هذا رأيي في احترام الآداب وآداب الانتقاد، أوجهه للفتيات والسيدات فقد ابتدأنا نعترض ويعترض علينا، وإذا كنا ننقد الرجال في كثير من الأمور؛ لأنهم سبقونا في التعلم والبحث، هؤلاء قد بلغ بعض كتابهم من الهوس وسقط المتاع إلى الخبط والخلط، وحشو عام المواضيع بالشخصيات، ومزج الانتقاد بالعداوات والمشاحنات، فأنبه أخواتي من النساء أن يجتنبن الهوة التي وقع فيها بعض إخوانهن، فالباطل أولى أن يجتنب والحق أحق أن يتبع، والسلام. (13) لماذا يضيع الرجل تأثيره الحسن في أسرته
يأخذ مني العجب مأخذه كلما دخلت بيت أحد العلماء ورأيت نساءه على جهل مطبق، وتنال مني الدهشة كلما سمعت أن ابنة فلان الغيور غاية في الخلاعة، وأن أخت ذاك المستنير تدعو أترابها لحفلة زار، وأن أطفال ذلك الأستاذ مثقلون بالتمائم، وأكاد أحزن إذا سألت امرأة الصحافي المشهور - وهي تعرف القراءة وتدعي العلم - عن مبدأ زوجها السياسي؛ فتخبرني ببرود أنها لا تقرأ الجرائد، ولا تشتغل بمعرفة المبادئ! يحزنني جهل هؤلاء أكثر مما آسف لجهل عامة النساء.
يعذر الفلاح على عدم تعليم ابنته العلوم؛ لأنه هو ذاته لا يفقهها، وربما لم يسمع إلا بقليل من أسمائها، فضلا عن احتياجه لفتاته في مساعدته في الحقل ومساعدة أمها في البيت، ويعذر العامل الصغير إذا لم يدخل ابنته المدرسة؛ لأن ما يشتغل به قد لا يكفيه لسد الرمق، فضلا عن تحمله أجرة تعليم أبنائه، يعذر هذا وأمثالهما جد العذر، ويعذر أيضا صغار الناس ممن لم يتعلموا إلا القليل، ليمكنهم من نيل وظيفة تكفيهم العيش؛ لأن نفوسهم لم تتشرب روح العلم، ولم يأخذوا به إلا وهم لا يجدون غيره وسيلة للارتزاق، ولكن ما عذر رجالنا المستنيرين المتفقهين في ترك بناتهم تنشئهن الطبيعة، كيف اتفق وتربيهن الأمهات وسط الترهات، وهم إذا كلمك أحدهم أظهر لك واسع خبرته في العلم الذي يتقنه، وفهمت من مجمل حديثه أنه فيلسوف، وأنه ذو أفكار ومبادئ قويمة وأنه يلتهب غيرة على أمته؛ مثل هؤلاء يصدق فيهم المثل العامي (باب النجار مخلع) أو هم كالرجل الذي إذا دهمه أمر ظل كالحديد يتجاذبه مغناطيس الحيرة من كل الجهات، فلا يكاد يرى له مخرجا من الضيق.
إذا رأيت ابنة شيخ الإسلام لا تقيم الصلاة، وإذا حادثت امرأة الطبيب فوجدتها لا تفرق بين فعل الأدوية الأكيد وبين تأثير الرقى والتعاويذ في شفاء الأمراض، فهمت من حالهما أحد أمرين: إما أن يكون رب الأسرة لم تمتزج روحه بالعلم الذي يشتغل به تمام الامتزاج، فهو لا يشعر به حقيقة وإنما يظهر به ليتذرع إلى كسب معاش أو احترام، وإما أنه صادق في ادعائه، ولكنه لا يختلط كثيرا بأفراد أسرته، ولا يوضح لهم آراءه ومذهبه، وهذا هو الغالب في رجالنا.
يقضي الواحد منهم نهاره في الديوان أو محل شغله، ويتسلل من العصر إلى (القهوات والبارات) فيقتل الوقت فيما لا ينفع، ولا يعود لمنزله إلا وجفنه مثقل بالكرى، وقد يمضي الأسبوع ولا يرى أولاده إلا يوم بطالة المدرسة، فيشبون لا يدرون شيئا من أخلاق والدهم، ويقصر هو في مخالطتهم والتحدث معهم، كأنه يأنف أن يضيع وقاره في محادثة الصغار، وبعضهم يظل أمام زوجه صامتا حتى إذا مل وملت أخذ صحيفة من صحف الأخبار يطالعها، ولكنه لا يفهمها ما بها إن كانت جاهلة، ولا يقرأ ليسمعها إن كانت تفهم القراءة، فكيف تعلم مبادئه وميوله وهو لا يتكلم؟! إنها ليست نبية فينزل عليها الوحي، ولا قدرة لها على كشف حجب الغيب، وكيف يبلغ أولاده التربية الكاملة التي بلغها هو ومن يرشدهم في الحوادث اليومية إلى مكارم الأخلاق ويخلص لهم النصيحة؟ إن المدرسة وحدها لا تفي لأن تكيف ملكة الشخص، والأم لا تجد من وقتها فراغا لتجالس أولادها وتثبت فيهم أخلاقها، هذا إذا كانت مهذبة عاقلة لها أخلاق فاضلة أما غيرها فعليها العفاء.
وإن الصبي لاعتناء والده به، ولكثرة اختلاطه بأخدانه خارج المنزل تفيده التجارب ويعرك الحوادث فيعرفها، أما الفتاة فحظها قليل من التربية النفسية، وهي ملاك الأخلاق، ولا عبرة بما يعلمه الإنسان من العلوم إذا لم يكن ذا إرادة قوية؛ معتمدا على نفسه في كل أموره، ثابتا حازما لا يابسا ولا طريا، وفي اعتقادي أن الأب الرحيم العالم باجتماعه مع أولاده وبناته يعوض عليهم كثيرا مما لم يدركوه بالتجربة.
لا أحب الأب يتكبر على أهله وأولاده؛ فيظهر لهم بمظهر الجبار العنيف ويظن أن ذلك استجلاب للهيبة، وهو لا يعلم بما يشعرون. إن الهيبة واجبة في حد الاعتدال، ولكنها إذا زادت تعدت على الخوف فيفقد الوالد الرحمة على أولاده، ويفقدون هم كثيرا من المحبة والثقة بوالدهم، وتجد أغلب الأطفال يحبون والدتهم أكثر من آبائهم لهذا السبب عينه، وهذا التجبر من جانب الأب يضعف الأخلاق في الطفل ويفسدها إذ يربي فيه الجبن والذل، ثم الاستبداد متى كبر وأولاد البخلاء أكثر الناس تبذيرا متى كبروا. زرت مرة سيدة ممن ابتلين بمثل هذا الزوج القاسي، وكنا نتكلم وأولادها الصغار يلعبون قريبا منا وبناتها الشابات يضحكن، وإذا بهن سكتن فجأة، وارتبكت أمهن وغارت أعينهن، وعلاهن الاصفرار وقامت إحداهن تهرول إلى الصغار لتسكتهم، والثانية تتسمع على السلم، والأخرى ترى ماذا يمكنها ترتيبه في حجرة والدها، فعجبت من هذه الحركة الفجائية، وسألت عن الباعث لها، فأخبرتني السيدة والحزن باد عليها وتكاد لا تنطق إلا همسا «إن البك ربما يكون قد حضر»، فقلت في نفسي: إذا كان كل هذا الاضطراب وفي حضوره شك، فماذا يفعل هؤلاء النسوة إذا قيل لهن: «إنه قد والله حضر»؟! وأخذ البنات يشرحن لي أنهن لا يتكلمن أمام والدهن، وأنهن يجتهدن دائما في البعد عن طريقه؛ لأنه غضوب وأنه لا يسمح لهن بزيارة قريبة ولا صديقة، وأنه إذا أخطأت إحداهن في خدمته أو تأخرت قليلا (وشدة الوجل تبعث على الخطأ والتأخير) كدرها وأهانها، وإذا تناول الطعام تظل أمهن وثلاثتهن واقفات كالإماء إلى أن يفرغ منه، فعجبت لذلك وأسفت على تأصل روح الاستبداد في بعض رجالنا إلى هذا الحد المعيب حتى وهم في منازلهم بين أهلهم وفلذات أكبادهم.
هذا مثل الأب القاسي الذي إذا اختلط بأسرته ليعلمها لم يستفد أفرادها من تعليمه؛ لأن شدة الخوف تذهب بالفكر، سألت عن هذا الرجل ومعاملته في الخارج فأكد لي أخي أنه غاية في اللطف والتواضع، وأنه يحب المزاح أحيانا، فاستغفرت الله له. أيتفضل على الغرباء بالمؤانسة والمزاح أيضا ويضن بابتسامة على أولاده وأهله؟! ولكن لله في خلقه شؤون.
ألا فليعلم الآباء والأزواج أن السلطة التي يطلبونها في منازلهم يكفي منها أن يقلدهم أبناؤهم، وتتشبه بهم فيها زوجاتهم وبناتهم، ويخشينهم على البعد والقرب. وإن الأسرة الواحدة يجب أن تكون تامة الامتزاج، مرتبطة بالحب الصحيح، فلماذا يضيعون ذلك الحب الطبيعي بقسوتهم وجفائهم؟! ولماذا لا يبثون روحهم فيمن حواليهم من بنات وأخوات؟! ولماذا لا يجعلون لهم تأثيرا حسنا في أسرهم؟! وكما يتوارث الأولاد اللون والخلقة عن والديهم يجب أن يتوارثوا عنهم أيضا أخلاقهم الحسنة ومميزاتهم، وبودي لو يجتهد كل شاعر في أن يجعل أبناءه ذكورا وإناثا شعراء، وكل رياضي أن يعلم أسرته الرياضة، وكل سياسي أن يجعل زوجته وذويه يتباهون بمبدئه حتى يتم الامتزاج المطلوب، وتظهر فينا روح الحياة الطبيعية، والسلام. (14) الكلفة بين الزوجين
بين الزوجين الحضريين من أهل مصر تكلف لا يتفق مع ما يريده الله لهما من سكون الواحد إلى صاحبه، ويشذ عن شواهد الطبيعة وآثارها المرسلة إرسالا من غير تعقيد ولا إبهام، فالسماء معقودة على الأفق في مصر، وهي كذلك معقودة على الأفق في اليابان وفي جرينلاند، لم يضع الله لها عمد المرمر في إيطاليا، ولا قوائم العاج في السودان، ولم يقرها على حوائط البلور في النمسا، تنيرها الشمس نهارا (إلا في القطبين) والقمر ليلا، وقد نثرت فيها النجوم نثرا، إلا قليلها فهو منظوم، ولم يشأ الله - وهو قادر - أن يجعلها في شكل عقود وتيجان، أو يرسمها دوائر ومثلثات مرصوصة رص البلاط الملون، وهي مع ذلك يأخذ جمالها بلب المتأمل المتفكر، والأرض بسيطة أيضا لا تحول لنظامها؛ فالصخر يفتته توالي الريح والمطر فيصير رملا، والرمل تسقيه الريح ويعجنه المطر فيكون صخرا، والبذر ينبت إذا لقي ريا وأرضا صالحة، وما أبسط سوق النبات تظل قائمة ولكنها تميل مع الريح، ويثقل عليها ثمرها فيتدلى، أو يسقط إلى الأرض.
Page inconnue