المبدأ الثالث: المباراة والإسراف
يمتاز الجيل السابق على أخيه الحالي بقلة اللزوميات ورخص أسباب المعيشة، كذلك له ميزة أخرى لا أعرف ألاحظها الجمهور أم لم يلاحظها، وهي لزوم كل طبقة من الناس حدها من جهة الغنى والفقر، فلم يكن الفقير ليستنكف من خصاصته، ولم يكن المتوسط يقلد الأوسع رزقا والأعظم جاها، كما نفعل نحن الآن، ولعل السبب الأصلي في ذلك هو نقص الحرية من أخلاقهم وتأثير شدة الضغط عليهم.
نفقات الأسرة اليوم كثيرة في ذاتها لتعدد الحاجات وغلائها، كثيرة جدا؛ لأننا نتأنق في الكماليات الزائدة، ونحاكي الغير فيها ممن هم أوسع ثروة وأفخم مظهرا، ولا مبرر لنا في ذلك إلا الحرية الشخصية وحب التقليد، أما الحرية فنعمة من الله ورحمة وأما التقليد إلى هذه الدرجة: درجة التلف، فليس من العقل في شيء اللهم إلا إذا ابتغينا به تأييد مذهب دارون في النشوء والارتقاء، ولا أخالنا نبغي التسجيل على أنفسنا بأننا وحدنا من سلالة القرود.
إذا استثنينا الطبقة السفلى من النساء، فإننا نكاد نرى الباقي من الوسط والثريات شبيهات في الملبس والزينة، تضارع الواحدة الأخرى في عدد الخدم وكمية الأثاث ونوعه، فهل يمكن أن نكون كلنا في درجة متساوية من الغنى؟ هذا يستحيل، وإذا لم نكن متساويات في ماليتنا؛ فمن أين نسد هذا العجز في النفقة عن الإيراد؟ جواب صغير مفهوم: من الرجل أبا وزوجا.
إذا تزوجت الواحدة منا كلفت أباها ما لا طاقة له به كي لا ينقص جهازها عن فلانة جارتها أو قريبتها، فإذا قدر فنعم القادر لا انتقاد عليه، ولكن إذا عجز فمن خرق الرأي أن يستدين ليكسب فخرا كاذبا أطول مدته يومان، وإذا تزوجت لم تشأ أن ترى صاحبتها تشتري عشرة أثواب وهي لا تشتري إلا أربعة مثلا، وكيف تجد عند جارتها خمس خادمات فيهن الأوروبيات وليس في بيتها إلا واحدة مصرية وهي تكفيه، فهي دائما تزن نفسها بميزان الغير لا تفتأ تقلده مهما فعل، فإذا لم يكن لها ميراث رفيع خاص بها يصرف في مآربها فإن هذا يحمله الزوج المسكين ولا راحم له يصرف دخله كله، وفي الغالب لا يكون له إلا جعالته الشهرية دخلا، ويحمد الله إذا لم يستدن على حساب الشهر التالي، فإذا فصل من الوظيفة أو لحقه ما يستلزم النفقة كالهرم أو المرض لم يجد شيئا يعتمد عليه إلا رحمة رب العالمين.
علة المباراة الحقيقية هي الحسد، يأكل القلب ويكثر الهم، فلا تطيق صاحبته أن ترى أجمل منها هيئة أو أغنى مظهرا، وتهتم في أن تكون هي المشار إليها بالبنان في المجالس، ويسكرها الطرب إذا ذكر غناها واقتدارها على اقتناء العربات الجميلة والخدم الكثير، وبعضهن تبيع حليها أو شيئا من أملاكها لتشتري سيارة (أوتوموبيلا) أو لتسافر إلى أوروبا، لا لأنها تحب السياحة أو تستفيد من الأسفار، ولكن لأن غيرها فعلت ذلك. ولو تأملنا لرأينا أن الإنسان مهما حاول أن يجعل نفسه الأول في صفة ما فإنه لا يلبث أن يرى أعلى منه وأمكن في تلك الصفة بعينها. تبذل سيدة كثيرا من مالها ووقتها للتفتيش عن أجمل عقد في القاهرة فتجده، ولكن لا تدوم أوليتها به أكثر من أن ترى أخرى عليها عقد أنفس أتت به من الآستانة أو باريس مثلا، وإذا تطلع المرء لغيره لم يقتنع قط بما عنده.
أرى أنه لا يجمل بالسيدة العاقلة أن يستحكم منها داء التقليد؛ لأنه يدل على صغر النفس والإحساس بصغرها (وإذا ذممت المحاكاة هنا فإني لا أقصد المعتدلة منها فقد تكون لازمة أحيانا، وإنما أذم المتطرفة ولذلك وصفتها بلفظة داء).
وإذا كنت بارعة رشيدة فلماذا لا أبتكر في ملبسي ومنزلي ما يجعل غيري من النساء يقلدنني فيه بدل أن أجري دائما وراء ما يفعلن؟
يقول الحديث الشريف: «الناس بخير ما تباينوا.» وهي حكمة بالغة، أو هي كل نواميس العمران ولباب نظامات الاجتماع، وإذا كد الاقتصاديون أذهانهم وألهب الاجتماعيون أدمغتهم يستنبطون القوانين ويسنون النظامات لصالح بني البشر فلن يأتوا بأجمع للحكمة، ولا أدعى لسير هذا العالم سيرا آليا منتظما (ميكانيكيا) أحسن من هذا الحديث على إيجازه. وعليه، فلا يمكن أن يتساوى البشر، ولا يمكن - مع الأسف - أن نكون كلنا غنيات، نحن نريد أن نظهر كلنا بمظهر الموسرات «وهل بالفقر من عاب؟»
الفقر وحده لا ينزل الإنسان من رفعته؛ فالاعتبار بالنفس والفضائل لا باليسر وعدمه، ماذا يضر المجتمع الإنساني إذا كنت أفقر من صاحبتي أو كانت هي أفقر مني؟ بل ماذا تفيد محاكاتي لها إذا كنت لا أستطيعها بمعناها الصحيح؟ هي تقدر أن تتجمل بالثياب الحريرية والماس الكثير من مالها وفضل الغنى عليها، ولكني قصيرة اليد عن الإتيان بمثل ما عندها، أفليست القناعة إذن خير ذخيرة للقاصرات؟!
Page inconnue