذكاء وجزل الشعر ومتين الأسلوب وما يشهد لهن بعلو الكعب في العلم والعمل.
إن الضعيف إذا لم يرزق قوة التمييز خيل له أن كل ما يأتيه القوي حسن، ذلك مثلنا أمام المرأة الغربية، فهل تردن أن نثبت للملأ خمولنا وخلونا من التمييز أم تردن أن نعمل على حفظ قوميتنا وتقوية روح الاستقلال فينا وفي الأجيال القادمة من أولادنا؟! إذا أردنا أن نكون أمة بالمعنى الصحيح تحتم علينا أن لا نقتبس من المدنية الأوروبية إلا الضروري النافع بعد تمصيره حتى يكون ملائما لعاداتنا وطبيعة بلادنا، نقتبس منها العلم والنشاط والثبات وحب العمل، نقتبس منها أساليب التعليم والتربية وما يرقينا حتى نبذل من ضعفنا قوة، وإنما لا يجوز في عرف الشرف والاستقلال أن نندمج في الغرب فنقضي على ما بقي لنا من القوة الضعيفة أمام قوته المكتسحة الهائلة.
وفي الختام، لا يسعني - أيها السيدات - إلا أن أشكر لكن حسن إصغائكن ومؤازرتكن إياي بالحضور، وآمل أن نسمع ونعي، ولا أخالكن إلا عازمات على محاربة جمودنا القديم وعلى العمل معا لرفع شأننا وشأن هذا الوطن المفدى، والله أسأل أن يوفقنا ويهدينا سواء السبيل.
قصيدة نسائية لباحثة البادية
وسبب إنشائها أن شاعر النيل أحمد شوقي بك أدرج في الجريدة قصيدة مطلعها:
صداح يا ملك الكنا
ر ويا أمير البلبل
ومنها:
بالرغم مني ما تعا
لج في النحاس المقفل
والقيد لو كان الجما
ن منظما لم يجمل
صبرا لما تشقى به
أو ما بدا لك فافعل
أبدا مروع بالإسا
ر مهدر بالمقتل
إن طرت عن كتفي وقع
ت على النسور الجهل
وقد أهدى قصيدته هذه للباحثة، فظن بعضهم أنه ينعى حالة المرأة ويتأسف لإقامتها في البيت، ويعتذر عن الرجال بالخوف عليها من تطاول السفهاء، فلم يقبل هذا العذر وكتب في الجريدة إلى شوقي بك على لسان الباحثة قصيدة منها:
سميتني ملك الكنا
ر وأنت رب المنزل
وجعلتني رهنا لأق
فاص الحديد المقفل
غللتني وسجنتني
خوف اصطياد الأجدل
إن لم تكن لي حارسا
من كل عاد مقبل
فالحصن والبيداء يس
تويان عند الأعزل
لو كان حبك صادقا
لفككتني من معقلي
وذهب بعض آخر لتأويل غير هذا؛ فرأت الباحثة أن هذه التأويلات كلها بعيدة عن الصواب، وأن قصيدة شوقي بك يجب أن تفسر بتفسير آخر، وهو ما ذكرته في قصيدتها وهي:
يا هذه لا تعذلي
وإذا أبيت فقللي
أفرطت في لومي ولو
أنصفتني لم تفعلي
لا خير في نجوى بغي
ر روية وتعقل
ماذا فهمت من الكنا
ر ومن حديث البلبل
حتى سخطت على المعي
شة في ظلال المنزل
ووددت أن تجدي مقا
ما بالعراء فتنزلي
أو دمنة عند اللوى
بين الدخول فحومل
رب الكنار أظنه
عما زعمت بمعزل
خال الكنانة طائرا
والشعر حسن تخيل
فحنا على مثواه في
قفص النحاس المقفل
ونعى زمان مراحه
بين الربى والجدول
والقيد ذل لو يكو
ن خلاخلا في الأرجل
وغدا يعزيه ويأ
مره بحسن تجمل
ويقول: إن الحبس حر
ز من تقضي الأجدل
أهدي القصيدة في الجري
دة لي هدية مفضل
كمؤلف يهدي الكتا
ب إلى سري أمثل
يرمي إلى تشريفه
ويخصه بتطول
هي عادة مألوفة
في الناس منذ الأول
فشكرت مهديها وقد
قابلتها بتقبل
هذي الحقيقة يا فتا
ة تلوح للمتأمل
لكن جهلت الأمر وال
معهود أن لا تجهلي
مجد الفتاة مقامها
في البيت لا في المعمل
والمرء يعمل في الحقو
ل وعرسه في المنزل
كم خدمة يقضي نظا
م البيت إن لم تعمل
من للوليد يعينه
في لبسه والمأكل
ويميط عنه أذى الهوى
بتلطف وتحيل
من للرضاعة والحضا
نة والفطام وما يلي
من للمريض يحوطه
أبدا بدون تململ
يجري على وصف الطبي
ب على الطريق الأفضل
من للأثاث يصونه
من للذخائر والحلي
من يطعم الغرثان من
متزود ومحوصل
إن الدواجن والطيو
ر تموت إن لم تأكل
من يقسم المذخور بين
الحال والمستقبل
من ذا يعلم خادما
ت البيت فعل الأكمل
لكن إذا دعت الضرو
رة للخروج فحيهل
سيري كسير السحب لا
تأتي ولا تتعجلي
وتنكبي نهج الزحا
م وفضلي النهج الخلي
لا تخضعي بالقول أو
تتبرجي أو ترفلي
لا تكنسي أرض الشوا
رع بالإزار المسبل
أما السفور فحكمه
في الشرع ليس بمعضل
ذهب الأئمة فيه بي
ن محرم ومحلل
ويجوز بالإجماع من
هم عند قصد تأهل
ليس النقاب هو الحجا
ب فقصري أو طولي
فإذا جهلت الفرق بي
نهما فدونك فاسألي
من بعد أقوال الأئم
ة لا مجال لمقولي
فعلام أكثرت الملا
مة وانضممت لعذلي
وسقيتني من مر قو
لك مثل نقع الحنظل
ونسبتني حينا لمذ
هب قاسم وأبي علي
تعنين ويلك أنني
أمارة بتبدل
أدعو النساء للعب با
ريس ولهو بروكسل
ونسبتني حينا إلى
تحميل ما لم يحمل
جعل الحرائر كالإما
ء خوادما للمنزل
ليس الكلام بمبهم
فتفسري وتؤولي
لا ينفع التشكيك والت
أويل في الأمر الجلي
قلت: النقاب سكت عن
ه نعم بدأت فكملي
ولأي شيء يا تري
ن بغيره لم تحفلي
كم مبحث ما جلت في
ه وجل من لم يغفل
من ذا الذي جاءت مقا
لته بكل مؤمل
لا أبتغي غير الفضي
لة للنساء فأجملي
إن لم تري رأيي فيا «ويل الشجي من الخل»
باب التقاريظ
مرتبة بترتيب ورودها
جاء من صاحب الفضيلة الشيخ عبد الكريم سلمان رئيس تفتيش المحاكم الشرعية:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق الحمد والصلاة والسلام على سيدنا محمد فوق العدو على آله وصحبه رجالا ونساء يتجددان كل يوم صباحا ومساء.
أما بعد، فإن كان لمذهب دارون وجه من الصحة فليكن في ترقي العقول واستنباط المجهول من المعقول وفي تولد المعلومات بعضها عن البعض، أما في نوع العالم - وهو بنو آدم - فلا نراه مصيبا؛ إذ الآدمي آدمي أينما كان وشكله شكله في كل زمان ومكان.
أصدق الأدلة على ترقي المعلومات وتوالدها وتنوعها الذهاب إلى ما يقرب من الطوفان والمشي معه إلى هذا الزمان، فقد نرى في زمان نوح شكل الإنسان على ما هو عليه الآن، ولكننا نراه في معلوماته قد تغير تغييرا تاما بحيث يمكننا أن نحكم بانقطاع النسبة، أو تبدل النوع بين معلومات هذا الزمان وزمان الطوفان.
نحن في غناء عن سرد حالة هذا الهيكل الإنساني في معلوماته القديمة والحديثة؛ فما من نفس إلا وقد تتصور الفرق بين العهدين وأن هذا الجديد كخلق جديد.
يمكنني أن أذكر شيئا سمعته من أسن رجل لقيته في حياتي، وكانت سنه إذ ذاك تتجاوز مائة عام، وسني سبع عشرة على التقريب، قال ما معناه: «إنني وأنا شاب ذهبت إلى إحدى الأسواق الريفية، ثم رجعت منها حائرا في أمري، فحدثت أبي بما عاينت وقلت: يا أبتاه رأيت اليوم في السوق عجبا، فاعتدل وسأل: ما هو؟ فقلت: رأيت امرأة في السوق، وما عهدتها قبل هذا النهار إلا قعيدة البيت، فقال له أبوه: يا ولدي لا تعجب؛ فإننا قربنا من آخر الزمان الذي تقول فيه الملاحم وتعلو: «الحجول على الخيول.» فاللهم نجنا، ولا تبلغ بنا في حياتنا إلى ذلك الزمان». ا.ه. هذا الحديث.
فأين المرأة التي حدث عنها محدثي هذا وزمانها لا يتجاوز المائة والعشرين سنة، وقد كان مقرها كسر بيتها تخرج منه إلى قبرها؟! وأين المرأة في هذا الزمان فقد تراها على وشك الإسفار حاملة قمطرها ذاهبة إلى مجتمع فيه كثير من النساء يعددن بالمئات، وفيهن كثير من المتعلمات، فتصعد بينهن على منبر الخطابة، ثم تقول وتعيد ذاكرة حال النساء ولزوم تربيتهن ووجوب تعليمهن مبينة فوائد تعليمها، منددة بالمواضي في جهلهن، حاضة على تسوية النساء بالرجال في الاستفادة من العلوم، فيقابل المجتمعات قولها بالرضى والقبول والإذعان للحجج والبينات التي أقامتها على وجوب تربية البنات.
يظهر أنني أسرعت في الانتقال إلى المقصود من كلماتي هذه، كما أسرع الزمان في تبديل حال النساء في بلادنا من تلك الجهالة العمياء إلى هذه المعرفة العلياء، وإن كانت هذه المعرفة تعد بالنسبة للآتي شيئا قليلا أو لا يكاد يذكر في جانب ما هو منتظر الحصول.
بالطبع قد عرف أنني أقصد التنويه بالسيدة الفاضلة الباحثة في البادية (ملك حفني ناصف)، فقد رأيت مجموعتها التي أدرجت في الجريدة منذ زمان، وطالعت معظمها بإمعان، ولم أطالع البقية لقرب عهدي بها منشورة في الجريدة، فإذا فيها من المباحث العلمية والفوائد الاجتماعية ما يعظم نفعه ويكون أساسا في المستقبل لبناء جديد نضيد يخرج المرأة المصرية إلى عالم المشاركة الحقيقية للرجل في التربية والمعيشة، وبهذا يكون لهذه السيدة فضل المؤسسين.
إني رأيت في كتابة هذه السيدة حدة في بعض الموضوعات، وكأنها معذورة في حدتها لامتلاك الموضوع نفسها وحواسها، فكتبت فيه وهي ممتلئة حنقا ولو ملكت نفسها لخفضت من حدتها وأتت بالخاص مكان العام، أو بالبعض مكان الكل، وبهذا كانت تسلم من الاعتراض، وتغني نفسها عن تدارك ما وقع في مقال ثان، وليس هذا بالشيء إلا من جهة صناعة الكتابة، والعذر فيه هو ما ذكرناه.
رأيتها في موضوع الحجاب تضرب البحر بعصا موسى ولكنه لم يطعها، بل بقي عريقا عميقا، في صفاء مائه ما يغني عن انفلاقه، وستظهر الأيام أن رأيها في الحجاب رأي لم تقدر على تخميره، ولم تملك حرية القول فيه، وإنني لست معها في أمره، وأرى غير ما تراه فيه.
أيتها السيدة الفاضلة لا تبالي بما يتعرضك في طريقك من قول اللائي لم يشمن نور العلم (ما للسيدات وللخطابة، وما لهن للكتابة؟! وإن رضي أبوها، فكيف رضي زوجها؟! وإن رضي زوجها، فكيف رضيت عشيرتهما؟!)، فإن العلم دائما محسود أهله، ولن يغلبه الجهل مهما كثر مشايعوه.
أي بنية أخي إني أراك قد نبغت بين قريناتك، واتخذت لك طريقا لم يسلكه قبلك منهن ولا واحدة؛ فكنت لهن قدوة صالحة؛ فكثر بوجودك بينهن عدد الكاتبات القارئات المتعلمات إلى الدرجة الابتدائية، ثم تدرج منهن بعضهن إلى التعليم الثانوي والعالي، فثابري بلا مبالاة على خطتك هذه، وأصمي أذنيك عن لوم اللائمات، فما هي إلا مائة وعشرون سنة يكون الفرق بين نسائها وبين نساء اليوم ما كان بين نساء اليوم ونساء تلك المائة والعشرين عاما.
أيتها الفاضلة ناشدتك الله أن تكوني لبنات زمانك هذا قدوة في عملك بما تقررينه في أقوالك وخطاباتك حتى يكون نصحك مقرونا بالإجابة مصحوبا بالقبول، وإني لأعلم منك ذلك، ولكن لا بد من أن أنصحك به؛ لأنه إذا ظهر على الناصح عمله أولا بنصائحه قبله المنصوح ورسخ في نفسه العمل به، وبهذا تكونين قدوة صالحة لأخواتك في الأعمال والأقوال.
أيتها السيدة، إذا كتبت بعد هذا الذي رأيته فأمامك ضرب المثل بالبعض وإياك والحكم على الجميع، فإن في هذا إغراء بالمخالفة، وليس هذا مما يقصده المؤسسون، وبعد هذا فلله أنت! ولله أبوك! ولله بعلك! وفي سبيل الله ما تقاسين من عناء وما تكابدين من محاولة هداية وإرشاد، حقق الله آمالك وأقر عينك بنيل ما تطلبين لأخواتك من الخير العاجل، والسلام.
عبد الكريم سلمان
جاءنا من صاحب السعادة إسماعيل صبري باشا، وكيل نظارة الحقانية سابقا:
بنت أخي العزيز حفني بك ناصف
نشرت كتابك دواء لعلة من علل الوطن، ذلك المريض العزيز في وقت اجتمعت حول وساده الأطباء والرقاة، هذا يصيح وهذا يولول وذاك يكتب وذلك يخطب وذياك ينادي بالصمت ويشير بترك العليل للطبيعة، تعمل فيه عملها، إن خيرا وإن شرا.
وكل يدعي حبا لليلى
وليلى لا تقر لهم بذاكا
فنظرت أنت ببصيرتك الوقادة وفكرك الصائب في جسم المريض، وفتشت في مظان العلل، فعثرت على أشدها فعلا فيه، ودونت مقالاتك في كتاب جمع من الآراء النافعة والأفكار الناجعة ما لو عولج به ذلك المريض لذهب بأصل أمراضه وقرب للأطباء والرقاة يوم شفائه.
أجل يا بنت حفني، إن تربية بنات مصر لهو العلاج الأكبر الذي غاب عن أكثر الباحثين في أسباب انحطاطنا وثقل خطانا في طريق التقدم.
أجل، إن الفتاة إذا أصبحت أما وكانت متعلمة متهذبة آخذة من أسباب التربية بما تشيرين به كانت لولدها في مهده ملكا حافظا، فإذا حملته رجلاه سددت خطاه، فإذا انطلق لسانه هذبت كلماته، فإذا سلم لمعلم كانت رقابتها نافعة في حث الصغير على الاستفادة وحمل المعلم على الإفادة.
إذا أم دامت - والعياذ بالله - على ما نراه من الجهل كانت الحال على عكس ما قدمت، ولو لم يكن في تعليم البنات وتهذيبهن إلا ما ننشده من الوفاق والوئام بين الزوجين وتقليل الطلاق والاكتفاء بزوجة واحدة، تقربا من العدل الذي أمرنا به كتابنا الحكيم، لكفى كل ذلك مقرظا لكتابك النفيس وآرائك الصائبة. والخلاصة؛ أن ما جاء في كتابك متعلقا بتعليم البنات وتأديبهن وتهذيبهن يعد من أجل الخدمات للوطن في زمن تشكلت فيه الوطنية أشكالا شتى، لا يلائم أحدها حالتنا الحاضرة والظروف التي غيرت وجوه الحكمة بيننا.
إن لرقي مصر أبوابا عديدة أراك قد فتحت أوسع باب منها، فكانت بك ربات الجمال سابقة أرباب السيف والطيلسان إلى أجل خدمة تؤدى لمصر، ولا أخال شباننا وكهولنا إلا فاتحين الأبواب الأخرى؛ أبواب العلم والعمل والصناعة والتجارة والزراعة، وغيرها من أبواب الخير والسعادة المؤدية إلى استقلال الوطن، والتي يعد كل منها مؤديا إلى استقلال نوعي تسعد به البلاد إلى أن يأتي يوم الاستقلال الأكبر.
أما من جهة الحجاب، وما أدراك ما الحجاب، شيء يظنه أسرا واسترقاقا، ويعتقد البعض أنه سعادة وسيادة، فالذي أراه فيه هو أننا رأينا المرأة متأخرة في حجابها فاستنكرنا تأخرها والحجاب معه، ولو كنا عاقلين لانتظرنا اليوم الذي نراها فيه متعلمة مرباة، فربما حكمنا غدا بأن الحجاب أنفس حلي المرأة الراقية، بارك الله فيك وفي كتابك، وجعله مرجعا نافعا لطلاب رقي نصيف أهل مصر - أعني نساءها - بل كل أهل مصر بفضل تهذيب نسائها ورجالها، آمين.
جاء من فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد العزيز جاويش:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، وبعد ذلك، أنا قلت كلمة في النسائيات التي وضعتها السيدة الجليلة «ملك حفني»، فما أنا بمقتف أثر المقرظين ولا متساهل تساهلهم (على عادتي قبلا)، فإنني تصفحت هذه العجالات الثمينة واستوعبتها درسا وبحثا، فوجدت بين دفتيها من النصائح الأدبية والمسائل الاجتماعية ما لو بنيت عليه تربية البنت في بلادنا لسلمت منازلنا من كثير من ضروب الشقاء، الذي ابتلي به الشرقيون منذ تركوا تعاليم دينهم، وانحرفوا عن الصراط السوي في معاملاتهم، لقد وصفت السيدة الفاضلة أكثر عللنا الاجتماعية ومبلغ آثارها في حياتنا المنزلية وشؤوننا المدنية، فكانت فيما وصفت خير من يعتمد عليه في تعرف شؤوننا، ثم جعلت تصف لكل علة من طرق العلاج ما لو أخذت به النابتة منذ النشوء لصلح حال الأمة في جميع أطوارها ولنبلت مبادئها وغايتها، ولقد رأيتني إزاء كل باب من أبواب هذه المجموعة أقلب بصري في حقائق، بيد أنها كما يقال في المثل : «حقائق مرة» لا يجمل بالمصري الصبر عليها ولا يمكنه التبجح بإنكارها، على أنها قد هونتها العادة على النفوس حتى مرت الأيام تتابع والأجيال تتعاقب دون أن ينتبه لرذائلها وسوءاتها الرجال فضلا عن النساء إلى أن وفق الله لهذه الأمة سيدة كاتبات هذا العصر، وأستاذة المربيات في مصر، فوضعت هذه العجالات التي ستكون فاتحة تاريخ جديد للتربية الصحيحة القويمة التي أساسها إصلاح المرأة والرجل اللذين عماد كل شيء في الحياة الدنيا.
ولقد كاد قلم قاسم أمين يجلب البلاء على المسلمين والمسلمات بما وضعه من الكتب في موضوع المرأة، لولا أن تنبهت لما يريده النابتة الإسلامية فجعلت تطارد تعاليمه وتحارب إرشاداته، وإذا شئنا أن نضرب مثلا للمجاهدات والمصالحات، اللاتي تقصين بآياتهن البينة ما أودعه كتبه من النصائح البعيدة عن روح الإسلام، فإننا لا نجد أحسن من تلك السيدة الفاضلة التي بنت نصائحها على الإسلام، وحرصت على تقاليد المسلمين.
على أنني، وإن عجبت بكثير مما جاء في مجموعتها هذه من الآراء السديدة، فإنني لا أحب أن أزايل موقفي هذا دون أن ألاحظ على السيدة الفاضلة هفوة عرضت لها في باب مساوئ الرجال (الازدراء بالمرأة) طالبا منها بما ورد لها في باب النقد أن تتقبل كلمة لم يملها علي إلا الإخلاص لها والميل إلى المصلحة الأمة، فلقد صورت في ذلك الباب المرأة في نظر الرجل اليوم على نحو ما كانت عليه في الجاهلية الأولى، وهذا أمر قلما طابق الواقع، وهل كان من حرج على السيدة أن توسع المسألة بحثا، وأن ترقب اليوم الذي تترجم فيه مقالاتها إلى اللغات الأجنبية، فتنشر أحكامها على هذه الأمة في العالم الأوروبي الذي يجهل معنى الغلو البديعي، وإنه من المحسنات في اللغة العربية؛ حيث يعتقد الأوروبيون - لا سيما نساؤهم - أننا اليوم على ما كانت عليه جاهليتنا منذ أربعة عشر قرنا، وناهيك بما يحدث هذا القول في العالم المتحضر من الآراء، وما يجلبه علينا بعد ذلك من البلاء.
تقول السيدة الفاضلة في ذلك الفصل: إن الجاهلية ما حبب إليها الذكور وبغض إلى نفوسها البنات، إلا حاجتها إلى الحرب والطعان في سبيل حماية ذمارها، فكان لها من هذا عذر مقبول، وأما هذا الزمن فزمن السياسة والصناعة إلى آخر ما قالت في هذا الباب، وإنني أستمحيها عفوا أن أصرح هنا بأنني لا أكاد أطابقها على شيء مما جاء لها في هذا الباب من الأحكام، وما التمسته من العلل واستخلصته من النتائج والآراء.
وإنني لعلى يقين أن السيدة الفاضلة لو زادت هذا الباب عناية وبحثا لما وجد منتقد سبيلا إلى كلمة يقولها في أكثر موضوعات هذه المجموعة الثمينة، فحسب الأمة المصرية الإسلامية ما دون ذلك من الأبواب الاجتماعية الأدبية التي طرقتها، فإن فيها من الحكم الغالية والنصائح العالية ما هو كفيل لسعادتها، إن شاء الله تعالى.
عبد العزيز جاويش
هذا ما كتبه سعادة العالم أحمد بك زكي، سكرتير ثاني مجلس النظار:
لست بميال لإطراء بنات الأفكار، إذا تضمنتها بطون الدفاتر والأسفار؛ ذلك لأن الثمرة التي تتولد عن القرائح والأذهان إذا جاء معها لقاح المدارك والأفهام، هي التي تنادي بنفسها على نفسها، وتدعو الرأي العام إلى الحكم عليها أو لها، بل هي التي تقتضي الرواج والإقبال بطبيعة الحال، سواء تبرع بمدحها قطب من أقطاب الآداب، أو تطوع لتقريظها علم من أعلام الكتاب.
كنت - ولا أزال أعتقد - أن التقريظ جناية على العلم الصحيح، وعلى ارتقاء الأمة في معارج العرفان، وها هي كتب المتقدمين خلو بالمرة من هذه البدعة حتى إذا تصوحت زهرة الآداب ظهر التقريظ، فاعتمد حملة الأقلام على مجاملة الأصدقاء والخلان؛ حينئذ تهافت الناس عليه تهافتا اختلط فيه الحابل بالنابل والغث بالسمين، والتافه بالثمين، هذا التهافت هو الذي أفسد الأذواق، فتبدل النفاق بالنفاق، وكسدت أسواق الأوراق.
إنما يكون التقدم بهجر التقريظ ومقاطعته، وبالتعويل على النقد الحقيقي الذي قرره العلماء في أيام تقدم الإسلاميين، وهو الذي عول عليه جهابذة أوروبا في هذا العصر، وذلك أن يتوخى الكاتب إظهار ما في الكتاب المعروض عليه من الحسنات وآيات البراعة، مع الإشارة إلى ما فيه من العيوب بغير تحامل، ومن الواجب في هذا السبيل التماس المعذرة في بعض الأحايين، والدلالة على طرق التوسع وشفاء الغليل.
لو عاد قومنا إلى منهاج السلف الصالح والصدر الأول، لكان سعيهم محمود المغبة، مشكور العاقبة؛ لا جرم إذن أن تعود المعارف في ربوعنا إلى بهجتها الأولى، ونبني على ما كانت أوائلنا.
تلك الخواطر، لو اشترك فيها النساء مع الرجال، لكانت مقدماتها صحيحة القياس، وهذه المباني لو تعاون الصنفان على إقامتها لكانت وطيدة الأساس.
ولقد شمت اليوم بارقة الأمل، فأمسكت اليراع وأجريته على القرطاس لأشكر الثلاث: صاحبين من خيار الرجال، تعززهما ثالثة يعتز بها كل منهما؛ ولا فخر لأنها فخر الإناث.
أمعنت النظر في السلسلة الأولى من «النسائيات» التي صاغت حلقاتها يد لصاحبتها كما لأبيها، ومن كمال بعلها أياد على الآداب والفضيلة، فلم أعجب من صلاح ذلك الغرس الطيب، وإيناع هذا الثمر الشهي، وقد تعهد تلك البذرة الصالحة المباركة الباسل «حفني» في إبان الصبا، والمنصف «الباسل» في ريعان الفتوة.
فيا رعى الله ذاك القناع، وذياك اليراع! فقد برزت بهما تلك الفتاة في مضمار الحياة، فأثبتت أن في السويداء إناثا يضارعن الرجال، إذا هن أخذن بالعلم الصحيح والعمل النافع، وتهيأت لهن الأسباب مع التمسك بأذيال الحشمة والكمال.
مرحى مرحى! ب «ملكة» ظهرت في عالم الإنس بين النساء فأكبرها الرجال؛ لأنها أعادت لنا ذلك العصر الذهبي الذي كانت فيه ذوات العصائب يناضلن أرباب العمائم في ميداني الكتابة والخطابة!
لو لم يكن للسيدة «ملكة الباسل» سوى أنها أول من برزت في هذه الأيام بحجابها وآدابها، لإلقاء الخطب على أترابها، لكفاها فخرا في الأواخر أن اسمها سيخلد في «كتب الأوائل»؛ إذ يقال: إنها من المجتهدات المجددات؛ لأنها أول من أعادت الخطابة إلى فريق من النساء، بعد أن انطمست معالم هذه السنة منذ ست مئين من السنين، سنة أخذها الغرب عن العرب فارتقى، وأهملها الشرق فانزوى وقعد بهن وبنا.
إحياء هذه السنة على يد هذه الفضلى هو الذي حداني إلى كتابة هذين السطرين: لإطراء النساء لا لإطراء «النسائيات»، فهو كتاب ينطق بنفسه لصاحبته، بل هو غني عن التقريظ لرقة عبارته ولطف أسلوبه، ولبسالة صاحبته بنوع أخص.
نسأله تعالى أن يكثر بين ظهرانينا من أمثال أولئك الثلاث؛ فكل منهم فرد في بابه إن شاء الله!
رمل الإسكندرية في 31 أغسطس سنة 1910
أحمد زكي
السكرتير الثاني لمجلس النظار
جاءنا من حضرة الفاضل الشيخ حسين والي، الأستاذ في الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي:
أباحثة البادية شكرانك في البدو والحضر، فقد أراني كتابك علم عائشة بنت الصديق، وأدب سكينة بنت الحسين، وأذكرني عهد الحضارة الإسلامية وقد بدا كوكبها فى أفق المشرق، ذلك العهد المتقادم الذي تسابقت نساؤه ورجاله في المعرفة؛ فكان الفضل للسابق كفضل هاتين السيدتين على غيرهما من نساء ورجال، لعمرك ما كان نبوغهما مقتضبا اقتضابا؛ إذ كان من دونهما مراتب للرجال وللنساء، مراتب متفاوتة بحكم الترقي والاستعداد ومستباحة بحق الإسلام؛ فالزمان يومئذ زمان العدل والنصفة، والعلم يومئذ علم اليقين والتهذيب. (روى البخاري) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: نساء قريش خير نساء ركبن الإبل؛ أحناه على طفل وأرعاه على زوج في ذات يده.
لقد بين النبي
صلى الله عليه وسلم
تاريخ المرأة العربية التي كانت تركب البعير في البادية؛ فقال إنها كانت تحنو على طفلها وتحفظ مال زوجها، والحنو الصحيح هو التربية الصحيحة، وحفظ مال الزوج هو الاقتصاد فيه، ولا يكون ذلك إلا بعد العلم بوجوه صرفه ووضع الشيء في موضعه، والحكمة كل الحكمة في تربية الطفل وحفظ المال، فإن في هذين الأمرين عمران الكون وبهجته: المال والبنون؛ زينة الحياة الدنيا.
وقال: إن المرأة القرشية أحنى على طفلها وأحفظ على مال زوجها من العربية الأخرى، فالقرشية أفضل من غيرها لهذه المزية لا لشيء آخر، فالفضل إنما هو بالعلم والعمل.
أثنى النبي
صلى الله عليه وسلم
على نساء العرب بما أحرزن من فضيلة توافق زمانهن، ورفع القرشيات عليهن درجة، كما هو شأن البيوت العالية في كل جيل، فإن أهلها يفوقون غيرهم في كثير من الأمور.
فالنبي
صلى الله عليه وسلم
يأمر أمته أن تجري على هذا السنن: سنن العمران والسعادة.
ففي الحديث إشارة إلى بيان أساس البيت، الذي تتألف منه القرية والبلد والمصر والقطر والمملكة.
وفي الحديث إشارة إلى بيان نصيب المرأة في الحياة الدنيا، وأن قسمتها ليست قسمة صغيرة.
وعلى ذلك درج الناس في القرون الأولى من الإسلام، ثم خلف من بعدهم خلف أنزلوا المرأة من مكانتها وبخسوها حقها، والله يقول:
ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين .
ولما قهروها وضموا حقها إلى حقهم ضعفوا أن يؤدوا الحقين فوقعوا في الحرج، فلما استحكمت حلقات الأزمة أخذوا يفكرون في الخروج من هذا المأزق، فكان كل امرئ منهم يرى رأيا حتى كثرت الآراء واختلطت الأمور وأظلمت الآفاق وطمست الطرق.
رويدكم أيها الناس فهذا (كتاب النسائيات) يبين لكم الجادة من مكان قريب، ويقول:
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم .
أباحثة البادية، قرأت كتابك فأنبأني أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، فأخذ الناس يهتدون بهدى الفطرة، وأنساني أسفي على عبث الرجال بنصف الأمة، وأخبرني أن التاريخ يعيد نفسه فتستوي المرأة والرجل رغم أنف الجاهلين.
أباحثة البادية، قرأت كتابك فأنشدت قول ابن هانئ:
ولو جاز حكمي في الغابرين
وعدلت أقسام هذا الورى
لسميت بعض النساء الرجال
وسميت بعض الرجال النسا
أباحثة البادية، قرأت كتابك فألقى في روعي أن أكون مستقل الرأي كما أعرف نفسي، وأذن لي أن أدخل باب الكلام متأدبا كما تعودت، وألا أتعرض إلا إلى العظيم من الأمور، فإن ائتلف الرأيان فالخير في الائتلاف وكفى الله المؤمنين القتال، وإن اختلفا فهذه عادة الناس فيما هو من عند غير الله، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، وربما كان الاختلاف مبدأ الائتلاف، وعند ذلك لا يشين السبب المسبب (كما لا يشين الكلف البدر).
رأيت في المقالة (1) أن المرأة الحاضرة تفهم معنى الحياة أكثر من الغابرة؛ لأن ذلك مقتضى سنة الله في رقي الزمان.
ولكن المرء إذا زاد علمه عرف وجوها كثيرة من النفع، ووجوها كثيرة من الضرر، فإذا كان العلم غير صحيح لم تتهذب النفوس، فلا تكون المعاملة بالحسنى وقد يكون الضرر أكثر من النفع؛ فالجهل البسيط خير من الجهل المركب.
ورأيت في المقالة (2) أنه لا يجوز أن تلبس نساؤنا كلباس الراهبات المسيحيات؛ لأنه - وإن أباحه الدين بضرب من التأويل - يضيع تاريخ نسائنا ويذهب مميزاتهن، وذلك يمنعه الدين بضرب من التأويل، وإذا دار الأمر بين الإباحة والمنع فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة والاحتياط في الأمور أولى، فينبغي أن تبقى النساء على لباسهن لباس الجو والعشيرة، ويقتصدن فيه اقتصادا لائقا، وإذا زادت نفقته فالزيادة يسيرة ومثلها يمكن تحمله بلا ضرر.
ورأيت أن خروج نسائنا سافرات مضر عند عدم التهذيب، ومبدأ ضرر عند كمال التهذيب.
ورأيت أن خلاف أئمة الدين في مسألة السفور لا يكون إلا عند أمن الفتنة حالا ومآلا، فإن خيفت الفتنة فلا خلاف في أن الواجب عدم السفور.
يزعم الناس أن علم أوروبا كامل ولست أزعم ذلك؛ لأنه لم يمنع الفساد المترتب على السفور والمخالطة فهو في الحقيقة علم ناقص.
ورأيت في المقالة (3) أن المتعلمين من أهل مصر أكفاء للمتعلمات من أهلها؛ لأن الدرجات متقاربة ولا يضر التفاوت اليسير، والكلام في كفاءة التربية.
ورأيت أن اقتباس الأدب من دار الخلافة ضروري، فيلزم أن يجاء بطائفة من المعلمات للتربية، كما جيء بمعلمين ومعلمات من جهات أوروبا الأخرى، لنأخذ من كل جهة ما نحن في حاجة إليه، وإذا أمكن إرسال طائفة من النشء إلى هناك فلا بأس، ولكن على شريطة أن يكون معها من يقوم بأمرها ويراقب أخلاقها التي تريدها، وذلك لا يذهب بنا إلى عقدة النسب فإني لا أجيز النسب من عنصرين مختلفين يؤخذ على أحدهما شيء إلا عند الحاجة الشديدة؛ فإن العرق دساس.
ورأيت في المقالة (4) أنه يجوز لبعض المتعلمين أن ينأى عن ناقصة العلم والتربية إلا إذا استطاع أن يقوم من أودها بحكمته، وإن كامل التهذيب يستطيع ذلك، فإذا قصر فهو نصف رجل، ومن أراد سعادة قومه وكان ذا عزيمة أمكنه أن يختار جاهلة لا يصعب تعليمها فيتزوجها ثم ينشئها بالتعليم خلقا جديدا، فالمدرسة تعلم من ناحية، والرجال في بيوتهم يعلمون من نواح أخرى ما تمس إليه الحاجة، فتكثر المتعلمات في وقت قريب وإن كان بعضهن أكمل تربية من بعض.
ورأيت في المقالة (6) أنه ينبغي أن يتراءى الرجل والمرأة قبل الزواج في حضرة بعض المحارم، فترى المرأة من الرجل هيكله العادي، ويرى الرجل منها مثل ذلك ووجهها وكفيها ويحادثها وتحادثه حتى ينجلي الأمر فإن ذلك نموذجهما، وكثيرا ما يكون النموذج صادق المخبر، وإذا جاز للرجل أن يرى وجهها وكفيها بلا داع عند بعض أئمة المسلمين فالأولى أن يرى ذلك عند خطبة الزواج مع الاحترام؛ هذه سنة إسلامية معقولة، وفي العمل بها إنقاذ الأمة من وهدة الشقاء؛ فإن الطلاق قد ينشأ عن قبح الذات كما ينشأ عن قبح الخلق.
وهناك صنف من الناس تدور عصم نسائهم على ألسنتهم، فيحلفون بالطلاق كثيرا، ويعلقون الطلاق على أمور منها اليسير والخطير، وربما لم يكن لها ارتباط بالمرأة البتة، وكم من نساء ذهبن في سبيل هذه البدعة وأصبحن مطلقات بلا ذنب وبلا علم، وأمسين مسهدات يندبن حظهن، وهن يزعمن فيما يزعمن أن الشريعة تبيح ذلك الطلاق، فيكتمن ما في أنفسهن ويتكلفن الصبر فيما بعد، حاشا لله أن يأذن في ذلك؛ فما كان الله ليبعث بخلقه ويتركهم يجهلون ولا يقفون عند حد محدود.
ذلك الطلاق ضلالة يتبرأ منها الدين، ولم يحصل نظيره في عهد النبوة والخلافة فهو طريقة باطلة وشريعة عاطلة، فيجب على المسلمين ألا يأخذوا به، ويجب على ولي الأمر أن يضع للناس حدا في الطلاق كما وضع حدا في بيع السلعة الحقيرة عملا بحديث: «إنما البيع عن تراض.»
ورأيت أنه يجوز أن يكون أحد الزوجين غنيا والآخر فقيرا مع العفة والمعروف.
ورأيت أن الأولى في هذا الزمان أن يتعاون الناس على مقاومة الجهل من جميع النواحي؛ ومن ذلك أن يتزوج العالم جاهلة، وتتزوج العالمة جاهلا؛ لأن شأن العلم النفوذ، فهو يسري من المرأة إلى الرجل كما يسري من الرجل إلى المرأة.
وربما كانت هذه الطريقة عند المصلحين أولى من كون الزوجين عالمين ابتداء، فإن المتعلمات الآن أقل عددا من المتعلمين، ولا سبيل إلى تعليم الجاهلات عند الكبر إلا زواجهن من المتعلمين، والعلم فريضة على الأمة كلها فهي متضامنة في ذلك.
ورأيت في المقالة (7) أنه يجوز أن يجمع الرجل بين زوجين فأكثر عند الحاجة الشديدة وظهور المصلحة في ذلك، والقدرة على إرضائهما أو إرضائهن جهد استطاعته، على شرط أن يكون الجمع أخف من مفسدة تركه، وإن بعض الكبراء في مصر يغش زوجه ويخدعها بعدم زواجه عليها ويريها أنه لها، ثم هو يأتي المنكر من حيث لا تدري وربما رضيت أن يأتي المنكر ما دام ممتعا من زواج غيرها، الغش ظلم والرضا بالمنكر ظلم، وما هذان إلا من الجهل وعدم المروءة، وذلك ظلم ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
إن الله أباح للرجل زوجا فأكثر، ولكنه حظر الظلم، فقال:
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة . ومشى الناس في صدر الإسلام على ذلك، ثم أصبحوا فوضى في أمر الزواج، فترى الرجل يتزوج المرأة قادرا على حاجاتها وغير قادر، ويتزوج أكثر من واحدة قادرا على العدل وغير قادر، فوقع كثير من الأمة في البلاء والعذاب الأليم؛ كل هذا لأن الأمة لم تعمل بوصية الله ورسوله في النساء، ولو كان أمر النساء سهلا ما قصد إليه النبي
صلى الله عليه وسلم ، في أمهات المسائل التي ذكرها في حجة الوداع ثم مات على ذلك.
إن محمدا النبي العربي والرسول الأمي كان يحترم المرأة كثيرا، كان يحترمها أكثر من احترام الإفرنج الآن.
فيا قضاة الإسلام، اعملوا بتلك الوصية واضربوا على أيدي الرجال حتى لا يتزوج الرجل واحدة إلا بإذن القاضي، بعد علمه بالقدرة والمصلحة، ولا يتزوج أكثر من واحدة إلا بإذن القاضي، بعد علمه بالقدرة والمصلحة والعدل.
ما بال الناس ينظرون إلى المسألة من جهة الجواز ولا ينظرون إليها من جهات المنع؟! هذه مغالطة في الدين أو جهل، وكلاهما لا يجوز.
ورأيت في المقالة (8) أنه يجوز زواج البنت عند بلوغها إذا كان في ذلك مصلحة ظاهرة يدوم أمرها، وعلى مثل ذلك يحمل حديث تعجيل الزواج.
وإن الأوفق مراعاة اتحاد الزوجين في السن أو تقاربهما؛ خشية الضرر عند التباين الشديد.
ورأيت في المقالة (9) أن أهل مصر الآن خليط من العرب والفراعنة وغيرهم، وليسوا خليطا من العرب والفراعنة فقط؛ فالقشرة الطبيعية موجودة كالقشرة الصناعية الحاصلة بسبب الجهل والغش.
ورأيت أن كثرة التعرض للشمس تضيع حسن اللون وربما جعلته ضاربا إلى السواد.
ورأيت في المقالة (13) أن تهديد الرجل امرأته بالطلاق أو تهديد المرأة الرجل بالخروج من بيته لا يجوز ما دام هناك رجاء في البقاء، سواء أكانت الأسباب قوية أم ضعيفة؛ فإن مثل ذلك التهديد يلفت الذهن إلى أمر الانفصال فيقربه، وتلك بدعة في الدين لم تكن من أخلاق الأولين.
ورأيت في المقالة (14) أنه لا يليق بالرجل أن يتزوج المرأة لمالها؛ لأنه لو تزوجها لمالها فقد تزوج مالها ولم يتزوجها؛ فالمال عنده هو المقصود والمرأة غير مقصودة، وليس ذلك سر عقد الزواج الذي يطلبه الدين.
إذا تزوج الرجل المرأة لمالها فقد تنازعا فيه فيهزم الرجل؛ لأنه غير محق، فإن كان غنيا بالطمع رجع فقيرا بالهزيمة، أما إذا صادفته الغنية ولم يقصدها لمالها فهو عند حده ولا يعدم معروفا يناله من حيث لا يحتسب. (روى البخاري) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، وجمالها، ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك.»
ورأيت في المقالة (15) أن عمران الكون لا يحصل إلا بالنسل، وهو أمر طبيعي يقهر الإنسان وسائر الحيوان؛ فالرجل معذور أن يتزوج على امرأته التي فقدت ولديها، وربما قوى عذره أنها عجوز في الغابرين مثلا، ولكنه غير معذور أن يفاجئها بالزواج في حين المصيبة، فلكل منهما حق، والمخلص أن يتزوج بحيث لا تعلم امرأته الثكلى بالزواج.
ورأيت أن للرجل أن يتزوج على زوجه لأجل إنجاب الذكور؛ فإنهم أقوى عملا وأكثر نفعا من الإناث، فلا جناح على الرجل أن يقصد إلى ذلك، وتمام مأربه بيد الله وحده.
ورأيت في المقالة (20) أن من أحط الأخلاق وأكبر الآثام أن تسعى المرأة في طلاق المرأة لتحل محلها، أو يسعى لرجل في طلاق امرأة غيره ليتزوجها مثلا؛ فإن ذلك من هدم المصالح الثابتة، ووقوع ذلك من بعض الأقربين منتهى الفظاعة، ويكاد المرء يعتقد أن الله لا يغفره، ولا شك أن الساعي في الطلاق هو الذي اجترح السيئة أولا وإليه ينسب الإثم، وإن شاركه غيره في ذلك. (روى البخاري)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: «لا يحل لامرأة أن تسأل طلاق أختها لتستفرغ صفحتها؛ فإنما لها ما قدر لها.»
ورأيت في خطبة نادي حزب الأمة أن مزاج الرجل أكمل من مزاج المرأة، وكذلك المذكر والمؤنث من بقية الحيوان، ومما يشهد على ذلك التشريح والأعمال الظاهرة في كل جيل، وقد تغلب الرجل على المرأة من سالف الزمان إلى الآن، وبذلك أخذت الطبيعة حقها واستوفت عملها، وقد حكم الله في كتابه أن الرجل مسيطر على المرأة؛ فقال:
الرجال قوامون على النساء . (وروى البخاري) عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: كانت أم سليم في الثقل وأنجشة غلام النبي
صلى الله عليه وسلم
يسوق بهن، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «يا أنجش، رويدك سوقك بالقوارير.»
لأي شيء شبه النبي
صلى الله عليه وسلم
النساء بالقوارير؟! ما ذلك إلا لضعفهن ولطافتهن؛ فهن الجنس اللطيف وهن محل عناية الرجال؛ فالرجال أقوى منهن ومسيطرون عليهن.
إن الرجل يتعلم مع المرأة في مدرسة واحدة في أوروبا وينقطعان إلى دروسهما، ثم بعد إتمام سني المدرسة يخرجان، وقد يوفقان للفراغ والتفكير فترى الرجل يخترع الأشياء وترى المرأة لا تخترع.
وقد تصل المرأة إلى ما وصل إليه الرجل في العلم والعمل، ولكن بعد اللتيا والتي وبعد أن تخرج عن طورها وسنتها الطبيعية، فهي في ذلك الوقت رجل لا امرأة، والطبيعة حاكمة بالقسمة؛ فقسم رجال وقسم نساء (فلا يغيرن خلق الله).
وإن مساواة المرأة الرجل في بعض الأحيان أمر عارض لا أمر جبلي (والفرق مثل الصبح ظاهر).
وعملا بمقتضى الطبيعة وحفظا للصحة، يلزم أن تتعلم المرأة في المدرسة والمنزل ما يلائم درجتها لا غير.
نحن لا نجد في تاريخ المرأة ما يجعلها في صف الرجل؛ فلا يجوز أن تسمو إلى رتبته إلا إذا شذت عن فطرتها.
وإن آدم - عليه السلام - سيق بطبيعته إلى جلب المعاش، وحواء سيقت بطبيعتها إلى سكنى البيت وتدبيره، (وفرمان) الطبيعة فرمان من الله مقبول ومعقول.
والمرأة القروية أقوى من الحضرية ولكنها دون درجة الرجل، ولو نشأت مع سباع البادية.
والمادة الثانية من المواد العشر التي في آخر الخطبة تظلم السيدات، فإنا شاهدنا آثار الضعف في كثيرات ممن يتعلمن التعلم الثانوي، فلا بد من معارضة هذه المادة حتى لا تكسر (القوارير).
ولا بأس أن تلزم طائفة من النساء هذا التعلم الثانوي ليقمن بفرض الكفاية في تعليم البنات، ويكون ذلك من قبيل (قتل الثلث لإصلاح الثلثين) أقول ذلك مازحا ولا أقول إلا حقا.
ورأيت في خطبة المقارنة بين المرأة المصرية والمرأة الغربية أن بعض الأمراض العصبية لا يزول إلا بضرب من الموسيقا، فيجب على الطبيب أن يعرف ذلك، كما قال ابن سينا: «وبعض نغمات الزار تصلح لذلك، ولكن أصبح إثم الزار أكثر من نفعه، فالواجب محاربة الزار، وقيام الطبيب بما يلزم.»
ورأيت أن الرجل أخذ المرأة بأمانة الله، وأن الخيانة في الأمانة حرام ومفسدة خطيرة. (روى البخاري) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره (واستوصوا بالنساء خيرا) فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج (فاستوصوا بالنساء خيرا).
ورأيت في الكتاب بعض مؤاخذات عربية تجري على ألسنة كبار الكتاب عند التسرع لا عند التأني واليقظة.
مثل عبارة: (يسبي ربات الحجال بما فيهن المحصنات) في (فصل آراء: رأي في الزواج وشكوى النساء منه) والعربي يقول: (وفيهن المحصنات).
ومثل عبارة: (لا تتفق مع الدجاج) في (فصل آراء: رأي في الزواج وشكوى النساء منه) والعربي يقول: (لا تتفق هي والدجاج).
ومثل عبارة: (فقد لا يطابق الحقيقة) في (فصل آراء: الحجاب أم السفور) والعربي لا يدخل (قد) على فعل منفي.
ومثل عبارة: (لا بد وأن ينتج) في (فصل آراء: ما ذنبنا؟) والعربي يقول: (لا بد أن ينتج).
ومثل عبارة: (بسبب الوساخة) في (فصل آراء: تربية البنات في البيت والمدرسة) والعربي يقول: (بسبب الاتساخ) فليس في اللغة العربية (وساخة).
ومثل عبارة: (وحب القديم حتى ولو كان مضرا) في (فصل آراء: الزواج) والعربي يقول: (وحب القديم ولو كان مضرا).
ومثل عبارة: (ويحسدون بعضهم البعض) في (فصل آراء: تعدد الزوجات أو الضرائر) والعربي يقول: (ويحسد بعضهم بعضا).
ومثل عبارة: (ضمني مجلس بصديقتين) في (آراء: طلاء الوجوه) والعربي يقول: (ضمني مجلس وصديقتين).
ومثل عبارة: (أو التنازع على السلطة) في (فصل آراء: مبادئ النساء) والعربي يقول: (أو التنازع في السلطة).
ومثل عبارة: (ويسنون النظام لصالح بني البشر) في (فصل آراء: مبادئ النساء) والعربي يقول: (لمصلحة بني البشر).
ومثل عبارة: (تنغيص الآخر له) في (فصل آراء: مبادئ النساء) والعربي يقول: (تنغيص الآخر عليه).
ومثل عبارة: (إذا كان أساءها) في (فصل آراء: مبادئ النساء) والعربي يقول: (أساء إليها).
ومثل عبارة: (فسيان أن يعتبره قوم للمنفعة وحدها أو للشهرة) في (فصل آراء: احترام الآراء وآداب الانتقاد) والعربي يقول: (وأن يعتبروه للشهرة).
ومثل عبارة: (سواء كانت في الأطفال أو الكبار) في (فصل آراء: جمال السيدات) والعربي يقول: (سواء أكانت في الأطفال أم الكبار).
ومثل عبارة: (العمار) في (فصل باب التقاريظ) والعربي يقول: (العمران).
ومثل عبارة: (لقلت) في (فصل آراء: الزواج) والعربي يقول: (قلت) لأن اللام لا تدخل على جواب (إذا).
ومثل عبارة: (الصدف) في (فصل خطبة في نادي حزب الأمة) والعربي يقول: (المصادفات).
ومثل عبارة: (وأخبار علانة) في (فصل خطبة في نادي حزب الأمة) والعربي يقول: (وأخبار فلانة).
ورأيت في الكتاب بعض مؤاخذات إملائية لا تخفى على الكاتب، وربما كانت من المطبعة.
أباحثة البادية، أحسنت فكرا وكتابة كما يحسن الأكثرون، بيد أنك سابقة السيدات في ميدان الإصلاح، وتلك مزية لو نالها رجل لكان له شأن في هذا الزمان، فليكن شأنك أعظم وثناؤك ألزم، ولا يصرفنك بعض ما جرى به قلمي، فما أخذت عليك إلا كما يأخذ أستاذ الإنشاء والشؤون الاجتماعية لا كما يأخذ الناقد المثبط، وإني أرتقب يوما أرى فيه أثرك وقد دل على الكمال الذي تحاولين ونحاول.
وإذا رأيت من الهلال نموه
أيقنت أن سيصير بدرا كاملا
القاهرة في (14 شعبان سنة 1328 / 19 أغسطس سنة 1910)
حسين والي
جاءنا من حضرة النظامي الفاضل الدكتور شبلي شميل:
سيدي الأستاذ الفاضل؛ حفني بك ناصف المحترم
أشكرك على النسخة التي تفضلت علي بها من مقالات النسائيات لحضرة الفاضلة باحثة البادية، وقد طالعتها معجبا بعلم صاحبتها ودقة نظرها، ولا سيما إقدامها في مجتمع لا يزال يعد الخروج فيه عن المألوف مهما كان شأنه بدعة مذمومة؛ مما دل على أن علمها الواسع لم يبق في رأسها عقيما، كما هو الحال في رءوس أكثر رجالنا حتى اليوم، ولم أقل نساءنا لئلا أبخسها حقها من الفضل المتقدم بين أترابها، وهن غالبا كما هن شطر عاطل في جسم اجتماعنا.
فباحثة البادية بين النساء المصريات، بل المسلمات، بل الشرقيات عموما لا يقل فضلها في الضرب على مساوئ الأسرة عندنا، والحض على وجوب تعليم المرأة لتحرير عقلها وتقويم أخلاقها بالعلم الصحيح عن فضل قاسم أمين في وجوب تحريرها، وإن كانت لم تطلب لها هذا التحرير إلى الغاية القصوى مثله؛ لأنها لم تطلب إلغاء الحجاب بالكلية، وهو رأي في نظر البعض وجيه، أولئك الذين يقولون: إن الطفرة محال ويخشون الانتفاضات العنيفة، فيطلبون الإصلاح بالتؤدة واللين خوفا من أن تصعيب المطلب يحول دون بلوغه، وإن كان نظام الاجتماع لا يستغني أحيانا عن الثورات العنيفة إذا اشتدت المقاومة في الأحوال الراسية لطول العهد، كنظام الطبيعة نفسه حذو القذة بالقذة ومهما يكن من ذلك، فإن رأيها هذا في نظري، لا ينافي رأي الطالبين اليوم السفور المطلق، وما هو إلا حذر لفظي؛ لأن رفع الحجاب المعنوي عن العقل لا بد أن يؤدي إلى رفع الحجاب الحسي عن الجسم، كما أن طلب رفع الحجاب الحسي دفعة واحدة لا يرضى به حتى المحجوب نفسه، إذا لم يرفع حجاب الجهل عن عقله أيضا، كأنها في ذلك سلكت مسلك دارون نفسه في العلوم الطبيعية؛ إذ حصر الخلق في أصول قليلة تفرعت منها الأنواع الكثيرة بعد ذلك بالنشوء والتحول، حذرا من تصعيب المطلب على أصحاب الخلق أنفسهم، ولكن ذلك الحذر لم يمنع معتنقي مذهبه المعتقدين صحته من إطلاق ناموس النشوء والتحول على الطبيعة كلها؛ لأنه إذا صح النشوء للبعض لا يفهم لماذا لا يصح للكل، فتحرير العقل إلى الغاية القصوى لا يتم بدون تحرير الجسم إلى الغاية القصوى أيضا، فطالب تحرير المرأة لا يسعه أن يطلبه من جهة واحدة، وإلا فكأنه لم يطلبه؛ ولذلك أعتبر نسائيات باحثة البادية ككتاب تحرير المرأة لقاسم أمين في النتيجة المترتبة عليهما، ومقامها بالفضل المتقدم بين النساء كمقامه بين الرجال في الإسلام اليوم، وفي يقيني أن الإسلام لم تحرك فيه حتى اليوم مسألة اجتماعية أهم من المسألة التي نحن بصددها، والفضل في ذلك لمصر وحدها ولأبناء مصر. •••
ليس الغريب أن مسألة المرأة في الاجتماع شغلت الناس في كل العصور، ولا تزال شغلهم الشاغل حتى اليوم في كل المعمورة، فهي من مقومات الأسرة التي هي أساس الاجتماع، بل الغريب أنها مع بساطتها لم يسهل الاتفاق فيها وذهب الناس فيها مذاهب، وكتبوا فيها ما لو جمع لضاق عنه الحصر كأنها من المسائل اللاهوتية العويصة؛ لأن أكثر الباحثين جعلوها كذلك، مع أنها من المسائل الطبيعية البسيطة التي لا يجوز أن يختلف فيها اثنان لولا ذلك، ولا نظن أن منشأ هذا الاختلاف خاص بقوم دون آخرين وبصقع دون آخر، بل هو عام جميع المعمورة، وكائن من أول التاريخ إلى اليوم في أشد المجتمعات البشرية انحطاطا، وفي أكثرها ارتقاء على ضروب متنوعة، فلا بد أن يكون لذلك سبب عام هو أصل كل الاختلافات التي رويت في شأن المرأة، والتي لا تزال موجودة حتى الآن.
فالمرأة منذ القدم مظلومة مهضومة الجانب من الرجل؛ لأنه أقوى منها، وهي مظلومة في كل الشرائع دون استثناء؛ لأن واضعيها رجال حتى إن بعض هذه الشرائع أنكر عليها النفس، أو بالأحرى حتى جاز لأتباعها في عصر من العصور أن يتباحثوا في ما إذا كان للمرأة نفس، وهكذا استبد الرجل القوي الخشن بالمرأة الضعيفة الجاهلة، فحرص عليها الفقير حرص المالك على ملكه النافع له، واستخدمها أحيانا كما يستخدم الحيوان، ولكنه لم يكن يضن بها كما كان يضن به؛ لأن الحيوان بثمن وهي بلا ثمن غالبا، ولم يستمسك كثيرا بالحجاب؛ لأن الفقر كان يطفئ فيه آياته الشهوانية، وحرص الغني عليها حرص غيره، فدفنها حية في قبور من القصور، وكفنها بأكفان من الحجاب، حتى إذا برزت من خدرها مشت متثاقلة كالبرميل الموشح، وهي تهتز على محورها وتتعثر بظلها، ولم يعدم الشعراء من خيالهم تصورا للتغني بهذا الشبح، وغار عليها من النسيم لئلا ينقل إلى سواه شذاها، وحتى من النور لئلا تمتد الأبصار به إلى مرآها، فإذا مات وئدت معه حية، كأنها متاع له لا يجوز أن يفصل عنها أو كأنها جزء منه، ولكنه يجوز له أن يفصل عنها واعتبرها بذلك أحط من الحيوان، الذي كانوا إذا غالوا في القسوة عليه ربطوه إلى جانب القبر حتى يموت، وهي قبلت بذلك مرغمة بالقوة مستسلمة للجهل، حتى حسبت كل ذلك واجبا عليها وحقا له:
والمرء إن ما اعتاد متربة
فإن تصنه فهو يمتهن
حتى قتل الترهل قواها الجسدية، والجهل مواهبها العقلية، والرجل يحسب أنه بذلك صانها وصان نفسه بها وما صان فيها إلا جهله؛ إذ المرأة مرآة الرجل جاهلة فجاهل وعالمة فعالم، وما صان الجهل أدبا ولا أوصد أبوابا ولا أعز أمة، وأمنع حجاب توسيع العقل بالعلم الصحيح وتقويم الأخلاق بالتربية القويمة، وأكفل كافل الاختبار بالنفس لصيانة المصلحة، فالذي قياده بيده أمنع جدا إذا امتنع ممن قياده بسواه.
فالحجاب بقية باقية من ضروب الظلم التي حاقت بالمرأة من أول عهد التاريخ إلى اليوم، والحجاب على المرأة المسلمة إلى الحد المألوف اليوم، من غير تخريج أو تأويل، لا تقبله العقول الناضجة أيا كانت، وهو سبب عيوب الأسرة الشرقية عموما، والمصرية خصوصا التي قامت باحثة البادية تنبه إليها في نسائياتها طلبا لإصلاحها، وأي دليل أوضح على أن فساد الأسرة هذا إنما هو من مقام المرأة فيها المنافي للطبع؛ إذ الحرية المتبادلة في نظام الطبيعة حق طبيعي لا يجوز أن تسلبه حتى ذرات الجماد، وإلا كانت أعمال الطبيعة أدعى إلى الخراب منها إلى العمار، وهي في الاجتماع البشري حق واجب بل ضروري أيضا؛ لأن المرأة فيه شطر من شطري جسمه، فإذا سلبت المرأة الحرية عرج الاجتماع ومشى على رجل واحدة، وفيها قيد أيضا إذ تصبح المرأة حينئذ عالة عليه عوضا عن أن تكون عونا له، ولا حاجة بنا إلى إطالة البحث لوضع المقدمات المركبة لاستخراج النتائج البسيطة؛ فإن علم المقابلة البسيط يغنينا اليوم عن كل ذلك، ولا أقل من أن نقارن بيننا وبين الأمم الراقية لنقف على الفرق الجسيم بين مجتمع المرأة فيه مدرجة حية في الأكفان، مدفونة بين الجدران، عقلها محجوب عن أنوار علوم الاختيار، كما حجبت حواسها عن نور الطبيعة، وبين مجتمع ترى المرأة فيه على ضد ذلك، ونقابل فقط بين أطفال الامرأتين في مجتمعنا ومجتمعهم، فأين قذارة أطفالنا من نظافة أطفالهم وسقم أطفالنا من صحة أطفالهم، ورعونة أطفالنا من رصانة أطفالهم؟! حتى إن صبيانا ليفوقوا رجالنا في العزائم، فيشبون على الجد والعمل، ونشب نحن على السخافة والكسل، فيستطيلون بأيديهم إلى كل عمل نافع، ونستطيل نحن بألسنتنا إلى كل دعوى فارغة، وإذا دمغتنا الحجة أخذنا نفتش على عيوبهم الجزئية لنستر بها عيوبنا الكلية، غير ناظرين من خلال ذلك إلى ارتقائهم وانحطاطنا وتقدمهم وتقهقرنا الكليين، وما كان هذا الارتقاء لهم يوم كانت المرأة عندهم مسلوبة الحرية، محجوبة عن نور العلم، فقد كانت مظلومة كذلك عندهم، وإن لم تكن محجبة كما هي عندنا، فإن دروب الظلم كثيرة.
وأغرب من كل ذلك أن مثل هذه الدعاوى الفارغة التي نطمئن إليها تجوز على كثيرين ممن هم في مقام القادة أو أن البعض يجيزونها نفاقا يجعلونه طعاما على رؤوس صنانير أغراضهم لاصطياد أغرارنا به، والأدهى محاولة البعض من هؤلاء وأولئك إخراج البحث في الموضوع من وجهته الاجتماعية إلى وجهة دينية، بحسب أهوائهم وعلى قدر أفهامهم، وما يقصدون بذلك إلا إزالة التكافؤ من بين المتباحثين لينقلوا الكلام من أن يكون بين الناس بعضهم مع بعض إلى ما بينهم وبين الله، لعل المعارض يجبن ويكون صمته عونا على تأييد ما يدعون، كما يفعل منتقدو الزهاوي، وقد يظن بعض السياسيين أنهم يأتون ذلك عن حكمة ليدفعوا عنهم شر الجهلاء، كما فعلت الحكومة العثمانية الدستورية اليوم؛ إذ ظنت أنها تملك قيادة الجهلاء، وهم لا يملكون إلا إقامة العدل الصحيح ومن ورائه السيف حتى يقره العلم، فتزلفت إليهم بأنها منعت نشر أفضل كتاب في الإسلام لأعظم مصلح من المسلمين وهو كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين، وما أشبه سلوكهم في هذه المسألة بسلوك عرابي؛ إذ قام يتبرك بالحجب، ويلبس المسابح ليتقرب إلى العامة وهو يحسب أن النصر له من ورائهم! وما كان له من ورائهم إلا الفشل وهم بعملهم هذا اليوم، أبعدوا غاية الدستور عنا أجيالا، غافلين عن أن التنازع حولنا اليوم شديد. •••
قد يقول بعض الذين ينظرون إلى الأشياء مجردة أن الإسلام ارتقى في الماضي وما كان حجاب المرأة عقبة في سبيله، وهؤلاء لو نظروا إلى الاجتماع كما ينبغي أن ينظر إليه؛ أي: بنظر المقابلة، لعلموا أن المرأة كانت في تلك العصور متناسبة في الظلم في كل المعمورة، ولم يكن بينها هذا التباين الشديد الذي نراه الآن، فالمرأة الغربية لم تكن أفضل من المرأة المسلمة في تربيتها وفي علمها، وأما اليوم فمن المستحيل أن يتم للمسلمين ما تم لهم في الماضي مع سائر الأمم بسبب هذا التباين، وإذا طال جمودهم على حالهم هذه ولم يجاروا جيرانهم في كل شيء، كان مصيرهم إلى حيث تقضي سنة التنازع بين المتنازعين غير الأكفاء.
على أن النهضة التي قام بها قاسم أمين منذ سنين قليلة وتلته فيها باحثة البادية، والتي نراها تتجسم أكثر فأكثر كل يوم، كما يدل تكاثر الباحثين في الموضوع وميل الأكثرين منهم إلى شد أزرها ولا سيما في هذه الآونة الأخيرة، تبشرنا بأن مساعي المصلحين وإن لم تظهر نتائجها العملية في المسلمين اليوم، فسوف لا يمضي زمن قصير حتى تجني منها الأجيال القريبة كل الفوائد المطلوبة؛ إذ تكون الرؤوس البالية بما فيها من الأفكار المتعفنة قد انقضت - والعادات دين ثان - فتشب الرؤوس الجديدة على المبادئ الجديدة الموافقة لمصلحة الإنسان المشتركة في العمران، والمتغيرة بحسب روح كل عصر طبقا لاحتياجات كل زمان عملا بسنة الارتقاء وغلبة الأصلح، والعلم الصحيح؛ أي: العلم الاختباري دين أيضا.
واقبل أيها الأستاذ الفاضل فائق احترامي.
الدكتور شبلي شميل
باحثة البادية والآنسة مي
بين كاتبتين
1
إلى باحثة البادية
ترنمت باسمك قبل أن أعرفك، واتخذت ذكرك عنوانا لنهضة المرأة المصرية قبل أن أطالع مقالاتك؛ لأن أصوات الجمهور قد اتفقت في الثناء على فضلك، غير أني عثرت بالأمس على مجموعة كتاباتك القديمة النفيسة، فانحنيت عليها ساعات طويلات، فيها خيل لي أني أقلب صفحات نفسك المفكرة المتوجعة.
ثلاث سنوات مضين، وتلك المجموعة محفوظة بين دفات المكاتب، أو مبعثرة بين الأوراق والأسفار المتراكمة يوما بعد يوم، لكن سرها ما زال مترقبا يدا تلمسه.
سنوات ثلاث، فيها مشت البشرية خطواتها المعدودات متعثرة بالعظام والجماجم، منشدة أهازيج النصر الكاذب وتهاليل الفخر الباطل، وقواها الغالية تسيل على شفار السيوف، ودماء حياتها تجري أنهارا في سهول قد أخفت نجمها الجميل، وثمراتها الممتعة خوفا من وحشية الإنسان.
سنوات ثلاث، فيها شعرنا بارتداد صدمات السياسة والاقتصاد والأطماع المتزايدة، فيها ارتفعت دويلات جادة مجتهدة وتهشمت أعضاء تركيا العظيمة بتاريخها، الضعيفة بإهمالها وتهاونها، وقد جاش لذلك كل ما في صدر الإسلام من النخوة القديمة، وبكت له قلوب الغيورين على مصالح بني عثمان.
كل ذلك ومصر مصر، بكآبتها وانعطافها واندفاعها، كل ذلك ونحن هائمون على وجوهنا في صحراء الفوضى، صخور التقاليد القديمة تدمي أقدامنا الجديدة، وأشواك الاصطلاحات تجرح أيدينا الممتدة للمس أشياء نظنها موصلة إلى حياة نريدها عظيمة. والسراب الجميل اللامع في حدود المستقبل غير المحدود يستدعينا آمرا، كأنه نظرة عين فتانة، فنجري في الصحراء ولا ندري إلى أين المصير!
سنوات ثلاث؛ مررن على يوم فيه ارتفع صوتك مرشدا عائلتنا، لا تزال على ما كانت عليه وأفكارنا لم تتغير إلا قليلا، وعواطفنا ما برحت بين تيارات متعاكسة، دائمة الاضطراب بين ما ندعي أننا نعلم وما نجهل أننا لا نعلم! غير أن الأصداء الخفية ما زالت ترجع همس ذلك الصوت الرخيم.
بالأمس لمست نفسك وقرأت أفكارك فتعثرت على جراح بليغة وودت تقبيلها بشفتي روحي، وما أطبقت الكتاب إلا وأنا ألثم بناني على غير هدى، ولم يكن ذلك إلا إجلالا لصفحات قلبتها وحبا لنفس استجوبتها فعرفتها.
فيا من «ارتفع قلبها إلى فكرها وانحنى فكرها على قلبها» أيتها الباحثة الحكيمة، لماذا تصمتين؟
تتوالى الأيام ونحن في ضلال مبين، الرجل يجاهد في حرب الاقتصاد الدائمة، الرجل تائه في مهامه أشغاله، فإذا كتب بحث في العموميات، وإذا أجال قلمه في الخصوصيات فهو لا يستطيع البلوغ إلى نور الوجدان النسائي؛ لأنه يكتب بفكره، بأنانيته، بقساوته، والمرأة تحيا بقلبها، بعواطفها، بحبها.
علاتنا مستعصية لا يشفيها إلا طبيب يعرفها، والمرأة بعلة جنسها أدرى فهي تستطيع معالجته، ولا تطالب هذه الخدمة الشريفة من فتيات لا يعرفن من الحياة إلا ما يصوره لهن الخيال المخيم بطلانه على منابت العواطف المخصبة، هذا اعتراف ساذج صادق: الفتيات لا يداعبن القلم إلا لينثرن الدموع أو ليصورن الابتسامات، وما تجاوز ذلك علامات استفهام متتالية، وإن لم ير فيها من الاستفهام شيئا.
لكن الزوجة والأم التي أعطيت ذكاء وفطنة وعلما وشعورا قويا، تدرك بواسطته كل ما في الحياة من حلاوة ومرارة، تلك تستطيع وضع المرأة في مركزها السامي، وتلك تقدر أن تعمل في مزاج نصفي الشخصية المتألمة، شخصية المرأة وشخصية الرجل فيا سيدتي ...
لدينا قلوب تحترق ولا ندري أي نار تحرقها، وتلتهب شغفا بما لا نعرف ماهيته، فعلمينا أنت التي كنت فتاة قبل أن تكوني أما، كيف نرشدها وإلى أين نوجهها!
لدينا نفوس عزيزة تنمو فيها ميول مبهمة ورغبات حارة، فأرشدينا أي الأعشاب فاسد فنقتلعه وأيها الصالح فنسقيه ماء الرعاية والحنان!
قولي يا سيدتي تكلمي!
ضمي يدك الباردة إلى الأيدي التي تحاول رفع هذا الجيل من هوة الحيرة والتردد، ساعدي في تحرير المرأة بتعليمها واجباتها، إن صوتا خارجا من أعماق القلب، بل من أعماق الجراح كصوتك قد يفعل في النفوس ما لا تفعله أصوات الأفكار.
لا يهمنا أن تخفي تلك اليد النحيفة وراء جدران خدرك، وأن تحجبي هيئتك الشرقية وراء نقابك الشعري، ما دمنا نسمع صوتك في صرير قلمك، ونعرف منك روحك العالية.
فهنيئا لوطن يضم بين بناته مثيلاتك، وهنيئا لصغار يستقون وعود الهناء من ابتسامتك ويسكبون حياتهم في قالب حياتك!
مي
إلى الآنسة مي
تفضلت فكتبت إلى كلمتك العذبة في الجريدة وكنت إذ ذاك بين مخالب الموت، فلم يكن في وسعي أن أمسك القلم لأرد عليك، وإن كانت مخيلتي لم تبخل بالرد، كانت رسالتك عزاء جميلا لي في مرضي الطويل المؤلم، وبلسما ملطفا لجراحي البالغة التي قلت: إنك عثرت عليها، آلامي أيتها السيدة شديدة، ولكني أنقلها بتؤدة كأني أجر أحمال الحديد، فهل تدرين يا سيدتي ما هو لي؟ ليس لي بحمد الله ميت قريب أبكيه، ولا عزيز غائب أرتجيه، ولا أنا ممن تأسرهم زخارف هذه الحياة الدنيا، ويستولي عليهم غرورها، فأطمع في أكثر مما أنا فيه، وليس لي حال سيئ أشتكيه، ولكن لي قلبا يكاد يذوب عطفا وإشفاقا على من يستحق الرحمة ومن لا يستحقها، وهذا علة شقائي ومبعث آلامي، إن قلبي يتصدع من أحوال هذا المجتمع الفاسد.
وما لي أحمل نفسي أعباء غيرها، ولست بمسيطرة على هذا العالم، ولكني كنت عاهدت نفسي على الأخذ بيد المرأة المصرية، ويعز علي أن أتخلى عن هذا العهد وإن كان تنفيذه شاقا، ومحفوفا بالصعوبات ويكاد اليأس يسد طريقي إليه.
كنت اعتزلت الكتابة لا لنضوب مادتها عندي، ولا اكتفاء بالقليل الذي كتبت من قبل، ولكني كنت مللت المناداة بإصلاح المرأة المصرية، وثبط عزمي ما أراه من انصراف فئة المتعلمين والمتعلمات الجدد عن العمل لتكوين القومية المصرية المطلوبة، وما حركتهم التي ملأوا بها القطر صراخا إلا عنوان نهضة كاذبة.
تسألينني يا سيدتي أن أدلك وسط هذه الأحوال المضاربة والآراء المتشعبة عن الطريق الذي يحسن بالفتاة نهجه، وإنها لحال توجب الحيرة، ولا ندري أي الطرق نسلك لنصل سريعا إلى الغاية التي نقصد إليها، كلنا يرمي إلى تقدم الفتاة وتنورها وإعدادها لأن تكون زوجة صالحة وأما نافعة أبناءها ووطنها، ولكن لكل مناد بالإصلاح وجهة هو موليها، فبعضهم لا يرى لهذا التأخر والجهل من سبب إلا كان راجعا للحجاب، وهؤلاء قرروا وجوب سفور المرأة المصرية حالا، ونسوا حكمة التأني والتحفظ عند إرادة الانتقال من طور مظلم مألوف إلى طور لم يعهد من قبل؛ تكتنفه المدهشات واللوامع البراقة الجذابة التي تكاد تغشى الأبصار.
وفريق لا يرى السفور فائدة، ويقول: إن الحجاب لا ينفي العلم وإن إطلاق الحرية للمرأة أخيرا كان سببا لفسادها، وإن اطراد تعليم المرأة وتثقيفها سيكون مجلبة للشغب ولخروجها عن حدود وظيفتها في المستقبل، كما خرجت أختها الغربية الآن، فأي الطريقين نسلك ومن نتبع؟ إننا معشر النساء لا يزال ظلم الرجل يرهقنا، واستبداده يأمر وينهى فينا، حتى أصبحنا ولا رأي لنا في أنفسنا، فإذا قال لنا: اختبئن حتى تدفن بالحياة صونا لكن وتدليلا كما يقول المتنبي في رثاء أخت سيف الدولة:
على المدفون قبل الترب صونا
وكقوله في أخت ممدوحه الثانية من رثاء أيضا:
وما رأيت عيون الإنس تدركها
فهل حسدت عليها أعين الشهب
وهل سمعت سلاما لي ألم بها
فقد أطلت وما سلمت عن كثب
إذا أمرنا الرجل أن نحتجب احتجبنا، وإذا صاح الآن يطلب سفورنا أسفرنا، وإذا أراد تعليمنا فهل هو حسن النية في كل ما يطلب منا ولأجلنا أم هو يريد بنا شرا؟ لا شك أنه أخطأ وأصاب في تقرير حقنا من قبل، ولا شك أنه يخطئ ويصيب في تقرير حقوقنا الآن.
نحن لا نأبى أن نتبع رأي العقلاء والمصلحين من الأمة، ولكننا لا يمكننا كذلك أن نعتقد أن كل من يتصدى للكتابة في موضوع المرأة من العقلاء المصلحين؛ ليدعنا الرجل نمحص آراءه ونختار أشدها، ولا يستبد في (تحريرنا) كما استبد في (استعبادنا)، إننا سئمنا استبداده، إننا لا نخاف من الهواء ولا من الشمس وإنما نخاف عينيه ولسانه، فإن وعدنا أن يغض بصره كما يأمره دينه، وإن يكن لسانه كما يوصيه الأدب، نظرنا في أمرنا وأمره، وإلا فكل منا حر يفعل ما يشاء، والسلام عليك أيتها الفاضلة من المعجبة بك المثنية على أدبك الجم وعلمك الغزير.
باحثة البادية
إلى باحثة البادية
ليس أعز لدينا من لطفك إلا حزمك وصراحتك، وليس أجمل من صدى صوتك إلا فعل معناك، وإني لأقبض بيدي لأعترف بأني أحب - أستغفر الله وأستغفرك يا سيدتي - آلامك النفسية الشديدة من جراء شقاء الإنسانية وضلالها، وأتمنى من أعماق فؤادي أن تجد دواما تلك الآلام منفذا رحبا إلى قلبك، وأن يبقى ذلك القلب كريما لينا ينجرح لجرح الغريب ويبكي لبكاء المظلوم، ويشفق على المتوجع أيا كان، بالاختصار: عفوك! عفوك! أتمنى لك العذاب المعنوي؛ لأنه النار المقدسة. أجل، هو النار التي تطهر النار التي تلين النار التي ترفع النفس على أجنحة اللهيب إلى سماء المعاني السامية والميول الرفيعة والرغبات الكريمة، والتحمس لإجراء الإصلاحات اللازمة وتنفيذ المبادئ الطيبة، والنهوض بالاجتماع نهضة تهتز لها القلوب حمية وطربا.
أتمنى لك ذلك، ولولاه لما وجدنا في كتاباتك تلك الأنة العميقة التي تنبه الفكر وتلمس العاطفة في آن واحد.
لا أنكر أن أنانيتي تتكلم الآن، غير أني قلت ما قلت مسرعة هامسة فابتسمي له إن شئت، وإلا فلا تصغي يا سيدتي ولا تسمعي، بل اسأليني عما أهمس به لأجيب أني أحمد الله على إبلالك وأني أسأله أن يديمك سالمة وما أغلى سلامتك لدنيا!
جئت أسر إليك أمرا وقفت عليه عندما شهدت صدى مقالتك لدى جمهور القراء، اسمعي يا سيدتي الباحثة، وصوني سري!
رأيت جميعهم يتقبل أقوالك بنظرة الفخر وابتسامة الإعجاب، ولكني رأيت أسيادنا الرجال - ... أقول: «أسيادنا» تخمد نار غضبهم - قلت: إني رأيتهم يطربون لتصريحنا بأنهم ظلمة مستبدون، نعم آنست ذلك في ملامح كل من قرأ مقالك أمامي من أسيادنا الرجال.
فذكرت إذ ذاك ألا سرور في العالم يضاهي سرور التفاهم، فإذا شعر المرء بأن من يفهمه كان سعيدا، سواء لديه إن تعرف منه على صفاته أو علاته؛ لأن معرفة العلات تتبعها حتما معرفة الصفات، وإن كان الخير أقل انتشارا من الشر، وما النقائص إلا فضائل مضخمة مكبرة تتسع وتستفيض دون أن تجد لها من الضمير مهذبا فتتجاوز الحدود المعنوية التي عينتها اصطلاحات الاجتماع - إذا كانت اجتماعية - أو رسمتها علوم النفس والأخلاق، إذا كانت أخلاقية.
فعملا برغبة التفاهم، وطبقا لنظام المباهاة، وتوصلا للاستمتاع بنتيجة هذه المباهاة وذلك التفاهم كان وسيكون السارق دائم المفاخرة بوقوف الناس على براعته في اختيار الطرق الجديدة واستنباط الحيل الغريبة، وكان وسيكون القاتل مسرورا بإعلان آثامه للورى آملا أن يجدوا فيها أعمال بطل من نوعه! وكان وسيكون السياسي جادا في إقناع الآخرين أن دهاءه اقتدار وسوء ظنه وروغانه فطنة وحكمة، كذلك الرجل يسر ويرجو ويريد أن تشعر المرأة باستبداده ظنا منه أن الاستبداد هو السيادة، وأن هذه مقياس ذاتيته التي يريدها كبيرة، رضيت المرأة عن تلك السيادة أم تمردت عليها في نظره سيان، بل أظنه - سامحني الله إن كنت مخطئة - مؤثرا تمردها على إذعانها؛ لأنها كلما زاد تمردها زاد شعوره بالسيطرة، وأشد الملوك فرحا بهز الصولجان وأرفعهم للرأس كبرا وتيها تحت ثقل التيجان، هم ذوو العروش المتداعية للهبوط، والرجل ملك متداع عرشه؛ لأن ريح الفوضى تهب عليه من كل جانب، وخطوات الارتقاء النسائي تتوالى متمكنة مع مرور الأيام.
لكنه ملك عزيز!
هو الأب والأخ والصديق والخطيب والزوج فإذا سقط سقطنا معه، وإذا ارتفع كنا بارتفاعه عظيمات؛ لذلك نريد له خيرا ونجتهد في تأييد دولته، بشرط أن ينصب عرشنا بقرب عرشه، وأن نقف إلى جنبه وقفة المثيل بجوار المثيل، نريد أن نكون متساويين في الواجبات والمسؤلية، بل إن واجباتنا ومسؤليتنا يفوقان ما عليه من مسئولية وواجب!
فيا ترى متى يرضى الرجل بتقرير هذه الحقيقة؟
ما أطيب قولك، يا سيدتي الباحثة، إنك تشفقين على من يستحق الشفقة ومن لا يستحقها! الرجل من الذين يستحقون الشفقة؛ لأنه لا يعرف أنه يستحقها إنه باستعبادنا لمنتحر، ولو صرفنا النظر عن مستقبل الذرية وبحثنا في حياته الفردية لوجدنا أن ما من أحد يساعده على التخلص من الشوائب الشائنة، ويحثه على إنماء شخصيته الغنية المخصبة إلا نحن، كما أنه لا يهدينا إلى واجباتنا ويضع في ضعفنا قوة إلاه.
الحجاب؟ وما الحجاب؟
مرحبا به ما دمنا في وسط لا يعرف كيفية معاملة المرأة ولا يستطيع احترامها، ولكن كيف نلوم الرجل على كلامه ونظراته ما دام رجل اليوم صنع امرأة الأمس؟! هكذا علمته أمه وإن لم تعلمه ذلك فإنها لم ترشده إلى ما يفضله، ولا ذنب لها لأن قصورها في جهلها لم يكن إلا نتيجة اتفاق أبيها وزوجها على جعلها عبدة، لا لوم على أبناء تلك الأمهات، إلا أن مستقبلنا صالح؛ لأن حاضرنا مملوء بالآمال الطيبات، النشء تتنازعه طبائع الوراثة ومؤثرات العصر وعواصف الفوضى المهاجمة قديم التقاليد من كل ناحية، ولكنه ينشد الصراط السوي ويصغي إلى صوت الإصلاح فارفعي صوتك، يا سيدتي، ولا تيأسي! قولي بصراحتك واكتبي بشجاعتك! جاهري ولا تصمتي!
إن البذرة التي تزرعها اليوم يد زارع تنبت سنبلة في كيانها حياة الغد، وما يتبعه من الأيام، وعندما تخضر المروج بنصرة الرجاء، فتتماوج فوق غلتها نسمات الحياة، إذ ذاك سيسمع المستقبل صدى جيل يردد أبيات الأمير شوقي:
صداح يا ملك الكنا
ر ويا أمير البلبل
صبرا لما تشقى به
أو ما بدا لك فافعل
فتجيب الأصداء الجديدة: لقد فعلت! لقد فعلت!
مي
الساعة المفقودة
جعلها أرباب التجارة حلية نسائية، وأتقن الجوهري وضعها في سوار ذهبي فكانت نصيبي في الشرى.
صورة مصغرة للكون كذلك كانت ساعتي، مساحتها رمز للفضاء، دورتها مسرح اللانهاية، حدودها حدود الإمكان، علاماتها مقاطع الوقت الذي رتبه الإنسان، ساعاتها مقياس الأعمال، دقائقها خوف من هجوم الرزايا وترقب لوفود الآمال، ثوانيها دقات القلب ... من الثواني يتألف الزمان ومن نبضات القلب تنسج الحياة نسجا.
فيا لهول ثواني الزمان، ويا لهول نبضات قلب الإنسان!
بين ثانية وثانية يلتقي العدوان في أحشاء الثرى: الماء والنار، فتميد الأرض بمن عليها، وتنفطر أساساتها فتقذف البراكين مقذوفاتها الجهنمية وسوائلها النارية، وتزفر الطبيعة زفرتها القتالة فتلتهم صروح العمران، وتفتح صدرها مرحبة ببنيها، تفتح صدرها مرحبة فيتدحرجون إلى الهاوية التي ليس فيها من يعود على وجه البسيطة مخبرا.
بين ثانية وثانية يتلاقى الجيشان في ساحات الوغى، فتدوي وعود المدافع في الفضاء، وتختطف بروق السيوف غالي الأرواح؛ ولأجل كلمة غالب أو مغلوب تندك عروش وتنتصب عروش، تدمر ممالك ويعمر سواها، تخرب مدائن ويشاد غيرها، تتجندل الأفراد وتفنى مجامع؛ فترتدي الأقوام سواد الألوان، وفي نفوسهم لوعة الفقدان وسواد الأحزان.
بين ثانية وثانية يموت أمل ويحيا يأس، تبتسم شفة وتدمع عين، يخون صديق ويخلص عدو بين ثانية وثانية!
وبين نبضة ونبضة هناك سر الأسرار، دماء داخلة إلى القلب ودماء منبعثة منه، تتهافت عليه جراثيم الموت فتخرج مطهرة حيوية، بين النبضة والنبضة تأثيرات تهتز لها أعماق العمر وانفعالات تشخص لمرورها ذوات الكيان، اشتعال الفكر وخمود العاطفة، ظفر البلاهة وتقهقر النبوغ، لذعات الغرام والحسرات العظام، قنوط ورجاء، سعادة وشقاء، هتاف الروح المسلمة ولهاث الروح المودعة!
يا ابنة أبيك! يغدرنا الزمان ساعة الرجاء، ويخوننا يوم الصفاء، ويهجرنا حين اللقاء، فأنت خائنة هاجرة كالزمان، يا ابنة الزمان!
كم من ساع طيبات وقت مرورهن على دوران عقربيك وفكري يناجيك بأحاديث هداه وضلاله! ابسم لك عند السرور فأتخيلك صامتة تبتسمين، وأتنهد حيالك يوم الأسى فأتوسمك تتنهدين وتحزنين، وكأن عقربيك ذراعان يمتدان نحو العلاء مستغيثين متوسلين.
لما أفنت قلبي وحدة القلب ضغطت بك على ساعدي قائلة: «أنت الصديقة التي لا تخون.» ولما مزقت سمعي أكاذيب الناس وأحاديثهم المؤذية خاطبتك قائلة: «أنت لا تؤذين لأنك لا تتكلمين.» ولما أذابني الجهل بدعواه والغرور بسخافته نظرت إليك قائلة: «أنت عالمة لذلك تصمتين.»
وكنت تعزيني!
وكنت زماني، يا ابنة الزمان!
وعلى هذا ما كان أطول إعراضك عني وأقل اهتمامك بي! في النهار كنت تطوقين ساعدي فيوجعه أثر سلسلتك وأجيب أنا على هذا العنف بلمسة المداعبة، وفي المساء كنت تستريحين بجوار وسادتي، فأوقع على موسيقاك الساهية ألحان أحلامي وآمالي، وفي الصباح كنت أول عين أشاهدها وأول روح أستجوبها.
كل ذلك وأنت لا تنتبهين ولا تعلمين.
وها قد هجرتني، فقدتك فسيري بحراسة الله وانسيني!
ولكن انتخبي اليد التي ستطوقينها!
فإذا وقعت في يد شرير وقصد استعمالك ليؤذي أخا له فانقلبي أفعى لساعة ولا تبرحي مفرغة فيه سمك حتى تصرعيه قتيلا! ... لكن لا، لا! ليس الأشرار إلا ضحايا البشر وضحايا نفوسهم لو كنت تعلمين، وهم خليقون بالرحمة أكثر من الأخيار الصالحين؛ فلا تتحولي حية ولا تؤذي شريرا، بل غادري تلك اليد المسكينة واسقطي في طريق أب فقير لتكوني من نصيب فتاة لم تلبس في حياتها حلية، زيني يدا شوهت خشونة الخدمة جمالها، ونامي على زند الفتاة الغربية بدلال القبلة والتحبب! نامي هناك وأسعدي ولو ساعة قلبا بائسا يحسب السعادة في الغنى!
نامي هناك وانسيني، ولكن!
إن كان لديك ذاكرة تذكر يا ساعتي الصغيرة المحبوبة؛ اذكري لحظة ما شهدته معي من المسرات واللهفات، اذكري واحفظي ما تعرفين!
ولكن ... ألست ابنة الزمان الذي ننسب إليه في ضعفنا كل شيء، وهو في قوته لا يبالي بشيء؟! ترين بأي حافظة تذكرين، وبأي ذهن تتأملين؟! إنما علاماتك مداد قد تحجر، وعقربك إصبع يشير إلى علامة يجهل منها المعنى، وأنت آلة ليس إلا وإن كنت آلة الآلات المثلى.
أنت ابنة الزمان الناسي، وأنت مثله لا تذكرين!
مي
إلى الآنسة مي
عزيزتي مي
لا تستغربي يا سيدتي أني دعوتك «بيا عزيزتي» وسأدعوك باسمك على غير معرفة شخصية سابقة، أقول: شخصية وأحدها؛ لأني عرفتك من كتاباتك الشعرية الجميلة من قبل، وتعرفت منها بروحك العالية الهائمة في الفضاء، وكأنها تبحث عن مستقر لها، فلا يكاد يعجبها مكان تستقر فيه.
وتعرفت بك بالأمس، بل وارتبطت بك من دعائك علي بالعذاب المعنوي، كأني أنا المعنية بقول جميل:
وأول ما قاد المودة بيننا
بوادي بغيض يا بثين سباب
وقلنا لها قولا فجاءت بمثله
لكل مقال يا بثين جواب
وإنما حاشا أن يكون دعاؤك علي سبابا، وحاشا أن يكون له جواب عندي من مثله؛ فإني لم أقابله إلا بالضحك والحلم الذي ركب في غريزتي.
لماذا تدعين علي بالعذاب المعنوي؟! ألا إن العذاب البدني أخف منه وطأة وأعفى أثرا، على أني جربت كليهما وذقت الأمرين منهما معا، تقولين: «لأنه النار المقدسة.» نعم؛ لقد أعطاني من القداسة مقدارا أكثر مما يجب لمثلي، حتى جعل البون بعيدا جدا بيني وبين هذا العالم غير القديس.
تقولين: «إنه النار التي تطهر.» حقيقة أنه تلقى وجداني بالتطهير منذ أن كان لي وجدان حتى صيره شفافا يظهر كل شيء ويتأثر لأقل شيء، وهذا فيه من الضنى والخطر ما فيه.
تقررين «أنه النار التي تحيي.» نعم؛ يا مي إنه أحيا روحي حتى أحرقها؛ لأنه كان كل صباح كمصباح سيال كهربائه شديد، ولكن فتيلته ضعيفة لا تحتمل.
هو «النار التي تلين.» هذا ما أبديت، ولكن ألا تعتقدين أن اللين قد يؤذي ولا يفيد، خصوصا في هذه الدنيا التي كلها صدام وعراك، وأنه لا يفل الحديد إلا الحديد، إنه ألانني حتى صيرني ماء، وما أشد عبث الطبيعة والناس بالماء مع أنه أصل الحياة!
يصبونه فينصب ويريقونه فيختفي في الأرض، ويضعونه في كل آنية معوجة وملونة، فيأخذ كل شكل ويصطبغ بما يراد به من الألوان، تبخره الطبيعة زارية هازئة فتارة ترفعه إلى السحاب وطورا تقذف به إلى الأرض وآونة تعاكسه بصقيعها بردا وآونة تحمى عليه براكينها فيخرج ملتهبا، وحينا تخبث رائحته بكبريتها وزرنيخها فيلعنه الناس إذا أحسوا منه غير ما يريدون وهو بريء، ثم أليس هو رمز الطاعة والامتثال؛ يضعون فيه سكرا فيحلو ويذيبون به الحنظل فيمر، وهم مع ذلك لا يقيمون له وزنا ولا يعترفون له بالجميل، وهو بلا ثمن في أكثر بقاع الأرض وأرخص الأشياء في أقلها، إنه مثلي يا مي يذهب ضياعا.
وختمت حسن تعليلك لعذابي بقولك: «إنه النار التي ترفع النفس على أجنحة اللهيب إلى سماء المعنى ...» إلخ.
نعم يا مي إنني الآن على أجنحة اللهيب، ولكني لم أصل بعد إلى السماء، وإذا وصلتها فلن يعود العالم يراني؛ فهل يا ترى ستعجبني السماء؟! إني أشك في ذلك، إني أول ما حفظت من الشعر حفظت المراثي وأولها رثاء الأندلس، وكنت في حداثتي أقرأ كثيرا ديوان المتنبي وأعجب بروحه العالية وبنفسه الكبيرة، وأظنه هو الذي عداني في ذلك وسمم آرائي - رحمه الله - إني ألذ كثيرا بهذه العدوى ...
وقد قال لي أخي مرة بعد حديث كنت أشتكي له فيه الدنيا وأهلها، وأقول: «لعل الله يجزيني على هذا في آخرتي بالجنة.»
قال متهكما: «أنا واثق يا شقيقتي أن الجنة أيضا لن تعجبك؛ لأنه لا يكاد يسرك شيء.» أستغفر الله!
إنك يا مي خالفت المألوف في التمنيات والمجاملات الفارغة، وهي كثيرة وشائعة جدا الآن (بمناسبة عيدي الميلاد ورأس السنة المسيحيين، قلت: «ابتسمي له» أي: لدعائك «إن شئت وإلا فلا تصغي ولا تسمعي واسأليني عما أهمس به لأجيبك أني أحمد الله على إبلالك وأني أسأله أن يديمك سالمة ... إلخ».)
لا يا عزيزتي، إني أكره الكذب والمجاملات الفارغة ولذلك أصغيت وسمعت وابتسمت (حسب أمرك)، وتسرني جدا صراحتك في الدعاء علي.
أتدرين يا مي أن ذلك اليوم الذي تمنيت لي فيه العذاب كان فيه عيد ميلادي أيضا، وأني تفاءلت خيرا بدعائك وافتتحت عامي الجديد بالضحك من تمنيك، وبصداقتي لك تبعا لذلك التمني المعكوس، أشكر لك يا عزيزتي أمانيك لي ورغباتك الصادقة، وأقر لك أني واقعة فيما رجوت لي والحمد لله، ولكن يا مي لا أتمنى المزيد؛ إنه عذاب طاهر لا يتعدى الميل إلى السكون والشعور بشيء من الحزن الشعري الجميل، ولكنه ولله المنة والشكر، لا تخامره شائبة من الندم ولا من الأسف الأثيم وأخشى أن يزيد ضرام النار التي طلبتها لي؛ فأحترق يا مي أو أصل إلى ذلك الذي لا أريده لنفسي ولا أظنك تريدينه لي.
الساعة المفقودة
عجيب يا سيدتي أنك تريدين عذابي وأنا أريد هناءك! أتدرين ماذا سألقيه عليك فيفرحك؟!
إني وجدت ساعتك المفقودة والتقطتها، رأيتك ترثينها بحرقة فجئت لأمسح دموعك؛ لأني أحب دائما أن أمسح دمعة المحزون، تعالي إلي لتأخذيها وتستغفريها من وصفك إياها بالغدر وبعدم الإحساس، فإنها أحسب بشوقي لرؤيتك فأتت تقدمة لمجيئك ولتعارفنا.
إنها بثت إلي ما كنت تشكينه إليها من العواطف والآلام، عثرت علي وعثرت عليها لنكفي قلبك شر الفناء من الوحدة، ولنؤكد لك أنك وجدت الصديقة التي لا تخون.
حكاية الرجل
والآن فلنعد إلى حكاية الرجل:
عجيب يا سيدتي أمر هذا المخلوق الغريب الأطوار الذي يسمى «بالرجل»، إني أعتقد أنه كريم شجاع وله قلب حساس ولكني أظنه (وبعض الظن إثم) أنانيا قبل كل شيء، ورأيي أن أنانيته وحدها هي أصل رذائله؛ فهو يهضم حق المرأة ويستعبدها، لا لأنه يبغضها أو يتمنى لها السوء ولكن ليلهو بها، وهو يحبها ويموت لأجلها لا لأنه يحبها ولكن ليلهو بها، وهو في كل ذلك واسع الحيلة قوي الحجة فيقنعها فتصدقه وهو كذوب.
أما المرأة فهي دائما تحترمه وتحبه لأنها تحبه صادقة، وإذا كرهته علانية، ولم يكن لذلك البغض من دواء. عرف ذلك أبو الطيب، فقال:
وإن حقدت لم يبق في قلبها رضا
وإن رضيت لم يبق في قلبها حقد
هي صادقة مخلصة دائما حتى وهي خاطئة، هي تحب لتفنى في الحب، ولكن الرجل يحب ليعيش متمتعا بالحب، هي تحزن وقت المصاب لتتفرغ للحزن ولكن الرجل لا يحزن إلا ليبحث عن تعزية وسلوان.
المرأة كدودة القز تفرغ حريرها لتموت، إنها تعلم أن حريرها الذي تقدمه للملأ زينة وحلية سيقتلها، ولكنها لم تحاول قط الخلاص منه.
أما الرجل فهو كالنحلة يتنقل من زهرة إلى زهرة متروضا، وقد يطيل المكث على زهرة ناضرة وإنما ليمتص منها نضارتها وماء حياتها، إنها تحب الأزهار حينا ولكنها تلهو بها أحيانا فتتركها هشيما، وهي تقدم للناس عسلا فيه شفاء لهم وشمعا نافعا ولكنها تعملها لغذائها وسكنها قبل كل شيء.
ظلمنا الرجل حقوقنا، لا لأنه كان ينوي ظلمنا وإنما هو أخطأ كثيرا في حسبانه، وإن ما يزيد في قوتنا يضعف من قوته هو، لعله ظن أن مملكتنا واحدة؛ ولذلك نظر إلينا نظر الدعيات الثائرات، وإنما نحن نريد له السعادة والمزيد من القوة في مملكته، ونرجو منه أن يفك عنا الخناق في مملكتنا المستقبلة التي تشد أزره ولا تفكر في إضعافه قط مهما بلغت من العزة والقوة، إننا نتقدم إليه كأننا ساعده الذي يريد أن يخدمه لا كأننا يد غريبة تريد أن تضربه، إننا منه وهو منا فليطب نفسا وليقر عينا وليعطنا ما نشاء.
وإنما نحن يا مي ضايقناه في بعض شؤون مملكته حتى ظننا نريد منازعته فيها؛ لنترك له السياسة التي يحبها وحمايتنا، وأقول لك همسا: «إننا لا ننفع بدونه، ولكنه هو أيضا لا ينفع من غيرنا!»
إن المطالبات بحق الانتخابات وإن كن يطلبن حقا إلا أنهن ظالمات الرجل وأنفسهن معا، لماذا يرمن مشاركته في الجلوس على كراسي «البرلمان» ولا تقدم واحدة منهن صدرها للقاء كرات المدافع ونصال الفناء في الحرب، الحق أحق أن يتبع.
ليهنأ الرجل بمملكته، إننا لا نهز عرشه ليتداعى إلى السقوط كما تقولين، ولكنا نهزه لنطلب منه «الدستور».
باحثة البادية
ولها في وصف البحر في حالتي صفوه وكدره:
تعالى الله ما هذا الجلال! أيها البحر إنك كأطماع الإنسان لا تنتهي إلا إذا عبر جسر الحياة، كذلك أنت لا يعرف لك حد إلا عند الخروج منك، أو أنك كقلب الرجل مرة تصفو ومرة تغضب، لا أمان لك في الأولى ولا أمان في الثانية، إذا رضيت كنت جمالا وإن غضبت انقلبت نكالا.
أيها البحر، إنك رهوا نعم المركب الذلول، كأن صفحتك من الغمام، يصطخب الموج بين أحشائك ويتلاشى كألفاظ الحاد تمر بسمع الحليم، وتشق البواخر جوف عبابك فتصبر عليها صبر الكليم، تحمل من الأثقال والأكدار ما لو حملته الجبال لخرت هدا، كأن صوتك الهادئ تموجات لحن شجي، وكان أمواجك المزبدة متتابعة متقابلة سرايا جيش منظم يحمل رايات السلام، إذا صحت السماء استعارت صفاء زرقتك وإن تجللت بالغيم حكت لون كدرتك، تضيق عليك الأرض مسالكها فتنكمش وتوسع لك فتنفرج، تجري متواضعا تحت قدميها وأنت أعظم منها قوة وأعز شأنا، تنفجر جبال النار (البراكين) بين ضلوعك فلا تلتاع ولا ترتاع كأنك أجمد من قلب الخلي، أو كأنها بثور بأديمك أو أثر لذع البعوض في وجه الحسناء، كم سقطت فيك جزر وبلدان تحتمي بك من مآثمها ومعاصيها فمسحتها بدموعك ونفيت روعتها بمائك الطهور، ظلموك أيها البحر إذ لم يهتموا بك اهتمامهم بأختك الغبراء، زينوها وتركوك عاطلا ففنيت بجلالك عن جمالها المصطنع، وبحدائق مرجانك وأودية درك عن حدائقها الخضراء وأوديتها الجرداء، وصلتهم فقطعوك، وشايعتهم فناوؤوك، بذلت لهم ما تملكه زينة وطعاما وتسامحت لهم بمائك فحللوه شرابا وأنخت لهم متنك فاتخذوه ركابا، وصقلت لهم جبينك فجعلت منه عند بزوغ القمرين مرآة ومشكاة تفيض عليهم بهجة ونورا، كأن العسجد أذيب فيك نهارا، وتكسرت في ثنائك جداول اللجين ليلا، وأنت أيها البحر الخضم أصل حياتهم، منك الغيث ومن الغيث الحياة، أظللت سماءهم وأنبت غذاءهم وألطفت هواءهم، وفوق ذلك فأنت مستودع أسرارهم وقارورة أقذارهم، فهل تراهم على ذلك يشكرون؟! تالله ما رأيت مثلك اتضاعا في عظمة واحتسابا في قدرة.
وإذا عبثت أيها البحر وكشرت عن نابك، ويا سرعان ما تعبث! فإن الموت في تقطيب حاجبيك يصرح الشر باسمه عند زمجرة منك، كأن جوفك كان مملوءا أسودا فلفظتها فاغرة أفواهها، تبلع من تصادف في طريقها، يدوي صوتك كالرعد القاصف فيمطر وابل المنايا بغير ولي، ما أظلمك أيها البحر! مستبد غاشم؛ تأخذ البريء بدم المجرم أو تأخذه بلا جريرة، إن الله لم يظلمك إذ جعلك ملحا أجاجا، وإن البشر لم يبخسوك حقك إذ امتطوا ظهرك كالدابة ومزقوا أديمك سفرا، وإن أقل خفقة في قلب الأرض تذكر تضطرب على اتساعك، وأدنى هزة من الريح تهز أعصابك، لا أمان عندك فتحب ولا ميعاد لغضبك فتتقى، كأنك في تقلبك رأي الضعيف أو يمين الحانث وفي تلونك كالحرباء، كم مجرم استعان بك على كتمان جريمته، وكم ملك أفنى رعيته ودفن العدل في جوفك كأن آذيك متلاطما قمم الجبال تتساقط كسفا أو رؤوس الجند البريء تتناثر إرضاء لأهواء الملوك الظالمين، كأن جوفك المظلم ضمير الحسود يغلي كالرجل ويخفي ما يخفي تحت ثوب الرياء، تنطح الصخر الأصم كمستجدي البخيل، ثم ترجع أدراجك كالسائل المحروم أو كالجيش المقهور تشمخ بأنفك فترغمها اختراعات الإنسان، وتتطاول على السماء فتسقط إعياء ويرجع البصر خاسئا وهو حسير، لا أثر للرحمة عندك كأنك قلب الكافر الجحود، لا يسوغ لك شراب تمج مرارة كمرارة المظلوم أرهقه العذاب، كأن بريق مائك التماع أسنة الخرصان أو امتداد ألسنة النيران، شاهر سيفك بادئ العدوان، لكنك لا تتمثل في هجومك بما يفعله الشجعان؛ لأنك تطلع على الغافلين بالردى بغير نذير.
لا حبذا أنت أيها البحر من طريق ولا رفيق، لولا اضطرارنا إليك ما سلكناك، ومن يسلم منك فما ينجو من الحمام إلى الحمام كما قال المتنبي:
وإن أسلم فما أبقى ولكن
نجوت من الحمام إلى الحمام
ما أكفر الإنسان وما أضعف إيمانه! أين قوته واختراعه من قدرة الله سبحانه؟! إن في البحر وحده حالتي صفوه وهياجه لعبرة لقوم يعقلون، فسلام عليك أيها البحر ضاحكا وعبوسا، وسلام عليك إنك أبو الكون ومحيطه، وسلام عليك لو لم يكن لك فضل إلا وصل مصر بأجزاء العالم لكفاك بذلك فضلا، ولو لم يكف ماؤك أن يصل لمصر لأكلته بشراييني.
باحثة البادية
Page inconnue