L'Appel de la Vérité
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
Genres
132
ولعلنا لا نجاوز الصواب إذا قلنا مع المترجمين الفرنسيين لماهية الحقيقة
133
إن فكرة «التخارج» أو التواجد قد حلت الآن محل فكرة «الوجود-في-العالم» التي عرفناها في «الوجود والزمان»؛ وقد يرجع هذا إلى أن الفكرة الأولى تؤكد معنى العلو أو التعالي بأكثر مما تفعل الثانية، صحيح أن هذه الفكرة الأخيرة قد بينت بوضوح أن وجود الإنسان-في-العالم لا يعني أنه موجود كسائر الموجودات - كأن يوجد مثلا «بجانب» البيوت والأشجار والبجع! - بل الأحرى أن يقال إنه «يحتوي» هذه الموجودات أو يضمها في بناء له طابع الإحالة؛ لأنه يكون دائما خارج نفسه وبالقرب منها، ولأنه بطبيعته «متخارج» أو «متواجد»، ولكن المهم بعد كل شيء أن «ماهية الحقيقة» قد جاءت لتؤكد أن الوجود-في-العالم أو التخارج هو العامل الأساسي المكون للحقيقة؛ ولهذا التأكيد معنى مختلف عن معناه في «الوجود والزمان»، فهو يدل على أن الإنسان من الناحية الشكلية هو مصدر الحقيقة؛ لأن بلوغ الحق يتطلب موجودا قادرا على الكشف، أي موجودا منفتحا غير منطو على نفسه أو منغلق بين جدرانه ذاته، يملك القدرة على أن يكون ذاته وأن يكون في الوقت نفسه خارج ذاته وبالقرب من سائر الموجودات، هذا الطابع الأنطولوجي المزدوج للحقيقة يقتضي موجودا متخارجا، ولا ينبغي أن نفهم من هذا أن الإنسان هو الذي «يخلق الحقيقة» أو «يصنع مضمون الأحكام الحقة التي يتصورها»، وهنا نصل إلى ملمح جديد يدل على تطور مفهوم الحقيقة في العملين الفلسفيين اللذين نشير إليهما، فقد ألح «الوجود والزمان» على أن خلق الحقيقة هو بمثابة إيجاد معنى لمشروعات «الموجود الإنساني»، فهذه المشروعات التي يستبق بها نفسه هي التي تتيح له انتشال الموجود من العدم والعماء الأصلي، لكن «ماهية الحقيقة» لا تبلغ هذا الحد من الغلو، فهي تنظر إلى الموجود في ذاته وتعترف بدلالته في ذاته، وفكرة الوجود (أو لنقل فكرة التخارج والتواجد) التي كانت تدل على الخاصية التي تجعل الموجود الإنساني يستبق نفسه في سعي متصل لتحقيق إمكاناته وتفسير الأشياء في عين الوقت، قد أصبحت الآن تدل على خاصية أخرى تختلف عن سابقتها اختلافا شكليا على الأقل، وتجعل الموجود الإنساني دائما بالقرب من الأشياء، كما تجعل للأشياء دلالة في ذاتها، صحيح أن الوجود والفهم لا يزال لهما نفس المعنى، ولكن الكلمة التي تؤكد المعنى المشترك لم تعد هي «الاستباق» أو إلقاء الموجود الإنساني بنفسه في مشروعاته، بل أصبحت هي الانفتاح على الموجود بوجه عام.
وهنا نستدرك فنقول أن فكرة «المشروع » التي اختفت حروفها من النص الذي سأقدمه لك، لم تغب روحها عنه تماما، فهي الآن منطوية في فكرة الخضوع للموجود أو تركه يوجد ويكون، وهي كذلك متضمنة في القول بأن الإنسان لا يبلغ من الحقائق إلا ما ينفتح عليه عن طريق «مسلكه»، ويبقى بعد كل شيء أن هذا النص يبرر الرأي الذي ذهب إليه الفيلسوف في كتابه الأكبر
134
من أن الموجود الإنساني هو الذي يكون الحقيقة بفعله الكاشف - ولا ريب أن العبارة الأخيرة ظلت مطوية في ضباب الغموض حتى جلتها «ماهية الحقيقة» ورفعت عنها النقاب.
قس على هذا قضية أخرى أشار إليها «الوجود والزمان» ثم جاءت «ماهية الحقيقة» فأضفت عليها معنى مختلفا، ونقصد بها القضية التي تحدد حقيقة وجودنا بالقدرة على جعل الحقيقة ممكنة، فالكشف عن الموجود على ما هو عليه وفي كليته - وعلى هذا الكشف وحده تقوم كل حقيقة أساسية - يرتبط ارتباطا مباشرا بالمسلك الذي يسميه هيدجر «ترك-الموجود-يوجد».
هذا المسلك وحده هو الذي يقينا السقوط والتورط في اتخاذ الموجود الجزئي مقياسا لكل وجود، وهو أمر نتعرض له على الدوام في حياتنا اليومية وتصرفاتنا العملية، ولهذا فلن يتسنى لنا الكشف عن الموجود في كليته ولا القرب من حالته التي هو عليها إلا بقدر ما نبتعد بأنفسنا عن الموجود الجزئي ونحميها من الانغماس فيه.
كان نيتشه يتمنى أن يتحقق الحلم القديم الذي تعبر عنه هذه الكلمة القديمة: «كن أنت نفسك»
Page inconnue