L'Appel de la Vérité
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
Genres
لو قلبنا الصفحات قليلا لقرأنا هذه العبارة التي وردت في نهاية «الملحوظة» التي اختتم بها المؤلف محاضرته: «إن المعرفة (أو الفكر) الذي تحاول المحاضرة تقديمه تتوجه هذه التجربة الأساسية: إن القرب من حقيقة الوجود لا يتهيأ للإنسان التاريخي إلا انطلاقا من الإنية التي يمكن أن يلتزم بها الإنسان.» وقد وردت هذه الفكرة نفسها في الفقرة الختامية التي نتحدث عنها في قول المؤلف: «إن ترك-الموجود-يوجد بما هو موجود وبكليته أمر لا يتم بصورة أصيلة ووافية بالماهية إلا إذا أخذ في الاعتبار من حين إلى حين من جهة ماهيته الأصلية، عندئذ يبدأ الانفتاح على السر في التحقق في إطار الضلال، عندئذ يوضع السؤال عن ماهية الحقيقة وضعا أصيلا، وعندئذ يتضح الأساس الذي يقوم عليه تشابك ماهية الحقيقة مع حقيقة الماهية».
معنى هذا أن ماهية الحقيقة تتحقق بصورة أصيلة عندما يتمكن ذلك الذي يسأل من تحقيق وجوده الخاص على نحو أصيل، أي حين يدخل في علاقة أصيلة مع الوجود، ومعنى هذا مرة أخرى أن الأمر هنا يتصل بوجود السائل كما يتصل بالوجود بما هو كذلك؛ لأن الأول (أي الموجود الإنساني) يتحدد وجوده من خلال علاقته بالوجود؛ ومن ثم حرص هيدجر منذ أن وضع كتابه عن الوجود والزمان على الربط بين حقيقة الوجود وبين ماهية الموجود الإنساني أو ماهية الإنسان؛ فالإنسان لا يمكنه أن يتساءل عن الوجود إلا إذا كان يحيا في علاقة معه ويحس أنه في حماه، بل إن أسلوب الإنسان في الوجود هو الذي يحدد أسلوبه في فهم ماهية الحقيقة، وهي بالطبع حقيقة الوجود نفسه، ومن الواضح أن هذا الأسلوب في الوجود (الذي سيمكننا من اتخاذ موقف معين من ماهية الحقيقة) لن يكون أسلوبا عقليا أو نظريا، بل ينبغي أن يكون مسلكا أساسيا يوجه كل كياننا ويحدد كل وجودنا التاريخي، والأمر في اختيار هذا المسلك واتخاذ هذا القرار يتوقف على درجة الأصالة التي يمكن أن يصل إليها الإنسان ، ثم إن هذه الأصالة نفسها تعتمد على طبيعة علاقتنا بالوجود، إن كانت أصيلة أصبحنا أصلاء، وإن كانت زائفة أصبحنا زائفين ضائعين، وهكذا نفهم عبارة هيدجر العويصة عن تشابك ماهية الحقيقة مع حقيقة الماهية، والمهم بعد كل شيء هو التفكير في حقيقة الوجود، لا في الموجودات فحسب، وتلك هي أسمى مهمة يمكن أن يلتزم بها الفكر، إنها هي المهمة التي واجهت الفلسفة منذ نشأتها الأولى، وحاولت الميتافيزيقا عبر تاريخها الطويل أن تقوم بها دون أن تحقق هدفها حتى اليوم، لماذا؟ لأنها لم تفكر أبدا في الوجود نفسه وحقيقته، ولأنها كانت تفكر دائما في الموجود وتنسى حقيقة الوجود (ومن ثم كانت دعوة هيدجر المستترة لقهر الميتافيزيقا وتجاوزها، لا بتحطيمها أو إلغائها، فهذا شيء مستحيل، بل بالعودة إلى أساسها، ألا وهو التفكير في حقيقة الوجود نفسه، من خلال الموجود الوحيد المهموم بالسؤال عنها، القادر على كشفها والانفتاح على نورها)، ومن هنا نفهم هذه العبارة التي جاءت في الملحوظة التي تختتم بها هذه المحاضرة: «إن الفكر يلتزم في ظاهره بالطريق الذي سارت عليه الميتافيزيقا، ولكنه مع ذلك يحقق في خطواته الحاسمة - التي تنتقل من الحقيقة بوصفها تطابقا إلى الحرية المتخارجة، ومن هذه إلى الحقيقة بوصفها حجبا وضلالا - (يحقق) تحولا في التساؤل ويؤدي إلى تجاوز الميتافيزيقا.» •••
تحددت ماهية الحقيقة، وبقي أن نحدد ماهية الفلسفة التي تسأل عن هذه الحقيقة، ولما كانت الماهية الكاملة للحقيقة تتضمن اللاحقيقة، فلا بد أن تكون الفلسفة بدورها منقسمة على ذاتها، وأن تكون - على حد تعبير هيدجر - متزنة ولينة، متشددة ومتفتحة، معتدلة ووديعة ... وربما أنكرنا هذه الكلمات الشاعرة في مجال قد لا يسمح بها، وقد نحار في العثور على مقابل للكلمتين الأصليتين اللتين تفيدان بحروفهما «اتزان الرقة»، ولكن سواء آثرنا الرقة أو المرونة أو الوداعة، فالمعنى المقصود هو القدرة على الاتجاه نحو الموجود وتركه يوجد وينكشف، مع الحفاظ في نفس الوقت على التحجب الأصلي وصونه ونقله إلى وضوح التعقل، دون أن يقترن هذا بأي قنوط من جانب الإنسان أو تخل عن ماهيته الحقة التي تقوم على الانفتاح للموجود، فالاعتدال أو المرونة والوداعة التي نتحدث عنها تتيح للفلسفة أو بالأحرى للمتفلسف أن يبقى هو نفسه، أن يظل قريبا من الموجودات الأخرى بغير أن يحاول تغييرها أو تشويهها أو اقتحامها بالتعسف والقوة والاغتصاب، ولا شك أن كلمات كالرقة أو الوداعة أو اللين ترتعش عليها ظلال الرحمة والكرم والحنان والتعاطف التي تميز موقف المتفلسف من الموجود بكليته، ولعل هذا أن يذكرنا بعبارة هيدجر المشهورة التي يرددها في كثير من كتاباته: «الإنسان هو راعي الوجود وحامي بيته.» •••
ويلقي المؤلف في الفصل الثامن نظرة أخيرة على مشكلة الحقيقة والفلسفة، ويجدد هجومه على الحس السليم الذي يعلن ضيقه بطبيعة الفلسفة وأسئلتها وإشكالياتها منذ بداياتها الأولى! ثم يهتدي برأي «كانط» في ماهية الفلسفة ومحنتها الباطنة، ويورد أحد نصوصه التي تشهد على إيمانه بكرامة الفلسفة وأصالتها، وجهده في الدفاع عنها وإنقاذها من سطحية أصحاب الفهم العام واستبعاد بعض الكتاب والمفكرين الذين يحسبونها مجرد «تعبير» عن الحضارة، لقد كان «كانط» - على الرغم من وقوعه في أسر التراث الميتافيزيقي ومن موقفه القائم على الذاتية - عميق الحكمة كالعهد به في نظرته إلى طبيعة الفلسفة «حارسة قوانينها الخاصة»، وكان أصيلا في حرصه على احتفاظ الفلسفة بماهيتها، والعودة بها إلى الحقيقة الأصلية التي يقوم عليها السؤال الفلسفي.
ونأتي إلى نهاية هذا الفصل فنجد المؤلف يلخص المسائل الأساسية التي عرضنا لها على الصفحات السابقة ويجمعها حول هذا السؤال الأساسي: «ألا يجب أن يكون السؤال عن ماهية الحقيقة في نفس الوقت وقبل كل شيء هو السؤال عن حقيقة الماهية؟» - ربما أوحت صيغة السؤال بالتكرار والتلاعب الحاذق بالألفاظ، ولكن الواقع أنها أبعد ما تكون عن هذا، فهي تريد أن تحيي في نفس القارئ جذوة السؤال الأساسي الذي حرك التفكير في هذه الرسالة بأكملها، كما تحرص على البعد عن وضع نتيجة «جاهزة» بين يديه، إن المفكر الحقيقي لا يقدم لقارئه ثمرة بحثه على طبق فضي أو ذهبي، وإنما يحاول أن يشركه في الجهد المبذول في غرس البذور ورعاية الأشجار وانتظار الثمار ... إن همه هو إحياء الإشكال في نفس القارئ وعقله، وحثه على البقاء في محنة السؤال؛ لأنه في النهاية هو الممتحن والمسئول، وهل هناك ما هو أولى بالسؤال والعذاب والانتظار من مشكلة الحقيقة؟ هل هناك من هو أولى بالبحث عن حقيقة الوجود من ذلك الكائن الذي يهتم - وحده - بالسؤال عنه وترقب أنواره والوصول، عبر جسوره، إلى طبيعته الحقة وإنقاذ وجوده الأصيل من بحار الزيف التي تغرقه صباح مساء؟!
هكذا يختم هيدجر رسالته ختاما لا يخلو من التواضع الكريم حين يؤكد أنها «تساعد على التأمل» في قضية الحقيقة، وحسبه أنه ابتعد بنفسه عن الإجابات السهلة التي يتلهف عليها أصحاب الحس السليم، وأنه لم يحرص على شيء حرصه على إثارة السؤال. (4-2) حقيقة الفن
كان من الطبيعي أن تدور جهود هيدجر حول قطبي الوجود والحقيقة اللذين تتغذى منهما شعلة تفكيره، فنحن نجد بعد كتابه عن الوجود والزمان ورسالته عن ماهية الحقيقة عدة دراسات تشع من نفس النواة ذات الشطرين، أو تدور حولها كالكهارب في قلب الذرة، إنه يوضح حقيقة الفن في دراسته عن «الأصل في العمل الفني»
152 (1935م)، ويتحدث عن إنسانية الإنسان في رسالته عن النزعة الإنسانية (1946م)، كما يتحدث عن الحقيقة - أو بالأحرى الأليثيا بمفهومها اليوناني! - في دراسته عن ماهية التقنية (1953م) وعن ماهية اللغة (1957م) وموضوع الفكر (1964م)، ولما كان المجال لا يتسع لتناول هذه الدراسات كلها بالتفصيل، فسوف نحاول أن نقدم معالمها الأساسية بإيجاز شديد.
يفسر هيدجر ماهية الفن والعمل الفني بوجه خاص من خلال فهمه «للأليثيا» أو الحقيقة كما أرادها اليونان بمعنى التجلي والتفتح والظهور من طوايا التحجب والخفاء، ونود أن نسير هنا أيضا على المنهج الذي التزمنا به في الصفحات السابقة من التقيد بنصوص الفيلسوف نفسها، على الرغم مما نجده فيها ويجده القارئ من صعوبة وجفاف! ويدور «الأصل في العمل الفني» حول الحقائق التالية: (1)
أن حقيقة الموجود «تحدث» في العمل الفني. (2)
Page inconnue