ما لنا ولهذا التكليف الثقيل والبيت باسم الرجل لا باسم زوجه؟! فإن أعجبه أن يفرش في بيت حصيرا فليكن، وإن راقه أن يموه سقوفه وجدرانه بماء الذهب فليفعل، وإن أحب أن يجعله جنات عدن تجري من تحتها الأنهار فحبذا رأيه، وليس للزوج وأهله أن ينتظروا شيئا من العروس فهي وشأنها في مالها، إن حوادث الطلاق فيها عظات كثيرة لو انتبهنا لها، فكثير ما يتنازع الزوجان على الأثاث كل يدعي أنه له، وإذا كان في الرجل مروءة وتركه لمطلقته فإنها تزحم به بيت أهلها ويظل مكدسا يرتع فيه العث والجرذان فتجد مرعى خصيبا، فإذا تزوجت المرأة ثانية وجدت أكثره تالفا أو طال عليه القدم مع ما يستلزمه نقل الأثاث وترتيبه كل مرة من النفقات والتعب.
وإذا لمت الغنية مرة على هذا التبذير فإني ألوم الفقيرة المدعية مرارا، فكم من بيوت خربت وأرض بيعت أو رهنت لا لسبب سوى تجهيز عروس لا يلبث فرشها البهي أن يحول لونه أو يتمزق بعد سنين قلائل، فتكلف زوجها بتجديده أو يبقى خرقا، سمعت عن أب له ثلاث بنات جهزهن واحدة بعد أخرى جهازا كان موضوع الحديث عند معارفهم، وكان له مائة فدان من أجود الأطيان يعيش بريعها عيش الرخاء فباع ثلاثين لتجهيز الفتاة الأولى، ورهن ثلاثين للثانية، والباقي للأخيرة، ولما حان ميعاد السداد لم يف وإذا بالدائنين أتوا على ما ورثه - وهو كل ما يمتلك - وحجزوا على بيته أيضا، فبالله ألا يعد هذا الرجل قصير النظر أخرق؟! وهل أغناه أثاث بناته وقد أصبح معدما ذليلا؟! إنه لمن الجنون، بل ومن القساوة أن تجتهد الفتاة في تخريب بيت والديها لتزين بيت زوجها، ولماذا تقلد كل سيدة من هي أغنى منها؟! وهل يعد التوسط في الغنى أو الفقر عيبا؟
إن المرأة الأوروبية لا ترمي مالها كما نفعل في أوان لا تستعملها وفي خرق تبلى بعد زمن قصير ، بل تستثمر ذلك المال فتنميه وتحفظه للعوز أو تدخره لأولادها من بعدها، أو تنفق منه على الجمعيات الخيرية والمدارس؛ فيجيء البائسين وتحيا بحسناتها، فهي أبرع منا بمراحل في طرق الاقتصاد.
الاقتصاد المالي والمنزلي:
لا تكتفي المرأة الغربية بتنمية مالها، بل تضع (موازنة ميزانية) مضبوطة لإيراد بيتها ومصروفه فلا تخرج عن حد الاعتدال في النفقات ولا تنفق درهما في غير موضعه، وتفحص مشتراها بنفسها كي تتأكد من جودتها واستحقاقها لما تباع به، وتعنى برفو الثياب وتصليحها وتعمل من كل قديم جديدا، وقد تغير شكل الثوب الواحد وزينته مرارا فيبين جديدا. نعم؛ إن فينا تلقاء ذلك كرما ولكن أن لا يكون الكرم إهمالا، فقد تقع بقعة صغيرة على جلباب من الحرير الغالي، فإذا أهملناه لم يصلح للبس، وإذا أعطيناه خادمة أو امرأة فقيرة فقد ينفعها ثوب من النسيج (القماش) البسيط (الشيت) أكثر من ذلك الثوب الجميل، وفي هذه الحالة يكون كرمنا غير مجد، فلو اجتهدنا في إزالة تلك البقعة أو مداراتها بشيء من الزينة (الكلفة) وجدنا على تلك الفقيرة بثوب بسيط لكان أنفع لنا ولها.
إن تربية الغربية مؤسسة على العناية والملاحظة، أما نحن فقلما نتنبه إليهما، تقتصد المرأة الغربية من مالها بما تظهره من براعتها وعملها؛ فهي تخيط لنفسها ولزوجها ولأولادها وتكوي ثيابهم، أما نحن فالبيوت المتوسطة كلها تكوي في السوق وتخيط كل شيء حتى التافه عند الخياطات، بعشرين قرشا يمكن للمرأة الغربية أن تحضر طعاما لبيتها وتجعله لذيذا شهيا بكثرة الجوارش (السلطة) والحلوى، أما العشرون قرشا عندنا فتهيئ بها المرأة طعاما ولكن غير كاف ولا شهي.
إن الإفرنج رجالا ونساء يعرفون كيف يجتذبون الأنظار، ويجعلون الشيء المتوسط في الحسن جميلا، قد رأيتن من بضاعتهم ما هو أقل متانة من بضاعتنا الشرقية، ولكنهم يضعونها في حوانيت واسعة منارة بالكهرباء ويرصونها داخل ألواح من الزجاج فتجتذب المارة، ثم هم يختارون لتجارتهم محلا من المدينة يكثر عليه الغادون والرائحون، أما تجارنا فهم بمعزل عن ذلك التفنن؛ إذ قد تكون حوانيتهم في نقطة غير مطروقة كثيرا أو يهملون في عرض بضاعتهم وإعلانهم عنها فتبور، ومثل تجارنا في حوانيتهم كمثلنا في بيوتنا ففينا من الذكاء والمقدرة ما يمكننا من جعل بيوتنا جنة، ولكن قلة العناية هي التي تخل نظامها وتعطل ترتيبها.
العمل:
أما العمل البيتي أو الخارجي فإننا يجب أن نعترف للمرأة الغربية بسبقها إيانا فيهما، وإن كانت غنياتنا وأغلب غنياتهم لا يكترثن إلا بالملاهي والأزياء، ولكن المتوسطات هناك لا يأنفن مزاولة الطبخ والكي وترتيب أثاث البيت كما تأنفه متوسطاتنا، وفقيراتهن يعملن ما يقوم بحاجاتهن وحاجات من يعلنهم (عائلاتهن)، أما فقيراتنا فإما أن يسألن وإما أن يشتغلن بعمل قليل الكسب، والشواهد كثيرة على ذلك وأقربها - وهو ما نعرفه كلنا - أن الخياطات المصريات لا نكاد نجد بينهن واحدة يمكنها تفصيل الثياب وخياطتها جيدا، وهن لعدم إتقانهن العمل يكتفين بأجرة قليلة مع ما يتكبدنه من التعب وإنفاق العافية، فتأخذ الواحدة خمسة قروش أو عشرة أجرة الثوب في حين أن الإفرنجية تطلب جنيهين على الأقل مقابل تعبها فقط، وكذلك الطبيبات منا يكتفين بدروس قليلة في التمريض ولا ينظرن لمثيلاتهن الأجنبيات اللاتي برعن في الطب ونلن نفس شهادات الرجال، كذلك المربيات والخدم المصريون لا يفقهون معنى التربية، وأغلب الخادمات لا يصلحن لمزاولة مهنتهن فنضطر أن نجلب هؤلاء من الإفرنج.
يقولون: الحاجة أم العمل، فما بالنا نكسل ونقصر ونحن في شديد الحاجة لأمثال هؤلاء الخياطات والطبيبات والمتعلمات وغيرهن؟! إن من فروض الكفاية أن يكون كل هؤلاء مصريات في مصر حتى يمتنع بعض مالها من التسرب إلى جيوب الأجانب وهن ساكنات ينظرن، لقد أصبحت كلمة «مصرية» في أفواه الأجانب عنوانا على الكسل وعدم المقدرة، فهلا يبعث فينا ذلك التعبير روح النشاط وحب العمل؟! هلا حاكيناهن فيما تفوقن فيه علينا من العلم والعمل؟! أم هل تكفي محاكاتنا لهن في الزي والتصنع لأن نصبح مثلهن؟! إنهن أسسن الجمعيات وأدرن المستشفيات والملاجئ وقمن يشتغلن بكل فن، حتى إنهن يطلبن مشاركة الرجال في الانتخاب لحكم بلادهن، وما ذلك إلا نتيجة العلم والتربية على حب العمل .
Page inconnue